نبذة عن حياة الكاتب
الإسلام وإيْديُولوُجيَّة الإنْسان
الطبعة : الطبعة الرابعة
المؤلف : سميح عاطف الزين
فئة الكتاب : فكر معاصر
عدد الصفحات : ٣٦٢
تاريخ النشر : ١٩٨٩
الفهرس (اضغط على الرابط للقراءة)

المقَـدّمـة
المَبْدأ
التَخطيط وَالتنمية الاقتصَاديّة وتوجيههما المتعَمد
مشَاريع الإنتَاج أي التنميَة الإقتصاديَّة
العَدالة الإجتماعيّة
المجْتمع
المجْتمع الإسْلامي في المدينة
النظام الإجتماعي في الإسْلام
الإنسَان هُو المَرأة والرجل
الأخلاق
علوم النفسِ والاجتماع والتربيَة
سياسة التعْليم
الأشيَاء وَالأفعَال
الشركاتُ الرأسماليّة
التَأمين
الجمْعيّات التعاونية
المصَارف «البنوك»
الرِّبَا
الرِّبَا والصّرفْ
النقود
نظَامُ الذهَب
الشركاتُ في الإسْلام
الحوالة
الرهنْ
الرشوة والهَديّة
البَيْع
التسعير
الاحتكار
التجارة الخارجيّة
السيَاسَة الصناعيّة
أخْطار القروض الأجْنبيَّة
الحركة العمّاليّة وسَبب قيامها في العَالم
البورْصَة
التّضَخُم المَاليْ
الحاكمْ
نظام الحكم في الإسلام
الإسْلامُ يسَاوي بين جَميع المَواطنين
الدسْتور وَالقَانون
العمَل برأي الأكثرية ومَتى يجوز
الإقتصَاد في الإسلام
الصناعة
التجارة
الجهْد الإنسَاني
النظام الإسْلاميّ وحده الذي يضمن الحاجات الأساسيّة
الخاتمَة

النظام الإسْلاميّ وحده الذي يضمن الحاجات الأساسيّة
إن الأساس في السياسةِ الاقتصادية في النظامِ الرأسماليّ، يقوم على زيادةِ الدخلِ القومي. ولما ظهرت المساوئُ من جرّاءِ تطبيقِ هذا النظام، وُضِعَتْ بعضُ الأحكام للعمال والموظّفينِ والفقراء المحرومين، لتخفيفِ شيء من الظلمِ الواقعِ بهم. فالضمانةُ فيه ليست أساسًا في النظامِ ولا أمرًا جوهريًا فيه، بل هي أحكام طارئة أُدخِلَت عليه.
وهذا بخلاف الاشتراكية، ومنها اشتراكيةُ ماركس، فإن الضمانَ فيها محاولةٌ لإيجاد المساواةِ في الملكيةِ، وبمنع ملكية كل ما يُنتِجُ، وحصر الملكية بما يُستهلكَ فقط، وتوجيه عنايتها للعمال بشكل خاص. وقد أدّى عدم عنايتها بضمان الحاجات الأساسية إلى انخفاض مستوى المعيشة عند كل الشعب بشكل هائل في جميع البلدان التي تطبق فيها الاشتراكية، ما جعل الأكثرية الساحقة من الشعب لا تشبع حاجاتها إلا إشباعًا جزئيًا. وقد اعترف بذلك خروشوف رئيس وزراء روسيا أكثر من مرة، حتى أنه افتخر أمام نيكسون، نائب رئيس الولايات المتحدة السابق ورئيسها فيما بعد، حين زار روسيا سنة 1959 بأن روسيا ستصلُ إلى مستوى أميريكا في العيش بعد عشرين عامًا. ومن هنا نرى أن المساواة هي الأساس في نظرهم.
ضمانة الإسلام للحاجات الأساسية:
أمَّا الإسلامُ فإنه رأى أن إباحة الملكية وإباحةَ العمل في مصادر الاقتصاد الأربعة، وإن كانتا تحققان تمكين كلِّ فرد من أفراد الرَّعية من إشباع حاجاته الضرورية الأساسية على أكبر قدر مستطاع، إلَّا أن هذا وحده لا يُحقق ضمان إشباع جميع حاجاته الكمالية إشباعًا كليًا، وتاليًا لا يحقق سياسة الاقتصاد كلها.
نعم إنّه يحقق تمكين كل فرد، ولكن ليس كلّ فرد يستطيع تحقيق ضمان جميع حاجاته كما هي سُنّة الحياة في الخلق، إذ فيهم القوي والضعيف، والصحيحُ والمريض، والقادرُ والعاجزُ وما إلى ذلك. وهو لم يحقق أيضًا توزيع ثروة البلاد على جميع أفراد الرعية فردًا فردًا، بحيث يضمن إشباع جميع الحاجات الأساسية لجميع أفراد الرعية فردًا فردًا إشباعًا كليًا، ويضمن تمكين كل فرد من إشباع حاجاته الكمالية على أكبر قدر مستطاع، لأن إباحة الملكية، وإباحة العمل في مصادر الاقتصاد، لا تكفيان وحدهما لتحقيق هذه السياسة الاقتصادية، إذ إن هذه الإباحة إنما تمكِّن الأقوياءَ من الملكية والعمل كما قدَّمنا، وأما الضعفاءُ والعاجزون فإنهم لا يتمكَّنون بالإباحة وحدها من نيل جميع حاجاتهم الأساسية، والتوصل إلى تحقيق جميع لوازمهم الضرورية.
