نبذة عن حياة الكاتب
العقود والمطعومات والمشروبات

حكم التأجيل وشروطه
أولاً - البيع بالتقسيط والدين:
قال رسول الله (ص): «إنما البيع عن تراضٍ»(+) . وهذا يعني أن لصاحب السلعة أن يبيعها بالسعر الذي يرضاه، وأن يمتنع عن بيعها بالسعر الذي لا يرضاه. ولهذا يجوز لصاحب السلعة أن يجعل لسلعته ثمنَين: ثمنًا حالًّا ، وثمنًا مؤجّلاً أي ثمنًا بالتقسيط لعدَّة آجال، كما يجوز له أن يساومَ المشتريَ بأيّ الثمنين يقبل الشراء، تمامًا كما يجوز للمشتري أن يساوم صاحب السلعة - البائع - بأي الثمنين يقبل البيع وهذه كلها مساومة على الثمن وليست بيعًا. فإذا اتفق البائع والمشتري على سعر معيَّن، وقبل المشتري بالسعر الحالي، أو قبل بالسعر المؤجل، فإن ذلك صحيح لأنه مساومة على البيع وليس بيعًا. والمساومة جائزة، لأن رسول الله قد ساوَمَ كما روي عن أنس (رضي): «أن النبيّ (ص) باع قدحًا وحِلْسًا(+) بثمن يزيد»(+) .
وكما يصح للمشتري أن يقبل بشراء السلعة بثمنين، كذلك يجوز للبائع أن يبيع سلعته بثمنين أحدهما يكون نقدًا أو حالًّا ، والآخر نسيئة. فلو قال شخص لآخر: بعتك هذه الساعة بمئة درهم أو ريال أو ليرة نقدًا، وبمئة وخمسين نسيئةً، فقال الآخر: اشتريتها نقدًا بمئة، أو نسيئةً بمئة وثلاثين، صحَّ البيعُ. إذ في هذا المثال حصلت المساومة على ثمنين، لكن البيع تمَّ على ثمن واحد. قال الله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ}. وهذا عامٌّ. فإن لم ينص الشرع على تحريم نوع معيَّن من البيع، فإنَّ البيعَ يكون حلالاً لعموم دليل النص القرآني: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ}، لأنه نص يشمل جميع أنواع البيوع، ويدل على أنها حلال، إلاَّ ما استثني من عموم البيع، وجاء النص على تحريمه، فيصبح محرَّمًا بسبب استثنائه من العموم. ولم يرد نص أو دليل على تحريم بيع السلعة بأحد ثمنين: إما معجل، وإما مؤجل، فيكون البيع على الصورة حلالاً أخذاً بعموم النص القرآني، وبدليل السُنَّة النبوية الشريفة، لقوله (ص): «إنما البيع عن تراضٍ»(+) . فالمتبايعان هنا كانا بالخيار، وتمَّ البيع برضاهما. وقد نصَّ جمهرة الفقهاء على أنه يجوز بيع الشيء بأكثر من سعر يومِهِ لأجل تأخير دفع الثمن.
وقد قال الإمام عليّ (عليه): «من ساوم بثمنين أحدهما عاجل والآخر نَظِرَةٌ فليُسَمِّ أحدَهما قبل الصفقة»(+) .
وسأل رجلٌ الإمام الصادق (عليه): «أبيع أهل الجبل بتأخير سنة؟» فقال له الإمام: «لا يكون لك شيء أكثر من ثلاث سنين»(+) . والمراد من قوله (عليه) هو عدم طول الأمد، وليس التحريم، وفساد المعاملة. ومن أجل ذلك لم يرد تحديد لطول الأجل أو قصره - عند غالبية الفقهاء - ولكن شرط ألاَّ يكون التأجيل مثلاً لدقيقة أو لعشرات السنين، إذ يصبح عندها أشبه بالسفه، أو اللغو عُرفاً، ولا سيما أن طول الأجل قد يتخلله موت المدين، فيصير الدَّين حالًّا بموته.
