نبذة عن حياة الكاتب
العقود والمطعومات والمشروبات

العاريـة أو الإعـارة
العارية، لغةً، مأخوذة من عار إذا ذهب وجاء. وقيل: مأخوذة من التعاور أي التداول أو التناوب. وعرَّفها الفقهاء على أنها: «تمليك المنافع بغير عوض ماليّ». ولذلك قيل: ما سُمّيت إعارة إلاَّ لِتَعَرِّيها عن العوض. وتتميز العارية عن الهبة، بأن الهبة تمليك العين، في حين أن العارية تمليك المنفعة فقط.
وتتميز عن الإجارة بأن الإجارة تمليك المنفعة بعوض، والعارية تمليك المنفعة بغير عوض.
وتتميز عن القرض بأن الشيء الذي يجب ردُّه في القرض هو مثل الشيء لا عينه، أما في العارية فيجب ردّ الشيء لا مثله. ومن هنا يجوز قرض المأكولات أو المشروبات، ولا يجوز إعارتها، لأن الانتفاع بها يتوقف على استهلاكها.
ويسمى مالك العين معيرًا، والمنتفع بها مستعيرًا، والعين مُستعارة ومُعارة.
وقد اتفق الأئمة على أن أركان الإعارة أربعة: المعير، والمستعير، والمعار، والصيغة (وهي ما يدل على هبة المنفعة من قول أو فعل). ما عدا الحنفية فقد قالوا: للعارية ركن واحد وهو الإيجاب والقبول، ولا يشترط اللفظ ويكفي التعاطي على أن يكون مقرونًا «على أنه عارية».
وقد اتفق الفقهاء على أن يكون المعير مالكًا للمنفعة، جائز التصرف، فلا تصح عارية الغاصب، ولا المستعير، ولا الصبي. ولا المحجور عليه لسفه أو إفلاس. وتصح من المستأجر لأنه يملك المنفعة إلا إذا اشترط المؤجر على المستأجر الانتفاع بنفسه.
واتفقوا على أن المستعير يجب أن يكون أيضًا جائز التصرُّف، فلا تصح استعارة الصبي، ولا المجنون، وأن يكون معيّنًا فلا يصح أن تقول: أعرت أحد هذين الشخصين، وأن يكون أهلاً للانتفاع بالشيء المستعار.
ويجب على المستعير أن يحافظ على الشيء المعار محافظتهُ على أمواله، وأن يستعمله في الوجه الذي حدده المعير. فإن لم يعيّن وجه الاستعمال، جاز للمستعير أن يستعمله في الجهة التي أُعدَّ لها بطبيعته فمثلاً يستعمل الفرس للركوب، ولا يصح له استعمالها في الحراثة. وإذا استعمل المستعير العارية في الجهة التي أعدت لها بطبيعتها ثم حدث بها نقص، أو تلفت، فلا يكون المستعير مسؤولاً إلا مع الشرط. وإذا استعملها في غير وجهها، أو في غير الجهة التي حددها المعير، وحدث فيها شيء فعلى المستعير الضمانُ، وأجرةُ المثل لما استعملها فيه.
واتفقوا على أن العارية لا تتم إلا بقبض (تسلُّم) العين المعارة، لأن الانتفاع بها متوقف على هذا القبض. أما مشروعية الإعارة فلكونها قربةً مندوبًا إليها لقول الله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِّرِّ وَالتَّقْوَى}(+) . فهي إذن من أعمال البر التي تقتضيها حياة الناس، إذ لا غنى لهم عن الاستعانة ببعضهم، ولذلك فهي مندوبة لذاتها. وقد يعرض لها الوجوب كما لو توقفت حياة شخص على استعمال شيء، فيجب على صاحبه إعارته له حفاظًا على حياته. أو قد يعرض لها الحرمة كما لو طلب أن يعيره خنزيرًا، أو خمرًا.
وقد ثبت في الصحيحين أن رسول الله (ص) استعار فرسًا من أبي طلحة فركبه، وأنه «استعار درعًا من صفوان بن أمية يوم حنين، فقال صفوان: أغصبًا يا محمد؟ فقال له (ص): بل عارية مضمونة»(+) .
وقرن الله سبحانه وتعالى العارية بترك الصلاة، ونسبهما معًا إلى الويل، أي الهلاك، فقال عزَّ وجلَّ: {الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ * وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ*}(+) . وجاء في الحديث الشريف: «من منع الماعون جاره منعه الله تعالى خيره يوم القيامة، ووكله إلى نفسه».
