نبذة عن حياة الكاتب
العقود والمطعومات والمشروبات

التسـعيـر
إننا نسمعُ الكثيرَ من الناس يُلحّون على الدولة أن تبادر بتسعير السلع نظرًا إلى ما يلمسونه من الواقع السيِّئ في ظلِّ النظام الرأسمالي الذي يحمي الغُبنَ والغش والتدليس والاحتكار، وجهلاً منهم بالحكم الشرعي، وظنًّا منهم أن التسعير يكون لمصلحة المستهلك. لكن الله سبحانه وتعالى جعل لكل شخص أن يبيع سلعته بالسعر الذي يرضاه هو نفسُه. قال الرسول (ص): «إنما البيع عن تراضٍ»(+) وقد حرّم الله سبحانه وتعالى - كما أخبرنا الرسول الأعظم - على الدولة أن تضع أسعارًا معيَّنة للسلع تُجبر الناس على البيع والشراء بحسبها.
والتسعيرُ هو أن يأمر الحاكم أو نُوَّابه أو موظفوه أهلَ السوق أن يبيعوا السلع أو بعضها، بسعرٍ معيَّن، ويمتنعوا من الزيادة عليه، حتى لا يُغلوا الأسعار، أو ينقصوها عنه فيُضاربوا غيرهم، أي إنهم يمنعون التجار من الزيادة أو النقص عن السعر المقرر لمصلحة الناس. والحكمُ الشرعي في الإسلام أن التسعير حرام، لما روي عن أنس: أنه غلا السعر على عهد رسول الله (ص) فقالوا: يا رسول الله لو سعَّرتَ. فقال: «إن الله هو القابض الباسط الرازق المُسعِّر وإني لأرجو أن ألقى الله عزَّ وجلَّ ولا يطلبني أحدٌ بمظلمةٍ ظلمتها إياه في دمٍ ولا مال»(+) . وجاء رجل إلى رسول الله (ص) فقال يا رسول الله سعِّر. فقال (ص): «بل أدعو الله عزَّ وجلَّ». ثم جاء آخر فقال: يا رسول الله سَعِّرْ. فقال (ص): «بل الله تعالى يخفض ويرفع». وقيل له: يا رسول الله، «لو قَوَّمتَ عليهم»؟. فغضب (ص) حتى عُرف الغضبُ في وجهه، وقال: «أنا أقوِّم عليهم؟ إنما السعر إلى الله، يرفعه إذا شاء، ويخفضه إذا شاء...»(+) .
إن هذه الأحاديث تدُلُّ على تحريم التسعير، وإنه مظلمة من المظالم، وإذا فعَلها الحاكم أثِم عند الله لأنه فعلَ حرامًا. وكان لكل شخص من رعيته أن يرفع الشكوى إلى محكمة المظالم على هذا الحاكم الذي سعَّر لتحكم عليه وتقوم بإزالة هذه المظلمة.
قال الإمامية: للحاكم أن يسعر بما رآه من المصلحة(+) ، في الحالات التي تمنع الضرر عن الآخرين. وإلاَّ فإن التسعير غير مشروع لأن الناس مسلَّطون على أموالهم. وقد ذُكر غلاءُ السعر عند الإمام علي بن الحسين (عليه) فقال: وما عليَّ، إن غلا فهو عليه، وإن رَخُصَ فهو عليه(+) . أي إن الله سبحانه، هو الرافع، الخافض، وهو الذي يتولَّى كفاية الناس. وقد قيل للنبيّ (ص) لو سعَّرتَ لنا سعرًا فإن الأسعار تزيد وتنقص.
فقال: إن الله هو الخالق القابض الباسط الرازق المسعِّر، وإني لأرجو أن ألقى الله ولا يطلبني أحد بمظلمة ظلمته إياها لا في دم ولا مال»(+) .
إذن فالقاعدة العامة التي تتوافق مع النصوص التي وردت عن رسول الله (ص) هي أن التسعير حرام، وهي الأصل، كما اتفق عليه جميع الفقهاء...
