نبذة عن حياة الكاتب
لمن الحكم
الطبعة : الطبعة الاولى
المؤلف : سميح عاطف الزين
فئة الكتاب : فكر معاصر
عدد الصفحات : ١١١
تاريخ النشر : ١٩٨٨
الفهرس (اضغط على الرابط للقراءة)

المقَدِّمة
وَاقِعُ العَقْل
الإدرَاكُ الشعُوريّ أو التميِيزُ الغَريْزِيّ
الطَريقَةُ العَقْلِية والطَريقةُ العِلْميّة
أقسَامُ الفِكْرِ
حَلُّ العُقْدَةِ الكُبْرَى أو الإِيمانُ بِالله عَنْ طَريقةِ الفِكْرِ المُسْتَنِير
خُلاصة
التفكيرُ البَطيءُ وَالتفكيرُ السَّريعُ أو الإدراكُ البَطيءُ وَالإِدراكُ السَّريعُ
فِطْرَةُ الإنْسَان
الطَاقةُ الحيويَّةُ غَريزَةُ البَقَاء
غَرِيزَةُ النَّوْعِ مِنْ مَظاهِرِهَا الشُعورُ الجِنْسِيّ
التَدَيُّن
الخوفُ: مظهَرٌ مِنْ مظاهِرِ غَريزَةِ حُبِّ البَقاء
العِبَادَةُ
حاجَةُ الإنسَانِ إلى الرُّسُل
لِـمَنِ الحُكْمُ؟
الشَرعُ أو الشَرِيعَة
القُرآنُ عَرَبيٌّ
الحَقِيقَةُ العُرفيَّةُ وَالحقِيقَةُ الشَرعيَّةُ
المُجْتَمَع
تَكْوينُ المُجْتَمع وتنظيمُه عِنْدَ الشيُوعِيين
كيفَ يَنْهَضُ المُجْتَمَع
الأهْدافُ العُلْيَا لِصِيَانةِ المُجْتَمَعِ الإسْلاميّ
القانونُ الرُّوماني
الاقتِصاد
الإجَارة
النظامُ الاجتماعيّ في الإسلام
تنظِيمُ العَلاقات
مقاصِدُ كُلِّ حُكْمٍ بعَيْنِه
الخاتِمَـة

الطَريقَةُ العَقْلِية والطَريقةُ العِلْميّة
تُعَرّفُ الطّريقةُ العقليّةُ بأنّها منهجٌ مُعيّنٌ للبحثِ يُسلَك للوصولِ إلى معرفةِ حقيقةِ الشيءِ الذي يُبحثُ عنهُ، عَنْ طريقِ نقلِ الحسِّ بالواقعِ، بوساطةِ الحواسِّ، إلى الدّماغ، ووجودِ معلوماتٍ سابقةٍ يُفسّرُ بوساطتِها الواقعُ، فَيُصْدِرُ حكمَهُ عَلَيْهِ وهذَا الحكمُ هُوَ الفكرُ، أوِ الإدراكُ العقليُّ. وتكونُ في بحثِ الموادِّ المحسوسةِ كالكيمياءِ والفيزياءِ وفي بحثِ الأفكارِ كبحثِ العقائدِ والتّشريعِ، وفي فهمِ الكلامِ، كبحثِ الأدبِ والفقهِ. وهذهِ الطّريقةُ هيَ الطريقةُ الطبيعيّةُ في الوصولِ إلى الإدراكِ العقليِّ مِنْ حيثُ هُوَ، وعمليّتُها هيَ التي يَتَكَوّنُ بها عقلُ الأشياءِ أيْ إدراكُها، وهيَ نفسُها تعريفٌ للعقلِ، وعلى منهجها يصلُ الإنسانُ مِنْ حيثُ هُوَ إنسانٌ إلى إدراكِ أيِّ شَيءٍ، سبقَ أنْ أدركَهُ، أوْ يُريدُ أنْ يُدرِكَهُ.
والنّتيجةُ التي يصلُ إليها الباحثُ على الطّريقةِ العقليّةِ يُنْظَرُ فيها، فإنْ كانتْ هذِهِ النّتيجةُ الحكمَ على وجودِ الشيءِ فهيَ قطعيّةٌ لا يُمكنُ أنْ يتسرّبَ الخطأُ إليها مطلقًا وَلَا بحالٍ مِنَ الأحوالِ. وذلكَ أنَّ هذَا الحكمَ جاءَ عَنْ طريقِ الإحساسِ بالواقعِ، والحسُّ لا يمكنُ أنْ يُخطىءَ بوجودِ الواقعِ إذْ إنَّ إحساسَ الحواسِّ بوجودِ الواقعِ قطعيٌّ، فالحكمُ الذي يُصدِرُهُ العقلُ عَنْ وجودِ الواقعِ في هذهِ الطّريقةِ قطعيٌّ. أمّا إنْ كانتِ النّتيجةُ الحكمَ على حقيقةِ الشّيءِ أوْ صفتِهِ فإنّها تكونُ نتيجةً ظنِّيّةً فيها قابليّةُ الخطأِ لأنَّ هذا الحكمَ جاءَ عَنْ طريق المعلوماتِ، أوْ تحليلاتِ الواقعِ المحسوسِ مَعَ المعلوماتِ، وهذِهِ يُمكنُ أنْ يتسرّبَ إلَيْها الخطأُ ولكنْ تبقَى فكرًا صائبًا حتّى يتبيّنَ خطؤُها. وحينئذٍ فَقَطْ، يُحْكَمُ عَلَيْهَا بِالخطأ ولهذا فإنَّ الأفكارَ التي يَتوصّلُ إليها العقلُ بطريقةِ التّفكيرِ العقليّةِ إنْ كانَتْ ممّا يتعلّقُ بوجودِ الشّيءِ، كالعقائدِ، مثلًا وجودُ اللهِ، والقرآنُ الكريم مِنْ عندِ اللهِ، ومحمدٌ رسولُ اللهِ إلخ... فإنّها أفكارٌ قطعيّةٌ. وإنْ كانَتْ ممّا يتعلّقُ بالحكمِ على حقيقةِ الشّيءِ وصفتِهِ كالأحكامِ الشّرعيّةِ فإنّها أفكارٌ ظنيّةٌ، أيْ غَلَبَ على الظّنِّ أنَّ الشّيءَ الفلانيَّ حكمُهُ كَذَا، وهذَا الحادثُ المعيّنُ حكمُهُ كَذا، فهيَ صوابٌ يَحتملُ الخطأَ لكنّهُ يبقى صوابًا حتّى يتبيّنَ خطؤُهُ.
وأمّا تعريفُ الطريقةِ العلميّةِ فهيَ منهجٌ معيّنٌ في البحثِ، يُسْلَكُ للوصولِ إلى معرفةِ حقيقةِ الشّيءِ الذي يُبحثُ عنهُ عَنْ طريقِ إجراءِ تجاربَ على الشّيءِ، لا تكونُ إلّا في بحثِ الموادِّ المحسوسةِ، ولا يتأتّى وجودُها في بحثِ الأفكارِ، ولا تكونُ إلَّا بإخضاعِ المادّةِ لظروفٍ وعواملَ غيرِ ظروفِها وعوامِلها الأصليّةِ، وملاحظةِ المادّةِ والظّروفِ والعواملِ الأصليّةِ التي أُخضِعَتْ لَها، ثُمَّ يُسْتَنتَجُ مِنْ هذهِ العمليّةِ على المادّةِ حقيقةٌ ماديّةٌ ملموسَةٌ، كَمَا هيَ الحالُ في المختبراتِ.
