نبذة عن حياة الكاتب
لمن الحكم
الطبعة : الطبعة الاولى
المؤلف : سميح عاطف الزين
فئة الكتاب : فكر معاصر
عدد الصفحات : ١١١
تاريخ النشر : ١٩٨٨
الفهرس (اضغط على الرابط للقراءة)

المقَدِّمة
وَاقِعُ العَقْل
الإدرَاكُ الشعُوريّ أو التميِيزُ الغَريْزِيّ
الطَريقَةُ العَقْلِية والطَريقةُ العِلْميّة
أقسَامُ الفِكْرِ
حَلُّ العُقْدَةِ الكُبْرَى أو الإِيمانُ بِالله عَنْ طَريقةِ الفِكْرِ المُسْتَنِير
خُلاصة
التفكيرُ البَطيءُ وَالتفكيرُ السَّريعُ أو الإدراكُ البَطيءُ وَالإِدراكُ السَّريعُ
فِطْرَةُ الإنْسَان
الطَاقةُ الحيويَّةُ غَريزَةُ البَقَاء
غَرِيزَةُ النَّوْعِ مِنْ مَظاهِرِهَا الشُعورُ الجِنْسِيّ
التَدَيُّن
الخوفُ: مظهَرٌ مِنْ مظاهِرِ غَريزَةِ حُبِّ البَقاء
العِبَادَةُ
حاجَةُ الإنسَانِ إلى الرُّسُل
لِـمَنِ الحُكْمُ؟
الشَرعُ أو الشَرِيعَة
القُرآنُ عَرَبيٌّ
الحَقِيقَةُ العُرفيَّةُ وَالحقِيقَةُ الشَرعيَّةُ
المُجْتَمَع
تَكْوينُ المُجْتَمع وتنظيمُه عِنْدَ الشيُوعِيين
كيفَ يَنْهَضُ المُجْتَمَع
الأهْدافُ العُلْيَا لِصِيَانةِ المُجْتَمَعِ الإسْلاميّ
القانونُ الرُّوماني
الاقتِصاد
الإجَارة
النظامُ الاجتماعيّ في الإسلام
تنظِيمُ العَلاقات
مقاصِدُ كُلِّ حُكْمٍ بعَيْنِه
الخاتِمَـة

أقسَامُ الفِكْرِ
سَطْحِيّ ــ عَمِيق ــ مُسْتَنِير

أ ـــ سطحيٌّ: النظرُ إلى الشّيءِ والحكمُ عَلَيْهِ من دونِ فهمٍ.
ب ـــ عميقٌ: النظرُ إلى الشّيءِ وفهمُهُ ثُمّ الحكمُ عَلَيهِ.
ج ـــ مستنيرٌ: النظرُ إلى الشّيءِ وفهمُهُ وما يتعلّقُ به ثُمَّ الحكمُ عَلَيْهِ.
أيْ أنْ ينظرَ الإنسانُ إلى شجرةِ مشمشٍ فيراها تتألّفُ مِنْ ثمرٍ وورقٍ وخشبٍ، ثُمّ يُعيدُ النّظرَ إلى الورقِ الأخضرِ الّذي يكسُو الشّجرةَ فيحكمُ بأنّ النّفعَ الورقيَّ محصورٌ بالزّينةِ. فهذِهِ النّظرةُ العابرةُ الخاليةُ منَ التّأملِ أدّتْ إلى إعطاءِ حكمٍ سريعٍ، كانَ من المؤكّدِ حكمًا سطحيًّا.
