نبذة عن حياة الكاتب
العقود والمطعومات والمشروبات

الإسلام وإباحة تعدد الزوجات
إن إباحةَ تعدد الزوجات ليست نظامًا جديدًا ابتدعه الإسلام، بل هي نظام قديمٌ، قِدَمَ عهد البشرية على الأرض، عرفتها النظم الاجتماعية لدى جميع الشعوب والأمم في الغرب والشرق، كما عرفتها الشرائعُ والمناهج السماوية. فالديانةُ اليهودية، والديانةُ النصرانية، أباحتا تعدّدَ الزوجات فإذا وُجدت نصوصٌ لدى اليهود، أو لدى النصارى، تمنع التعدّد أو تحرّمه، فلا نخال تلكَ النصوص إلاَّ مخالفةً للشريعة التي أُنزلت على موسى (عليه)، وللشريعة التي أُنزلت على عيسى (عليه).
وعدمُ التحريم في الديانتين اليهوديةِ والنصرانيةِ لا يعني المسلمين من الناحية الشرعية. ولكن من واجبهم أن يلفتوا نظر العالم إليه، لأن الإسلام حين أباح تعدد الزوجات إنما كانت تلك الإباحةُ بأمرٍ من الله تعالى، وليست من صنع المسلمين أو من تفسير الفقهاء، أو استنباط المجتهدين. وهذه الإباحة إنما جاءت لمعالجة مشاكل اجتماعية يقع فيها الناس: كمشكلة العقم، ومشكلة الأرامل، والعوانس وغير ذلك. وما أحلَّه الله تعالى في عليائه لا يمكن لبشريٍّ أن يحرّمه على الأرض، وإلاَّ خالف أمر الله تعالى، ووقع في المعصية التي عليه أن يتحمَّل نتائجها يوم الحساب. وتعدّدُ الزوجات الذي أباحته جميع الشرائع السماويّة لم يكن محددًا بعددٍ معينٍ حتى جاء الإسـلام، فكان جديـدُ هذا الدين القيّم تحـديدُ عدد الزوجـات، ووضع الضوابط له بما يتوافق وأهمَّ شيءٍ في حياة الإنسان، ونعني به الحياةَ الزوجيةَ التي أراد الإسلام أن تكون حياةً نظيفةً، عفيفةً، صافيةً، بعيدةً عن كل أنواع الفسق والفجور، التي تسيء إلى الزوجين، كما تسيء إلى الأُسرة وإلى المجتمع بأسره. ويُعدّ التشريعُ الإسلاميُّ، في هذا المضمار، أفضلَ التشريعات على الإطلاق لأنه أحاط بنظام الزواج، كنظامٍ وكمؤسسةٍ إنسانية، ، إحاطةً تامة، عندما بيّن القواعدَ والأُسسَ التي يُبنى عليها الزواج، والأحوالَ التي تبيح تعدد الزوجات والنتائجَ التي تترتب عليه.. فهو قبل كل شيء جعل الزواج في صلب الدين للإنسان المسلم فقال الرسول (ص): من تزوّج فقد أحرز نصف دينه» ومن ثَمَّ فهو لمّا أباح تعدّد الزوجات إنما كان يتوخى حلًّا لضروراتٍ كثيرةٍ قد تواجه الإنسان في حياته، بحيث يختار، وبملء إرادته وطوعه، الطريقَ الأفضلَ والأقومَ لمعالجة الضرورة التي تعترضه.