والبيع المؤجل الثمن هو ما يعرف بالتنجيم، أي أن يُقَسَّطَ الثمن على عدة أقساط معلومة، وعلى أوقات معيّنة. ومن قبيل ذلك ما يفعله التجار في أيامنا، وذلك ببيع السلعة بثمن معيّن معجَّل، وثمنٍ أعلى من ذلك إذا دفع تقسيطًا، فإن مثل هذا البيع جائز، والحكم الشرعيّ فيه أنه حلال، لما فيه من تسهيل على كثيرٍ من الناس. إذ قد يشتري أحدهما منزلاً لسكناه، أو أثاثًا لمنزله، فيدفع جزءًا من الثمن عند العقد، ويؤجل الأجزاء الباقية لدفعها على أقساط، وفي أوقاتٍ معينة.ومثله أيضًا ما يفعله بعض الفلاحين وأصحاب البساتين، من شراء البذار، أو الماشية، أو الآلات وما شابهها، واشتراط دفع ثمنها مؤجَّلاً إلى الموسم، وبزيادة الثمن مقابل تأجيل الدفع، فذلك جائز.
على أنه عندما يُقسَّط الثمن على عدة أقساط معلومة، ولآجال معيّنة، فإن التأخير في دفع قسط عند حلول أجله لا يجعل بقية الأقساط حالّة. فإذا اشترط البائع ذلك على المشتري، أي حلول جميع الأقساط في حال التأخير عن دفع قسط مستحق - كما يحصل اليوم - فإن البيع يبطل من الأساس، لأن الثمن يصبح مجهولاً، ولا يعلم هل هو قسط واحد أو أقساط، والجهل يستدعي الغَرَرَ المبطلَ للبيع.
ثانيًا - حكم التأجيل وشروطه:
لا بد قبل البحث في أحكام التأجيل من معرفة معنى «القبض»..
ـ القبض: قال الفقهاء: القبض يعني التخلية، أي رفع يد البائع عن المبيع والإذن للمشتري بالقبض مع عدم المانع، بحيث يسهل عليه قبضه بسرعة، وفقًا للعرف والعادة. وقد جاء في تعريف القبض: «أن يوضع المبيع تحت تصرف المشتري بحيث يتمكن من حيازته والانتفاع به دون مانع»(+) .
ويختلف القبض بحسب طبيعة المقبوض (أم المبيع)، فإذا كان أرضًا تركها للمشتري يتصرف بها كيفما يشاء، وإذا كان دارًا أخلاها من أمتعته وسلّمه مفاتيحها. وإذا كان المبيع منقولاً كالحيوان، والثوب، والطعام وخلافه فإن القبض يتحقق برفع اليد عنه، واستيلاء المشتري عليه، وذلك بحسب العرف الجاري بين الناس.
وقد قسم الفقهاء القبض من حيث قوة أثره وضعفه قسمين: قبض الضمان، وقبض الأمانة.
فقبض الضمان: هو كان فيه القابض مسؤولاً عن المقبوض تجاه الغير، فيضمنه إذا هلك عنده ولو بآفة سماوية: كالمغصوب في يد الغاصب، والمبيع في يد المشتري.
وقبض الأمانة: هو ما كان فيه القابض غير مسؤول عن المقبوض إلا بالتعدي، أو التقصير في حفظه، كالوديعة، أو العارية، أو المأجور، أو مال الشركة، في يد الوديع، أو المستعير، أو المستأجر، أو الشريك.
وقد عدّوا قبض الضمان أقوى من قبض الأمانة بسبب الضمان المترتب.
والقاعدة العامة: أن القبض السابق ينوب عن القبض اللازم في البيع، إذا كانا متجانسين في الضمان وعدمه. أو كان السابق أقوى، بخلاف ما إذا كان أضعف. فقبض الضمان ينوب عن قبض الأمانة، وعن قبض الضمان. أما قبض الأمانة فلا ينوب عن قبض الضمان، لأن الأدنى لا يغني عن الأعلى(+) .
ـ شروط التأجيل: اتفق الأئمة على أن العقد إذا تجرَّد من قيد التأجيل، جاز للبائع أن يطالب المشتري بالثمن، شرط أن يكون قد سلَّمه المثمن. وكذلك للمشتري أن يطالب بتسليم المثمن له إذا كان قد بذل الثمن.