ومن أجل ذلك وضع المشرِّع الأقدس أحكامًا شرعية أخرى، علاوةً على أحكام إباحة الملكية وإباحة العمل، تضمن تغطية جميع الحاجات الأساسية لكل فرد من أفراد الرعية تغطيةً تامة، بحيث لا يشكو أحد من جوع، ولا يتأذّى أحدٌ من عُري، ولا يستكَّع أحدٌ في الشوارع يستجدي المارَّة ويطلب الصدقة.
وبذلك ضَمِن الإسلامُ توزيع الثروة على جميع أفراد الرعية فردًا فردًا، وفرض ذلك فرضًا، وجعله حقًا يطالبُ به من كان يثبت عنده، بحيث يتسنى التوزيع العادلُ لإشباع جميع الحاجات الأساسية إشباعًا كليًّا، إلى جانب تمكين كلِّ فرد من أفراد الرعية من التمتع بالأشياء الكمالية في الحياة على أكبر قدر مستطاع... فالإسلام لم يجعل ضمانة الحاجات الأساسية ترقيعًا للنظام، ولا جعلها تسدُّ ثغرات معينة، ولا خصَّ بها فئاتٍ معينةً كما فعلت الرأسمالية واشتراكية الدولة، وإنما جعلها أحكامًا من أحكام النظام. فأحكام إباحة الملكية وإباحة العمل، وأحكام النفقة، وأحكام رعاية الشؤون كلها، أحكامٌ شرعية متساوية في التشريع والأدلة. فالعملُ حرٌ ومباح، والكسب على أرفع مستوى مباح، كما أن الإنفاق في السبل المشروعة متوجِّبٌ على القادرين، مفروضٌ عليهم بأحكام النظام بعينه ونَصِّه.
والنظام الاقتصادي في الإسلام يتكوَّن من هذه كلِّها، وقد جاء بها الكتاب والسنة اللَّذان عالجَا كلَّ حالة دون أن يتركا محلًا لثغرات معينة، وجعلا ذلك لجميع الرَّعية لا لفئات خاصة... فهناك إذًا بونٌ شاسعٌ بينه وبين الرأسمالية، وبينه وبين الاشتراكية، لأنه عرف الداءَ وأعطى الدَّواء... كيف لا وهو نظامٌ أنزله رب السماء ليكون صالحًا لكل عصر، وفي كل مصر، ما دامت السماوات والأرض...
ثم إنه لم يجعل المساواة في ملكية أدوات الإنتاج أساس ضمانة العيش للناس كما فعلت الاشتراكية الشيوعية، لأن هذا يؤدي إلى تخفيض مستوى العيش لا إلى ضمانته. وإنما أباح الإسلام الملكية، وأباح العمل، وضَمِن العيش الكامل ضمانًا مقطوعًا به لكل فرد وفي جميع الحالات. وذلك مما لا يمكن أن يصل إليه أي نظام غير نظام الإسلام الذي ضمنَ الحاجات الأساسية للفرد، وضمن الحاجات الأساسية للرَّعية كلِّها.
أما ما هي هذه الحاجاتُ الأساسية، فإنها في نظر الشرع الإسلامي قسمان:
أحدهما: الحاجات الأساسية لكل فرد من أفراد الرعية بذاته.
والثاني: الحاجات الأساسية للرعية كلها.
أمَّا الحاجاتُ الأساسية لكلِّ فردٍ فهي الطعامُ واللباسُ والمأوى، أو بتعبير آخر هي المأكلُ والملبسُ والمسكن.
فهذه الثلاثُ هي الحاجات الأساسية لكل فرد، ولا يستطيع أي إنسان أن يستغنيَ عن واحدةٍ منها، ولذلك كان تأمينها حقًّا لكل إنسان، يأخذه بوصفه حقًّا من حقوقه التي يجب أن يصل إليها. وهذه الحاجات الأساسية، إذا نظرنا إليها بعين العدل والإنصاف، هي المشكلة الأساسية في العالم، وتوفيرها هو الذي يعالج هذه المشكلة ويساعد في حلِّ غيرها من المشاكل. بل إنها إذا توفَّرت لكلِّ فرد، لم تبق هناك مشكلة أساسية.
وقد حدَّد الإسلامُ الحاجاتِ الأساسيةَ بهذه الثلاث في نصوص صريحة واضحة، وضَمِنَ تأمين جميع هذه الحاجات الأساسية لأفراد الرعية كافةً فردًا فردًا، ضمانًا قطعيًا في نصوصه الصريحة أيضًا، ثم ضمنَ أن يكون هذا التأمين كليًا في نصوصه الصريحة كذلك.
أما الدليل على أن هذه هي الحاجات الأساسية، فهو أن النصوص التي جاءت إنما جاءت في المأكل والملبس والمسكن. فالله تعالى يقول: {وَعلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ} (سورة البقرة: الآية 233). ويقول: {وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ} (سورة النساء: الآية 5). ويقول: {وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} (سورة الحج: الآية 28). ويقول: {فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} (سورة البقرة: الآية 184). ويقول: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم} (سورة الطلاق: الآية 6).
والرسول صلى الله عليه وآله وسلم يقول: «ولهنَّ عليكُم رزقُهن وكسوتُهن» ويقول: «وحقُّهنَّ أن تحسنوا إليهنَّ في كِسْوتهنَّ وطعامهنَّ» ويقول: «مَنْ أصبحَ آمِنًا في سرْبه، معافًى في بدَنِه، عندَهُ قوتُ يومه، فكأنما زُويَتْ لَه الدُّنيا بحذَافيرها » ويقول: «ليسَ لابن آدم إلَّا كسرْةُ خُبزٍ يَسُدُّ بها جَوعتَه، وشربة ماء يُطْفئُ بها ظَمَأه، وقِطْعة سِتْر يَستُر بها عَورتَه، وما زادَ على ذلك فهو فَضْل».