وتَفْرِضُ هذهِ الطّريقةُ التّخلّيَ عَنْ جميعِ الآراءِ السّابقةِ عَنِ الشّيءِ الذي يُبحثُ، ثُمَّ يُبدَأُ بملاحظةِ المادّةِ وتجربتِها، لأنّها تقتضي، أنْ يمحوَ الباحثُ مِنْ رأسِهِ كلَّ رأيٍ، وكلَّ إيمانٍ سابقٍ في هذَا البحثِ، وأن يبدأَ بالملاحظةِ والتّجربةِ، ثُمَّ بالموازنةِ والترتيبِ، ثُم بالاستنباطِ القائمِ على هذهِ المقدّماتِ العلميّةِ، فإذا وصل إلى نتيجةٍ مِنْ ذلكَ كانَتْ نتيجةً علميّةً أيْ حقيقةً علميّةً خاضعةً للبحثِ والتّمحيصِ، لكنّها تظلُّ حقيقةً علميّةً، ما لَمْ يُثبتِ البحثُ العلميُّ تسرّبَ الخطأِ إلى ناحيةٍ من نواحيها. وبناءً على هذا التّعريفِ للطّريقةِ العلميّةِ، والطّريقةِ العقليّةِ، تكونُ الطّريقةُ العقليّةُ الطريقةَ الوحيدةَ التي يجري عليها الإنسانُ مِنْ حيثُ هُوَ إنسانٌ في تفكيرِهِ وحكمِهِ على الأشياءِ وإدراكِهِ لحقيقتِها وصفاتِها. لكنَّ الغربَ قَدْ أوجدَ في أوروبّا الانقلابَ الصناعيَّ ونجحَ في العلومِ التجريبيّةِ نجاحًا منقطعَ النّظيرِ، وامتدّ سلطانُهُ منذُ القرنِ التاسعَ عَشَرَ حتّى الآنَ، حتّى شملَ نفوذُهُ جميعَ العالَمِ، فسمّى أسلوبَ البحثِ في العلومِ التجريبيّةِ طريقةً علميّةً في التّفكيرِ، وصارَ ينادِي بها أنْ تكونَ طريقةَ التّفكيرِ، وأنْ تُجعَلَ أساسًا للتّفكيرِ. وقَدْ أخذَها علماءُ الشّيوعيّةِ، وسارُوا عليها في غيرِ العلومِ التجريبيّةِ، كما سارُوا عليها في العلومِ التجريبيّةِ. وكذلكَ ظلَّ علماءُ أوروبّا يسيرونَ عليها في العلومِ التجريبيّةِ وسارَ على نهجهِمْ علماءُ أمريكا، وقلّدهُمْ فيها سائرُ أبناءِ العالَمِ من جرّاءِ سيطرةِ الغربِ ونفوذِه ثُمَّ نفوذِ الاتحادِ السّوفياتيّ، فطغَتْ على النّاس بشكلٍ عامٍّ هذِهِ الطريقةُ، فكانَ من جرّاءِ ذلكَ أنْ وُجِدتْ في المجتمعِ في العالمِ الإسلاميّ كلِّهِ قداسةٌ للأفكارِ العلميّةِ وللطّريقةِ العلميّةِ. وتسميتُها طريقةً ليست خطأً لأنّها منهجٌ معيّنٌ دائمٌ في البحثِ، والطّريقةُ هيَ الكيفيّةُ التي لا تتغيّرُ. لكنَّ الخطأ هُوَ جعلُها أساسًا للتّفكيرِ. لأنّ جَعْلَها أساسًا لا يتأتّى، إذ هيَ ليستْ أصلًا يُبنى عليها، بل هيَ فرعٌ بُنِيَ على أصلٍ. ولأنَّ جَعْلَها أساسًا يُخرجُ أكثرَ المعارِفِ والحقائِقِ عنِ البحثِ، ويؤدي إلى الحُـكمِ على عدمِ وجودِ كثيرٍ منَ المعارفَ التي تُدرسُ والتي تتضمّنُ حقائقَ، مَعَ أنّها موجودةٌ بالفعلِ وملموسةٌ بالحسِّ والواقعِ.
فالطّريقةُ العلميّةُ طريقةٌ صحيحةٌ. لكنّها ليسَتْ أساسًا في التّفكيرِ، بَلْ هِيَ أسلوبٌ دائمٌ مِنْ أساليبِ التّفكيرِ، وَهِيَ لا تُطبّقُ على كلِّ أمرٍ بل تُطبّقُ في أمرٍ واحدٍ هُوَ المادّةُ المحسوسةُ لمعرفةِ حقيقتِها عَنْ طريقِ إجراءِ تجاربَ عَلَيْهَا، ولا تكونُ إلَّا في بحثِ الموادِّ المحسوسةِ، فَهِيَ خاصّةٌ بالعلومِ التجريبيّةِ ولا يجوزُ أنْ تُستعمَلَ في غيرِها.
أمّا كونُها ليسَتْ أساسًا فظاهرٌ مِنْ وجهَيْنِ: الأوّلُ أنّهُ لا يمكنُ السّيرُ بها إلَّا بوجودِ معلوماتٍ سابقةٍ ولَوْ معلوماتٍ أوليّة، لأنّهُ لا يمكنُ التّفكيرُ إلَّا بوجودِ معلوماتٍ سابقةٍ، فعالِمُ الكيمياءِ وعالِمُ الفيزياءِ والعالِمُ في المختبرِ، لا يمكنُ أنْ يسيرَ في الطّريقةِ العلميّةِ لحظةً واحدةً إلَّا أنْ تكونَ لَدَيْهِ معلوماتٌ سابقةٌ. وأمّا قولُهُمْ إنَّ الطّريقةَ العلميّةَ تفرضُ التّخلِّيَ عَنِ المعلوماتِ السّابقةِ فإنّما يريدُونَ بهِ التّخلّي عَنِ الآراءِ السّابقةِ لا عَنِ المعلوماتِ السّابقةِ، أيْ إنَّ الطّريقةَ العلميّةَ تقتضي الباحثَ إذا أرادَ البحثَ أنْ يمحوَ مِنْ نفسِهِ كلَّ رأْيٍ وكلَّ إيمانٍ سابقٍ لَهُ في البحثِ، وأنْ يبدأَ بالملاحظةِ والتّجربةِ ثُمَّ بالموازنةِ والتّرتيبِ ثُمَّ بالاستنباطِ القائمِ على هذِهِ المقدّماتِ العلميّةِ. فهيَ وَإنْ كانَتْ عبارةً عَنْ ملاحظةٍ وتجربةٍ واستنباطٍ، ولكنْ لا بدَّ فيها مِنْ وجودِ معلوماتٍ. وهذه المعلوماتُ تكونُ قَدْ جاءَتْ عَنْ غيرِ الملاحظةِ والتّجربةِ، أيْ عَنْ طريقِ نقلِ الواقعِ بوساطةِ الحواسِّ. لأنَّ المعلوماتِ الأوليَّةَ، لأوّلِ بحثٍ علميٍّ لا يمكنُ أنْ تكونَ معلوماتٍ تجريبيّةً لأنَّ ذلكَ لَمْ يحصلْ بَعْدُ، فَلا بُدَّ من أنْ تكونَ عَنْ طريقِ نقلِ الواقعِ بوساطةِ الحسِّ إلى الدّماغِ، أيْ لا بدَّ من أنْ تكونَ المعلوماتُ قَدْ جاءَتْ مِنْ طريقِ الطّريقةِ العقليّةِ، لذلكَ لا تكونُ الطّريقةُ العلميّةُ أساسًا، بَل تكونُ الطريقةُ العقليّةُ هيَ الأساسَ، والطّريقةُ العلميّةُ مبنيّةٌ على هذا الأساسِ، فتكونُ فرعًا من فروعهِ لا أصلًا لَهُ، ولهذا فإن منَ الخطأِ جعلَ الطّريقةِ العلميّةِ أساسًا للتّفكيرِ.
الوجهُ الثّاني أنَّ الطّريقةَ العلميّةَ تقضِي بأنَّ كلَّ ما لا يُلْمَسُ ماديًّا لا وجودَ لَهُ في نظرِ الطّريقةِ العلميّةِ، وَإذنْ لا وجودَ للمنطقِ، ولا للتّاريخِ، ولا للفقهِ، ولا للسيّاسةِ، ولا لغيرِ ذلكَ من المعارفِ، لأنّها لا تُلمسُ باليدِ، ولا تخضعُ للتّجربةِ، ولا وجودَ لغيرِ ذلكَ من الموجوداتِ، لأنَّ ذلكَ لم يثبتْ علميًّا. أيْ لَمْ يثبتْ عَنْ طريقِ ملاحظةِ المادّةِ وتجربتها والاستنتاجِ الماديّ للأشياءِ، وهذا هُوَ الخطأُ الفاحشُ، لأنَّ العلومَ الطبيعيّةَ فرعٌ من فروعِ المعرفةِ، وفكرٌ منَ الأفكارِ، وباقي معارِفِ الحياة كثيرةٌ، وهيَ لَمْ تثبتْ بالطّريقة العلميّةِ، بَلْ تثبتُ بالطّريقةِ العقليّةِ، وفضلًا عَنْ ذلكَ فإنَّ قابليّةَ الخطأِ في الطّريقةِ العلميّةِ أساسٌ مِنَ الأُسُسِ التي يجبُ أنْ تُلاحَظَ فِيها بِحسْبِما هُوَ مقرَّرٌ في البحثِ العلميّ. وَقَدْ حصلَ الخطأُ في نتائجِها بالفعلِ وظهرَ ذلكَ في كثيرٍ من المعارفِ العلميّةِ التي تَبَيّنَ فسادُها بعدَ أنْ كانَ يُطلقُ عَلَيها حقائقُ علميّة. فمثلًا الذرّةُ، كانَ يقالُ عنها إنّها أصغرُ جزءٍ من المادّةِ ولا تنقسمُ فظهرَ خطأُ ذلكَ وتبيّنَ بالطّريقةِ العلميّةِ نفسِها أنَها تنقسمُ. وكذلكَ كانَ يقالُ إنَّ المادَّةَ لا تفنَى، فظهرَ خطأُ ذلك وتبيّنَ بالطريقةِ العلميّةِ نفسِها أنّها تفنَى. وهكذا كثيرٌ ممّا كانَ يسمّى بالحقائقِ العلميّةِ والقانونِ العلميِّ، قَدْ ظهرَ بالطّريقةِ العلميّةِ خطأُ ذلكَ، وتبيّنَ بالطّريقةِ العلميّةِ نفسِها أنّها ليسَتْ حقائقَ علميّةً وليسَتْ قانونًا علميًّا. يقولُ رسل: «إنَّ العلمَ يقرّرُ أحكامًا على سبيلِ التّقريبِ لا على سبيلِ اليقينِ». والعلمُ في تعريفِ أساطينِ العلماءِ «هو مجموعةُ فروضٍ، تحولّتْ بالتّجربةِ إلى قوانينَ قابلةٍ للتغيّرِ الدائمِ فليسَ في العلمِ شيءٌ ثابتٌ بشكلٍ جازمٍ يقينيٍّ». لذلكَ فإنَّ الطّريقةَ العلميّةَ طريقةٌ ظنيّةٌ وليستْ قطعيّةً، وَهِيَ تُوجِدُ نتيجةً ظنيّةً عَنْ وجودِ الشّيءِ، وعَنْ صفتِهِ، وعَنْ حقيقتِهِ، لذلكَ لا يجوزُ أنْ تُتّخذَ الطريقةُ العلميّةُ أساسًا في التّفكيرِ.