سئل الإمام الصادق (عليه) عن رجلٍ اشترى جارية بثمن مسمّى ثم افترقا. قال (عليه): «وجب البيع والثمن إذا لم يكونا قد شرطا، فهو نقد»(+) . فإذا قال: بعتك بشرط أن تعجل الثمن، ولم يعيّنا أمدًا خاصًّا، كان شرط التعجيل تأكيدًا وتوضيحًا لإطلاق العقد، فإذا عجّل المشتري الثمن فذاك، وإلاَّ انتظر البائع ثلاثة أيام في ما لا يسرع إليه الفساد، وبعدها يكون له الخيار بين فسخ العقد أو إمضائه. وقد سئل الإمام موسى الكاظم عن الرجل يبيع البيع ولا يقبضه صاحِبُه، ولا يقبض الثمن؟ قال: «فإنَّ الأجل بينهما ثلاثة أيام، فإن قبض بيعه، وإلا فلا بيع بينهما...»(+) .
وقد اشترط الأئمة في التأجيل ما يلي:
1 ـ أن ينص العقد صراحة على التأجيل، لأنه على خلاف ما يقتضيه إطلاق العقد.
2 ـ أن يذكر المتبايعان التأجيل، سواء جرى الاتفاق عليه قبل العقد أو أثناءه، شرط أن يتفقا عليه، وأن ينشئا العقد على هذا الأساس.
3 ـ أن تحدد مدة الأجل بما لا يقبل الزيادة أو النقصان، لأن الجهل بالأجل جهل بالثمن، يستدعي الغَرر في البيع، وهو مبطل له.
ـ الامتناع عن التسليم والتسلم: إذا اشترط البائع تأخير التسليم إلى أمدٍ معيَّن، فلا يحق للمشتري أن يطالبه بالمبيع قبل مضيّ الأوان. وكذلك إذا اشترط المشتري تأجيل الثمن، من دون أن يؤقت التسليم بأمد معيَّن، فقد وجب على البائع أن يبادر إلى تسليمه المبيع فور بذله الثمن. ويتمُّ التسليم بالتخلية في غير المنقول، وبرفع اليد في المنقول واستيلاء المشتري عليه، سواء أنقله من مكانه أم لم ينقله. ومتى تمًّ ذلك خرج المبيع من عهدة البائع، وصار في عهده المشتري. وكذلك حال البائع بالنسبة إلى الثمن.
ـ التصرف في المبيع والثمن قبل القبض:
اتفق جميع الأئمة على أن من ابتاع شيئًا بثمن مؤجَّل، وقبضه من البائع، جاز له أن يبيعه قبل حلول أجل الثمن، سواء من بائعه الأوّل أو من غيره، بنفس الثمن أو بزيادة أو نقصان، حالًّا أو مؤَجَّلاً، شريطة أن لا يكون البائع الأوَّل قد اشترط في نفس العقد على المشتري أن يبيعه إيَّاه، لأنّه يستلزم المحال.
«سئل الإمام الصادق (عليه) عن رجل يبيع المتاع نسيئة، فيشتريه من صاحبه الذي باعه منه؟ قال: نعم لا بأس»(+) .
وقد تباينت آراء الأئمة وسئل الإمام الكاظم (عليه) عن رجل باع ثوبًا بعشرة دراهم، ثم اشتراه بخمسة، أيحل قال (عليه): «إذا لم يشترط، ورضيا، فلا بأس»(+) .
حول التصرف في المبيع قبل القبض وهل للمشتري أن يبيعه قبل قبضه أم لا؟.
ـ قال الإمامية: إن للمشتري حق التصرف في المبيع، حتى ولو لم يستلمه من البائع، لأنه ينتقل إلى ملكه بمجرد انعقاد العقد، سواء في ذلك المكيل والموزون وغيرهما، وسواء أكان البيع بربح، أم بخسارة، أو تولية. ولكن جماعة منهم قالت: يجوز ذلك في غير المكيل والموزون من الطعام، أما فيهما فلا يجوز إلاَّ أن يبيعهما تولية، أي تمامًا كما اشترى من غير ربح ولا خسران. وأما ما عليه تجار اليوم من بيع الحبوب والدقيق والسكر والشاي والقهوة، وما شابه قبل قبضها فهو باطل وأكل للمال بالحرام، إلاَّ إذا باعوا كما اشتروا من غير زيادة أو نقصان. ويستدل عن ذلك بقول الإمام الصادق (عليه): «إذا اشتريت متاعًا، فيه كيل، أو وزن، فلا تبعه حتى تقبضه إلاَّ تولية، فإن لم يكن فيه كيل أو وزن فبعه»(+) .