أمّا إذا أتَى بهذِهِ الورقةِ منَ المشمشِ، وأخذها إلى المختبرِ وأجرى عليها الفحوصاتِ اللازمةَ، فسيرى أنّها تحتوي على رئةٍ تنفسيّةٍ تأخذُ الكربونَ منَ الهواءِ، وعلى حُبَيْبَاتٍ صغيرة، ـــ وتدعى اليخضورَ ـــ تدورُ ضمنَ الورقةِ كَمَا يدورُ محرّكُ السيّارةِ، وعلى عروقٍ صغيرةٍ متّصلةٍ بها منَ الغصونِ تؤدّي لها النموَّ من الأرضِ، وبنتيجةِ العواملِ المتّحدةِ، والدّائبةِ في تأديةِ وظيفتِها، يَنجُمُ عنها تزويدُ حبّةِ المشمشِ بالكّرِ والنّشاءِ. فإجراءُ فحصٍ دقيقٍ على الورقةِ في المختبرِ يُؤدّي إلى إعطاءِ حكمٍ عميقٍ عنها. هذَا، إذن، هو الحكمُ العميقُ، وبعدَها يبحثُ الباحثُ عَنْ علاقتِها بما يُحيطُ بها فينتهي إلى القولِ: صُنْعُ الله الذي أتقنَ كلَّ شيءٍ. وهذا هُوَ التّفكيرُ المستنيرُ. أمّا أن يقولَ: صُنْعُ الله الذي أتقنَ كلَّ شيءٍ، من دونِ أنْ يكونَ قد لجأَ أوّلًا إلى ما توجبُهُ النّظرةُ العميقةُ، فإنّهُ، والحالةُ هذهِ، يبقى عِنْدَ حدودِ الفكرِ السّطحيِّ، وعلى هذا فَلَنْ يكونَ فكرٌ مستنيرٌ حتّى تَسْبِقَهُ النّظرةُ العميقةُ.
ويستطيعُ الإنسانُ، باستعمالِ أيِّ قسمٍ مِنْ أقسامِ الفكرِ، إشباعَ غرائزِهِ وحاجاتِهِ العضويّةِ، ولكنْ تختلفُ طريقةُ الإشباعِ بالنّسبةِ إلى عمليّةِ الفكرِ ونوعيّتِهِ. لأنّنا إذا لاحظنا الفارقَ بَيْنَ الإنسانِ والحيوانِ وَجَدْنا أنّ الإنسانَ يُبْدِعُ ويرتقي ويتقدّمُ باستمرارٍ، في حينِ أنّ الحيوانَ باقٍ على حالِهِ، ومَعَ هذا يبحثُ الحيوانُ عَنْ وسائلَ تُشبعُ غرائزَهُ وحاجاتهِ العضويّةَ، كالإنسانِ. لكنَّ بحثَهُ وتنقيبَهُ مقتصرانِ على الإشباعِ فَقَطْ، وفي حالِ حصولِهِ، على أيِّ وسيلةٍ، مهما كانَ نوعُها ومصدرُها، تُحّقِقُ غايتَهُ بإشباعِ حاجاتِهِ أو غريزتِهِ، يكتفي ويستريحُ.
أمّا الإنسانُ فإنّهُ يطلبُ الأسمَى، فنراهُ يكافحُ في سبيلِ حياة أفضلَ، وهذَا يعودُ إلى سببٍ واحدٍ عَلَيْهِ يتوقّفُ سَيْرُ الحياةِ، وقدرةُ الأممِ، وَهُوَ أنّ لَدى الإنسانِ قوّةَ الرّبطِ بَيْنَ الدّماغِ والإحساسِ والمحسوسِ والمعلوماتِ السّابقةِ، في حينِ أنّه لا يُوجدُ لدى الحيوانِ رَبْطٌ بَيْنَ المعلوماتِ السّابقةِ والواقعِ والإحساسِ والدّماغِ.
ومِنْ دونِ ربطِ المعلوماتِ السّابقةِ، ينعدم الرقيُّ والإنشاءُ، ومِنْ هُنا كانَ الفكرُ المستنيرُ قاعدةً للانطلاقِ، وعَنْهُ نَشَأَتِ الأسئلةُ: مِنْ أينَ أتَيْتُ؟ ولماذا أتَيْتُ؟ وإلى أيْنَ المَصيرُ؟ والتّفكيرُ السّطحِيُّ هُوَ تفكيرُ عامّةِ النّاسِ، والتّفكيرُ العميقُ يكونُ عِنْدَ العُلماءِ، أمّا التّفكيرُ المستنيرُ، فغالبًا ما يكونُ تفكيرَ القادةِ والمُستنيرينَ منَ العلماءِ وبعضِ عامّة النّاسِ، فالتّفكيرُ السّطحيّ يجري بنقلِ الواقعِ فَقَطْ إلى الدّماغِ، مِنْ دُونِ البحثِ في سواهُ، ودونِ مُحاولةِ إحساسِ ما يتَّصِلُ بهِ، وربطِ هذا الإحساسِ بالمعلوماتِ المتعلقةِ به، مِنْ دونِ محاولةِ البحثِ عَنْ معلوماتٍ أخرى تتعلّقُ به، ثُمّ الخروجِ بالحكمِ السّطحيّ. وهذا ما يغلِبُ على الجماعاتِ وما يغلِبُ على مُنخفضي الفكرِ، وما يغلِبُ على غيرِ المتعلمينَ وغيرِ المثقّفينَ منَ الأذكياءِ.