واتفقت المذاهب الخمسة على أن الإعارة تصح في كل شيء ينتفع به مع بقائه: كالأرض والدار، والأثاث، والثياب، وجميع الأدوات والآلات الحديثة كالسيارة، والغسالة، والراديو إلخ... والدواب وسائر الحيوان، أي جميع ما يعرف بعينه، إذا كانت منفعته مباحةَ الاستعمال وغيرَ محرمة.
حكم الإعارة:
ـ قال الإمامية وجمهور الحنفية والمالكية: هو ملك المنفعة للمستعير، بغير عوض، أو هو ملحق المنفعة عرفًا وعادة.
ـ وقال الشافعية والحنبلية: إن موجب الإعارة هو إباحة الانتفاع بالعين، فهي عقد إباحة.
ويترتب على الخلاف بين الفريقين: أنه عند الإمامية والحنفية والمالكية يجوز للمستعير إعارة الشيء المستعار لغيره. غير أن المالكية استثنوا وقالوا: ما لم يُمنع المستعير من الإعارة، فلا يجوز له حينئذٍ أن يعير.
ودليل الحنفية في الإعارة للغير: أن المعير سلَّط المستعير على المنفعة، والتسليط هو تمليك لا إباحة، ومقتضى التمليك أن للمستعير حرية التصرف في الانتفاع بالعارية سواء بنفسه أم بغيره.
أما عند الشافعية والحنبلية فلا يجوز للمستعير أن يعير العارية لغيره، لأن الإعارة إباحة المنفعة، فلا يملك بها الإباحة لغيره. ودليلهم أن عقد الإعارة يجوز في غير أجل، فلو كان مقتضى الإعارة تمليك المنفعة كالإجارة، لما جازت من غير أجل.
وفي صفة حكم الإعارة:
ـ قال الحنفية والشافعية والحنبلية: إن الملك الثابت للمستعير ملك غير لازم، لأنه ملك لا يقابله عوض، فلا يكون لازمًا، كالملك الثابت بالهبة. فيجوز للمعير أن يرجع في الإعارة، كما للمستعير أن يردّها في أي وقت، سواء أكانت الإعارة مطلقة، أم مقيدة بوقت، ما لم يأذن المعير في شغل المستعار بشيء يتضرر بالرجوع فيه، أو كانت العارية لازمة. كمن أعار أرضًا لدفن ميت، فلا يجوز للمعير الرجوع في الموضع الذي دفن فيه، وامتنع على المستعير ردّه. فهذه إعارة لازمة من الجانبين، حتى يندرس أثر المدفون، فيصير ترابًا(+) . ودليلهم أن العارية عقد جائز لقول رسول الله (ص): «العارية مؤداة»(+) .
وقال المالكية، في المشهور عندهم: ليس للمعير استرجاعُ العارية، قبل الانتفاع بها. وإذا كانت العارية إلى أجل فلا يجوز للمعير الرجوعُ إلا بعد انقضاء الأجل. وإن لم يتحدد أجل يلزم المعير من المدة ما يرى الناس أنه مدة لمثل تلك العارية. وقال الدردير في الشرح الكبير: الراجح أن للمعير أن يرجع في الإعارة المطلقة متى أحب(+) .
أقسام الإعارة:
تنقسم العارية إلى إعارة مطلقة وإعارة مقيدة..
1 ـ أما الإعارة المطلقة فتكون عندما لا تدل الصيغة أو لا يبيّن العقد أن المستعير يستعمل العارية بنفسه أو بغيره، ولا يبين كيفية الاستعمال، أي بمعنى آخر هي أن ينتفع المستعير بكل ما ينتفع به المالك المعير. فله أن يستعمل الدابة، أو السيارة في أي زمان ومكان، وله أن يركب، أو يحمل، أو يركب غيره، لأن الأصل في المطلق أن يجري على إطلاقه، وقد ملَّكه منافع العارية مطلقًا. إلاَّ أنه لا يحق له أن يحمّلها أكثر من طاقتها، أو ما هو معروف لمثلها، فلو فعل وتعطَّلت السيارة، أو عطبت الدابة يضمن، لأن العقد المطلق مقيد بالأعراف، أي وفقًا لما هو متعارف عليه بين الناس.