وقد ذهب المتأخرون من فقهاء الإمامية إلى جواز البيع وصحته مكيلاً أو موزونًا، لأن المراد مما قاله الإمام الصادق (عليه) هو الكراهية دون التحريم وبطلان البيع. إذ روى جميل بن دراج عن الإمام (عليه) في الرجل يشتري الطعام، ثم يبيعه قبل أن يقبضه؟ قال: لا بأس. وفي رواية أخرى لأبي بصير، قال: سألت الإمام الصادق (عليه) عن رجل اشترى طعامًا، ثم باعه قبل أن يكيله؟ قال: «لا يعجبني أن يبيع كيلاً أو وزنًا قبل أن يكيله أو يزنه إلا أن يوليه، كما اشتراه»(+) . وهذا ما يدل على الكراهية دون التحريم، وكل مكروه جائز.
ـ وقال الحنفية: من البيع الفاسد بيع الأعيان المنقولة قبل قبضها، سواء باعها لمن اشتراها منه أو لغيره وسواء أكان بثمنه أم بأقل منه. أما بيع الأعيان غير المنقولة قبل قبضها كبيع الأرض، والدار، وغيرهما مما لا يخشى هلاكها فإنه يصح.
ـ وقال المالكية: يصح للمشتري أن يتصرف في المبيع قبل قبضه، سواء كان المبيع أعيانًا منقولة أو عينًا ثابتة كالأرض والنخيل ونحوهما، عدا الطعام كالقمح والفاكهة فإنه لا يصح بيعه قبل قبضه، إلا إذا اشتراه جزافًا من دون كيل أو وزن أو عدٍّ (كأن يشتري صُبْرَةً(+) من القمح من دون كيلها)، فإنه يصح بيعها قبل أن يتسلمها، لأنها بمجرد العقد تكون في ضمان المشتري فهي في حكم المقبوضة. أما إذا اشترى الطعام بكيل أو بوزن فإنه لا يصح أن يبيعه قبل القبض لورود النهي في الحديث عن بيع الطعام قبل أن يكتاله.
ـ وقال الشافعية: لا يصح للمشتري أن يتصرف في المبيع قبل قبضه. ولو قبض البائع الثمن وأذن في قبض البيع، فإذا اشترى شيئًا منقولاً كان أو غيره ولم يتسلّمه ثم باعه، وقع البيع باطلاً حتى ولو باعه لمن اشتراه منه لضعف الملك قبل القبض، ويستثنى من ذلك ثلاثة أمور:
الأول: أن يبيعه قبل قبضه لمن اشتراه منه بالثمن نفسه الذي اشتراه به من دون زيادة.
الثاني: أن يتلف المبيع عند البائع، فإن للمشتري أن يبيعه له بمثله، بأن يعطي البائع للمشتري ثمنًا مثل التالف.
الثالث: أن يشتري شيئًا لم يقبضه وكان ثمنه دينًا في ذمَّته: كأن يشتري جملاً بعشرة ولم يقبضه ولم يدفع ثمنه، فإنه يصح في مثل هذه الحالة أن يبيعه لمن اشتراه منه بعشرة في ذمته.
ومثل المبيع الثمن إذا كان عينًا فإنه لا يصح للبائع أن يتصرف به قبل قبضه.
ـ وقال الحنبلية: يصح التصرف في المبيع بالبيع قبل قبضه إذا كان غير مكيل أو موزون أو معدود أو مذروع. أما إذا كان كذلك فلا يصح التصرف فيه بالبيع قبل قبضه. وكما لا يصح بيعه لا تصح إجارته، ولا هبته ولو بلا عوض، وكذلك لا يصح رهنه ولا الحوالة عليه، ولا الحوالة به وغير ذلك من باقي التصرفات. إلا أنه يصح جعله مهرًا كما يصح الخلع عليه والوصية به.
أما إذا اشترى مكيلاً ونحوه جزافًا بلا كيل ولا وزن ونحوهما، كما لو اشترى صُبرة من القمح معيّنة فإن له أن يبيعها قبل قبضها، كما يصح له هبتها ورهنها وغير ذلك.
وإذا باع سلعة بثمن مؤجل أو بثمنٍ حالٍّ ولم يقبضه، فإنه يحرم على البائع أن يشتريها من الذي باعها له، وإذا فعل ذلك يقع البيع باطلاً بشروط:
الأول: أن يشتريها بنفسه أو بوساطة وكيله من الذي باعها له نفسه، فإذا اشتراها ابنه أو أبوه أو زوجته أو خادمه فإنه يصح إذا لم يكن في ذلك حيلة يتوصل بها إلى الشراء.
الثاني: أن يشتريها بثمن أقل من الثمن الذي باعه به. فإن اشتراها بمثل ثمنها أو أكثر فإنه يصح.
الثالث: أن يشتريها بثمن من جنس الثمن الأول. أما إذا لم يكن من جنسه كأن باعها بنقدٍ ثم اشتراها بعروضِ تجارة فإنه يصح.
هلاك المبيع وهلاك الثمن وكساده:
لقد ثبت بالنص والإجماع أن المبيع إذا هلك أو تلف قبل قبضه فهو من مال البائع. وهذا ما يرتب نتائج كثيرة على الهلاك قبل القبض وبعده. إلاَّ إن القاعدة العامة في ذلك هي أن الهلاك إذا كان قبل القبض أو التسليم بسبب لا يد للمشتري فيه، فهو من مال البائع لحديث: «كل مبيع تلف قبل قبضه من ضمان البائع، إلاَّ العَقَارَ»(+) .
ـ قال الإمامية: إن البائع يتعهد في أثناء العقد أن يسلّم المبيع للمشتري بجميع مقوماته وصفاته، أي تمامًا كما كان حين العقد، وبهذا يبقى المبيع في عهدة البائع حتى يسلّمه للمشتري. إلا أن الالتزام بتسليم المبيع يصبح مستحيل التنفيذ بعد الهلاك أو التلف. وعند استحالة التنفيذ ينفسخ العقد حكمًا، لعدم القدرة على التسليم، مما يؤدي إلى بطلان العقد من الأساس.
وفي رأي الإمامية أن الضمان قبل التسليم يبقى على عاتق البائع، إلا إنهم يفرقون بين ضمان اليد وضمان المعاوضة:
ـ أما ضمان اليد فهو ما يقصد به الضمان بالمثل والقيمة. فالغاصب، والمستام(+) ، والمستعير المفرط، كل هؤلاء ضمانهم ضمان يد، أي إن العين إذا تلفت في يد أحدهم كان عليه بدلها الواقعيّ من المثل أو القيمة.
وأما ضمان المعاوضة فهو المراد به أن العوضين (الثمن والمثمن) اللذين كانا محلًّا للتعاقد، إذا هلك أحدهما عند مالكه الأول، وقبل أن يسلّمه للمتعاقد الثاني، كان ضامنًا له، ولكن بعوضه المسمّى، لا ببدله الواقعيّ من المثل والقيمة. فإذا اشترى أحدُهم كتابًا من آخر بقلم ثمين، فبمجرد انعقاد العقد تنتقل ملكية الكتاب إلى المشتري وملكية القلم إلى البائع، ولو تلف الكتاب قبل تسلميه كان ضمانه على صاحبه الأول لا بمثله أو قيمته.
ـ وقال الحنفية: يفرق بين هلاك المبيع قبل القبض أو بعده:
أ - هلاك المبيع قبل القبض، وفيه ثلاث حالات:
1 ـ إذا هلك بآفة سماوية، أو بفعل المبيع نفسه، أو بفعل البائع، ينفسخ عقد البيع.
2 ـ إذا هلك بفعل المشتري، لا ينفسخ البيع، وعليه الثمن.
3 ـ إذا هلك بفعلٍ أجنبيّ، لا ينفسخ البيع، ويكون المشتري بالخيار: إن شاء فسخ العقد، وإن شاء أمضاه ودفع الثمن، وله أن يطالب الأجنبي بالضمان.
ب - هلاك المبيع بعد القبض: ويكون إما بفعل المشتري، وإما بفعل البائع.
فإذا كان بفعل المشتري، أو بآفة أو بفعلٍ أجنبيّ، أو بفعل المبيع نفسه، فلا ينفسخ البيع، ويكون الهلاك على المشتري، لأن المبيع خرج من ضمان البائع بقبض المشتري، فتقرر الثمن عليه، ويرجع بالضمان على الأجنبيّ إذا شاء.
وإذا كان الهلاك بفعل البائع فينظر:
إذا كان المشتري قد قبض المبيع بإذن البائع أو من دون إذنه ونقد الثمن، أو كان الثمن مؤجَّلاً، فيكون هلاكه على البائع، وعليه ضمانه. أما إذا كان المشتري قد قبضه من دون إذن البائع، والثمن غير مدفوع للبائع، فيتوجب فسخ العقد، فإذا استردَّه البائع كان عليه ضمانه.