كما أنَّ الطّريقَةَ العلميّةَ وإِنْ كانَ يمكنُ أنْ يُستنبَطَ بها أفكارٌ. لكنّها لا يَنْشَأُ بها وحدَها فكرٌ، فهيَ لا تستطيعُ أنْ تُنْشىءَ إِنشاءً جديدًا أيَّ فكرٍ، كما هي الحالُ في الطّريقةِ العقليّةِ، بل هي تَستنبِطُ استنباطًا أفكارًا جديدةً، لكنّها أفكارٌ مُستنبطَةٌ، لا أفكارٌ منشأةٌ إنشاء جديدًا.
فَإنَّ الأفكارَ المُنشأَةَ جديدًا هيَ الأفكارُ التي أخذها العقلُ رأسًا، كَمَعْرِفةِ وجودِ اللهِ مثلًا، ومعرفةِ أنَّ التّفكيرَ بالقومِ أعلى مِنَ التفكيرِ الشّخصيِّ بذاتِ الشّخص، وَأنَّ الخشبَ يحترقُ، وأنَّ الزّيتَ يطفُو على وجه الماءِ، وأنَّ تفكيرَ الفردِ أقوَى مِنْ تفكيرِ الجماعةِ، كلُّ ذلكَ أفكارٌ أخذَها العقلُ مباشرةً. وهذا بخلاف الأفكار غيرِ المنشأةِ إنشاء جديدًا، وَهيَ الأفكارُ المُستنتَجَةُ على الطريقةِ العلميّةِ فإنّها لَمْ يَأخُذْها العقلُ رأسًا، بل أخذها مِنْ عدّة أفكارٍ أخذَها العقلُ سابقًا إلى جانب التجارب. كمعرفة أنَّ الماءَ مكوّنٌ مِنْ أوكسجين وإيدروجين، ومعرفةِ أنَّ الذّرةَ تنقسمُ، ومعرفة أنّ المادةَ تفنَى، هذهِ الأفكارُ لَمْ يأخذْها العقلُ رأسًا ولَمْ تُنشأ إنشاءً جديدًا، بل أُخِذَتْ مِنْ أفكارٍ سبقَ للعقل أنْ أخذها، ثُمّ أُجريَتِ التّجاربُ إلى جانبِ هذِه الأفكارِ، ثم جَرى استنتاجُ الفكرِ، فَهُوَ ليس إِنشاءً جديدًا بلْ هُوَ مُسْتَنْتَجٌ مِنْ أفكارٍموجودةٍ وتجربةٍ، لذلكَ لا تُعدّ إنشاءً جديدًا، بَلْ تُعدّ أفكارًا مأخوذةً مِنْ أفكارٍ وتجربةٍ. فالطّريقةُ العلميّةُ تَستنبطُ فكرًا. لكنّها لا تستطيعُ إنشاءَ فكرٍ. لذلكَ كانَ مِنَ الطّبيعيِّ، ومِنَ المحتّمِ، ألّا تكونَ أساسًا للتّفكيرِ. إنَّ أوروبّا وأميركا، وروسيا، قدْ بلغتْ عندهُم الثّقةُ بالطريقةِ العلميّة إلى حدِّ التّقديسِ أوْ ما يقرُبُ مِنَ التّقديس ولا سيّما في القرنِ التّاسعَ عَشَرَ وأوائِلِ القرنِ العشرينَ، إلى حدِّ أنّهم أصبحوا منحرفي التّفكيرِ ضالّينَ عَنِ الصّراطِ المستقيمِ بِجعلهِمْ طريقَةَ التفكيرِ الطّريقةَ العلميّةَ وجعلِها وَحْدَها أساسَ التّفكيرِ، والحكمِ بها وَحْدَها في جميعِ الأشياءِ.
فَلَوْ سلكَ علماءُ الغربِ الطّريقةَ العقليّةَ لِنَقْلِ الإحساسِ بالإنسانِ وأفعالِهِ، وفسّرُوا هذا الواقعَ أوْ هذَا الإحساسَ بالواقعِ بالمعلوماتِ السابقةِ لاهتَدَوْا إلى حقيقةِ هذا الواقعِ. لكنَّ سلوكَهُم الطّريقةَ العلميّةَ، واعتبارَهُمْ أنَّ الإنسانَ كالمادّةِ، وظنّهُمْ أنَّ ملاحظةَ أفعالِ الإنسانِ هيَ كملاحظةِ المادّةِ، ضلّلَهُمْ ذلكَ عَنِ الحقيقةِ وخرجُوا بهذِهِ النّتائجِ الخاطئةِ في الغرائزِ، وفي غيرِها مِنْ أبحاثِ علمِ النّفسِ. وَقُلْ مِثْلَ ذلكَ فيما يُسَمّى بعلمِ الاجتماعِ وعلومِ التربيةِ، فإنّهَا كلّها لَيْسَتْ مِنَ العلومِ، وهِيَ في جملَتِها خطأٌ في خطأٍ، فهذِهِ الأخطاءُ التي حَصَلتْ في أوروبّا وأميركا وروسيّا، أيْ لَدَى عُلماءِ النّفسِ وعُلماءِ الاجتماعِ وعلماءِ التّربيةِ، هِي نتيجةُ اتّباعِهِمْ الطّريقةَ العلميّةَ في بحثِ كلِّ شيءٍ. ومغالاتِهِم في تقديرِ الطريقةِ العلميّةِ وتطبيقِهَا على جميعِ الأبحاثِ. وهذا هُوَ الذي أوقعَهُمْ في الخطأِ والضّلالِ، وهُوَ يُوقِعُ كلَّ إنسانٍ يُطَبِّقُ الطّريقةَ العلميّةَ على كلِّ بحثٍ.
فيكون من الخطأِ الفادحِ والغلطِ الكبيرِ أنْ تُطَبَّقَ الطّريقةُ العلميّةُ في بحثِ وجهةِ النّظرِ في الحياةِ، أيْ ما يسمّى ـــ (بالإيديولوجية)، ومِن الحمقِ وقصرِ النظرِ أنْ تُطَبّقَ على الإنسانِ أو على المجتمعِ، أوْ على الطّبيعةِ، أوْ ما شاكلَ ذلكَ مِنَ الأبحاثِ، وعَلى هذا لَوْ تعارضَتْ نتيجةٌ عقليّةٌ مَعَ نتيجةٍ علميّةٍ عَنْ وجودِ الشّيءِ تُؤْخَذُ الطّريقَةُ العقليّةُ حتمًا وتُترَكُ النّتيجةُ العلميّةُ لأنَّ القطعيَّ هُوَ الذي يُؤْخَذُ لا الظّنّي.
وهنا لا بدَّ مِنْ إعادةِ التّنبيهِ بوضوحٍ إلى مسألتَيْنِ مهمّتَيْنِ: إحداهُما، أنَّ الطّريقةَ العلميّةَ أهمُّ ما فيها هُوَ: أنّها تقتضيكَ إذا أردتَ بحثًا أنْ تمحوَ مِنْ نفسِكَ كلَّ رأْيٍ وكلَّ إيمانٍ لَكَ في هذا البحثِ الذي تبحثُهُ. وَإنَّ هذَا هُوَ الذي يجعلُ البحثَ سائرًا في الطّريقةِ العلميّةِ، وعلى هذا الأساسِ يقولونَ: إنَّ هذا البحثَ بحثٌ علميٌّ، وهذا البحثُ يسيرُ بحسَبِ الطّريقةِ العلميّةِ. والجوابُ عن هذا هُوَ أنَّ هذا الرأيَ صحيحٌ، لكنّهُ ليس علميًّا، وَلا هُوَ يسيرُ في الطّريقةِ العلميّةِ. بَلْ هُوَ عقليٌّ ويسيرُ في الطّريقةِ العقليّةِ. وذلكَ أنَّ الموضوعَ لَيسَ متعلقًا بالرّأيِ بَلْ متعلقٌ بالبحثِ. فالبحثُ العقليُّ يكونُ بنقلُ الواقعِ بوساطةِ الإحساسِ إلى الدّماغِ، والبحثُ العلميُّ يكونُ بوساطةِ التّجربةِ والملاحظةِ، هذا هُوَ الذي يميّـزُ الطّريقةَ العقلِيّةَ من الطّريقةِ العلميّةِ. فكونُ الخشبةِ تحترقُ، يكفي في الطّريقةِ العقليّةِ أنْ يُحَسَّ باحتراقِها، ولكنْ في الطّريقةِ العلميّةِ لا بدَّ من أن تخضعَ للتّجربةِ والملاحظةِ حتّى يُحكَمَ بأنّها تحترقُ. فأهمُّ ما في الطّريقةِ العلميّةِ هُوَ التّجربةُ والملاحظةُ وليس الرأْيُ أوِ المعلوماتُ.
