نبذة عن حياة الكاتب
العقود والمطعومات والمشروبات

المرأةُ المسـلمةُ والحجـاب
لقد ذهب بعضُ الأئمة المجتهدين من أصحاب المذاهب إلى أن ذلك الحجابَ الذي يستر وجوهَ النساء، ما عدا عيونهن، هو أمر مفروض شرعًا. وذهب بعضٌ آخرُ من أولئكَ الأئمة إلى أن الحجابَ غيرُ مفروضٍ على النساء، فلا يجب على المرأة المسلمة أن تستَر وجهها لأنه ليس بعورة.
وهذا التباين في وجهات الرأي هو الذي يستدعينا عرضَ الأدلة الشرعية حول هذه المسألة، وفقًا لصريح الكتاب وصحيح السنّة حتى يتبنَّى المسلمون الرأي الأقوى دليلاً، وحتى تتبنّى الدولةُ الإسلاميةُ الرأيَ الذي يرجحه الدليل.
وقد أثيرت هذه القضيةُ، وظهرت كأنها مشكلةٌ في حياة المسلمين، منذ أكثرَ من نصف قرنٍ تقريبًا. وذلكَ لما عمد بعض العملاء المنافقين إلى الترويج لثقافة الغرب ونشرها بأساليبَ جذّابةٍ خداعةٍ تستهوي النفوس الضعيفة، فأثاروا المناقشات حول هذه القضية أو ابتدعوا فكرةَ الحجاب والسفور، ولم يتصدَّ لهم علماؤنا المفكرون، بل بعضُ الكتاب والأدباء، وبعض المتعلمين الجاحدين الذين مكَّنوا لآراء أولئكَ العملاء من النجاح والسيطرة على أذهان المفتونين بمدنية الغرب ونظرياته..
ولقد كانت الغايةُ من وراء ذلكَ كله مشكوفةً وهي الدسُّ على الإسلام، وتشويه معانيه ومفاهيمه، ومن ثَمَّ إفساد المسلمين، وجعلُهم يشكّون في دينهم ويرون تقصيره عن مواجهة أوضاع الحياة وتطوراتها. وعلى الرغم من ذلكَ فإن تلك المناقشات والآراء قد استمرت قائمة إلا أنها في الحقيقة لم ترق لتصل إلى درجة الأبحاث العلميّة والاجتماعيّة.. لأن البحث إنما يجب أن يكون في أحكامٍ شرعيةٍ استنبطها المجتهدون واستندوا فيها إلى دليلٍ أو شبهِ دليل، وليس في آراء كُتّابٍ مأجورين، أو في سفسطاتِ أشخاصٍ مخدوعين. فما قاله المجتهدون، معتمدين على الأدلة الشرعية، هو الذي يوضع موضع بحث، ويناقش مناقشةً تشريعية فينبغي عرض أقوال المجتهدين وأدلتهم، ثم تناقش حتى يتبين القولُ الراجحُ، فيلتزم به كلُّ من يراه راجحًا ويطبقه.
أما الذين قالوا بالحجاب فقد ذهبوا إلى أن بدنَ المرأة كلَّه عورةٌ في الصلاة، ما عدا الوجهَ والكفين، وفي خارج الصلاة فجميع بدنها عورة، بما في ذلكَ وجهها وكفّاها. واستندوا في رأيهم هذا إلى الكتاب والسنّة.
أما الدليل الذي اعتمدوه في الكتاب فهو قول الله تعالى: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ}(+) وهو صريحٌ في ضرب الحجاب عليهن. وقول الله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَِزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلاَبِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ}(+) ومعنى «يدنين عليهن من جلابيبهنَّ» يرخينها عليهنَّ ويغطين بها وجوههنَّ وأعطافهن.
ويرى أصحابُ هذا الاتجاه أن النساء في أول الإسلام كنّ على عادتهن في الجاهلية يكتفين بالدرع والخمار(+) لا فرق بين الحرة والأمة. وكان بعض الفتيان يتعرضون للإماء إذا خرجن ليلاً لقضاء حوائجهن، وربما تعرضوا للحُرة، بحجة أنهم حسبوها أمة، فأُمرن أن يخالفن بزيهنّ زيَّ الإماء بلبس الأَرْدِية والملاحف، وستر الرؤوس والوجوه، لِيُحْشَمن ويُهَبْن، فلا يطمع فيهنّ طامع. وهذا أجدر وأولى أن يُعرفن فلا يُتعرَّضُ لهنَّ، ولا يَلقين ما يَكرهنَ، إذ قال الله سبحانه: {ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ} أي ذلكَ أقرب وسيلة لأن يُميّزن عن غيرهنّ فلا تتجه الأنظار نحوهنّ بأذيّةٍ، لأنهنّ حرائر مصونات.