والتّفكيرُ السّطحيُّ هُوَ آفةُ الشّعوبِ والأممِ، فإنّهُ لا يُمكِّنُها منَ النّهضةِ معَ العيشِ الرّغيدِ، وإنْ كانَ قَدْ يُمَكِّنُ بعضَها مِنَ العيشِ الهنيءِ فَقَط. وسببُ التّفكيرِ السّطحيِّ هُوَ ضعفُ الإحساسِ أوْ ضعفُ المعلوماتِ، أو ضعفُ خاصيّةِ الرّبطِ الموجودةِ في دماغِ الإنسانِ. وَهُوَ ليسَ التّفكيرَ الطبيعيَّ عندَ الإنسانِ، وإنْ كانَ هُو التّفكيرَ البِدائيَّ. فَبَنو الإنسانِ يختلِفونَ في قوّةِ الإحساسِ وضعفِهِ، ويختلِفونَ في قوّةِ خاصيّةِ الرّبطِ وضعفِها، ويختلفُونَ في كميّةِ أو نوعِ المعلوماتِ التي لَدَيْهِمْ، سواءٌ أكانَتْ معلوماتٍ أُخِذَتْ بالتّلقِّي أوْ بالمطالعةِ، أوْ أُخِذَتْ مِنْ تجاربِ الحياةِ. فإنَّ اختلافَها يعني أنَّ التّفكيرَ يكونُ بِـحَسَبِها. والأصلُ في جَمْهَرَةِ النّاسِ أنْ يكونُوا أقوياءَ في الدّماغِ وخاصيّةِ الرّبطِ، إلّا القليلَ، وَهُمُ الذين خُلِقُوا ضُعَفاءَ، أوْ طرأَ الضَّعْفُ عَلَيْهِم. والأصلُ في جَمْهَرَةِ النّاسِ أنْ تتجدّدَ لَدَيْهِمُ المعلوماتُ يوميًّا، حتّى وَلَوْ كانُوا أُمّيينَ، اللّهُمَّ إلَّا الشّواذَ، وَهُمُ الذينَ لا يَلْفِتُ نَظَرَهُمْ شَيءٌ ولا يُقيمُونَ وزنًا لِما يتلقّونَهُ أوْ يطالعونَهُ منَ المعلوماتِ. لذلكَ فإنَّ التّفكيرَ السّطحيَّ لَيْسَ طبيعيًّا بَلْ هُوَ شاذٌّ. إلَّا إنَّ تَعَوُّدَ الأفرادِ علَى التّفكيرِ السّطحيِّ ورضاهُمْ بنتائجهِ، وعدمَ حاجتِهِمْ إلى الأمورِ الأعلى ممّا لَدَيْهِمْ، يجعلُ التّفكيرَ السّطحيَّ عادةً، فيستمرُّونَ على هذا النّمطِ منَ التّفكيرِ، ويَسْتَمْرِئُونَه وَيَتَبَلْوَرُ ذوقُهُمْ عَلَيْهِ. أمّا الجماعاتُ فإنّهُ لنقصانِ قدرتِهِمْ على التّفكيرِ مِنْ جرّاءِ كونِهِمْ جماعةً، فإنّهُ يغلِبُ عَلَيْهِمُ التّفكيرُ السّطحيُّ حتّى لَوْ وُجِدَ فيهِمْ أفرادٌ مِنَ المفكّرينَ المُبدعِينَ. لذلكَ كانَ التّفكيرُ السّطحي هُوَ الغالبَ في الحياةِ، وَلَوْلا أنَّ أفرادًا مِنَ الشّعبِ أوِ الأمّةِ، يُوهَبُونَ قُدْرَةً خارقةً منَ الإحساسِ والرّبطِ، فإنّهُ لا يُتَصَوَّرُ وجودُ نهضةٍ، ولا يُتَصوَّرُ تقدّمٌ ماديٌّ في الحياة.