والحكمُ الشرعيُّ في تعدد الزوجات إنما نزل مفروضًا بأمر الله تعالى خالقِ الأنفس والأزواج بقوله عزَّ وجلَّ: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُوا*}(+) وقد نزلت هذه الآية الكريمة على رسول الله (ص) في السنة الثامنة الهجرية، يوم أن كان تعددُ الزوجات غيرَ محدّد بعددٍ معيَّن، فجعلت حدَّه الأقصى أربعَ زوجات فقط، فلا يجوز للمسلم بالتالي أن يجمع بين أكثر من أربع زوجات وإن كان يجوز له أن يتزوج كلَّما طلق واحدة منهنّ. مع التأكيد على عدم هذا الجمع بصورة مطلقة، إذا خاف ألا يعدل بين الأربع، حتى يعالج الإسلام الوضعَ السابقَ، ويُغلق ذلكَ البابَ المفتوحَ قبله الذي لم يكن فيه تحديد لعدد الزوجات. وحتى في نطاق التعدد المحدود فالأمر ليس متروكًا للإنسان، بل هنالكَ القيد الربانيُّ عليه وهو العدل.. فإن شعر الإنسان أو قدَّر أنه غير قادر على أن يعدلَ بين زوجتين اثنتين، أو بين ثلاث، أو بين أربع، فخياره الوحيد أن ينكحَ زوجةً واحدةً فقط، وأن يذر الجمع بين أكثر من واحدة. والأمر بتعدد الزوجات يدور كلّه مع هذا العدل، فهو الأساس، وهو القاعدة، وهو المنهج. فإن قدر الرجل على هذا العدل، فله الخيار، وله الإباحة بأن يتزوجَ حتى الأربع، وإلاَّ فواحدة، وذلكَ أقربُ عند الله - تباركَ وتعالى - لعدم الظلم والجور: {ذَلِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُوا*} والعول هو الظلم أو الجور لما روت السيدة عائشة، عن النبيّ (ص): « ألاَّ تعولوا» معناها « ألاَّ تجوروا».. وعدم الجور من الصفات التي يجب أن يتحلَّى بها المسلم الذي يخاف ربَّه تعالى. والعدلُ ليس شرطًا في إباحة تعدد الزوجات، بل هو حكم شرعيّ آخر، أي إنَّ له قيمةً، أي أقوى من الشرط. ففي الآية الكريمة: الحكمُ الأوّلُ هو إباحةُ تعدد الزوجات. والحكمُ الثاني هو العدلُ بين الزوجات، وإلاَّ فالاقتصارُ على واحدة أولى وأفضلُ إذا كان من شأن التعدد أن يؤدّيَ إلى الجور، ولا يؤمِّنُ العدل..
ولكن ما مفهومُ العدل بين الزوجات، وما مداه؟
الحقيقةُ أن العدْلَ المقصودَ هو الذي يدخل في وسع الرجل كبشريّ أن يتحملَه، ويقدرَ عليه لأن الله تعالى يقول: {لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} اي بقدر طاقتها واحتمالها. وحتى لا يلتبسَ معنى العدل هنا على الناس، فقد نزلت آيةٌ ثانيةٌ تفسِّر هذا المعنى بقول الله عزَّ وجلَّ: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلاَ تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ}(+) ... فالعدلُ المقصود في الآية الأولى هو معاملةُ الزوجات على قدم المساواة في الأشياء المادية. والمساواةُ يجب أن تكون تامة في كل ما يقدّم الرجل لزوجاته من مأكل، ومسكن، وكسوة، وحُلي، فإن قدَّم رغيفًا، أو ثوبًا لإحداهنَّ وجب أن يقدم للأخريات مثلهما. وإن أسكن واحدة في قصرٍ وجب ألاَّ يسكن أيّ زوجة أخرى في بيت عاديّ.. أما عدم المقدرة على العدل، المقصودُ في الآية الثانية، فهو ما يتعلق بالأمور العاطفية والمعنوية مثل الحب، وكلّ شعورٍ آخر غيره. وهي أمور خارجة عن إرادة الإنسان، ولا يمكن أن يملكها، وبذلك فهو لا يستطيع أن يؤمِّن العدلَ بشأنها. فمثلاً لا يستطيع الرجل أن يحبَّ زوجاته بالتساوي، ولا يستطيع أن يتحكم بمشاعره حيالهنَّ. فقد روي عن السيدة عائشة أنها قالت: «كان رسول (ص) يُقسِّم فيعدل، يقول: «اللهم إن هذا قسمي في ما أملك، فلا تلمني في ما تملك