ـ وقال المالكية(+) : الضمان ينتقل إلى المشتري بالعقد نفسه في كل بيع، إلا في خمسة مواضع:
1 ـ بيع الغائب على الصفة.
2 ـ ما بِيعَ على الخيار.
3 ـ ما بيع من الثمار قبل كمال طيبها (أي قبل بدو صلاحها).
4 ـ ما بيع من دون توفيةِ حقٍّ من كيل أو وزن أو عدّ.
5 ـ البيع الفاسد.
ففي هذه الحالات الضمان من البائع حتى يقبض المشتري المبيع.
ـ وقال الشافعية(+) : كل مبيع من ضمان البائع حتى يقبضه المشتري.
ـ وقال الحنبليّة(+) : إذا كان المبيع مكيلاً أو موزونًا أو معدودًا فتلف قبل قبضه، فهو من مال البائع، وما عداه فلا يحتاج فيه إلى قبض، وإن تلف فهو من مال المشتري.
نقصان قيمة المبيع وكساد الثمن:
اتفق الأئمة على أنه إذا نقصت قيمة المبيع السوقية قبل قبضه، كما إذا اشتراه بعشرة أي بقيمته حين التعاقد، وقبل القبض هبطت إلى ما لا يتسامح به عرفًا.. إذا كان الأمر كذلك يبقى الالتزام على ما كان، ولا يحق للمشتري أن يفسخ ولا أن ينقص من الثمن. كما أن البائع لا يحق له أن يفسخ أو يزيد على الثمن إذا ارتفعت قيمة المبيع قبل القبض.
كما اتفق الأئمة على أن هلاك الثمن غير النقديّ مثل قبضه، أي إذا كان كل من العوضين من غير النقود، كما لو تبادلا عينًا بعين على سبيل المقايضة، أو وقعت العين مهرًا، أو منفعة، أو على صلح ما في الذمة وما إلى ذلك.. ثم تلفت قبل قبضها، فيكون حكمها حكم تلف المبيع قبل قبضه، تذهب من مال مالكها الأول. ويطبق هذا الحكم - عند الأئمة - على جميع المعاوضات.
ويفرّق الحنفية في هلاك الثمن قبل القبض بين كونه مثليًّا، أو غير مثليّ: فإن كان عينًا مثليًّا، قالوا: لا ينفسخ العقد لأنه يمكن تسليم مثله. أما إن لم يكن له مثلٌ في الحال، كأن يكون موجودًا وقت العقد، ثم ينقطع قبل القبض، فقال أبو حنيفة: ينفسخ العقد. وقال الصاحبان (محمد وأبو يوسف): لا ينفسخ(+) .
وهذا ما ينطبق أيضًا على كساد الثمن، فإذا اشترى شخصٌ سلعةً بعملة متداولة، ثم كسدت قبل القبض لاستبدالها بعملة جديدة، انفسخ العقد عند أبي حنيفة، ووجب على المشتري ردّ المبيع إن كان قائمًا، أو ردّ قيمته أو مثله إن كان هالكًا، لأن العملة بالكساد خرجت عن كونها ثمنًا، ولا بيع بلا ثمن، وهذا ما يؤدي إلى فسخ العقد ضرورة. أي إنه عدَّ الكساد كالهلاك.
وقال الصاحبان: إن البيع لا ينفسخ في حال كساد الثمن، بل في كون البائع بالخيار: إن شاء فسخ البيع، وإن شاء أخذ الثمن بقيمة العملة التي كسدت، لأن العملة ثابتة في الذمة، وما يثبت في الذمة لا يحتمل الهلاك، فلا يكون الكساد هلاكًا، بل يكون عيبًا، وهذا ما يعطي للبائع الخيار. أي إنهما يُعدّان الكساد كالعيب.
واتفق الحنفية على أن العقد لا ينفسخ في حال تدنّت قيمة العملة أو ارتفعت، لأن تدنّي قيمة العملة أو غلاءها لا يوجب بطلان الثمن. لكنّ أبا يوسف ومحمد اختلفا في ما بينهما في وقت اعتبار قيمة العملة، فقال أبو يوسف: تُعدّ قيمتها وقت العقد، لأن الثمن يتوجب عند العقد. وقال محمد: تُعدّ قيمتها وقت الكساد، وهو آخر يوم ترك الناس التعامل بها، لأنه وقت العجز عن التسليم(+) .