والتّفكيرُ السّطحيُّ لَيْسَ لَهُ علاجٌ في الجماعاتِ، إلَّا إنّهُ يُمكِنُ رفعُ مستوى الواقعِ والوقائعِ، ويُمكنُ تزويدُ الجماعاتِ بأفكارٍ ساميةٍ، ومعلوماتٍ كثيرةٍ، فيمكنُ أنْ يُرْفَعَ مستوى تفكيرِهِمْ، لكنّهُ يظلُّ في أيّ حالٍ سطحيًّا، وَإنْ كانَ مستواهُ عاليًا. يعنِي أنّهُ يُمكنُ أن يتصرّفَ الشّعبُ والأمّةُ، تصرّفاتِ التّفكيرِ المُستنيرِ، لكنَّ تفكيرَهُمْ في أيِّ حالٍ يظلُّ تفكيرًا سطحيًّا، وَلا تستطيعُ الجماعاتُ أنْ تُفكّرَ التّفكيرَ العميقَ أوِ التّفكيرَ المُستنيرَ، مَهْما بلغَتْ منَ الارتفاعِ والرقيِّ. لأنّها لا تستطيعُ، بِصفتِها جماعةً، أن تتعمّقَ في البحثِ، أوْ يكونَ لَدَيْها فكرٌ مُستنيرٌ، فلأجلِ رفعِ مستوى تفكيرِها لا يُحاوَلُ معالجةُ تفكيرِ الجماعةِ، بل يُحاوَلُ معالجةُ الواقعِ والوقائعِ التي يقعُ إحساسُ الجماعةِ عَلَيْها، ويمكنُ معالجةُ الأفكارِ والمعلوماتِ الّتي تُوضَعُ فيها. فترتفعُ السّطحيّة، لكنّها لا تزولُ، فيرتفعُ بذلكَ مستوى تصرّفاتِها.
أمّا الأفرادُ، فإنّهُ يمكنُ إزالةُ السّطحيّةِ، أوْ تخفيفُها، أوْ جعلُها نادرةً لَدَيْهِمْ. وذلكَ أوّلًا بإزالةِ العادةِ في التّفكيرِ، الموجُودةِ لَدَيْهِمْ، وبتعليمِهِمْ أو تثقيفِهِمْ، وَلَفْتِ نظرِهِمْ إلى سخافةِ تفكيرِهِمْ، وإلى سطحيّةِ أفكارِهِمْ، وثانيًا، بإكثارِ التجاربِ لَدَيْهِمْ أوْ أمامهُمْ، وَبِجَعْلِهِمْ يعيشُونَ في وقائعَ كثيرةٍ ويحسُّونَ بواقعٍ متعدّدٍ ومتجدّدٍ ومتغيّرٍ، وثالثًا، بِجَعْلِهِمْ يعيشونَ مَعَ الحياةِ، ويُسايرُونَ الحياةَ. وبهذَا يتركُونَ السّطحيّةَ، أوْ تتركُهُمْ السّطحيّةُ، وَيُصبحونَ غيرَ سطحيّينَ. وهؤلاءِ الأفرادُ، كلّما كَثُرُوا في الأمّةِ، كانَ الأخذُ بيدِها نَحْوَ النهوضِ أسهلَ وأقربَ إلى التّحقيقِ. وهؤلاءِ الأفرادُ، وَإنْ كانُوا يعيشُونَ في الأمّةِ، ويتلقّوْنَ المعلوماتِ الموجودةَ ويُحِسُّونَ بالواقعِ والوقائعِ الموجودةِ، وَلا يستطيعونَ سَبْقَ زمانِهِمْ، إنّهم يستطيعُونَ سَبْقَ أُمَّتِهِمْ ويستطيعونَ نقلَها منْ وضعٍ إلى وضعٍ آخرَ. لأنّهُم يتصوّرونَ وقائعَ الحياةِ الرّاقيةِ، تصورًا واقعيًّا، وذلكَ عن طريقِ تقبُّلِ الأفكارِ الصّادقةِ، وقبولِ الآراءِ الصّحيحةِ، واعتناقِ الأفكارِ القطعيّةِ، والتّمييزِ بَيْنَ مختلفِ الآراءِ، وإبصارِ واقعِ الآراءِ. فَيُوجَدُ لَدَيْهِمُ الإحساسُ الفكريُّ، أي الفهمُ الناجِمُ عَنِ الإحساسِ. فَهُمْ وَإنْ كانوا يملكُونَ حواسَّ كَما يملكُ سائرُ النّاسِ، وَلَدَيْهِمْ دماغٌ كما لدى سائرِ النّاسِ، لكنَّ قوةَ خاصيّةِ الرّبطِ الموجودةِ في دماغِهِمْ يتفوقُونَ بها عَنْ سائرِ النّاسِ، وكونُهُمْ يُعنّونَ أنفسَهُمْ بربطِ الإحساسِ بالمعلوماتِ السّابقةِ ربطًا صحيحًا، يَكونُونَ أكثرَ إدراكًا للأمورِ، أيْ يكونُ تفكيرُهم تفكيرًا متميّزًا مِنْ غيرِهِمْ. فيتكوّنُ لَدَيْهِم الإحساسُ الفكريُّ، وبهِ يعلُو منطقُ الإحساسِ، لذلكَ فإنَّ الأفرادَ في تركِ السّطحيّةِ هُمْ أقدرُ مِنَ الجماعاتِ، وَإنْ كانَ لا قيمةَ لقدرتِهِمْ إلَّا إذا أخَذَتْها الجماعاتُ وتبنّتها.
هذا هُوَ علاجُ السّطحيّةِ، وهُوَ معالجةُ الأفرادِ، وجعلُ الأمّةِ تأخذُ ما وصلُوا إليهِ مِنْ فكرٍ، وتتبناهُ، إلى جانبِ تجديدِ الوقائعِ في الأمةِ، ووضعِ الأفكارِ السّاميةِ بينها وفي مُتناوَلِ يدِها. وأنْ يجري ذلكَ في وقتٍ واحدٍ، فإنّ العملَ لتركِ السّطحيّةِ في الأمّةِ، لا قيمةَ له إذا لَمْ يَصْحَبْهُ معالجةُ الأفرادِ، وعلاجُ الأفرادِ لا قيمةَ له إذا لَمْ يَكُنْ سائرًا مَعَ العملِ في الأمّةِ لتركِ السّطحيّةِ الموجودةِ لَدَيْها. لأنَّ الأفرادَ جزءٌ منَ الأمّةِ غيرُ قابلٍ للتّجزئةِ والانفصالِ. والأمّةُ مكوّنةٌ مِنْ مجموعةِ النّاسِ الذينَ تربطُهُمْ طريقةٌ معيّنةٌ في العيشِ، والشّعبُ مكوّنٌ مِنْ مجموعةِ النّاسِ الذينَ هُمْ مِنْ أصلٍ واحدٍ يعيشونَ معًا. فالأفرادُ هُمْ مِنْ جملةِ هؤلاءِ النّاسِ، سواءٌ في الشّعبِ أوِ الأمّةِ، فلا يُمكِنُ انفصالُهُمْ عَنْها، ولا يمكنُ عزلُها عَنْهُمْ. لذلكَ لا بدَّ مِنَ العملِ في الأفرادِ والأمّةِ، في آنٍ، حتّى يمكنَ تركُ السّطحيّةِ مِنَ الجميعِ.