ولا أملك» يعني قلبه. وروي عن ابن عباس (رضي) في قوله تعالى: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ} أن معناه: عدم الاستطاعة في الحب والجماع.. لأن الجماع يتأتَّى غالبًا من الميل أو من الحب، فعندما لا يملك الإنسان أمر المساواة في الحب بين نسائه، فإنه لا يملك أمر مجامعتهنَّ بالتساوي.. ومع ذلك فإنَّ أمر الله تعالى هو عدم الميل كل الميل، إلى الزوجة التي يُحِبُّ أكثر من غيرها. وهو نهيٌ عن أن يكون هذا الميلُ كليًّا، يشمل الأشياء المادية والمعنوية. فللرجل أن يسايرَ مكنونات نفسه، وأن يرضخ لأسرار قلبه، وما خرج عن ذلك فإنما يدخل في دائرة الجور، وهو ما نهى الله سبحانه وتعالى عندما قال: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ}، والرجل، ولو حرص على العدل بين زوجاته، فإنه غير قادر على ذلك إذ لا بدّ من أن يميل قلبه إلى واحدة، ولكن لا يجوز له أن يميل إليها كل الميل، ويترك الثانية - أو الأخريات - من دون أيّ اهتمام، أو رعاية، ومن دون تقديرٍ واعٍ لحاجاتها ومتطلباتها، وإلاَّ جعلها كالمعلّقة بين أمرين: كأنها ليست ذات زوج من ناحية، وغير مطلقة من ناحية ثانية، بحيث يؤدي هذا الأمر إلى إهمالها، ويجعلها متزوجةً من رجل لا يقربها، وهذا هو الجور بعينه. ولذلك جاء النصّ القرآنيّ واضحًا بعدم المقدرة على العدل بين النساء، ولو كان هناك حرصٌ من قبل الرجل لإيجاد مثل هذا العدل.. فيكون الإسلامُ قد جعلَ من تعدد الزوجات - على الرغم من إباحته - عبئًا ثقيلاً على الرجل يوجب فرض العدل بينهنّ عليه، فإن انتفى هذا العدل بل إن خاف الرجلُ ألاَّ يعدلَ، فزوجة واحدة. ويكون الإسلام أيضًا قد نهى عن تعدد الزوجات مع عدم العدل الماديّ الذي لا علاقة له بالمشاعر والعواطف، أي حالات القلب والنفس.
ويمكن أن تساورَ بعضهم شكوكٌ فيقول: ما دام القرآنُ قد أباح تعدد الزوجات حتى أربع فقط، فلماذا تزوج الرسول (ص) بأكثر من أربع نساء؟
هنالكَ عدة أمور تنفي هذا الشكَّ، وتوضحُ موقفَ الرسول (ص)، وهي:
1 ـ إن رسول الله (ص) تزوَّج بأكثرَ من أربع نساء قبل نزول التشريع الإلهي الذي حدَّد العدد مثنى، وثلاث، ورباع.
2 ـ إن زواجَ الرسول (ص) من معظم أزواجه كان لأسباب تتعلق كلّها بالدعوة الإسلامية، إما لتأليفِ قلوبِ بعض رؤساء القبائل، أو لاسـتمالة قبيلة بكاملها حتى تتعرفَ الإسـلام وتدخلَ فيه، وإما لبرٍّ بالمرأة التي قتل زوجها في محاربة المشركين، وإما لحدبٍ على أطفال المسلم الذي استشهد في إحدى المعارك مع المشركين.
3 ـ لقد أبقى الرسولُ (ص) على أزواجه، ولم يطلّق منهن ما زاد على الأربع، بعد نزول الحكم الشرعيّ، وذلكَ بأمرٍ من الله سبحان وتعالى، إذ حرَّم - عزَّ وجلَّ - على المسلمين أن ينكحوا أزواجه من بعده، فما كان له (ص) أن يطلّق ما زاد على الأربع، حتى لا تبقى إحداهن بلا زوج إذ لا سبيل للزواج منها من بعده أبدًا سواء في حياته أم بعد مماته وذلك لقوله تعالى: {وَلاَ أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا}(+) .
4 ـ إن الله - سبحانه وتعالى - وبعد نزول التشريع الذي يبيح الجمع بين أربع نساء فقط، قد حرَّم على رسوله الكريم أن يتزوج من نساء أخريات غير نسائه، وأن يتبدَّل بهن زوجات غيرهنَّ ولو أعجبه حسنهنَّ وذلك بقوله تعالى: {لاَ يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلاَ أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ}(+) .