فهذه النصوص تدلُّ دلالةً صريحةً وواضحةً على أن الحاجات الأساسية هي المأكل والملبس والمسكن، وما زاد عليها فهو من الحاجات الكمالية...
وأما الدليل على أن الإسلام قد ضمن تغطية هذه الحاجات الأساسية لجميع أفراد الرعية فردًا فردًا ضمانًا قطعيًّا، فهو أنه جعلَ العملَ فرضًا على القادر من الذُّكور إذا كان ينقصه شيء من هذه الحاجات الأساسية، أي إذا كان محتاجًا للنفقة. قال الله تعالى: {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا} (سورة الملك: الآية 15).
وعن الزبير بن العوَّام عن النبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم قال: «لأنْ يأخذَ أحدُكم حَبْلَهُ فيأتي بحُزمة حطَب على ظَهره فيبيعها فيكفَّ الله بها وجهَه خيرٌ له من أنْ يسألَ الناسَ أعطَوه أو مَنعُوه» وكلمةُ: خير، هنا ليست بمعنى أفعل التفضيل، إذ لا خير في السؤال مع القدرة على الاكتساب، وإنما هي هنا من قبيل الثَّناء والمدح والحثُّ على العمل والكسب. فكل من كان قادرًا على العمل وكان محتاجًا للنفقة يجب عليه أن يعمل لينفق على نفسه. وهذا الفرضُ الواجبُ على القادر من الذُّكور، المحتاج للنفقة، ضمانةٌ له، ووسيلة عظيمة لتأمين حاجاته الأساسية.
وإلى جانب ذلك فرضَ الإسلامُ النفقةَ للأنثى مطلقًا إذا كانت فقيرةً، سواء أكانت قادرةً على الكسب أم عاجزة عنه. فإنه لم يوجب عليها عملًا وكسبًا بل فرض لها النفقة مطلقًا. وفرضها كذلك للعاجزين من الذُّكور، فقراءَ كانوا أو عاجزين عن الكسب فعلًا، وذلك كمن يكون غير قادر على العمل، أو يكون عاجزًا حكمًا كمن هو قادرٌ ولكنه لا يجد العمل الذي يستطيع القيام به. فكل منهما عاجز تجب له النفقة.
أما مَنِ الَّذي يقومُ بالإنفاق، أي مَن الذي يقوم بتأمين جميع هذه الحاجات الأساسية من المأكل إلى الملبس فالمسكن، فهذا قد عيّنه الشرعُ تعيينًا واضحًا بأدلَّة، منها صريح الدلالة ومنها ما استُنبِطَ استنباطًا، ونصَّ في تعيينه هذا على أن الإنفاق الواجب هو ما كان على هذه الحاجات الثلاث.
وقد فرض الإسلام النفقةَ للزوجة على الزَّوج وبين أنها المأكل والملبس والمسكن، قال تعالى: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم مِّن وُجْدِكُمْ} (سورة الطلاق: الآية 6). ثم قال بعد ذلك: {لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ} (سورة الطلاق: الآية 7). وقال تعالى: {قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ} (سورة الأحزاب: الآية 50).
وقال صلى الله عليه وآله وسلم: «وَلَهُنَّ عليْكُم رزْقُهُنَّ وكسْوتُهُنَّ». وقال عليه الصلاةُ والسلامُ: «وحَقُّهُنَّ عَليْكُم أنْ تُحْسِنُوا لهُنَّ في كِسْوَتِهنَّ وطَعَامِهنَّ». فهذه النصوصُ صريحةٌ في وجوب النفقة للزوجة على الزَّوج، وصريحةٌ في أن النفقةَ الواجبةَ هي المأكلُ والملبسُ والمسكن «أسْكِنوهنَّ، كِسْوتُهنَّ، وَطَعامُهُنَّ». ثم فرضَ النفقةَ للأولاد على أبيهم، قال الله تعالى: {وَعلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ} (سورة البقرة: الآية 233).
فهذه النصوصُ صريحةٌ في وُجوب النفقة للأولاد على أبيهم. والنفقة الشرعية للأولاد هي المأكل والملبس والمسكن كما أوردْنا بشأن نفقة الزوجة.
وفرضَ النفقةَ للأب والأم على أولادهما، قال الله تعالى: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} (سورة البقرة: الآية 83).
وروي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: «إنَّ أطيبَ ما أكلَ الرجلُ من كَسبه، وإنَّ ولده من كَسبهِ». وقال النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم: لرجل سأله من أَبَرُّ؟ قال: «أُمَّك ثم أُمَّك ثم أباك، ثم الأقرب فالأقرب». فالنفقة تدخل في قوله: {إِحْسَاناً} لأن من الإحسان الإنفاق عليهما عند حاجتهما، وقوله: «إن أطيبَ ما أكلَ» قد ذكر فيه الأكل ويراد به جميع النفقةِ من باب الاكتفاء. وهذا من قبيل ذِكْرِ شيء واحد من الأشياء المعروفة، والمرادُ جميعُها. أي أن أطيب ما أنفق الرجل من كسبه، وإنَّ ولدَهُ من كَسبه، فهو دليل على وجوب النفقة للأبوين.
فهذه النصوص تدل على أن النفقة للأبوين واجبة على أولادهما، والنفقةُ الشرعية هي المأكل والملبس والمسكن.
ثم فرضَ النفقةَ على القريب ذي الرَّحِم المحرم لقريبه، قال تعالى: {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} (سورة البقرة: الآية 233) بعد قوله: {وَعلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} (سورة البقرة: الآية 23).