أمّا الفكرُ العميقُ فَهُوَ التعمُّقُ في التّفكيرِ، أي التعمّقُ في الإحساسِ بالواقعِ والتعمّقُ في المعلوماتِ التي تُرْبَطُ بهذا الإحساسِ لإدراكِ الواقعِ، فَهُوَ لا يكتفي بمجرّدِ الإحساسِ وبمجرّدِ المعلُوماتِ الأوليّةِ لربطِ الإحساسِ، كَمَا هيَ الحالُ في التّفكيرِ السّطحيِّ، بَلْ يعاودُ الإحساسَ بالواقعِ، ويحاولُ أنْ يحسَّ فيهِ بأكثرَ مما أحسَّ، إمّا عَن طريقِ التّجربةِ، وإمّا بإعادةِ الإحساسِ. ويعاودُ البحثَ عَنْ معلوماتٍ أخرى مَعَ المعلوماتِ الأوليّةِ، ويعاودُ رَبْطَ المعلوماتِ بالواقعِ، أكثرَ ممّا جرَى ربطُهُ، إمّا بالملاحظةِ وتكرارِها، وإمّا بإعادةِ الرّبطِ مرّةً أخرَى، فَيَخْرُجُ مِنْ هذَا النّوعِ منَ الإحساسِ وهذا النّوعِ منَ الرّبطِ، أوْ هذا النّوعِ منَ المعلوماتِ، بأفكارٍ عميقةٍ، سواءٌ أكانتْ حقائقَ أمْ لَمْ تكنْ حقائقَ، وبتكرارِ ذلكَ وتَعَوُّدِهِ، يُوجَدُ التّفكيرُ العميقُ. فالتّفكيرُ العميقُ هُوَ عدمُ الاكتفاءِ بالإحساسِ الأوّليِّ، وعدمُ الاكتفاءِ بالمعلوماتِ الأوّليّةِ وعدمُ الاكتفاءِ بالرّبطِ الأوّليِّ. فَهُوَ الخطوةُ الثّانيةُ بَعْدَ التّفكيرِ السّطحيّ. وهذا هُوَ تفكيرُ العلماءِ والمفكّرينَ. فالتّفكيرُ العميقُ هُوَ التعمّقُ في الحسِّ والمعلوماتِ والرّبطِ.
أمّا التفكيرُ المُستنيرُ، فَهُوَ التّفكيرُ العميقُ نفسُهُ مضافًا إليهِ التّفكيرُ بما حَوْلَ الواقعِ وما يتعلّقُ بهِ للوصول إلى النّتائجِ الصّادقةِ، أي إنَّ التّفكيرَ العميقَ، هوَ التعمُّقُ بالفكر نفسِهِ، لكنَّ التّفكيرَ المُستنيرَ هُوَ أنْ يكونَ إلى جانبِ التعمّقِ بالفكرِ، التّفكيرُ بما حولَهُ وما يتعلّقُ بِهِ، مِنْ أجلِ غايةٍ مقصودةِ، وهيَ الوُصولُ إلى النتائجِ الصادقةِ. لذلكَ فإنَّ كلَّ فكرٍ مستنيرٍ هُوَ تفكيرٌ عميقٌ، ولا يمكنُ أنْ يأتيَ التّفكيرُ المُستنيرُ منَ التّفكيرِ السّطحيّ، إنّهُ ليسَ كلُّ تفكيرٍ عميقٍ تفكيرًا مستنيرًا. فمثلًا عالِمُ الذّرّةِ حينَ يبحثُ في شَطْرِ الذّرّةِ، وعالِمُ الكيمياءِ حينَ يبحثُ في تركيبِ الأشياءِ، والفقيهُ حينَ يبحثُ في استنباطِ الأحكامِ ووضعِ القوانينِ. فإنّهُمْ هُمْ وأمثالُهُمْ حينَ يبحثُونَ الأشياءَ والأمورَ، إنّما يبحثُونَها بِعُمْقٍ، وَلَوْلا العُمْقُ لَما توصّلُوا إلى تلكَ النّتائجِ الباهرةِ. لكنّهم ليسُوا مفكّرينَ تفكيرًا مستنيرًا، وَلا يُعدّ تفكيرُهُمْ تفكيرًا مستنيرًا. والتّفكيرُ العميقُ وَحْدَهُ لا يكفي لإنهاضِ الإنسانِ وَرَفْعِ مستواهُ الفكريِّ، بَلْ لا بدَّ حتّى يحصلَ ذلكَ مِنَ الاستنارةِ في الفكرِ حتّى يُوجَدُ الارتفاعُ في الفكر.
والاستنارةُ، وإنْ كَانَتْ لَيْسَتْ ضروريّةً في الوصولِ إلى نتائجَ صحيحةٍ في الفكر، كَالعِلْمِ التّجريبيِّ، والقانونِ والطّبِ، ونحو ذلكَ، لكنّها ضروريّةٌ لرفعِ مستوى الفكرِ، وجعلِ التّفكيرِ يُنْتِجُ مفكّرِينَ، لذلك فإنّ الأمةَ لا يُمْكِنُ أنْ تنهَضَ مِنْ جرّاءِ وجودِ العلماءِ في العلمِ التّجريبيِّ، وَلا مِنْ وجودِ الفقهاءِ والقانونيّينَ، وَلا مِنْ وجودِ الأطباءِ والمهندسينَ، لا تنهضُ مِنْ جرّاءِ وجود هؤلاءِ وأمثالِهِمْ، بل تنهضُ إذا وُجِدَ لَدَيْها استنارةٌ في التّفكيرِ، أيْ إذا وُجِدَ لَدَيْها المفكّرونَ المُستنيرونَ.