التصرف في الثمن قبل القبض:
أجاز الأئمة التصرف في الأثمان قبل القبض، لأنها ديون، ويجوز التصرف في سائر الديون كالمهر والأجرة وضمان المتلفات وغيرها قبل القبض، بدليل ما روي عن عمر (رضي) أنه قال: «يا رسول الله: إنا نبيع الإبل بالبقيع، ونأخذ مكان الدراهم الدنانير، ومكان الدنانير الدراهم، فقال (ص): لا بأس إذا كان بسعر يومهما، وافترقتما وليس بينكما شيء»(+) . فهذا يدل على جواز استبدال ثمن المبيع.
وقد استثنوا من جواز التصرف بالثمن قبل القبض عَقْدَي الصرف والسَّلَم:
أما الصرف: فلأن كلًّا من بدَلَي الصرف: مبيع من وجه، وثمن من وجه. ولكونه مبيعًا فلا يجوز التصرف فيه قبل قبضه. وأما السلم: فالمسلَّم فيه لا يجوز التصرف فيه لأنه مبيع، ورأس المال «الثمن» ألحق بالمبيع العين في حرمة الاستبدال شرعًا(+) .
وعلى هذا فإن التصرف في الأثمان والديون جائز بالبيع والهبة والإجارة والوصية، أي بعوض أو بغير عَوضٍ، سواء أكان مما لا يتعيّن كالنقود، أو مما يتعيّن كالمكيل والموزون، وذلك ممن عليه الدَّين، كأن يشتري البائع من المشتري شيئًا بالثمن الذي له عليه، أو يستأجر بالثمن دارًا للمشتري، أو أن يهبه الثمن.
تسليم المبيع والثمن:
إن تسليم المبيع إلى المشتري هو من التزامات البائع الناشئة عن عقد البيع. كما أن تسليم الثمن إلى البائع هو من التزامات المشتري الناشئة عن عقد البيع أيضًا، لأن تسليم البدلين واجب على العقدين، لتحقق الملك لكل منهما في البدلين.
من يجب عليه التسليم أولاً؟:
يختلف هذا الأمر بحسب نوع البدلين: فإن كان بيعَ عينٍ بعين، وجب على المتعاقدين التسليم معًا تحقيقًا للمساواة بينهما. وكذلك إذا تبايعا دَينًا بدين، كما في عقد الصرف.
وأما إن كان بيع عين بدَيْن، فيجب على المشتري تسليم الثمن «أي الدَّيْن» أولاً، لقوله (ص): «الدين مقضيّ»(+) . إذ لو تأخر تسليم الثمن عن تسليم المبيع لم يكن الدَّيْن مقضيًّا. ثم يجب على البائع تسليم المبيع، إذا طالبه المشتري، حتى يتحقق التساوي بينهما. وقد استثنوا من ذلك أمرين: أحدهما المسلَّم فيه لأنه دَيْنٌ مؤجَّل، وثانيهما الثمن المؤجَّل، لأن في الثمن المؤجَّل يجب تسليم المبيع حالًّا ، وترك الثمن إلى حلول الأجل.
وقد اتفق المالكية(+) مع الحنفية مع وجوب تسليم الثمن على المشتري، ووجوب تسليم المبيع على البائع. وقال مالك: للبائع أن يتمسك بالمبيع حتى يقبض الثمن. ودليل الحنفية والمالكية: أن للبائع حق حبس المبيع على تسليم الثمن، ومن استحق ذلك لم يكن عليه التسليم قبل الاستيفاء كالمرتهن.
وقال الشافعية والحنبلية(+) : إن اختلفا في التسليم، وكان الثمن في الذمة، فقال البائع: لا أسلّم المبيع حتى أقبض ثمنه، وقال المشتري: لا أسلّم الثمن حتى أقبض المبيع، أجبر البائع على تسليم المبيع، وأجبر المشتري على تسليم الثمن، أي يقدم ما يتعلق بالعين. لكنّ قَيْدَ الشافعية هو: إن خاف البائع فوت الثمن فله حق حبس المبيع حتى يقبض الثمن، وكذا للمشتري حق حبس الثمن إن خاف فوت المبيع.

مقدمة الكتاب
القسمُ الأوّل
القِسم الثاني
القِسم الثالِث
القسم الرابع
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