أرأيت إلى تعدد الزوجات كيف أنّ الإسلام أباحه، وقلنا للضرورة، ثم وضع له الضوابط التي تجعله ذا معانٍ وأهداف إنسانية، حتى الرسولُ (ص) حرَّم عليه ربُّه النساء، غير أزواجه، من بعد إنزال التشريع من لدنه سبحانه، وأن يبدل بهن أزواجًا أخريات.. ويكفي أن يضع الإسلام، العدلَ ضابطًا وحيدًا في تعدد الزوجات، حتى يدينَ العالم بهذا التشريع الربانيّ ويطبقَه..
والنصُّ الشرعيُّ على تعدد الزوجات لم يتنزَّل ليكونَ مقتصرًا على زمنٍ معيَّن، أو بيئةِ معيَّنة، فاليوم وبعد ألفٍ وأربعمئة عام ونيف، تُثبت المشاكل التي يعاني منها الناسُ ضرورةَ تعدد الزوجات، لأنه العلاج الوحيد لكثير منها. ويمكن أن نتبيّن بعضًا من تلكَ المشاكل على النحو التالي:
1 - الاختلاف في التكوين الفيزيولوجي بين الرجال، فقد يكون لدى بعض منهم نهمٌ جنسيّ، وقد يؤدي ذلكَ إلى إرهاق الزوجة والإضرار بها، أو البحث عن نساءٍ غيرها لإشباع ذلكَ النهم لدى الرجل.. فأيهما أفضل أن يكون مباحًا له التزوّج من غير امرأة، أم تعاطي الزنى وهو حرام، وفاحشة كبيرة؟!. إن العقل السليم يحكم بإباحة الزواج لهذا الرجل، وأمثاله، بدلاً من تعاطي الزنى، ومعاشرة النساء بصورة غير شرعية. وهذا عصرنا يثبت شدة أضرار الزنى على البشرية بأسرها، إذ بوساطته شاعت الأمراض القاتلة وفي طليعتها ما يعرف بمرض «الأيدز» هذا المرض الخبيث الذي ستكون آثاره مدمرة على الجنس البشريّ.
ورب سائل يسأل: ما حكم المرأة التي تكون ذاتَ طبيعةٍ غير عادية، ولديها نهمٌ جنسيّ، وهي لا تستطيع أن تكون زوجةً إلاَّ لرجل واحد؟ والجواب أن كونَ المرأة زوجةً لرجل واحد ليس بدعةً أرضية بل نظامٌ أنزله اللهُ تعالى في جميع الشرائع والديانات، وحرَّم بموجبه على المرأة أن تتزوجَ أكثر من رجل واحدٍ، تبقى في ذمته، وعلى عهدته، حتى يفترقا بالطلاق، أو موت الرجل فيكون لها أن تتزوجَ غيره.. فحرامُ الله تعالى حرامٌ لا يُباح للإنسان خرقُه أو مخالفته.. أما علاجُ المرأة ذاتِ النهم الجنسيّ فهو التعفف، ومقاومة الشهوة لديها. وليس ذلكَ مستعصيًا إذ يمكن للإنسان عندما يوطِّن نفسه على أمرٍ معيَّن أنْ يبلغ فيه النجاحَ، ولا سيما إذا كان زمامُ هذا الأمر بيده لأنه نابعٌ من نفسه. فالإرادة هنا هي التي تحمي المرأة، وهي في هذا المجال أصبر من الرجل، وشعورها بصيانةِ عرضها والحفاظِ على شرفها يساعدها على تقوية إرادتها. ثم إن لهذه المرأة أجرًا كبيرًا عند خالقها، واهب الطباع، ومكوِّن الناس.. وخيرٌ لها، آلاف المرات، أن تنالَ هذا الأجر بدلاً من ارتكاب الزنى لإرواء شهوتها الجنسية، ووقوعها في الحرام الذي يغضب الله تعالى، ويضيِّع الأنساب.. فالنظامُ الذي يقوم على ألاَّ تكونَ المرأة زوجةً إلاَّ لرجل واحد هو النظامُ الذي يحفظ النسل، ويمنع اختلاط النسب، فلا تحمل المراة جنينًا لا يُعرف أبوه، مع ما في ذلك من سيئاتٍ على المجتمعات، وعلى البشرية.