والاستنارةُ في التفكيرِ لا تقتضي وجودَ التّعليمِ. أي إنَّ المفكّرينَ المُستنيرينَ لا ضرورةَ لأنْ يكونُوا متعلّمينَ، فالأعرابيُّ الذي قالَ: البعرةُ تدلُّ على البعيرِ وأثرُ الأقدام يدلُّ على المسير، أفسماءٌ ذاتُ أبراجٍ وأرض ذاتُ فجاج ألا تدلّانِ على الواحد القدير هو مُفكِّر مُستنيرٌ، والخطيب الذي قَال: إنَّ الحَذَرَ لا يُنجي من القدرِ، وإنَّ الصبرَ من أسباب الظفرِ، هو مُفكِّرٌ مستنيرٌ.
فالمفكّرُ المُستنيرُ لا يحتاجُ إلى علمٍ، ولا يحتاجُ إلى حكمةٍ، بل يحتاجُ إلى أنْ يُفَكِّرَ بعمقٍ وأن يجولَ في واقعِ الشيءِ وما يتعلّقُ به بقصدِ الوصولِ إلى النتائجِ الصّادقةِ. لذلكَ قد يكونُ أُمِّيًّا لا يقرأُ وَلا يكتبُ كما قد يكونُ متعلمًا أو عالِمًا، والمفكّرُ المُستنيرُ لا يُكّوِّنُ فكرًا مستنيرًا، إلّا إذا وُجِدَتْ فيهِ الاستنارَةُ عِنْدَ التّفكيرِ. فالسياسيُّ مفكّرٌ مُستنيرٌ، والقائدُ مفكّرٌ مستنيرٌ. والمفكّرُ المُستنيرُ لا يتّصلُ بالدّجلِ والنّفاقِ وَلا تتحكّمُ فيهِ العاداتُ والتّقاليدُ.
وبناءً على فهمِ هذه الحقائقِ المُسْتَمَدَّةِ منَ الواقعِ في استطاعتِنا أنْ نجزِمَ وبشكلٍ يقينيٍّ لا يتطرَّقُ إليه أدْنَى رَيْبٍ:
إنَّ الطّريقَ القويمَ المستقيمَ الذي يجبُ أنْ يسيرَ عَلَيْهِ الإنسانُ والذي يجبُ أنْ يَنْطَلِقَ مِنْ قاعِدَتِهِ، والذي نَشَأَتْ عَنْهُ الأسئلةُ الثّلاثةُ، مِنْ أيْنَ أتَيْتُ؟ وَلِمَاذَا أتَيْتُ؟ وإلى أيْنَ المَصيرُ؟
هُوَ طريقُ الفكرِ المُستنيرِ، وَهُوَ وَحْدَهُ الذي يُحقّقُ النّهضةَ الفكريّةَ، ولا تقومُ النهضةُ الفكريّةُ الصحيحةُ إلَّا على أساسه.
وصدق الشاعر حين يقول:
الدهرُ ملكُ العبقريةِ وحدَها لا ملكُ جبّارٍ ولا سفّاحِ
والكــونُ في أسـرارِهِ وكنوزِهِ للفكرِ لا لِوَغى ولا لسلاحِ
ذرتِ السنونَ الفاتحينَ كأنهمْ رملٌ تناولَهُ مهبُّ رِياحِ
لا تصلحُ الدنيا ويصلحُ أمرُها إلّا بفكرٍكالضياءِ صُراحِ
وهوَ الذي أشارَ إلَيْهِ ربُّ العالَمينَ في القرآنِ الكريمِ [اهدِنا الصِّراطَ المُسْتَقيمَ].

مقدمة الكتاب
القسمُ الأوّل
القِسم الثاني
القِسم الثالِث
القسم الرابع
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