2 ـ وأما الإعارة المقيدة فهي أن تكون مقيدة بالزمان والمكان، والانتفاع معًا، أو في واحدٍ منها. ولذلك يُراعى فيها القيد ما أمكن، لأن الأصل في المقيد اعتبار القيد فيه. فإذا زاد المستعير على الوقت، أو جاوز المكان المحدد، وحصل حادث للسيارة، أو الدابة، يضمن المستعير، لأنه مقيد بالزمان والمكان والاستعمال. وإذا استعمل العارية في وجهها، ووفق القيد الوارد، ثم عطبت أو حدث بها تلف فلا يكون مسؤولاً عما يحدث، أو لا يضمن، إلا مع الشرط.
ـ وقد قسّم الحنفية العارية أربعة أقسام: مطلقة بالوقت والانتفاع - مقيدة بالوقت والانتفاع - مقيدة بالوقت مطلقة بالانتفاع - مقيدة بالانتفاع مطلقة بالوقت.
وقال المالكية: تنقسم العارية إلى ثلاثة أقسام: العارية المقيدة بالزمن - العارية المقيدة بالعمل - والعارية المطلقة وهي ما لا تقيد بزمان أو عمل كأن يقول أعرتك هذه الدار، أو هذه السيارة، أو هذه الآلة الكاتبة.
ـ وقال الشافعية: العارية قسمان: مطلقة، ومؤقتة بوقت معيَّن. وهي عقد جائز من الطرفين، فيجوز للمستعير أن يرد العارية، كما يجوز لصاحبها أن يطلبها متى أراد، إلا في أمور تكون لازمة.
ـ وقال الحنبلية: تنقسم العارية إلى مطلقة، ومؤقتة بوقت أو عمل. وهي غير لازمة في أيّ حال، فللمستعير أن يرد عاريته متى شاء لأن المنافع لم تحصل في يد المستعير دفعة واحدة حتى يملكها بل تستوفى شيئًا فشيئًا، فما يستوفيه منها فقد قبضه، وما لم يستوفهِ ولم يقبضه، فيصح لصاحبه الرجوع فيه، كالهبة قبل القبض، إلا إذا ترتب على ردّها ضرر المستعير.
العارية مضمونة أم أمانة؟
قال الإمامية: إذا هلكت العارية عند المستعير لم يضمن المستعير إلا أن يكون قد اشترط عليه المعير، فإنه يضمن عملاً بقول رسول الله (ص) في الحديث المروي «جاء رسول الله (ص) إلى صفوان ابن أمية فسأله سلاحًا ثمانين درعًا، فقال له صفوان: عارية مضمونة، أو غصبًا.. فقال رسول الله (ص): بل عارية مضمونة»(+) .
لكن الضمان يثبت في عارية الذهب والفضة من غير تفريط وإن لمْ يشترط الضمان فقد قال الإمام جعفر الصادق: «لا تضمن العارية إلا أن يكون قد اشْتُرط فيها ضمانًا، إلا الدنانير، فإنها مضمونة وإن لم يشترط فيها ضمانًا»(+) .
وليس للمستعير أن يرهن العارية لأحدٍ إلا إذا كان قد اشترط ذلك لما جاء عن الإمام الصادق (عليه) حين سُئِل عن رجلٍ استعار ثوبًا ثم عمد إليه فرهنهُ في دار أهل المتاع إلى متاعهم؟ فقال: «يأخذون متاعهم»(+) .
ـ وقال الحنفية: إن المستعار أمانة في يد المستعير، سواء استعمله أم لم يستعمله، وهو لا يضمن في أي حال، إلا بتعدٍّ أو تقصير. فلما لم يوجد سبب يوجب الضمان فلا يجب عليه الضمان، لأن الضمان لا يجب على المرء من دون فعله، ولم يفعل ما يوجب الضمان، لأنه يقوم بحفظ مال الغير، وهذا إحسان في حق المالك. قال تعالى: {هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلاَّ الإِحْسَانُ*}(+) .
ـ وقال المالكية(+) : يضمن المستعير ما يُغاب عليه (وهو ما يمكن إخفاؤه) كالثياب، والحلي، والسفينة السائرة في عرض البحر، وذلك إذا لم يكن هناك بيِّنة على أن حصول التلف أو الضياع كان بسبب منه. ولا يضمن فيما لا يُغاب عليه كالحيوان والعقار، ولا فيما قامت البيِّنة على تلفه. ودليلهم الجمع والتوفيق بين حديثين: أولهما: أن الرسول (ص) قال لصفوان: «بل عارية مضمونة مؤداة»(+) ، وفي رواية: «بل عارية مؤداة»، وثانيهما: قوله (ص): «ليس على المستعير غير المغلّ ضمان(+) ، ولا على المستودع غير المغل ضمان» (المغلّ: الخائن) فحمل الضمان على ما يغاب عليه، والحديث الآخر على ما لا يغاب عليه. وهذا المذهب قريب من مذهب الحنفية في أن العارية أمانة(+) .