وأمّا الرأْيُ السّابقُ أوِ الإيمانُ السّابقُ واستعمالُهُ عِنْدَ البحثِ أوْ عدمُ استعمالِهِ، وتدخّلُهُ في البحثِ أو عدمُ تُدخّلِهِ فإنَّ سلامةَ البحثِ وصحّةَ نتيجةِ البحثِ تقتضي من الباحثِ التخلّيَ عَنْ كلِّ رأيٍ سابقٍ للموضوعِ، أيْ تقتضي التخلّيَ عمّا في ذهنِهِ مِنْ آراءٍ وأحكامٍ عَنِ الموضوعِ الذي يجري بحثُهُ حتّى لا يؤثّرَ فيهِ في البحثِ ولا يؤثّرَ في نتيجةِ البحثِ. فمثلًا عندي رأْيٌ أنّهُ لا يمكنُ أنْ تتوحّدَ روسيا والصّينُ في دولةٍ واحدةٍ وأن يكونا أمةً واحدةً. فعندَ البحثِ في توحيدِهِما ليكونا أمّةً واحدةً ودولةً واحدةً، لا يصحُّ أنْ يكونَ هذَا الرّأْيُ موجودًا عندَ البحثِ في توحيدِهما لأنّهُ يُفسِدُ عليَّ البحثَ ويُفسدُ عليَّ النّتيجةَ. ومثلًا عندي رأْيٌ بِأنَّ النّهضةَ لا يمكنُ أنْ تُوجدَ إلَّا بالصّناعةِ والاختراعِ والتعليمِ، فعِنْدَ البحثِ في إنهاضِ شعبِي أوْ أمّتِي يجبُ أنْ أتخلّى عَنْ هذا الرّأْي، وهكذا فإنّهُ يجبُ أنْ يتخلّى المرءُ عِنْدَ البحثِ في أيِّ شيءِ عَنْ كلِّ رأْيٍ سابقٍ لَهُ عَن البحثِ، وعن الشيءِ الذي يريدُ أن يبحثَهُ، أو يبحثَ فيه.
إلَّا إنَّ هذهِ الآراءَ التي يجبُ أنْ يَتَخلّى عَنْها عِنْد البحثِ يُنْظَرُ فيها، فإنْ كانَتْ آراءً قطعيّةً تثبتُ بالدّليل القطعيِّ الذي لا يتطرّقُ إلَيْهِ أدنَى ارتيابٍ، فإنّهُ لا يصحُ أنْ يَتَخَلّى عَنْها ولا بحالٍ مِنَ الأحوالِ إذا كانَ البحثُ الذي يبحثُهُ ظنيًّا، وكانتِ النّتيجةُ التي تَوَصّلَ إلَيْهَا ظنيّةً، لأنّهُ إذا تعارضَ القطعيُّ والظّنيُّ يُؤخذُ القطعيُّ ويردُّ الظّنيُّ. لذلكَ لا بدَّ من أن يتحكّمَ القطعيُّ بالظّنيِّ. أمّا إذا كانَ البحثُ قطعيًّا والنّتيجةُ التي يتوصّلُ إليهَا قطعيّةً، فإنّهُ في هذِهِ الحالِ لا بدَّ من أن يتخلّى عن كلِّ رأْيٍ وكلِّ إيمانٍ سابقٍ. فالتّخلّي عن كلِّ رأْيٍ سابقٍ أمرٌ لا بدَّ منهُ لسلامةِ البحثِ وصحّةِ النّتيجةِ. إلَّا إنّهُ إنْ كانَ البحثُ ظنيًّا فإنّهُ لا يصحُّ أنْ يتخلّى عِنْدَ بحثِهِ لَهُ عَنِ الآراء القاطعةِ والإيمانِ الجازمِ. ولكنْ لا بدَّ من أنْ يتخلّى عَنْ كلِّ رأْيٍ ظنيٍّ سابقٍ في الموضوعِ. وهذا لا فرقَ فيهِ بينَ الطّريقةِ العقليّةِ والطّريقةِ العلميّةِ. وآفةُ الأبحاثِ إنّما هيَ في تدخّلِ الآراءِ السّابقةِ في البحثِ.
وأمّا المسألةُ الثّانيةُ فهيَ ما يُسمّى بالموضوعيّةِ، فالموضوعيّةُ ليست التخلّيَ عن كلِّ رأْيٍ سابق فَحَسْبُ، بَلْ هِيَ حصرُ البحثِ في الموضوعِ الذي يُبحثُ إلى جانبِ التّخليّ عَن كلِّ رأْيٍ سابقٍ. فحينَ تبحثُ في تحليلِ دِبْسِ الخرّوبِ لا يصحُّ أنْ يتطرَّقَ لهذا البحثِ أيُّ بحثٍ آخَرَ ولا أيُّ شيءِ آخَرَ ولا أيُّ رأْيٍ. فلا يفكِّرُ في الأسواقِ، ولا في الرّبحِ، ولا في الأخطارِ، ولا في أيِّ شيءٍ غيرَ سياسةِ الصّناعةِ للدّولةِ. وحينَ تبحثُ في استنباطِ الحكمِ الشّرعيِّ، لا يصحُّ أن تفكّرَ في المصلحةِ، ولا في الضّرَرِ، ولا في رأْيِ النّاسِ، ولا في أيِّ شيءٍ غير الاستنباطِ للحكمِ الشّرعيِّ. وهكذَا كلُّ بحثٍ لا بدَّ من أنْ يُحْصَرَ الذّهنُ في موضوعِ البحثِ. فالموضوعيّةُ لَيْسَتْ هيَ عدمَ تدخّلِ الرأْيِ السّابقِ في الموضوعِ فَحَسْبُ، بَلْ هِيَ إلى جانبِ ذلكَ حصرُ البحثِ في الموضوعِ نفسِهِ، وإبعادُ أيِّ شيءٍ آخَرَ عَنْهُ، وحصرُ الذّهنِ في الموضوعِ المبحوثِ فَقَطْ. والطّريقةُ العقليّةُ هِيَ طريقةُ القرآنِ، وبالتّالي هِيَ طريقةُ الإسلامِ. ونظرةٌ عاجلةٌ للقرآنِ الكريمِ تُري أنّهُ سلكَ الطّريقةَ العقليّةَ، سواء في إقامةِ البُرهانِ، أوْ في بيانِ الأحكامِ. انظرْ إلى القرآنِ تجدْهُ يقولُ في البرهانِ: [فَلْيَنْظُرِ الإنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ] {سورة الطارق: الآية 5}، [أَفَلَا يَنْظُرُونَ إلى الإبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ] {سورة الغاشية: الآية 17}، [لَوْ كَانَ فيهِما آلِهَةٌ إلَّا اللهُ لَفَسَدَتَا] {سورة الأنبياء: الآية 22}، إلى غيرِ ذلكَ مِنَ الآياتِ، وكلُّها تأمرُ باستعمالِ الحسِّ لِنَقْلِ الواقعِ حتّى يصلَ إلى النّتيجةِ الصّحيحةِ. وتجدهُ يقولُ في الأحكامِ [حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ المَيْتَةُ] {سورة المائدة: الآية 3}، [كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكمْ] {سورة البقرة: الآية 216}، [فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشّهْرَ فَلْيَصُمْهُ] {سورة البقرة: الآية 185}، [وَشَاوِرْهُمْ في الأمْرِ] {سورة آل عمران: الآية 159}، [أوْفُوا بِالعُقُودِ] {سورة المائدة: الآية 1}، «أحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرُّبا»، [فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ الله لَا تُكَلّفُ إلَّا نَفْسَكَ] {سورة النساء: الآية 84}، [حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ] {سورة الأنفال: الآية 65}، [فَإنْ أرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أجُورَهُنّ] {سورة الطلاق: الآية 6}، إلى غيرِ ذلكَ مِنَ الآياتِ، وكلُّها تُعطِي أحكامًا محسوسةً لوقائعَ محسوسةٍ، وسواءٌ كانَ للحكمِ أو للواقعةِ التي جاءَ بها الحكمُ، فهو إنّما يأتي بالطّريقةِ العقليّةِ.