واستدلوا أيضًا بقول الله تعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى} أي إن الأمرَ نزل من الله سبحانه وتعالى للنساء بأن يبقَيْنَ في بيوتهن. وهو دليل على الاحتجاب وعدم الظهور بين الناس.
والدليل الذي اعتمدوه في السنّة، هو ما روي عن النبيّ (ص) أنه قال: «المرأة عورة...»(+) وما نقل عن جرير بن عبد الله أنه قال: «سألت رسول الله (ص) عن نظر الفجاءة فأمرني أن أصرف بصري»(+) . وما نقل عن عليّ (عليه) أنه قال: قال لي رسول الله (ص): «لا تتبع النظرة النظرة فإنما لكَ الأولى وليست لكَ الآخرة». هذه هي أدلة القائلين بوجوب أن تضعَ المرأةُ المسلمةُ الحجابَ، لأن بدنها عورة.
وفي الحقيقة. إن هذه الأدلة لا تنطبق على مسألة الحجاب ولا تتعلق بموضوعه، لأن آية الحجاب، وآية: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} ليس فيهما خطاب لنساء المسلمين بتاتًا، بل هما خاصتان بنساء النبيّ (ص)، والنصوص بحد ذاتها تثبت هذه الحقيقة. فالآية 53 من سورة الأحزاب وهي آيةٌ واحدةٌ يرتبط أولها بآخرها لفظًا ومعنى تبيّن وبوضوح أنها خاصةٌ بنساء النبيّ (ص). قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاَّ أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلاَ مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لاَ يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلاَ أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا*}(+) . فصريح الآية واضح بأنها خاصة بنساء النبيّ (ص) ولا علاقة لأي نساءِ غيرهنَ بها.
وكذلك الحال في الآية 33 من سورة الأحزاب، فهي أيضًا خاصةٌ بنساء النبي (ص) ولكي تظهرَ المخاطبات بها، فيجب ألاَّ تُقرأَ وحدها، بل تُقرأُ مع الآية التي تسبقها أي الآية 32 من سورة الأحزاب نفسها، وفيهما قال الله تعالى: {يَا نِسَاء النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاء إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَّعْرُوفاً* وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ}(+) . ولا يوجد أبلغ ولا أدلّ من هذه النصوص على أن الخطاب تخصيصٌ لنساء النبيّ (ص). وقد جاءت الآية التي تلت بعدهما مباشرة تؤكد هذا التخصيص بنساء النبيّ (ص) فقال الله تعالى: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا*}(+) . فذكَّرهن بأن بيوتهن مهابطُ الوحي، وما يحملُ من آيات الله والحكمة التي تجعل الناس يؤمنون بحقيقة وجود الله تعالى، بل إن قوله عزَّ وجلَّ: {وَلاَ أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ} هو حكم خاصٌّ بنساء النبي (ص)... من هذا كلّه يتبيّن أنه ليس في هذه الآيات الكريمة جميعها أيُّ حكمٍ للنساء المسلمات الأخريات.
وقد يذهب بعض التفسيرات مذاهبَ شتّى، كأن يقال: إن العبرةَ بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وإن كان سبب نزول هذه الآيات هو نساء الرسول (ص)، فهي إذًا عامة «فيهن» وفي «غيرهن» من جميع النساء المسلمات.. لا يقال ذلكَ هنا لأن النصوصَ جاءت بحقّ أشخاصٍ معيَّنين، وقد نصَّت على شخصهنَّ: {يَانِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ} ثم قال: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ} فالضمير لنساء النبيّ (ص) ومعيِّنٌ لهن ليس غير. وعقب ذلكَ بقوله: {وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ} مما يشعر بعلَّة حجابهنّ... فكانت قاعدة: العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب لا تنطبقُ على آيتي الحجاب.
وكذلك لا يقال إن خطاب نساء الرسول (ص) خطابٌ للنساء المسلمات، لا يقال ذلك، لأنَّ القدوةَ لا تكون إلاَّ بالرسول نفسه (ص) لقول الله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}(+) ونساء الرسول لسن محلّ القدوة، ولا يصح أن يكنَّ قدوة بحيث يُفعل الفعلُ لأنهن يفعلنه، أو يُتّصفُ بالصفة لأنهن يُتّصفن بها.