ثم إن هذا النظام يحفظ كرامة الرجل والمرأة على حدّ سواء.. فما من رجل في العالم، إلى أي مجتمع أو ديانة انتمى، يقبل بأن يشاركه في زوجته رجل آخر، إلاَّ إذا فقد الحميةَ والشرفَ، وفقد إيمانه الدينيّ.. اما ما تشهده بعضُ المجتمعات اليوم من تراخي الرجل مع زوجته، والسماح لها بمخالطة رجل آخر، أو التغاضي عن هذه المخالطة، فهذا أمرٌ قد جرَّ الناس إلى الفسق والفجور، وأضاعَ الأُسرةَ وشتّت كيانها، بل أَدَّى في كثير من الأحيان إلى ارتكاب جرائم القتل، أو الهجر، أو الطلاق، وغيرها من المآسي التي تعيشها تلكَ الجماعات.. من هنا قدَّم الإسلامَ علاجًا لكل ذلكَ، فهو من ناحيةٍ أوجد العلاجَ للرجل بإباحة تعدد الزوجات، ومن ناحية ثانية أوصى المرأة وحضَّها على التعفف، وحرَّم عليها ارتكاب الزنى حتى تبقى عزيزةً، مصونةَ الكرامة، ثم أباح لها أن تبذل مهرها للرجل على أن يطلِّقها ويخلِّصها من عصمته، فتذهب وتتزوج بغيرهِ إذا شاءت.
2 - قد تكون المرأة عاقرًا، فلا تلد، وهي تحبّ زوجها، وزوجها يحبها، وترفرف على حياتهما الزوجية الطمأنينةُ والسعادة، لكنّ الميل الطبيعي للإنجاب قد يغلب على الزوج، وحرمانه من الأولاد قد ينغِّص عليه حياته، بل قد يقلب الحياةَ الزوجيةَ إلى جحيم لا يطاق. في هذه الحالة التي يعاني منها الزوج من القهر النفسيِّ قد يلجأ إلى طلاق زوجته التي يحبّ، ويقضي على حياةٍ زوجيةٍ يمكن الحفاظُ عليها إن أُتيح له مجالُ الزواج من امرأةٍ أخرى تلد له البنين، مع إبقاء زوجته العاقر.. والحلُّ الثاني هو أقربُ إلى العدالة، ومعالجةِ المشكلة التي اعترضت الزوجين. والمرأة الحكيمة - عندما تكون عاقرًا - هي التي تشجع زوجها على الزواج من أخرى، حتى لا تفترق عنه، وحتى لا تبقى تحت وطأة الشقاق والنزاع. ولعلّ في حياة أبي الأنبياء إبراهيم (عليه) وزوجته سارة خيرَ دليل على صحة تعدد الزوجات وحسناته، فهي التي طلبت من زوجها إبراهيم (عليه) أن يتزوجَ من جاريتها هاجر حتى ينجب ولدًا تقرُّ به عيناه، وكانت نفسه تواقةً إلى ذلك فأنجب إسماعيل (عليه)، ثم شاء الله الكريم أن يكافئَ سارةَ على فعلها، فحملت، ووهبَها الله تعالى إسحق (عليه) بعد أن كانت عجوزًا عقيمًا، وكان زوجها شيخًا كبيرًا.
وقصة إبراهيم (عليه) ليست وحيدةً في دنيا البشر - مع الفوارق الخاصة بينها وبين غيرها في حياة الناس - فكم من رجالٍ حُرموا نعمة الأبوة بسـبب عقم زوجاتهم، ثم رزقهم الله تعالى الأولاد بعد الزواج من نسـاء أخريـات، وكُثُر هم الأزواج الذين لم يطلّقـوا في هذه الحالات زوجاتهم الأوَل، فعاشوا سعداء مع أَبنائهم وزوجاتهم مجتمعات.