وعلى ذلكَ فإنَّ الطّريقةَ العقليّةَ وحدَها هِيَ التي يجبُ أنْ يسيرَ عَلَيْها النّاسُ. وَإنَّ الأسلوبَ المُباشرَ هُوَ الأسلمُ للسّيرِ عَلَيْهِ. وذلكَ حتى يكونَ التّفكيرُ صحيحًا، وتكونَ نتيجةُ التّفكيرِ أقربَ إلى الصّوابِ في حين أنه هُوّ ظنيٌّ، وقاطعةً بشكلٍ جازمٍ في حين أنه هُوَ قطعيٌّ. لأنَّ المسألةَ كلّها متعلّقةٌ بالتّفكيرِ. وَهُوَ أثمنُ ما لَدَى الإنسانِ، وأثمنُ شيءٍ في الحياةِ.
والتّفكيرُ ـــ سواءٌ في فهمِ الحقائقِ، أوْ في فهمِ الحوادثِ، أوْ في فهمِ النّصوصِ ـــ فإنّهُ نظرًا للتّجدّدِ الدّائمِ، وللتّنوَعِ المتعدّدِ، عرضةٌ للانزلاقِ وعرضةٌ للابتعادِ، لذلكَ فإنّهُ لا يكفي أنْ يُبحثَ في طريقةِ التّفكيرِ، بَلْ لا بدَّ من أن يُبحثَ التّفكيرُ نفسُهُ بشكلٍ مفتوحٍ، في مختلفِ الأحوالِ والحوادثِ والأشياءِ. فيُبحثُ التّفكيرُ فيما يصحُّ أنْ يجريَ التّفكيرُ فيهِ وفيما لا يصحُّ أنْ يجريَ فيهِ، ويُبحثُ التّفكيرُ في الكونِ والإنسانِ والحياةِ، ويُبحثُ التّفكيرُ في العيشِ، ويُبحثُ التّفكيرُ في الحقائقِ، ويُبحثُ التّفكيرُ في الأساليبِ، والوسائلِ، إلى غيرِ ذلكَ مما يتّصلُ بالتّفكيرِ. وإلى جانبِ ذلكَ لا بدَّ من أن يُبحثَ التّفكيرُ في فَهْمِ النّصوصِ، أي في فهمِ الكلامِ الذي يُسمعُ، والكلامِ الذي يُقْرأُ.
أمّا البحثُ فيما يصحُّ أنْ يجريَ التّفكيرُ فيه، وما لا يصحُّ أن يجريَ فيهِ، فإنّهُ على بداهتِهِ عقدةُ العُقَدِ، ومُنزلَقُ الكثيرِ مِنَ النّاسِ حتّى المفكّرينَ. أمَا بداهتُهُ فإنَّ تعريفَ العقلِ، أوْ معرفةَ معنَى العقلِ معرفةً جازِمةً، تقضِي بداهةً بأنَّ التّفكيرَ إنّما يجري في ما هُوَ واقعٌ أوْ لَهُ واقعٌ، ولا يصحُّ أنْ يجريَ في غيرِ الواقعِ المحسوسِ. لأنَّ عمليّةَ التّفكيرِ هيَ نقلُ الواقعِ بوساطةِ الحواسِّ إلى الدّماغِ، فإذا لَمْ يكنْ هناكَ واقعٌ محسوسٌ، فإنَّ العمليّةَ الفكريّةَ لا يمكنُ أنْ تحصلَ. فإنَّ انتفاءَ الحسِّ بالواقعِ ينفي وجودَ التّفكيرِ وينفي إمكانيّةَ التّفكيرِ. وأمّا كونُ البحثِ فيهِ عقدةَ العُقَدِ فإنَّ الكثيرَ مِنَ المفكّرينَ قَدْ أجرَى بحثَهُ في غيرِ الواقعِ، ومَا الفلسفةُ اليونانيّةُ كلُّها إلَّا بحثٌ في غيرِ الواقعِ، وما أبحاثُ علماءِ التّربيةِ في تقسيمِ الدّماغِ إلَّا بحثٌ في غيرِ محسوسٍ، وما بحثُ الكثيرِ من علماءِ المسلمينَ في صفاتِ الله وفي أوصافِ الجنّةِ والنّارِ والملائكةِ إلَّا بحثٌ فيما لا يقعُ عَلَيْهِ الحسُّ. ثُمَّ إنَّ النّاسَ بشكلٍ عامّ يغلبُ على أخذِهِمْ كثيرًا مِنَ الأفكارِ وعلى تفكيرِهِمْ في كثيرٍ من الأمورِ، التّفكيرُ في غيرِ الواقعِ، أوْ في غيرِ ما يَقَعُ عليهِ الحسُّ، ومِنْ هنا كانَ البحثُ فيما يصحُّ أنْ يجريَ فيهِ التّفكيرُ وما لا يصحُّ أنْ يجريَ فيهِ التّفكيرُ.
إلَّا إنّهُ مَعَ ذلكَ، ومَعَ وجودِ المعارفِ الكثيرةِ، مما لا يصحُّ أنْ يجريَ فيهِ التّفكيرُ، فمثلًا القولُ بالعقلِ الأوّلِ والعقلِ الثّاني، والقولُ بأنَّ الدّماغَ مقسّمٌ أقسامًا، وأنّ كلَّ قسمٍ منها مختصٌّ بعلمٍ من العلومِ إلخ... كلُّها مجرّدُ تخيّلاتٍ وفروضٍ، فهيَ لَيْسَتْ واقعًا، لأنّ واقعَ الدّماغِ المحسوسَ أنّهُ غيرُ مقسّمٍ، وَلَيْسَ ممَّا يقعُ عليهِ الحسّ، لأنّ الدّماغَ وَهُوَ يعملُ، أي يقومُ بالعمليّةِ العقليّةِ، لا يمكن أنْ يقعَ عليهِ الحسُّ.
والقولُ بأنَّ لله صفةَ القدرةِ، وصفةَ كونِهِ قادرًا، والقدرةُ لَهَا تَعَلّقٌ تخييريٌّ قديمٌ وَتَعَلّقٌ تخييريٌّ حادثٌ، وكذلكَ إقامةُ البراهينِ العقليّةِ على صفاتِ الله، كلُّ ذلكَ وأمثالُهُ، لَوْ وُضِعَتْ عَلَيْهِ مسحةُ البحثِ العقليِّ والبرهانِ العقليِّ، فإنّهُ ليسَ فكرًا، ولا هُوَ نتيجةُ تفكيرٍ، إذْ لَمْ تجرِ فيهِ العمليّةُ العقليّةُ، لأنّهُ ليسَ ممّا يقعُ عليهِ حسّ الإنسانِ.
فالعمليّةُ العقليّةُ، أي التّفكيرُ، لا يمكنُ أنْ يكونَ إلَّا بواقعٍ يقعُ عَلَيْهِ حسُّ الإنسانِ. إلَّا إنَّ هناكَ أمورًا أوْ أشياءَ لها واقعٌ، لكنَّ هذا الواقعَ لا يُمكنُ أنْ يُحسّه الإنسانُ وَلَا يُمكنُ نقلُهُ بالحسِّ، لكنَّ أثرَهُ يقعُ عَلَيهِ حسُّ الإنسانِ وَيُنْقَلُ إلى الدّماغِ بوساطةِ الإحساسِ، فإنَّ هذا النّوعَ مِنَ الأمورِ يُمكنُ أنْ تجري فيهِ العمليّةُ العقليّةُ، أيْ يُمكنُ أنْ يحصلَ فيهِ تفكيرٌ، لكنّهُ تفكيرٌ بوجودِهِ لا بكنهِهِ، لأنَّ الذي نُقِلَ إلى الدّماغِ بوساطةِ الحسِّ هُوَ أثرُهُ، وأثرُهُ إنّما يدلُّ على وجودِهِ فَقَطْ، ولا يدلُّ على كنهِهِ. فمثلًا لَوْ أنَّ طائرةً كَانَتْ عاليةً جدًّا إلى حدِّ أنَّ العينَ المجرّدةَ لا تراهَا، لكنَّ صوتَها تسمعُهُ الأذنُ، فإنّ هذهِ الطّائرةَ يُمكنُ أنْ يُحسَّ الإنسانُ بصوتِها، وهذا الصّوتُ دليلٌ على وجودِ شيءٍ، أيْ على وجودِ الطّائرةِ، ولا يُمكنُ أنْ يدلَّ على كنهِ هذهِ الطائرَةِ. فالصّوت المسموعُ والآتي مِنْ فوقُ هُوَ صوتٌ لشيءٍ موجودٍ، ومِنْ تَمييزِ حسِّهِ يُستدَلُّ على أنّهُ صوتُ طائرةٍ. فالعمليّةُ العقليّةُ هنا جَرَتْ في وجودِ الطّائرةِ، أيْ حصلَ التّفكيرُ بوجودِ الطّائرةِ، وصدرَ الحكمُ بوجودِها مَعَ أنَّ الحسَّ لَمْ يقعْ عَلَيْها لكنّهُ وقعَ على أثرِها، صحيحٌ أنّهُ يُمكنُ الحكمُ على نوعِها كما يُمكنُ الحكمُ على أنّها طائرةٌ مِنْ تمييزِ نوعِ الصّوتِ. ومثلُ أنَّ الإسلامَ دينُ عزّةٍ، فإنَّ هذا لا يعنِي أنَّ المسلمَ يكونُ عزيزًا، لأنَّ العزّةَ ليستْ هِيَ الدّينَ، ثُمَّ إنَّ الإنسانَ حينَ يعتنقُ دينًا لا يعنِي أنّهُ قَدْ تقيّدَ بِهِ. والدّينُ ليسَ التقيّدُ بِهِ أثرًا مِنْ آثارِهِ، بَلْ هُوَصفةٌ مِنْ صفاتِهِ، لذلكَ لا يجري فيهِ التّفكيرُ، فالّذي يجرِي فيهِ التّفكيرُ هُوَ أثرُ الشيءِ لا صفتُهُ، لأنَّ الأثرَ يُمكنُ أنْ يُنقلَ بالحسِّ، لكنَّ الصّفةَ لِمَا لا يُحَسُّ لا يُمْكِنُ نقلُها بوساطةِ الحواسِّ، ومِنْ هنا كانَ اتّخاذُ صفاتِ الشّيءِ وسيلةً للحكمِ على أثرِهِ أوِ للحكمِ عليهِ لا يُشَكِّلُ عمليّةً عقليّةً فَلا يجرِي التّفكيرُ فيهِ.