ورُوي «أن الرسولَ صلى الله عليه وآله وسلم قال لرجل سأله: عندي دينار، فقال: أنفِقْه على نَفسك. فقال: عندي آخر: قال: أنفِقْه على أهلِك. قال: عندي آخر: فقال: أنفِقْه على خادِمك». وقال صلى الله عليه وآله وسلم: «وابدأْ بمن تَعول: أُمَّك وأباك، وأُختَك وأخاك، ثم أدناك أدناك». وهو يَعني النفقة أبدًا، لأن الكلامَ في الإنفاق.
وعن ابن حكيم عن أبيه عن جدِّه قال: «قلتُ يا رسول الله من أَبَرُّ؟ قال: أُمَّك، قلت: ثم مَن؟ قال: أُمَّك، قلت: يا رسولَ الله ثم مَن؟ قال: أُمَّك، قلت: ثم مَن؟ قال: أباك، ثم الأقرب فالأقرب». وعن المقدام بن معد يكرب قال: سمعتُ النبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم يقولُ: «إنَّ الله يُوصيكُم بأمَّهاتِكم ثم يُوصيكُم بآبائِكم ثم الأقرب فالأقرب». وعن كليب بن منفعة عن جدِّه «أنه أتى النبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا رسول الله من أَبَرُّ؟ قال: أمَّك وأباك، وأُختك وأخاك، ومولاك الذي يلي، ذاك حقٌّ واجبٌ ورحمٌ موصولة» أي أن تكونَ الرَّحِمُ موجودةً في جميع المذكورين.
فمنْ هذه النصوصُ يُعْلم أن نفقة القريب واجبة على قريبه ذي الرحم المحرم، لأن دليل وجوبها واضح في آية الوارث ووجوب النفقة.
وفي الحديث النبويِّ قال: «أنفِقْه على أهلك». وكلمة «أهل» يدخل فيها القريب المحرم، بدليل قوله تعالى: {إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي} (سورة هود: الآية 45)، وقوله: {وَزِيراً مِّنْ أَهْلِي} (سورة طه: الآية 29)، وقوله: {نَجِّنِي وَأَهْلِي} (سورة الشعراء: الآية 169) وقوله: {فَابْعَثُواْ حَكَماً مِّنْ أَهْلِهِ} (سورة النساء: الآية 35)، وقوله: {وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} (سورة النساء: الآية 92). فيكون معنى: أنفِقْهُ عَلَى أهْلِك، أي على أقاربك. وقال: «ثم أدناك أدناك» وأدْنَى يَعْني: أقرب. فهو مثلُ قوله في الحديثَين الآخَرين: «ثم الأقربَ فالأقرب». والمراد من ذلك الأقارب وذوو الرَّحِم.
وفي سؤاله: «من أبرّ» تَردُ النفقة لأنها تَدخل في البر. ثم قال: «يُوصيكُم»، والنفقةُ تدخل في مثل هذا التعبير من يوصيكم. وقال: «بمن تَعُول»، والنفقةُ تَدخل في الإعالة، بل هي الإعالة. وقال: «ورَحِم مَوصولة». وحين قال: «الأقرب فالأقرب» عَنَى أن القرابة المعتبرة هي قرابة ذي الرحم المحرم. فتكون هذه النصوص، مجتمعةً ومنفردةً، دليلًا شرعيًا على وجوب نفقة القريب على قريبه ذي الرحم المحرم كما ترى... والنفقة شرعًا هي المأكل والملبس والمسكن كما سبق وقلنا.
وهذه النفقة تحصِّلها الدولةُ جبرًا ممَّن فُرضت عليه، وتُعتبر مقدَّمةً على سائر الديون. فلو حُكم على رجلٍ بدَين مستحقٍّ عليه لآخر، ثم حُكم عليه بنفقة، يُقدَّم تحصيلُ النفقة على تحصيل الدَّين، فتحصَّل النفقةُ أولًا، فإن بقي لدى الرجل مالٌ حُصِّل الدَّينُ منه وإلَّا صُرف ماله للنفقة وأُجِّل الدين. وذلك لأن الله أمر بإنظار المعْسرِ فقال: {وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} (سورة البقرة: الآية 280). ولكنه أمر بدفع النفقة ولم يُنْظِرْ فيها ما دامت قد فُرضت. فحكمُ النفقة أن تحَصَّل ولا تُقبل فيها دعوى الإعسار، بينما نجد أن حكمَ الدَّيْن تُقبل فيه دعوى الإعسار ويُنْظَر صاحبه إلى مَيْسرَة.
ومن وجبت عليه نفقةُ امرأته، وكان له عليها دَين فأراد أن يحتسب عليها نفقتها في مقابل دينه، فإن كانت موسِرةً فَلَهُ ذلك إذا وافقت هي ورضيت أن يحتسبَ الدَّيْن، لأنّ مَنْ عليه حقٌّ فلَهُ أن يقضيه من أيِّ أمواله شاء، وهذا الدَّينُ من ماله. أما إذا كانت مُعْسرةً فليس له ذلك، لأن قضاء الدين إنما يجب في الفاضل من قوت الإنسان وقوت من يعوله، وهذا لا يفضل عنها، ولأن الله تعالى أمر بإنظار المعسرِ بقوله: {فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ}. فيجب إنظارُها بما عليها وتأديَةُ نفقتها إليها...