3 - قد تكون الزوجةُ مريضةً مرضًا يحول بينها وبين تلبية الحاجة الجنسية لزوجها، أو قد يكون طبعها لا ينسجم مع طبعه، وقد تصبح أحيانًا عاجزة حتى عن القيام بأعباء البيت، ففي مثل هذه الحالات، لا يجوز تعطيلُ الحياة البيتية، ولا إهمالُ المرأة أو تطليقها، ما دام في إمكان الرجل أن يتزوجَ امرأة أخرى، تلد له، وتعيد إلى البيت رونق الحياة فيه.. وإذا كانت الزوجة الثانيةُ صالحةً، فإنها تهتم بضرَّتها، وتعتني بها في مرضها، وهو منتهى العدل في بناء الأُسرة السعيدة، ومنتهى الإنسانية في التعاطف والتآلف بين أعضاء تلك الأُسرة.
4 - قد تدبُّ المشاكلُ بين الزوجين بسبب الأقارب أو الأصدقاء، أو بسبب انهماك أحدهما أو كليهما بأعماله، وقد تؤدي كثرةُ هذه المشاكل إلى كراهية بين الزوجين. والزواج من امرأة أخرى قد يكون علاجًا لهذه الكراهية إذ تفيق المرأة الأولى من عنادها، وتبقى في عصمة زوجها بدلاً من الطلاق، والبحث بعد ذلك عن زوج ثانٍ قد توفق إليه وقد لا توفق فتعيش بلا زوج بقية عمرها..
5 - قد تحصل حروب، أو أحداثٌ معيَّنة، تبيد من الرجال أكثر من النساء، كما حصل في الحربين العالميتين الأولى والثانية، اللتين قضتا على الملايين من الرجال، وتركتا النساء بلا أزواج، أو من دون زواج.. وقد حصل في بعض البلدان أن قامت النساء بمظاهرات تطالب بالأخذ بنظام تعدد الزوجات، كما حملت كثيراتٌ لافتاتٍ عند إشارات المرور يعلنَّ فيها عن الرغبة في الاتصال الجنسيّ، وقد حصلت ولاداتٌ غير شرعية كثيرة جدًّا، ووجد اللقطاء في الشوارع والحدائق العامة.. والحلّ لمثل تلكَ الأوضاع لا يكون إلاَّ بإقرار نظام تعدّد الزوجات الذي يصبح ضرورة للمصلحة العامة، عندما يتيح للرجل الزواج من غير امرأة، فلا يختل التوازن في المجتمع، ولا تتدهور الأخلاق، ولا تشيع الفواحش.
6 - قد يفوق عدد النساء عدد الرجال بسبب البلوغ والنضوج المبكرين عند الإناث، وتأخرهما عند الذكور، وقد لا يصل الرجالُ إلى مراحل الزواج إلاَّ وقد بلغ عدد النساء أضعافهم. وأفضلُ الحلول لمعالجة هذا الوضع أن يتزوج الرجل بغير امرأة، فنحافظ على نساء المجتمع من السقوط في الرذيلة، ومن إشاعة الأمراض النفسية والجسدية.
7 - ومن الظواهر في حياة الجنس البشري أن المرأة لا تكاد تبلغ خمسين عامًا من عمرها حتى تتوقف عن الإنجاب، في حين أن القابليـة للتوليد لدى الرجل، مهما تقدم به العمر. فالحؤول دون زواج الرجال بغير امرأة قد يؤدي إلى هدر كثير من الإمكانيات لدى الرجال، وكثير من الطاقات التي يمكن توافرها بوساطة نظام تعدد الزوجات.
هذه أمثلةٌ عن لبعض المشاكل الواقعية في حياة الشعوب والأمم. ولا علاج لهذه المشاكل إلاَّ بالوعي وتطبيق نظام تعدد الزوجات. فكان من الضروري اعتمادُ هذا النظام عن طريق إباحته والترخيص به، كما فعل الإسلام الذي جعل ذاك التعدد أمرًا مباحًا، ولم يجعله نظامًا ملزمًا للناس، ولم ينصَّ على وجوبه.