ولا يقال أيضًا إنه إذا كانت نساء الرسول (ص)، وهن الطاهرات اللواتي يُتلى الوحي في بيوتهن، يُطلب منهنَّ الحجابُ، فإنَّ غيرهن من النساء المسلمات أولى أن يُطلبَ منهن ذلك.. لا يقال هذا لسبيين:
أحدهما أن طلب الحجاب لا يدخل في باب الأَوْلى. فعندما ينهى الله تعالى عن الفعل الصغير، يكون ذلك نهيًا عن الكبير من باب أولى، كقوله تعالى: {فَلاَ تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ}(+) يُفهم منه من باب أولى نهيٌ عن أن يشتمهما أو يضربهما.
والأَولى يُفهم من سياق الكلام كقوله تعالى: {مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ}(+) .. فأداء ما دون القنطار من باب أولى، وعدم أداء ما فوق الدينار من باب أولى.
والنصُّ على الحجاب ليس من هذا القبيل، لأن سياقَ الآيات لا يدلّ إلا على نساء النبيّ ولا يدلّ على مفهوم آخر.
وثانيهما أن خطاب الحجاب جاء نصًّا قطعيًّا لنساءٍ نصَّ عليهنَّ بعينهنَّ، لكونهنَّ فقط نساء النبيّ (ص)، فلا يكون موجهًا لغيرهن من الأشخاص مطلقًا، لا لمن هنَّ أعلى منهن، ولا لمن هنَّ أدنى منهن. فهو إذن أمرٌ يتَّصف بوصفٍ معيَّن، ويختصّ بنساءٍ معيَّنات، وهو أمرٌ لنساء النبيّ (ص) بوصفتهنَّ نساءه: لأنهن لسن كأحدٍ من النساء، ولأن هذا العملَ - أي عدم الحجاب - يؤذي رسولَ الله (ص).
وهكذا يتضح لنا من الأمور التالية أنه:
ـ إذا انتفى انطباقُ قاعدة «العبرةُ بعموم اللفظ لا بخصوص السبب» وانتفى الاقتداءُ بنساء النبيّ (ص).
ـ وانتفى كونُ غيرهنَّ ملزماتٍ بالحجاب من باب أولى.
ـ وثبت أن النصَّ القطعيَّ خاصٌّ بنساء النبي (ص).
فإن ذلكَ كلّه أدلةٌ على أن الحجابَ خاصٌّ بنساء النبيّ (ص) وليس مفروضًا على سائر النساء المسلمات مطلقًا، تمامًا كما الحكمُ بالنسبة إلى المكث في البيوت، فهو خاصُّ بنساء النبيّ (ص)... وذلكَ كلّه أيضًا مما ينفي الاستدلالَ بالنصّ على كون الحجاب قد شُرِّع للنساء المسلمات.
وأما قوله الله تعالى: {يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلاَبِيبِهِنَّ} فلا يدلّ على تغطية الوجه بحال من الأحوال، لا منطوقًا ولا مفهومًا، ولا يوجد فيه أيُّ لفظٍ يدل على ذلك، لا مفردًا، ولا من وجوده في الجملة، على فرض صحة سبب النزول.. ثم إن: (منْ) الواردة في النصّ ليست هنا للتبعيض بل هي للبيان: أي يُرخين عليهن جلابيبهن، لأن معنى أدنى الثوب: إرخاؤه. والجلباب هو الملحفةُ أو كلُّ ما يُستر به من كساءٍ وغيره.
وقد ورد في الحديث أن الجلبابَ يعني الملاءة التي تضعها المرأة فوق ثيابها. عن أم عطيه (تأكد) قالت: «أمرنا رسول الله (ص) أن نخرجهن في الفطر والأضحى: العواتق والحيض وذوات الخدور، فأما الحيض فيعتزلن الصلاة ويشهدن الخير، ودعوة المسلمين. قلت يا رسول الله: إحدانا لا يكون لها جلباب. قال (ص): «لتلبسْها أختُها من جلبابها(+) » أي لتُعرها أختها - أيّ واحدة من المسلمات - من ثيابها ما يمكنها أن تلبسه فوق ثيابها.