اما إن كان من وجبتْ عليه نفقته غيرَ امرأته، بأن كان ابنَه أو أباه أو أخاه أو أيَّ وارث، فإنه إن كان لمنْ وجبت عليه النفقة دَين على من وجبتْ له وأراد أن يحتسب عليه بدَينه مكان نفقته، فإنه ليس له ذلك، لأنه لا تجب النفقة لغير الزوجة، إلا في حال عدم الغنى لأن صريح الآية الكريمة يدلّ عليه: {وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ}. فَيُجْبَرُ على إعطاء النفقة، ويُجْبَرُ على إنظار من له النفقة بما لَه عليه من دَين. وهذا يبين إلى أيِّ مدًى كان الشرع حريصًا على ضمان النفقة، أي على ضمان تأمين الحاجات الأساسية الضرورية.
وبضمان النفقة للزوجة والأبوين والأبناء وكل ذي رحم محرم قد ضمن النظام في الدين الإسلاميِّ تأمين جميع الحاجات الأساسية لجميع أفراد الرعية، إلَّا من لا يوجد له رَحِمٌ محرمٌ تجب نفقتُه عليه، وإلَّا إذا عجز هؤلاء عن الإنفاق.
وهاتان الحالتان قد احتاط الشرع لهما، وشرع لهما أحكامًا معينة محددة. ففي حال عدم وجود أحد ممن تجب عليه النفقة، أو وجد ولكنه لا يستطيع الإنفاق، أوجب الشرع النفقة على بيت المال أي على الدولة.
قال رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم: «مَنْ تَرَكَ كَلًّا فَإلينا. ومَنْ تَرَكَ مالًا فَلِوَرَثَتِه»، وَالكَلُّ الضَّعيف الذي لا ولَدَ له ولا وَالِد. وقال: «فأيما مؤمن مات وتَرك مالًا فلْيرثه عصبَتُه من كانوا، ومن تَرَك دَيْنًا أو ضياعًا فلْيَأْتِني فأنا مولاه». والضياع هنا العيال. فكأنها مخلوقاتٌ ضائعةٌ بعد موت مولاها الذي كان ينفق عليها. أو هو وصفٌ لمن خلَّفَهُ الميتُ بلفظ المصدر، أي ترك ذَوي ضياع أي لا شيء لهم. وهذا أيضًا بمعنى: ضائعين. ففي هذا دليلٌ واضحٌ على أن النفقة واجبة على الدولة.
وهذه النفقة ليست في وجوبها على الدولة كباقي ما يجب عليها من صرف أموال. بل الصرف لها مقدَّم على كل صرف، وهي مستحقةٌ على بيت المال في حال الوجود والعدم، أي إن وُجد فيه مال أم لم يوجد. فإن وُجد فيه مال صرف للنفقات، وإن لم يوجد فيه مال وجب على الدَّولة أن تفرض ضرائب على المسلمين وتحصِّلها منهم بالقوة كسائر الضرائب لتقوم بصرفها للنفقات، لأن النفقة مما يجب على بيت المال ومما يجب على المسلمين في آن واحد.
أما وجوبها على بيت المال فظاهر من الحديثَين السابقين. وأما وجوبها على المسلمين فَلِقَولِ الرَّسولِ صلى الله عليه وآله وسلم: «أيما أهل عرصة أصبح فيهم امرؤٌ جائعًا فقد برئت منهم ذِمَّةُ الله تبارك وتعالى». وهو إخبارٌ يتضمن الطَّلب مقرونًا بالذَّم. ولذا كان طلبًا جازمًا ودلَّ على أنه فرض على المسلمين. ولذلك وجب على الخليفة ـــــــ إن لم يوجد في بيت المال مال للصرف لمن تجب لهم النفقة ـــــــ أن يفرض الضرائب ويحَصِّلَها ويقومَ بصرف النفقة الواجبة لجميع المحتاجين.
وإذا خِيفَ الضررُ من انتظار فرض الضرائب وتحصيلها، وجبَ على الدولة أن تقترض مالًا للصرف لمن يُخْشَى عليهم الضررُ ممن وجبت لهم عليها النفقة، لأن إزالة الضرر عن الناس فرضٌ. فقد رُويَ عن ابن عباس أنه قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم: «لا ضَرَرَ وَلَا ضِرَار». وكذلك رُوِيَ أنّه صلى الله عليه وآله وسلم قال: «مَنْ ضَارَّ أضرَّ اللهُ بِهِ، وَمَنْ شَاقَّ شَاقَّ اللهُ عَلَيْهِ». والذي يُزيل الضررَ عمَّن وجبت لهم النفقة هو التعجيل بدفعها لهم، ولهذا وجب على الدولة أن تقترض من أغنياء رعيتها ومن مؤسساتهم وغيرها، لتعجِّل بدفعها لأصحابها. وهذا يبين إلى أيِّ مدىً يحرص الشرعُ الإسلاميُّ على ضمان صرف النفقة من قِبَل الدَّولة إذ جعلها من ألزَم ما يجب عليها صرفه، واحتاط لذلك كل الاحتياط.
ولا يقال إن الشرعَ لم يوجب النفقة على الدولة إلّا في حال عدم استطاعة الأقارب دفع النفقة. وقد ألزَم الأقاربَ القادرين أولًا بدفعها ولكنه لم يوجبها على الموسرين إلَّا لذوي الرَّحم المحرم، واستثنى ذوي القربى الأبعدين، لأن ذلك يُفْقِرُ الموسرين حين يقتسم الأقارب ما لديهم من مال بينهم وبين قريبهم، ويؤدِّي إلى انخفاض مستوى المعيشة عند الجميع.
لا يقال ذلك لأن النفقة لم يوجبها الشرع على القريب إلَّا إذا كان لديه ما يفضلُ عن حاجاته الأساسية وحاجاته الكمالية، ولذوي الرحم دون غيرهم.