على أنه مهما كانت الأسباب الموجبة لتعدد الزوجات، ومهما كانت الفضائل التي نتوخاها، فإنها جميعًا لا تشكل علّة لتعدد الزوجات ولا شرطًا في جواز هذا التعدد.. فالأمر يتعلق بتشريع من الله سبحانه وتعالى، وهو أحكم الحاكمين، وعلى هذا فإن النصّ القرآني: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ} قد جاء نصًّا عامًّا، من دون أي قيد أو شرط. وأما حالةُ الاقتصار على الزوجة الواحدة فقد رغّب الشرع فيه في الحالة الوحيدة وهي الخوف من عدم العدل. وهذه الحالة تكفي بذاتها لتكون الأساسَ المتينَ في العلاقة الزوجية وفي جميع العلاقات بين الناس، التي يريدها الإسلام أن تكون علاقاتٍ وثيقة قوامها العدل الذي فرضه الله عزَّ وجلَّ.
حكم المرأة الخامسة لمتزوج من أربع
لم يُجز أيُّ مذهبٍ من مذاهب الأئمة الخمسة للرجل الزواج بأكثر من أربع نساءٍ في آن، ولو في عدة مطلقة، فإن أراد أن يتزوج بخامسة، فعليه أن يطلِّقَ إحدى زوجاته الأربع، وينتظرَ حتى تقضَي عدتها، لكي يصير له حقُّ في الزواج من جديد.. ومنعُ الزواج بالخامسة إنما هو تطبيق للنصّ القرآني الذي أوردته الآية الكريمة رقم (4) من سورة النساء.
والملاحظ أن لفظ «مثنى» الذي ورد في النصّ قد استعمل بدلاً من «اثنتين اثنتين» - كما لو قلت جاء القوم مثنى أي اثنين اثنين - وهكذا: ثلاث ورباع، فالعطف بالواو للتخيير لا للجمع.
ويوضح مدلول الآية ما روي عن ابن عمر أنه قال: «أسلم غيلان الثقفي وتحته عشر نسوة في الجاهلية، فأسلمن معه، فأمره النبيّ (ص) أن يختار منهن أربعًا»(+) .
وروى أبو داود، وابن ماجه عن قيس بن الحارث، قال: «أسلمت وعندي ثماني نسوة، فأتيت النبيّ (ص) فذكرت ذلكَ له، فقال (ص): اختر منهن أربعًا».
وروى الشافعي عن نوفل بن معاوية أنه أسلم وتحته خمس نسوة فقال له النبيّ (ص) «أمسك أربعًا وفارق الأخرى»(+) .
وقد نُسب، بسبب الصراع الطائفيّ والمذهبي إلى الشيعة الإمامية القولُ بجواز النكاح بتسع وذلك أخذًا بظاهر الآية: {مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ}، أي الواو للجمع لا للتخيير. وهذا محضُ افتراءٍ وظلمٌ للحقيقة والواقع، لأن الشيعة الإماميةَ لم يقولوا بذلك قطّ، ولأن واقع حياتهم يثبت أنهم لم يأخذوا قطّ بظاهر التأويل، مما يؤكد أنه كان مجرَّدَ افتراءٍ عليهم ولا يجوز اتهامهم به، وهذه كتبهم تملأ المكتبات، وليس فيها شيءٌ من ذلك.
وبالاختصار فإن الإباحة بأربع فيه حكمة إلهيّة، قد لا ندري كامل مكنونها، وإن كانت تبرز الفائدة من هذا التعدد في هذا المجال أو ذاك. إنما يبقى هذا العددُ مختلفًا عما كان عليه العرب في الجاهلية، وعما كانت عليه الشعوب القديمة كلها التي أقامت أنظمتها الاجتماعية على إطلاق عدد الزوجات بلا حدود.
ولعلَّ الإباحة في تعدد الزوجات بأربع قد أضحت قليلة الوقوع، والمسلمون في الغالبية العظمى منهم، يقتصرون على الزوجة الواحدة، كما هو شائع ومعروف في أوساطهم نظرًا إلى ظروف المعيشة المكلفة، وما يتطلبه الزواج، وبناء الأُسرة من أعباء مادية جسيمة. وإن في القيود التي فرضها الإسلام ما يحول دون التعدّد وأهم هذه القيود ثلاثة:
1 ـ توفير شرط العدل بين الزوجات، وهو المساواة بين النساء في النواحي المادية.
2 ـ عدم الجوْر، بحيث لا يكون كل ميل الرجل إلى واحدة من نسائه وإهمال الأخريات، مما يوقع عليهنَّ الجور، ويعشِّن بأحاسيس القهر والظلم.