قَدْ يُقالُ: إنَّ حصرَ التّفكيرِ فيما يقعُ عليهِ الحسُّ، أوْ يقعُ الحسُّ على أثرِهِ، يعنِي حصرَ التّفكيرِ بالمحسوساتِ، وهذَا يعنِي أنَّ الطّريقةَ العلميّةَ هِيَ أساسُ التّفكيرِ لأنّها لا تُؤمنُ إلَّا بالمحسوساتِ، فأيْنَ ذهبَتِ الطّريقةُ العقليّةُ؟ والجوابُ عن ذلكَ أنَّ الطّريقةَ العلميّةَ تشترطُ إخضاعَ المحسوساتِ للتّجربةِ والملاحظةِ ولا تكتفي بمجرّدِ الحسِّ. لذلكَ فإنَّ كونَ التّفكيرِ لا يقعُ إلَّا في المحسوساتِ يشملُ المحسوساتِ الّتي تخضعُ للتّجربةِ والملاحظةِ وتَشملُ المحسوساتِ الّتي يُكتفى بوقوعِ الحسِّ عليها، أيْ بالإحساس بها. وهذا لا يجعلُ الطّريقةَ العلميّةَ أساسًا للتّفكيرِ، بل يجعلُها عمليّةَ تفكيرٍ صحيحةً لأنّها تشترطُ أنْ يكونَ الشيءُ محسوسًا وتزيدُ على ذلكَ أنّها تشترطُ أيضًا إخضاعَهُ للتّجربةِ والملاحظةِ. أمّا موضوعُ الطّريقةِ العقليّةِ فإنَّ حصرَ التّفكيرِ بالمحسوسِ هُوَ ما تقتضيهِ. فإنَّ الأساسَ في تعريفِ العقلِ ليسَ وجودَ معلوماتٍ سابقة، بلِ الأساسُ هُوَ الواقعُ المحسوسُ، والمعلوماتُ السّابقةُ شرطٌ لكونِ المحسوسِ قَدْ جرَى التّفكيرُ فيهِ، وإلَّا لظلَّ مجرّدَ إحساسٍ. فالأصلُ في التّفكيرِ أنْ يكونَ في واقعٍ محسوسٍ، لا في شيءٍ قَدْ قُدِّرَ، ولا في شيءٍ جرى تخيُّلُ وجودِهِ.
وعلى هذَا فإنّهُ يجبُ أنْ يكونَ واضحًا أنَّ ما يصدُرُ مِنْ أحكامٍ، وما يُؤخذُ من معلوماتٍ، عَنْ غيرِ الواقعِ، أوْ عَنْ واقعٍ مفروضٍ وجودُهُ أوْ متخيّلٍ وجودُهُ، لا يُعدُّ فكرًا ولا بوجهٍ منَ الوجوهِ، أيْ لا يُعدُّ العقلَ قَدْ أنتجَهُ. لأنَّ العقلَ لا يعملُ من دونِ الواقعِ المحسوسِ أو المحسوسِ أثرُهُ. وبالتالي لا يجري التّفكيرُ إلَّا في الواقعِ أوْ في أثرِ الواقعِ، ولا يجري في غيرِ ذلكَ مطلقًا. ولهذا فإنَّ كثيرًا ممّا يُسمّى بأفكارٍ، سواءٌ سُجِّلَ في الكتبِ، أوْ جرَى الحديثُ فيهِ، لا يُعدُّ نتاجَ العقلِ، ولمْ يجرِ التّفكيرُ فيهِ، وبالتّالي ليسَ فكرًا.
وهنا قَدْ يردُ الحديثُ عن المغيّباتِ، سواءٌ أكانتْ مغيّباتٍ عَنِ الفكرِ أو كانت مغيباتٍ عنِ الحسِّ. فهلِ اشتغالُ الدّماغِ بالمغيّباتِ لا يكونُ تفكيرًا، وبالتّالي هلْ ما قيلَ في المغيّباتِ لا يكونُ فكرًا؟ والجوابُ عن ذلكَ أنَّ المغيباتِ عن المفكرِ لا تكونُ مغيّباتٍ. بل تُعدُّ حاضرةً، لأنّ المقصودَ بنقلِ الحسِّ، هُوَ أيُّ نقلٍ لأيِّ إنسانٍ، وليسَ نقلَ المفكرِ فَقَطْ. فبيتُ المقدس والبيتُ الحرامُ حينَ يفكِّرُ فيهما أوْ في أيٍّ منهما شخصٌ لَمْ يرَهُما وَلَمْ يُحِسَّ بهما لا يعنِي أنّهُ يفكِّرُ في غيرِ المحسوسِ، بَلْ هُوَ يفكّرُ في المحسوسِ، لأنّهُ ليسَ المحسوسُ هُوَ الذي يُحِسُّهُ، بَلِ المحسوسُ هُوَ الذي مِنْ شأنِهِ أنْ يكونَ محسوسًا. وما يغيبُ عن المفكّرِ من المحسوساتِ يُعدُّ التّفكيرُ بها تفكيرًا، واشتغالُ الدّماغِ بها يكونُ تفكيرًا. ولهذَا فإنَّ التاريخَ يُعدُّ أفكارًا، ولو جرى تسجيلُهُ أوِ الحديثُ عنهُ بعدَ آلافِ السنين. وتُعدُّ المعارفُ القديمةُ أفكارًا، واشتغالُ الدّماغِ بها يكونُ تفكيرًا ولو جرى بعدَ آلافِ السّنين. وتُعدُّ الأخبارُ التي تتناقلُها البرقيّاتُ أفكارًا، واشتغالُ الدّماغِ بها يكونُ تفكيرًا ولو جاءَتْ منْ مسافاتٍ بعيدةٍ. فما يغيبُ عنِ المُفكّرِ لا يكونُ مغيّباتٍ بل يكونُ مِن المحسوساتِ، لأنَّ الحسَّ لا يُشترَطُ أنْ يكونَ لدى المفكرِ، بل قَدْ يُنقلُ إليهِ نقلًا. فَقَدْ يسمعُهْ وقَدْ يقرؤُهُ، أوْ يُقرَأُ لَهُ. فالموضوعُ أنَّ المعرفةَ لا تكونُ فكرًا إلَّا إذا نتجتْ عَنْ واقعٍ محسوسٍ. فالواقعُ المحسوسُ أوِ المحسوسُ أثرُهُ هما وحدَهُما اللّذانِ تكونُ معرفتُهُما فكرًا ويكونُ اشتغالُ الدّماغِ بهما تفكيرًا، أمّا ما عداهما فإنّهُ لا يكونُ فكرًا، ولا يكونُ اشتغالُ الدّماغِ به تفكيرًا.