أما مَن كان لا يوجد لديه ما يفضُل عن حاجاته الكمالية فلا تجب عليه النفقة، لأنها لا تجب إلَّا على القادر على دفعها. والقادر شرعًا هو مَن كان لديه مال يفضُل عن حاجاته الأساسية وحاجاته الكمالية، حسب ما هو معروف لمثله في مجتمعه الذي يعيش فيه من مأكل وملبس ومسكن وزواج وخادم، وما يركبه لقضاء حاجاته. وقد قال النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم: «خيرُ الصَّدَقة ما كانَ عن ظَهْرِ غِنى». وعن حكيم بن حزام رضي الله عنه عن النبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم قال: «اليدُ العُليا خيرٌ من اليد السُّفْلى وابدأْ بِمنْ تَعول، وخيرُ الصَّدقَة ما كان عن ظَهْرِ غِنى». والصدقة والنفقة سواء، والصدقة إنما هي للنفقة. والغنى هنا ما يستغني عنه الإنسان مما هو زائدٌ على قدر كفايته بالمعروف في مجتمعه لتغطية جميع حاجاته الأساسية والكمالية.
وقال الله تعالى: {لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ} (سورة الطلاق: الآية 7). وقال الرَّسول صلى الله عليه وآله وسلم: «إذا كان أحدُكم فقيرًا فَلْيبدأْ بنفسِه، فإن فضل فعلى عياله، فإن كان فضلٌ فعلى قرابته». فالنفقة إنما هي من الفضل، ولا تجب إلَّا على من كان لديه فضلٌ عن حاجاته. أي من كان مُؤمِّنًا لحاجاته الضرورية والكمالية، ثم بقي لديه فضلٌ عن ذلك يدَّخره ويقتصده، لأنه لا يؤثر صرف المال منه على رفع مستوى معيشته عن مصافِّ أمثاله. فإذا لم يوجد فضلٌ عن الحاجات الكمالية، وجبت النفقة على الدولة كما قلنا، لا على القريب. ولذلك لا يَرِدُ الإفقارُ ولا انخفاض مستوى المعيشة في فرض النفقة على الأقارب من الفضل الذي يبقى عن الحاجات الكمالية.
ومن هذا كله يتبين أن الإسلام قد ضمن لجميع الرَّعية فردًا فردًا تأمين جميع حاجاتهم الأساسية بإيجاب النفقة على هذا الوجه، وجعل النفقة شاملةً للملبس والمأكل والمسكن، وهي الحاجات الأساسية التي لا غنى عنها لأحد.
أما الدليلُ على أنه ضَمِنَ أن يكون تأمينُ هذه الحاجات الأساسية تأمينًا كليًا، فإنه ظاهرٌ في أدلَّة النفقة. فالله تعالى يقول: {وَعلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} (سورة البقرة: الآية 233).
ومعنى بالمعروف هنا، هو ما عُرفَ عن نفقة مثلِه من مأكل وملبسٍ ومسكن لدى الناس. فلكلِّ نفس ما يكفيها ممَّا هو معروف عند الناس من كفايتها. وقال عليه الصلاة والسلام: «وَلَهُنَّ عَليكُم رزْقُهُنَّ وَكِسْوتُهُنَّ بالمعروف». وبذلك حدَّد الرزقَ والكسوةَ بأن يكونا حسب ما هو معروف في المجتمع بين الناس لأمثال واجبي النفقةِ. فهذا كله واضحٌ فيه أن المراد هو إشباع الحاجات الأساسية إشباعًا تامًّا، إذ أوجب المأكل والملبس والمسكن، ولم يَكْتَفِ بإطلاق إيجابها بل بيَّن أنها تجب بقدَر الكفاية، وبأنها تكون بما هو معروفٌ عند الناس في المجتمع. فاللهُ تعالى يقول في القرآن: {بِالْمَعْرُوفِ} والرسولُ صلى الله عليه وآله وسلم يقول في الحديث «بالمعروف».
وهذان دليلان، من القرآن والسنة، ظاهران على أن النفقة يجب أن تكون كافية للحاجات حسب المتعارف، وأن يكون تأمينها حسب مستوى معيشة الشح الذي فرضت له النفقة.
وهذا أيضًا ظاهرٌ في نفقة من يتولى مالَ اليتيم من مالِ اليتيم، فإن الشرع جعل له أن يأخذ للإنفاق على نفسه ـــــــ إذا كان محتاجًا ـــــــ ما يقوم بحاجاته الأساسية، فقال تعالى: {وَلاَ تَأْكُلُوهَا إِسْرَافاً وَبِدَاراً أَن يَكْبَرُواْ وَمَن كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَن كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} (سورة النساء: الآية 6) فقد جعل لكافلِ اليتيم القائم بشؤونه والمحافظ على ماله وإرثهِ، حقَّ الأكلِ، أي حقَّ الإنفاق على نفسه، بشرط أن يكون هذا الإنفاقُ حسب ما هو معروف من نفقته عند الناس في المجتمع، أي بقدَر كفايته بما عُرِفَ عند الناس من كفايةِ مثلِه.
وهذه كلُّها أدلّةٌ على أن النصوص الشرعية قد ضمنت توفير هذه الحاجات الأساسية: المأكل والملبس والمسكن، بالقدر الذي يغطِّي جميع هذه الحاجات في المستوى الذي عليه العُرْفُ العام في المجتمع.