ومعنى الآية واضح وهو: أن الله - سبحانه - قد وجَّه رسوله الكريم بأن يقول لأزواجه وبناته ونساء المؤمنين أن يرخين عليهن ثيابهن التي تلبس فوق الثياب إلى أسفل. وقد دلَّ عليه ما روي عن ابن عباس أنه قال: الجلبابُ رداءٌ يستر من فوق إلى أسفل... فلا يكون في الآية الكريمة أيُّ شيء يدلّ على وجوب ستر الوجوه. وتغطيتها. والقرآن الكريم تُفسّر ألفاظه وجمله بمعناها اللغويُ والشرعيّ، ولا يجوز أن تُفسّر في غيرهما. والمعنى اللغويّ في آية الجلباب واضحٌ بأنه أمرٌ للنساء أن يُنزلن، ويُسدلن الثوبَ الفضفاضَ الذي يلبسنه فوق الثياب إلى أسفلَ حتى يغطّيَ القدمين.
وقد ورد وجوبُ إرخاء الثوب إلى أسفل الحديث الشريف(+) فعن ابن عمر قال: قال رسول الله (ص): «من جَّر ثوبَهُ خُيَلاء لم يُنظر الله إليه يوم القيامة». فقالت أم سلمة: فكيف يصنع النساء بذيولهن؟ قال (ص): «يُرخين شبرًا» ، قالت: إذن ينكشف أقدامهن. قال (ص) «فيرخينه ذراعًا لا يزدن عليه». مما تقدم يتبين أنَّه لا يوجد دليلٌ على أن الله سبحانه وتعالى فرض على المسلمات تغطية الوجه والكفّين، كما لا يوجد دليلٌ على أن الوجه والكفين عورةٌ، لا في الصلاة ولا خارج الصلاة.
ـ وأما كونُ الوجه والكفين ليسا بعورة وكون المرأة يجوز أن تخرجَ إلى السوقِ والطريقِ كاشفةً وجهها وكفيها فهو ثابت في القرآن والحديث.
ففي القرآن: قال الله تعالى: {يُبْدِينَ زَينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ}(+) .
أي إنه - سبحانه وتعالى - ينهى المؤمناتِ أن يُظهرنَ محلّ زينتهن، كمحلَّ السوار من الزند، ومحل العقد من الصدر، ومحل الخلخال من الساق. واستثنى من محل الزينة ما ظهر منه، وهو استثناءٌ صريحٌ وواضح. والأعضاء التي يعنيها هذا الاستثناءُ، يُرجع في توضيحها إلى أمرين: إلى الروايات التي نُقلت عن رسول الله (ص)، وإلى أيام الرسول (ص) وما كان يظهر من النساء المسلمات أمامه (ص) في عصرِ نزول هذه الآية المباركة.
وأما النقل، فقد روي عن ابن عباس «ما ظهر منها» تعني الكفين، وجرى على ذلك المفسرون. قال الإمام ابن جرير الطبري: «وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قولُ من قال: «عنى بذلك الوجهَ والكفين». وقال القرطبي: «لما كان الغالبُ من الوجه والكفين ظهورُهما عادةً وعبادةً، وذلك في الحج فيصح أن يكون الاستثناءُ راجعًا إليهما». وقال الإمام الزمخشري: «فإن المرأةَ لا تجد بُدًّا من مزاولة الأشياء بيديها ومن الحاجة إلى كشف وجهها خصوصًا في الشهادة والمحاكمة والنكاح، وتضطرُّ إلى المشي في الطرقات وظهور قدميها، وخصوصًا الفقيرات منهن. وهذا يعني قوله عزَّ وجلَّ: {إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا}.
وأما ما كانت تظهره النساء بين يدي رسول الله (ص)، وفي حضرته، فهو ثابتٌ أنهنَّ يكشفن وجوهن وأيديهن، ولا ينكر (ص) ذلكَ عليهن. كما أنهنّ كنّ يكشفن وجوهن وأيديهن في السوق، والطرقات، وفي جميع الأماكن العامة.