لكن بعضهم أجاز التسعير منعًا للضرر عن الناس:
ـ فقال الحنفية والمالكية: يجوز للإمام تسعير الحاجيات، حتى يدرأ الضرر عن الناس، وذلك عندما يتعدَّى أصحاب السلع القيِّمة المعتادة تعدّيًا فاحشًا، فلا بأس حينئذٍ بالتسعير بمشورة أهل الرأي والبصر، رعايةً لمصالح الناس ومنعًا من غُلوِّ السعر. وهم يستندون في ذلك إلى القواعد الفقهية: «لا ضرر ولا ضرار» و«الضرر يُزال» و«يتحمل الضرر الخاص لمنع الضرر العام».
وحتى في التسعير لرفع الضرر فلا يُجبر الناس على البيع، بل يُمنعون من البيع بغير السعر الذي يحدده الإمام. ولا يمنع البائع ربحًا، ولكن لا يحق له منه ما يضر بالناس.
وقال الشافعية: يحرم التسعير، ولو في وقت الغلاء، ولا يجوز أنْ يأمر الوالي السوقة ألا يبيعوا أمتعتهم إلا بكذا، للتضييق على الناس في أموالهم. وذلك لا يختص بالأطعمة. ولو سعَّر الإمام عُزر من يخالف أوامره - أي إذا باع بأزيد مما سعر - فضلاً عما فيه من مجاهرةٍ بمخالفة الإمام. ويصح البيع، إذا لم يعهد الحَجْر على الشخص في ملكه أن يبيع بثمن معيَّن.
وأجاز ابن الرفعة الشافعي وغيره التسعير في وقت الغلاء.
أما الحنبلية فقد حرَّموا التسعير إطلاقًا، وقالوا: ليس للإمام أن يُسعِّر على الناس، بل يبيع الناس أموالهم على ما يختارون، (أي سلعهم).
وتحريم التسعير عامٌّ لجميع السلع لا فرقَ في ذلك بين ما كان قوتًا أو غير قوت، لأن الأحاديث جاءت تنهى عن التسعير مطلقًا فهي إذن عامة وليس فيها أيُّ تخصيص لا للقوت ولا لغيره، فكانت حرمةُ التسعير عامة تشملُ تسعير كل شيء.
والتسعيرُ ضررٌ من أشدِّ الأضرار على الأمة، في جميع الظروف، سواءً أكان ذلك في حالةِ الحرب أم في حالة السلم، لأنه يفتحُ سوقًا خفيَّة يبيع الناسُ فيها بيعًا مستورًا عن الدولة، بعيدًا من مراقبتها، وهي ما يُسمونها «السوق السوداء» فترتفعُ الأسعارُ ويحوزُ السلعة الأغنياءَ من دون الفقراءِ. ثم إن تحديدَ الثمن يؤثرُ في الاستهلاك، وهذا بدوره يؤثر في الإنتاج، وربما سبَّبَ أزمةً اقتصادية.
وفضلاً عن ذلك فإنَّ الناس مسلَّطون على أموالهم، لأن معنى ملكيتهم لها أن يكونَ لهم سلطان عليها. والتسعير حَجْرٌ عليهم وهو لا يجوز إلا بنص شرعي ولم يردْ نصّ بذلك، فلا يجوز الحجْرُ على الناس بوضع ثمن معيَّن لسِلَعهم ومنعهم من الزيادة عليه أو النقص عنه.
وأما ما يحصلُ من غلاء الأسعار في أيام الحروب أو الأزمات السياسية، فإنه ناتج من عدم توافرها في السوق إما بسبب احتكارها، وإما بسبب ندرتها. فإن كان عدم وجودها ناجمًا عن الاحتكار فقد حرمه الله تعالى. وإن كان ناجمًا عن نُدرتها فإنَّ الخليفة مأمور برعاية مصالح الناس، وعليه أن يسعى لتوفيرها في السوق عن طريق جلبها من أمكنتها، وبهذا يكون قد منع الغلاء. وهذا ما فعله الخليفة عمرُ بن الخطاب (رضي) في عام المجاعة، الذي سُمِّي عام الرمادة حيث حصلت المجاعة في الحجاز فقط، لندرة الطعام في تلك السنة، فغلا سعر الطعام من جراء ندرته، فلم يضعْ عمر (رضي) أسعارًا معيَّنة للطعام، بل أرسل وجلب الطعام من مصر وبلاد الشام إلى الحجاز، فرخُص سعره من دون الحاجةِ إلى التسعير.

مقدمة الكتاب
القسمُ الأوّل
القِسم الثاني
القِسم الثالِث
القسم الرابع
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