3 ـ القدرة على الإنفاق، إذ لا يحل شرعًا الإقدام على الزواج سواء من واحدة أو من أكثر، إلا بتوافر القدرة على تكاليف الزواج وأعبائه، والاستمرار في تأمين حقوق الزوجات.
ومن ناحية أخرى فإن الغرب حين حكم العالم الإسلاميّ، قد أشاع في النفوس كراهية تعدد الأزواج، لأن في مضامين دينه عدمَ هذا التعدد. ولكن بنتيجة عدم تعدّد الزوجات، شاع تعدُّد الخليلات، والخيانةُ الزوجية، حتى إنه تحت شعار الحرية الشخصية للزوجة، يمكنها أن تخرجَ مع عشيقها، أو أن تأتيَ به إلى بيتها الزوجيّ، على مسمعٍ ومرأى من الزوج، وهذا كله ينكره الإسلام، ويحرِّمه تحريمًا مطلقًا. وكانت قاعدته الأساسيةُ إباحة تعدد الزوجات، وحصرَها بأربع، حتى لا يقعَ المسلم في الحرام. ولئن كان بعضُ المسلمين، وفي ظل تأثير أنماط الحياة الغربية، يتخذُ له خليلاتٍ أو عشيقاتٍ، فذلك كله حرام، وإثمه كبيرٌ عند الله تعالى.
هذا ولا بد من الإشارة إلى أنه ظهرت دعوات في عصرنا إلى وجوب أخذ إذن القاضي في تعدد الزوجات، ليتأكد من توافر ما شرطه الشرع للإباحة، وقد جرى دحض تلكَ الدعوات لأسباب معقولة هي التالية:
1 ـ إن الله تعالى أناط بالراغب في الزواج وحده تحقيق شروط التعدد، من ناحية العدل، وعدم الجْور، والقدرة على الإنفاق. وهذه أمور يقدّرها الراغب في الزواج، ولا يستطيع القاضي أن يقدّرها على حقيقتها.
2 ـ إن إشراف القاضي على الأمور الذاتية والخاصّة بالرجل ليس قابلاً للتحقيق، إذ يمكن إخفاء حقيقة الوضع الماديّ عنه. كما أنه لا يمكنه البتُّ بقضية العدل لدى الرجل للسماح له بالتزويج ثانية أو ثالثة أو رابعة. ناهيكَ عن إخفاء الجْور الذي يقع على النساء، لأن النسبة العالية منهن يُفضلن الحفاظَ على كرامتهن، وعدمَ البوح بأسرار الحياة الزوجية. فتنتفي بذلك الغاية من هذا الإذن ولا يكون تدخل القاضي ضروريًّا إلا في حالة ظلم الزوجة، وهدر حقوقها، وإهمال تربية الأولاد.
3 ـ إن تعدد الزوجات لا يستوجب إصدار قوانين خاصة به، لأن هذه القوانين لا تغيّر من الأمر شيئًا، فالقضية تتعلق بحياة الإنسان الذاتية، والضوابطُ والكوابحُ تنبع من نفسه، ويحكمها الدينُ والوجدانُ والأخلاق.
4 ـ ليس تعدد الزوجات هو السببَ في تشرد الأطفال، كما يزعمون، بل السببُ يكمنُ في الأب والأم ومدى انسجامهما الزوجيّ، ومقدرتهما على تربية الأولاد. والعلوم الجنائية متفقةٌ على أن نسبةَ التشرد، ونسبةَ الجريمة لدى الأطفال تكون مرتفعةً عندما يكون هناكَ خلافاتٌ دائمةٌ بين الزوجين، مما يفقد العائلة استقرارها، ويدفع الأطفال للهرب من أجواء البيت العاصفة.. ثم إن اللقطاء يكثرون عادةً في المجتمعات التي لا تبيح تعدد الزوجات، بسبب انتشار الفواحش وفي طليعتها الزنى، والانفلات من ضوابط الدين وعدم الالتزام بالخلق والفضيلة.

مقدمة الكتاب
القسمُ الأوّل
القِسم الثاني
القِسم الثالِث
القسم الرابع
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