بقي أن نشير إلى ما يقوله بعضُ المجتهدين من أن الحجابَ يُشرّعُ للمرأة خوفَ الفتنة، أي تُمنعُ المرأة من كشف وجهها أمام الرجل، ليس لأنه عورة، بل لخوف الفتنة. وهذا القولُ قابلٌ للبطلان من عدة وجوه:
أحدها : أنه لم يرد بتحريم كشف الوجه خوف الفتنة نصٌّ شرعيٌّ، لا من الكتاب، ولا من السنّة، ولا من إجماع الصحابة، ولا من علّةٍ شرعيةٍ يقاس عليها. ولذلك فهو لا يُعدّ حكمًا شرعيًّا، لأن الحكم الشرعيَّ هو خطاب الشارع وقد جاء خطاب الشارع نقيضًا لهذا القول، لأن الآياتِ والأحاديثَ دلّت على كشف الوجه، فيكون تحريمه ووجوب ستره تحريمًا لما أحلَّه الله تعالى ورسولُهُ الكريم، وإيجابًا لما لم يوجبه ربُّ العالمين، وهو عند الأخذ به يُبطل أحكامًا شرعيةً ثابتةً بصريح النص.
ثانيها : أن جعلَ خوفِ الفتنة علةً لتحريم كشف الوجه ووجوب ستره، لم يرد فيه نصٌّ شرعيٌّ لا صراحةً ولا دلالةً ولا استنباطًا ولا قياسًا، وعلى هذا فلا يكون علةً شرعيةً، بل علة عقلية، والعلةُ العقليةُ لا اعتبار لها في أحكام الشرع، ما دام الشرعُ نفسُهُ يبدي العللَ والأسبابَ ويرتّب عليها النتائج.
ثالثها : أن القاعدة التي تقول: «الوسيلةُ إلى الحرام محرّمة» لا تطبّق على تحريم كشف الوجه لخوف الفتنة. فهذه القاعدة تقتضي أن يتوافر لها أمران: أحدهما أن تكونَ الوسيلةُ موصلةً إلى الحرام قطعًا، وأن تكونَ سببًا ينتج المسبَّب أي الحرام حتمًا. والثاني أن يكونَ ما تؤول إليه قد ورد النص بتحريمه وليس مما يحرِّمه العقل. وهذا غير موجود في كشف الوجه لخوف الفتنة. والشرع وإن كان يحرِّم الفتنة، إلاَّ أنه لم يجعل هنا الفتنةَ حرامًا على من يُفتتن بها من النساء. بل حرَّم على الناظر أن ينظر إليها نظرةَ افتتان، ولم يحرَّم ذلكَ عليها كمنظورة، كما ورد في الحديث الذي رواه أبو داود عن الفضل بن العباس والخثعمية: أن الرسول (ص) صرف وجه الفضل عن الخثعمية، ولم يأمرها بستر وجهها وكانت كاشفةً له. فلو كانت الفتنةُ واقعةً على من يُفتتنُ بها، لكان الرسول (ص) أمر الخثعميةَ بستر وجهها بعد أن تحقق من نظرة الفضل لها نظرةَ افتتان. وهذا يدل على أن التحريم موجّهٌ إلى الناظر لا إلى المنظور إليها. وعلى ذلك فإنَّ المرأةَ التي يُفتتن بها ليس محرَّمًا عليها كشفُ وجهها أبدًا لأنه لم يرد به نصٌّ.
وفي مطلق الأحوال، إن اللباس سواء للرجل أو للمرأة، إنما جُعل من أجل أمرين: منعِ العريّ، والحفاظِ على كرامة الكائن البشريّ وظهوره بمظهر اللياقة والاحترام بين الآخرين. بل إن الإنسانَ ليأنف من نفسه إن كان عاريًا، فكيف بظهوره أمام أناس آخرين؟ وهذا ما أجمعت عليه الجماعاتُ البشريةُ المتحضّرة، في مختلف مراحل الحضارة، لأنه مما يميّز الإنسانَ من الحيوان في مظاهر حياته. وكان اللباسُ من أول الحاجات التي أملت على الإنسان الأخذَ به منذ بدء انتقاله من مرحلة الإنسان العاري إلى طور التحضُّر تمييزًا لوجود البشريّ من الحياة الحيوانية. وقد أقرَّ الإسلام هذه المفاهيم الحضارية، في النص القرآنيّ، بقوله تعالى: {يَابَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ}(+) . بل إنَّ الإسلام يأمر بالتجمّل في اللباس - من غير إسراف - على أساس من الحشمة والحياء. وذلك أولى للمرأة من الرجل، حتى تبقى، في حشمتها وحيائها، موضعًا للاحترام والتقدير، وموضع اهتمامٍ من الرجل الذي يرغب فيما تستره من جمالها.

مقدمة الكتاب
القسمُ الأوّل
القِسم الثاني
القِسم الثالِث
القسم الرابع
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