ولذلك جعل من الطعام ما يَلزم له من أدوات حسب ما هو معروف عند الناس من أوانٍ وأدوات مطبخ بحسب الوسط الذي يعيش فيه، وما يَلزم لأدوات الطبخ من وقود وبترول أو غاز، وما يلزم لوضع الأدوات من خزائنِ صحون. وجعل من المسكن ما يلزم له من فراش وأثاث حسب ما هو معروف عند الناس. ومن خزائن وسرر وكراسي ومكاتب وطنافس وأرائك وستائر وغير ذلك بحسب الوسط الذي يعيش فيه. وجعل من الكسوة ما يلزم من اللِّباس اللائق بمثله، ومن أدوات الزينة وما يلزم لوضع هذه الأدوات واستعمالها من خزانة ومرآة وغير ذلك حسب ما هو معروف عند الناس بحسب الوسط الذي يعيش فيه. وجعل ما يلزم للمأكل والملبس والمسكن من خادم بحسب ما هو معروف في مجتمعه لأمثاله، وجُعلت نفقة الخادم أيضًا بحسب ما هو معروف على من تجب عليه النفقة لأن الخادمَ من النفقة.
فقد أخرج البخاري عن علي بن أبي طالب عليه السلام: «أنَّ فاطمة عليها السلام أتت النبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم تسأله خادمًا».
فنفقة الكفاية بالمعروف هي أن تُستكمل الأمور الثلاثة: الطعام والكسوة والمسكن بحسب ما هو معروف عند الناس في المجتمع الذي يعيش فيه من تجب له النفقة، استكمالًا يصل إلى درجة الكفاية، لأن كلمة «بالمعروف» قد كُرِّرَتْ في القرآن والحديث. وهذا دليل على أن توفير الحاجات الأساسية قد ضَمِنَهُ الشرعُ ضمانًا كليًا...
هذا من حيث ضمان الحاجات الأساسية لكل فرد بذاته.
أما من حيث ضمان الحاجات الأساسية للرَّعية كلها فإن الشرع جعلَ على الدولة مباشرةً ضمان توفير هذه الحاجات. قال صلى الله عليه وآله وسلم: «الإمامُ راعٍ، وهو مسؤولٌ عن رَعِيتِه». وبهذا القول جعلَ من المسؤولية توفيرَ الحاجات الأساسية للرَّعية كلِّها.
ومن الحاجات الأساسية التي أوجبها الشرعُ على الدَّول: الأمن، والتطبيب، والتعليم. قال عليه وعلى آله الصلاة والسلام: «من أصبح آمِنًا في سرْبِهِ، معافىً في بدنه، عندَه قوتُ يَومِه، فكأنما زُوِيَتْ لَهُ الدُّنيا». فقد جعل الأمن والصحة حاجات أساسيةً للإنسان. ثم جعلَ مثلَها القوتَ سواء بسواء.
وأما كون التعليم من الحاجات الأساسية، فقد جاءَ عن النبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم قوله: «مَثَلُ ما بَعثني اللهُ به من الهُدَى والعِلْم، كَمثَلِ الغَيث أصابَ أرضًا فكانَ منها نقبةٌ قَبِلَت الماءَ فنفع الله بها الناس فشربوا وسقَوا وزرعوا، وأصابَ منها طائفة أخرى إنما هي قيعانٌ لا تمسك ماءً ولا تُنبتُ كلأً. فذلك مثلُ من فُقِّهَ في دين الله ونفعه ما بَعثني اللهُ بهِ فَعَلِمَ وعلَّم، ومثلُ مَن لم يرفع بذلك رأسًا ولم يَقْبل هُدَى الله الذي أُرْسِلْتُ به». ففي هذا الحديث شبه الرسول صلى الله عليه وآله وسلم الهدى والعلم، في قبول الناس له أو رفضهم إياه، بالغيث في قبول الأرض له وانتفاعها به، أو عدم انتفاعها. والغيث من الحاجات الأساسية للناس فكذلك الهدى والعلم.
وهذا يدل على أن العلمَ من الحاجات الأساسية، يُؤَيِّدُهُ قولُ الرسول صلى الله عليه وآله وسلم. «مِنْ أشراطِ الساعةِ أن يُرْفَعَ العِلْمُ ويُبَثَّ الجهلُ»، فإنه يشير إلى أن فقدان العلمِ من علامةِ انتهاء عُمر هذه الدنيا. وهذا يدل أيضًا على أن العلم من الضروريات لاستمرار الحياة الكريمة الراقية.
وإنه وإن كان الحديث يتناول علوم الإسلام التي هي ضرورية لمعرفة الدين، فإن هذه العلوم ـــــــ هي ذاتها ـــــــ تلاحظ رفاهية الفرد وازدهار المجتمع، ومنعة الدولة. وعليها تقاس جميع العلوم الضرورية للناس بجامع الضرورة. فالطب والهندسة والرياضيات ومختلف العلوم الدنيوية هي ممًّا أمر به الإسلام وشدَّد عليه لضرورة قيام الحياة الحرة الكريمة، ولذا قال نبيُّنا صلى الله عليه وآله: «اطلب العلمَ من المهد إلى اللحد».
وهكذا يتبيّن أن الأمن والتطبيب والتعليم قد جعلها الشرع من الحاجات الأساسية.
وأما كونُ هذه الحاجات الأساسية واجبًا مفروضًا على الدولة، أن تقوم به، فظاهرٌ في الأدلة الواردة في ذلك.
فبالنسبة للأمنِ الخارجيِّ، وهو الدفاع عن البلاد، فإنه معروفٌ ومشهورٌ من فعلِ الرَّسول صلى الله عليه وآله وسلم في غزواته ومن آيات الجهاد. وبالنسبة للأمن الداخليِّ فهو معروفٌ أيضًا من فعل الرَّسول صلى الله عليه وآله وسلم، ومن أحكام العقوبات على المعتدين، ومن قوله عليه الصلاة والسلام: «ألَا إنَّ دِمَاءَكُم وأمْوالَكُم عَلَيْكُم حرَامٌ».