أمّا البحثُ في الكونِ والإنسانِ والحياةِ، فإنّه ليسَ بحثًا في الطّبيعةِ، لأنَّ الطّبيعةَ أعمُّ منَ الكونِ والإنسانِ والحياةِ. وليسَ بحثًا في العالَمِ، لأنَّ العالَمَ كلُّ ما سوى الله، فيشملُ الملائكةَ والشيّاطينَ، ويشملُ الطّبيعةَ. لذلكَ فإننا حينَ نقولُ إنّنا نبحثُ الكونَ والإنسانَ والحياةَ، فإنّنا لا نعنِي الطّبيعةَ، ولا بحثَ العالَمِ، بل نعني هذهِ الثّلاثَةَ فَحَسْبُ، لأنّ الإنسانَ يحيا في الكونِ، فَهْوَ لا بدَّ من أنْ يعرِفَ الإنسانَ، ويعرفَ الكونَ، ويعرفَ الحياةَ، فَهُوَ إذن لا يعنيهِ أنْ يبحثَ الطّبيعةَ، فإنَّ بحثها لا يُغنيهِ عَنْ بحثِ نوعِهِ وحياتِهِ والكونِ الذي يحيا بِهِ، ولا يعنيهِ بحثُ ما عدَا ذلكَ منْ مثلِ الملائكةِ والشياطينِ، لأنّ بحثَها ليسَ ممّا يشكّلُ عندَهُ عقدةً، فالإنسانُ يحسُّ نَفْسَهُ أنّهُ وُجدَ ويُحسُّ الحياةَ التي فيه، ويُحسُّ الكونَ الذي يحيا فيهِ. فَهُوَ منذُ بَدَأ يُمَيِّزُ الأمورَ والأشياءَ، بَدَأَ يتساءَلُ هَلْ قَبْلَ وجودِهِ ووجودِ أمّهِ وأبيهِ ومَن قبلَهُما إلى أعلى جدٍّ يوجدُ شيءٌ أمْ لا؟ ويتساءلُ هَلْ هذِهِ الحياةُ التي فيهِ والتي في غيرِهِ منْ بني الإنسانِ يوجدُ قبلَها شيءٌ أمْ لا، ويتساءلُ هَلْ هذَا الكونُ الذي يراهُ منْ أرضٍ وشمسٍ وما يسمعُ بهِ منْ كواكبَ يوجدُ قبلَها شيءٌ أمْ لا. أيْ هَلْ هيَ أزليّةٌ وُجدَتْ هكذا منَ الأزلِ، أمْ قبلَها شيءٌ أزليٌّ؟ ثمَّ يتساءلُ هلْ هذهِ الأشياءُ الثّلاثةُ يوجدُ بعدَها شيءٌ، أمْ لا. أيْ هلْ هيَ أبديّةٌ تظلُّ هكذا ولا تفنى أمْ لا؟ هذهِ التّساؤلاتُ أوِ الأسئلةُ تردُ عليه كثيرًا، وكلّما كبرَ تزدادُ هذهِ التّساؤلاتُ، فتكوِّنُ عندَهُ عقدةً كبرى يسعى لحلِّها. فهذا التّساؤلُ أو الأسئلةُ هيَ بحثٌ في واقعٍ، أي هيَ نقلُ واقعٍ بوساطةِ الحواسِّ إلى الدّماغِ، فيظلُّ يحسُّ بهذا الواقعِ، لكنَّ ما لَدَيْهِ منْ معلوماتٍ لا تكفي لحلِّ هذهِ العُقدةِ الكبرى. ويكبرُ وتزدادُ المعلوماتُ، ويحاولُ غير مرّةٍ تفسيرَ هذا الواقعِ بوساطةِ المعلوماتِ التي لَدَيهِ، فإنِ استطاعَ تفسيرَ هذا الواقعِ تفسيرًا قطعيًّا لا يعيدُ هذهِ التّساؤلاتِ، فإنّه حينئذٍ يحلُّ العُقدةَ الكُبرى، وإذا لَمْ يستطعْ تفسيرَ هذا الواقعِ تفسيرًا قاطعًا، فإنّه يظلُّ يتساءلُ فقد يحلُّها مؤقتًا، لكنَّ التّساؤلاتِ تعودُ إليه، فيعرفُ أنّهُ لَمْ يحلّها، وهكذا يواصلُ بشكلٍ طبيعيٍّ سلسلةَ التّساؤلاتِ حتى يصلَ إلى الجوابِ الذي تُصدّقُهُ فطرتُهُ، أيْ يتجاوبُ مَعَ الطّاقةِ الحيويّةِ التي لَدَيْهِ، أيْ يتجاوبُ مَعَ عاطفتهِ وحينئذٍ يوقنُ بأنّهُ حلَّ العُقدةَ الكُبرى حلًّا جازمًا وتنقطعُ عنهُ التّساؤلاتُ. وإذا لَمْ تُحَلَّ لديهِ هذهِ العُقدةُ الكُبرى فإنَّ التّساؤلاتِ تظلُّ تتواردُ عليهِ، وتظلُّ تزعجُهُ، وتظلُّ العُقدةُ الكُبرى في نفسهِ. ويظلُّ في حالةِ انزعاجٍ، وفي حالةِ قلقٍ على مصيرِهِ، حتّى يحصلَ هذا الحلُّ سواءٌ أكانَ حَلًّا صحيحًا أم حلًّا خاطِئًا ما دامَ يَطْمئِنُّ إليه.
هذَا هُوَ التّفكيرُ في الكونِ والإنسانِ والحياةِ، وهو تفكيرٌ طبيعيٌّ، وتفكيرٌ حتميٌّ، ولا بدَّ من أنْ يوجدَ عنْدَ كلِّ إنسانٍ، لأنّ وجودَهُ يَقْضي بوجودِ هذا التّفكيرِ. ولأنَّ إحساسَهُ بها هُوَ أمرٌ دائمٌ، وَهوَ يدفعُهُ لمحاولةِ الوصولِ إلى الفكرِ. لذلكَ فإنّ التّفكيرَ في الكونِ والإنسانِ والحياةِ ملازمٌ لوجودِ الإنسانِ، لأنّ مجرّدَ الإحساسِ بها الّذي هو حتميٌّ، يستدعي المعلوماتِ المتعلقةَ بهِ الموجودةَ لَدَيْهِ، أوْ مُحاولةَ طلبِ هذهِ المعلوماتِ منْ غيرِهِ، أو مُحاولةَ طلبِ الحلِّ منْ غيرِهِ. فَهُوَ يدأبُ بحافزٍ ذاتيٍّ لحلِّ هذِهِ العُقدةِ.فحلُّ العُقدةِ الكُبرى يُلاحقُ الإنسانَ بشكلٍ متواصلٍ، في طلبِ هذا الحلّ. إلّا إنّ النّاسَ، على حتميّةِ تساؤُلِهـِمْ، وحتميّةِ القيامِ بمحاولاتٍ متعددةٍ ومتلاحقةٍ في الوصولِ إلى الإجابةِ، أيْ في الوصولِ إلى حلِّ العُقدةِ الكُبرى فإنّهُمْ يختلفُونَ في الاستجابةِ لهذِهِ المُلاحقةِ، فمنهُمْ مَنْ يهربُ منْ هذهِ الأسئلةِ، ومنهُمْ مَنْ يُواصلُ طَلَبَ الإجابةِ عنها. أمّا وهُمْ صغارٌ دونَ سنِّ البُلوغِ فإنّهمْ يتلقّوْنَ الإجابةَ عَنْ أسئلَتهمْ منْ آبائهمْ. فَهُمْ يُولدونَ خالينَ منْ هذهِ الأسئلةِ، ولكنْ حينَ يبدؤونَ يميّزونَ ما حولَهُمْ تبدأْ هذهِ الأسئلةُ تَرِدُ عليهمْ، فيتولّى آباؤُهُمُ الإجابةَ عنها، ونظرًا إلى ثِقَتهِمْ بآبائهمْ أوْ مَنْ يتولّى شُؤونَهُمْ يسلّمونَ بالأجوبةِ تسليمًا ويطمئنّونَ إلى هذا التّسليم لأنّهُ تسليمٌ لمَنْ يثقونَ بهِ. فإذا ما بلغُوا سنَّ الرّجولةِ، أيْ بلغُوا الحُلُمَ، فإنَّ الأكثرية السّاحقةَ منهُمْ تَظَلُّ عندَ حدِّ الإجابةِ التي تلقّوْها، والأقليّةُ منهُمْ هيَ التي تعودُ إليها هذهِ التّساؤلاتُ لعدمِ اطمئنانهم إلى الأجوبةِ التي تلقّوْها وَهُمْ صغارٌ. لذلكَ يُعيدون النّظرَ فيما تَلَقّوْهُ من أجوبةٍ حَولَ هذهِ العُقدةِ الكُبرى ويحاولُونَ حلَّها بأنفسهمْ.
فالتّفكيرُ في حلِّ العُقدةِ الكُبرى، أي التّفكيرُ في الكونِ والإنسانِ والحياةِ، أمرٌ حتمّيٌّ لكلِّ إنسانٍ، إلَّا إنّ منهُمْ مَنْ يحلُّها بنفسِهِ، ومنهُمْ مَنْ يتلقّى حلّها، ومتّى حُلّت على أيِّ وجهٍ، فإنّ هذا الحلَّ، سواءٌ أكانَ حلًّا قد جاءَ عَنْ طريق التلقِّي، أوْ كانَ حلًّا وصلَ إليهِ الإنسانُ بنفسِهِ فإنّهُ إنْ تجاوبَ هذَا الحلُّ معَ الفطرةِ واطمأنَّ إليهِ فإنّهُ يرتاحُ ويحسُّ بسعادةِ الطّمأنينةِ. وإنْ لَمْ يتجاوبْ هذا الحلُّ مَعَ الفطرةِ، فإنّهُ لا يطمئنُّ إلى الحلِّ، وتظلُّ التّساؤلاتُ تلاحقُهُ وتزعجُهُ وَلَوْ لَمْ يفْصِحْ عَنْ ذلكَ بأيّ إشارةٍ. لذلكَ لا بدَّ من التّفكيرِ في حلِّ العُقدةِ الكُبرى للإنسانِ، حلًّا يتجاوبُ مَعَ الفِطرةِ.