ـ وقال الشافعية: الأصح أن العارية مضمونة بقيمتها يوم التلف، إذا تلفت بغير الاستعمال المأذون فيه، وإن لم يفرط لحديث صفوان بن أمية: «بل عارية مضمونة»، ولأنها مال يجب رده لمالكه. أما إذا تلفت بالاستعمال المأذون فيه فلا ضمان(+) ، لحدوث التلف عن سبب مأذون فيه أو ماتت به، أو تلف ثوب بالكلية يلبسه المأذون فيه، أو سقط ثور في ساقية استعير لاستعماله فيها، فلا ضمان في هذه الحالات كلها(+) . لذلك لا يضمن المستعير ما استعاره ليرهنه، إذا تلف عند المرتهن، ولكن يشترط لذلك ذكر جنس الدين، وقدره، وصفته، والمرهون عنده.
ـ وقال الحنبلية: لو استعار أحدٌ كُتُبَ علمٍ، أو أدراعًا موقوفة على المجاهدين، فتلفت بغير تفريط ولا تعدٍّ، فلا ضمان لكون تعلُّم العلم، وتعليمه، والجهاد من المصالح العامة.
ويبرأ المستعير بردّ العارية إلى من جرت العادة بتسلُّم الشيء منه، كالزوجة، والخازن، والوكيل العام، في التسلُّم.
اشتراط المعير الضمان:
ـ قال الحنفية: إذا شرط المعير على المستعير ضمان العارية، يكون الاشتراط باطلاً، كشرط عدم الضمان في الرهن، لأن في ذلك تغييرًا لمقتضى العقد(+) .
ـ وقال المالكية: إذا اشترط المعير الضمان في الموضع الذي لا يجب فيه الضمان، فلا يضمن المستعير، ويلزم بإجارة المثل في استعماله العارية، لأن مثل هذا الشرط يخرج العارية عن حكمها إلى باب الإجارة الفاسدة، فإذا لم يرضَ صاحبها أن يعيرها بغير ضمان، فهو عوض مجهول، فيجب أن يردّه إلى معلوم(+) .
ـ وقال الشافعية والحنبلية: إذا شرط المستعير أن تكون العارية أمانة، لم يسقط الضمان وأُلغي الشرط، لأن كل عقد اقتضى الضمان لم يغيره الشرط، كالمقبوض ببيع صحيح أو فاسد(+) .
تغير حال العارية من الأمانة إلى الضمان:
وفقًا لما ذهب إليه الحنفية، يتغير حال العارية من الأمانة إلى الضمان، بالأسباب نفسها التي تتغيّر بها حال الوديعة، ومنها:
1 ـ التضييع، والإتلاف حقيقة بإلقائها في مضيعة، أو كأن يدل سارقًا على الشيء المستعار.
2 ـ ترك الحفظ في استعمال العارية، أو إيجارها.
3 ـ استعمال العين المعارة استعمالاً غير مشروط، أو غير مألوف عادة.
4 ـ المخالفة في كيفية الحفظ، كأن يأمره يغفل عنها، فغفل، فيضمن.
ولو أن المستعير ردّ العارية إلى منزل المالك، أو دفعها إلى عياله، كما جرت العادة، فإنه يبرأ من الضمان، وذلك بخلاف الوديعة. فخصصت العارية من عموم آية: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا}(+) . والعين المغصوبة، مثل الوديعة، تردّ إلى المالك نفسه. ولكن إذا كانت العارية من الأشياء النفيسة، فردّها المستعير إلى دار المالك ولم يسلّمها إليه، فإن يضمن، لأن الأعيان النفيسة لا تردّ إلا إلى صاحبها في العادة.
وإذا اختلف المعير والمستعير، فالقول قول المالك، في حين أنه في الوديعة: القول قول الوديع(+) .
أجرة رد العارية : إن هذه الأجرة على المستعير، لأن الردّ واجب عليه لأنه قبضها لمنفعة نفسه، تمامًا كما هي أجرة ردّ العين المغصوبة على الغاصب، لأن الردّ واجب عليه دفعًا للضرر عن المالك. أما أجرة ردّ العين المستأجرة فعلى المالك.

مقدمة الكتاب
القسمُ الأوّل
القِسم الثاني
القِسم الثالِث
القسم الرابع
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