وبالنسبة للتعليم فقد انعقد إجماعُ الصحابة على إعطاء رزق المعلَمين قدرًا معينًا من بيت المال أجرًا لهم.
فقد روي عن طريق ابن أبي شيبة عن صدقة الدمشقي عن ابن عطاء أنه قال: «كان بالمدينة ثلاثةُ معلِّمين يعلِّمون الصبيان، فكان عمر يرزق كلَّ واحد منهم خمسةَ عشرَ كلَّ شهر». وفوق هذا وقبل هذا فإن الرَّسول صلى الله عليه وآله وسلم جعل فداء الأسير من أسرى بَدْرٍ تعليم عشرة من أبناء المسلمين، مما يدل على أن أجر التعليم واجبٌ على الدولة لأن فدية الأسير تُقَوَّمُ بالمال الكثير الذي تخلَّى عنه رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم في مقابل تعليم أبناء المسلمين.
وبالنسبة للتطبيب فإن الرسول قد أمر بالتداوي فقال صلى الله عليه وآله وسلم: «عَبَادَ الله: تَدَاوَوْا، فَإِنَّ الله لَمْ يَضَعْ دَاءً إلَّا وَضَعَ لَهُ شِفَاء أوْ دَوَاء». فهو من المباحات، وهو في الوقت ذاته شأن من شؤون الرَّعية واجبٌ على الدولة بنص الحديث. «الإمامُ راعٍ وهو مسؤولٌ عن رعيته».
فيكون توفيرُ التطبيب ـــــــ إذًا ـــــــ واجبًا على الدولة، لأن عدم توفير التداوي لمجموعة الناس يؤدي إلى الضرر. وإزالةُ الضرر واجبةٌ على الأفراد وعلى الدولة. وقد قال الرَّسول صلى الله عليه وآله وسلم: «لَا ضَرَرَ وَلا ضِرَارَ» فمن هذه الناحية أيضًا يكون التطبيب واجبًا على الدولة. وهو شأنٌ من الشؤون الواجب رعايتها، إذ في عدم توفير التطبيب ضررٌ بالغٌ بالناس، فهو من هاتين الناحيتين فرضٌ على الدَّولة.
وفوق هذا فإن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أُهْدِيَ إليه طبيبٌ فجعله للمسلمين. فكونُ الهدية للرسول، ولم يتصرف بها ولم يأخذها، بل جعلها للمسلمين، دليلٌ على أنه اعتبر هذه الهدية لعامة المسلمين، ليبين لنا أن تطبيب المسلمين واجبٌ على نبِّيهم وإمامهم...
فهذه الأمور الثلاثة: الأمن، والتعليم، والتطبيب، من الأمور الأساسية لجميع الناس، وتقع على الدولة مسؤوليةُ توفيرها لهم. وهي واجبة للفقير والغني على السواء، لأنها حاجة أساسية للناس، سائر الناس، ولأنه لم يرد أن المال الذي دفع للمعلمين كان لتعليم أولاد فقراء بل كان للتعليم عامَّةً، فهو عام يشمل الفقير والغني.
وكذلك الأمن شاملٌ لجميع الناس: الفقير والغنيِّ والقويِّ والضعيفِ. غير أن العلم والتطبيب بالخصوص، فإنهما وإن كان من الواجبِ على الدولة توفيرهما للجميع، إلّا أن ذلك لا يَمنع أحدًا من توفيرهما، مع الأمن، لنفسه في حال الاستطاعة. فإنه يجوز للشخص أن يقيم حارسًا خاصًا له ولبيته، كما يجوز له أن يأتي بمعلم لأولاده، وأن يتداوى عند طبيب خاص بأجره.
ويجوز للمعلم وللطبيب وللحارس أن يأخذوا أجرًا مشروعًا. أما جواز أخذ الحارس أجرة فظاهر، وأما جواز أخذ المعلم أجرة فَلِما رُوي عن النبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: «إن أَحَقَّ مَا أَخَذتُم عَلَيْهِ أجْرًا كِتَابُ الله». مما يدل على جواز أن يأخذ امرؤ أجره على توفير التعليم إذا كان العلم دينيًا، أو إذا كان دنيويًا راجحًا وضروريًا للحياة... وأما جواز أخذ الطبيب أجرةً فلما رُوي عن أنس أنه قال: «دَعَا النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم غلامًا فحجمه فأمر له بصاع أو بصاعين». وكانت الحِجامَةُ في ذلك الوقت من العلاجات التي يُتطبَّب بها. مما يدل على جواز دفع الأجرة على التطبيب وجواز أخذِها.
هذا هو الضمانُ التامُّ الذي حقّقه الإسلامُ بأحكامه التي شرعها لخير بني البشر جميعًا. وبه تحقّق ضمان الحاجات الأساسيّة للرعيّة بمجموعها ولأفراد المجتمع فردًا فردًا.
وهذه هي السياسةُ الاقتصاديةُ الثابتةُ الرشيدة في الإسلام.


المصادر
33 زُوِيَتْ: جُمِعتْ وقُبضَتْ.
34 بحذافيرها: حذافير الشيء: أعاليه ونواحيه. أي بجميع ما فيها.
35 إنظار: تأخير.
36 العَرْصَةُ: كل بقعة بين الدور واسعة ليس فيها بناء، والجمع العرصات.
37 قيعان: مفردها قاع. وهو المستوي من الأرض.
مقدمة الكتاب
القسمُ الأوّل
القِسم الثاني
القِسم الثالِث
القسم الرابع
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