نَعَمْ إنَّ التّفكيرَ في حلِّ العُقدةِ الكُبرى طبيعيٌّ وحتميٌّ، لكنَّ هذا التّفكيرَ نَفْسَهُ قد يكونَ تفكيرًا صحيحًا، وقد يكونُ تفكيرًا سقيمًا، وقد يكونُ تفكيرًا في الهروبِ من التّفكيرِ، لكنّهُ في أيِّ حالٍ تفكيرٌ بحسبِ الطّريقةِ العقليّةِ. فالذينَ يُرجِعُونَ الإنسانَ والكونَ والحياةَ إلى أنّها مادّةٌ، وينتقلونَ إلى البحثِ في المادّةِ يهربُونَ من التّفكيرِ في الإنسانِ والكونِ والحياةِ إلى التفكيرِ في المادّةِ، وهذا التّفكيرُ في المادّةِ كونُهُ هروبًا منَ التّفكيرِ الطبيعيِّ والحتميِّ، يجرُّهُمْ إلى السّقمِ في التّفكيرِ. فالمادّةُ تَخضعُ للمُختبرِ، لكنَّ الإنسانَ والكونَ والحياةَ لا تَخضعُ للمُختبرِ، والتّساؤلاتُ التي تَرِدُ تحتاجُ إلى تفكيرٍ عقليٍّ، وَهُمْ ينتقلُونَ إلى التّفكيرِ العلميّ، لذلكَ يستحيلُ أنْ يأتُوا بالحلِّ الصّحيحِ وبذلكَ يأتُونَ بالحلِّ المغلوطِ. فيحلُّونَ العُقدةَ الكُبرى، ولكنْ حلًّا خاطئًا لا تتجاوب مَعَهُ الفِطرةُ، ومِنْ هُنا يظلُّ هذا الحلُّ حلًّا لأفرادٍ لا حلًّا لشعبٍ أوْ أُمّةٍ. فيبقى الشّعبُ أوِ الأمّةُ من دونِ أنْ تُحَلَّ لَدَيْها العُقدةُ الكُبرى حلًّا يتجاوبُ مَعَ فِطرتِها. وتظلُّ التّساؤلاتُ تُلاحقُ النّاسَ، وحتّى تُلاحقُ كثيرًا منَ الأفرادِ الذينَ ارتَضَوْا هذا الحلَّ.
أمّا الذين يَرَوْنَ أنَّ هذهِ العُقدةَ الكُبرى فرديّةٌ، وَلا تعني الشّعبَ بِصفتِه شعبًا، وَلا تعني الأمّةَ بِصفتِها أمّةً، وَلا دخلَ لها في أمورِ العيشِ، فإنّهم يهربُونَ مِنْ حلِّ العُقدةِ الكُبرى، ويتركُونَ الأفرادَ وشأنَهُمْ، والشّعبَ وشأنَهُ، أوِ الأمّةَ وشأنَها، لذلكَ تظلُّ العُقدةُ الكُبرى تُلاحِقُ الأفرادَ، وتلاحقُ الشّعبَ أوِ الأمّةَ، وتزعجُ الأفرادَ والجماعاتِ، ويعيشُ الجميعُ في حالةِ اطمئنانٍ كاذبٍ لحلِّ هذهِ العقدةِ الكُبرى، لأنّها في الحقيقةِ ظلَّتْ من دونِ حلٍّ، وظلَّ الإزعاجُ النفسيُّ أو الفطريُّ مُسيطرًا على الأفرادِ وعلى الشّعبِ أوِ الأمّةِ.
والحقيقةُ أنَّ مسألةَ حلِّ العُقدةِ الكُبرى فيها ناحيتانِ: إحداهُما النّاحيةُ العقليّةُ، أي المتعلّقةُ بالعقلِ، أيْ في التّفكيرِ نفسِهِ الذي يجري. والثّانيةُ متعلّقةٌ بالطّاقةِ الحيويّة التي في الإنسانِ، أيْ بما يتطلّبُ الإشباعَ، فالتّفكيرُ يجبُ أنْ يتوصّلَ إلى إشباعِ الطّاقةِ الحيويّةِ بالفكرِ. وإشباعُ الطّاقةِ الحيويّةِ بالفكر، يجبُ أنْ يأتيَ عن طريقِ التّفكيرِ. أي يجبُ أنْ يأتيَ عَنْ نقلِ الواقعِ بوساطةِ الحواسِّ إلى الدّماغِ. فإذا جاءَ الإشباعُ بالتخيّلاتِ أو الفُروضِ، أو بغيرِ ما هُوَ واقعٌ محسوسٌ، فإنَّ الطّمأنينةَ لا تحصلُ، والحلَّ لا يُوجَدُ. وإذا جاءَ التّفكيرُ بما لا يُوجِدُ الإشباعَ، أي بما لا يتّفقُ مَعَ الفِطرةِ، فإنّهُ يكونُ مجرّدَ فروضٍ أومجرّدَ إحساسٍ، فلا يُوصِلُ إلى حلٍّ تطمئنُّ إليهِ النّفسُ، ويوجِدُ الإشباعَ.
فحتّى يكونَ الحلُّ حلًّا صحيحًا للعُقدةِ الكُبرى، يجبُ أنْ يكونَ نتيجةَ تفكيرٍ بحسَبِ الطّريقةِ العقليّةِ، وأن يُشبِـعَ الطّاقةَ الحيويّةَ، وأنْ يكونَ جازمًا بحيثُ لا يترك مجالًا لعودةِ التّساؤلاتِ. وبهذا يُوجَدُ الحلُّ الصّحيحُ. ويُوجدُ الاطمئنانُ الدّائمُ لهذَا الحلِّ. ومِنْ هنا كانَ مِنْ أهمِّ أنواعِ التّفكيرِ، التّفكيرُ بالكونِ والإنسانِ والحياةِ، أي التّفكيرُ بحلِّ العُقدةِ الكُبرى حلًّا يتجاوبُ مَعَ الفطرة، أي يحصلُ بهِ إشباعُ الطّاقةِ الحيويّةِ، ويكونُ جازمًا يَحُولُ دونَ رجوعِ هذهِ التّساؤلاتِ.
نَعَمْ إنَّ محاولةَ الطّاقةِ الحيويّةِ إشباعَ ما يتطلبُ الإشباعَ، قَدْ تُرْشِدُ إلى حلِّ العُقدةِ الكُبرى، فإنّ الشُّعورَ لدى الإنسانِ بالعجزِ والحاجةِ إلى قوةٍ تعينُهُ قد يؤدّي إلى حلِّ هذهِ العُقدةِ، وَيُمْلي أجوبةَ التساؤلاتِ. لكنَّ هذا الطّريقَ غيرُ مأمونِ العواقبِ، وغير مُوصلٍ إلى تركيزٍ إذا تُركَ وَحْدَهُ، فغريزةُ التّديّنِ قد تُوجِدُ في الدّماغِ تخيّلاتٍ أوْ فروضًا لا تَمُتُّ إلى الحقيقةِ بِصِلَةٍ. وَهِيَ وَإنْ أشبعتِ الطّاقَةَ الحيويّةَ، لكنّها قد تُشبِعُها إشباعًا شاذًّا كعبادةِ الأصنامِ، أوْ تُشبِعُها إشباعًا خاطئًا كتقديسِ الأولياءِ. لذلكَ لا يصحُّ أنْ يُتْرَكَ للطّاقَةِ الحيويّةِ، أنْ تحلَّ العُقدةَ الكُبرى وتُجيبَ عن التّساؤلاتِ بَلْ لا بدَّ من أنْ يجريَ التّفكيرُ في الإنسانِ والكونِ والحياةِ للإجابةِ عن التّساؤلاتِ. إلّا إنَّ هذهِ الإجابةَ يجبُ أنْ تتجاوبَ معَ الفطرةِ، أيْ يجبُ أنْ يتمَّ بها إشباعُ الطّاقةِ الحيويّةِ وأن تكونَ بشكلٍ جازمٍ لا يتطرقُ إليهِ شكٌّ. وإذا حصلَ هذا الحلُّ بالتّفكيرِ الذي تتجاوبُ مَعَهُ الفِطرةُ، فإنّهُ حينئذٍ يكونُ حلًّا يملأُ العقلَ قناعةً والقلبَ طمأنينةً ويُشبعُ الطّاقة الحيويّةَ بشكلٍ جازمٍ لا يتطرَّقُ إليهِ شكٌّ، والتّفكيرُ الذي تتجاوبُ مَعَهُ الفِطرَةُ والحلُّ الذي يملأُ العقلَ قناعةً والقلبَ طمأنينةً لا يكونُ إلَّا عَنْ طريقِ الفكرِ المستنيرِ.


مقدمة الكتاب
القسمُ الأوّل
القِسم الثاني
القِسم الثالِث
القسم الرابع
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