نبذة عن حياة الكاتب
الإسلام وإيْديُولوُجيَّة الإنْسان
الطبعة : الطبعة الرابعة
المؤلف : سميح عاطف الزين
فئة الكتاب : فكر معاصر
عدد الصفحات : ٣٦٢
تاريخ النشر : ١٩٨٩
الفهرس (اضغط على الرابط للقراءة)

المقَـدّمـة
المَبْدأ
التَخطيط وَالتنمية الاقتصَاديّة وتوجيههما المتعَمد
مشَاريع الإنتَاج أي التنميَة الإقتصاديَّة
العَدالة الإجتماعيّة
المجْتمع
المجْتمع الإسْلامي في المدينة
النظام الإجتماعي في الإسْلام
الإنسَان هُو المَرأة والرجل
الأخلاق
علوم النفسِ والاجتماع والتربيَة
سياسة التعْليم
الأشيَاء وَالأفعَال
الشركاتُ الرأسماليّة
التَأمين
الجمْعيّات التعاونية
المصَارف «البنوك»
الرِّبَا
الرِّبَا والصّرفْ
النقود
نظَامُ الذهَب
الشركاتُ في الإسْلام
الحوالة
الرهنْ
الرشوة والهَديّة
البَيْع
التسعير
الاحتكار
التجارة الخارجيّة
السيَاسَة الصناعيّة
أخْطار القروض الأجْنبيَّة
الحركة العمّاليّة وسَبب قيامها في العَالم
البورْصَة
التّضَخُم المَاليْ
الحاكمْ
نظام الحكم في الإسلام
الإسْلامُ يسَاوي بين جَميع المَواطنين
الدسْتور وَالقَانون
العمَل برأي الأكثرية ومَتى يجوز
الإقتصَاد في الإسلام
الصناعة
التجارة
الجهْد الإنسَاني
النظام الإسْلاميّ وحده الذي يضمن الحاجات الأساسيّة
الخاتمَة

التجارة الخارجيّة
للتجارة الدوليةِ فائدةٌ كبرى من حيث الأرباح الهائلةُ، وما هذا التطاحنُ الشديدُ والتنافسُ الحادّ بينَ الدولِ الكبرى إلّا في سبيلِ اكتسابِ الأسواقِ الجديدةِ، والاحتفاظِ بالأسواقِ القديمةِ التي تُصرِّفُ فيها بضائِعَهَا وتستورد منها الموادّ الخامّ دونَما عائقٍ، وذلكَ دليلٌ على أهمّيتها.
وللتجارةِ الدوليةِ خصائصُ وميزاتٌ ونتائجُ خاصّةٌ. أمّا السببُ الرّئيسيّ لقيامِ التجارةِ الدوليةِ، فهو الاختلافُ في نِسَب تكاليفِ السّلَعِ المختلفةِ بينَ دولةٍ وأُخرى.ومنْ صالحِ الدولِ أنْ تقومَ التجارةُ الدوليةُ بينها مهما اختلفَتْ فيها التكاليفُ النسبيةُ.
الميزان التجَارِي:
الميزانُ التجاريّ مُقارنةٌ بينَ قيمةِ الصادراتِ والواردات المنظورةِ. فلوْ وضعْنا قيمةَ الصادراتِ في جهةٍ، وقيمةَ الوارداتِ في جهةٍ أُخرى، لظهر الميزانُ التجاريّ. فإنْ فاقت قيمةُ الصادراتِ قيمةَ الوارداتِ كانَ الميزانُ التجاريّ في فائض، لأنّ الباقيَ من قيمةِ الصادراتِ يبْقى للبلد المصدر. ويكونُ طلبُ عملة هذا البلد لتسديدِ قيمةِ البضائعِ المستوردة منه يفوقُ طلبَهُ للعملاتِ الأجنبيةِ.
إلّا أنّ الميزانَ التجاريّ لا يُعطي الصّورة الصحيحةَ، عنِ الاقتصادِ الوطنيّ لأنّ هذا الاقتصادَ لا يقتصرُ على أرباحِ التجارةِ الخارجيةِ، بلْ هناكَ أشياءُ أُخرى تدرّ وارداتٍ مُعتَبَرَةً منَ الدخلِ الوطنيّ.
لكنّ الميزانَ التجاريّ يُعْطِي الصورةَ الصحيحةَ عن التجارة الخارجيةِ لبلدٍ ما، ويجب الحرصُ على أنْ يكونَ لصالِحِ هذا البلد إذا لمْ تكنْ للدّولَةِ أغراضٌ أُخرى. أمّا إذا كانت لها أغراضٌ أُخرى تتعلّقُ بالمبدأ والدعوةِ لهُ، أو بالإعدادِ الصناعيِّ، أو بسدِّ الحاجاتِ، أو بأمورٍ سياسيةٍ بالنسبةِ لموقِفِ الدّولةِ التي نتعاملُ معها تجاريًا، أو بالنسبَةِ للموقفِ الدوليّ وما يؤثّرُ فيهِ، فإنّ الميزان التجاري يتْبَعُ الغَرضَ المقصودَ، ويُضحّى عندئذٍ بالميزةِ الناشئةِ منْ وراءِ توازنه. فالنظرةُ التجاريةُ وإنْ قامتْ في الأساسِ على الرّبحِ، بَيْدَ أنّها في الوقتِ نفسه نظرَةُ دولةٍ لا نظرةُ فرْدٍ، يُراعى فيها هدفُ الدولة وكيانُها قبْلَ الرّبحِ التجاريّ.
سِيَاسة التجارةِ الخارجية:
التجارةُ الخارجيةُ هي علاقةُ الدولِ بغيرِها منَ الأممِ في الناحية التجاريةِ، أي رعاية شؤونِ الأمّةِ التجاريةِ منْ ناحيةٍ خارجيةٍ. ولا بدّ أن تكونَ هذهِ السياسةُ مبنيةً على أُسُسٍ معينَةٍ.
وتختلِفُ نظرةُ كلّ أُمّةٍ للتجارةِ الخارجيّةِ باختلافِ وجهةِ نظرها للحياة، فتعينُ بحسبها علاقاتها معَ الأممِ الأخرى. كما تختلفُ أيضًا باختلافِ نظرتِها لمصلحتِها الخاصّةِ اقتصاديًا منْ حيثُ الرّبحِ.
ومنْ هنا نجدُ السياسةَ في التجارةِ الخارجيةِ لدى الدول الاشتراكيةِ مبنيةً على نظرتهم القائمةِ على الاعتقادِ بتطويرِ العالمِ. وبالرغم منْ مُلاحَظَتِهِمْ للربحِ الاقتصاديّ فإنهم يصنعونَ السّلعَ بحسب حاجَةِ البلدانِ، فيحاولونَ أنْ يبيعوا سوريةَ ـــــــ مثلًا ـــــــ أدواتٍ زراعيّةً، وسمادًا، وأدويةً، وأدواتٍ صناعيّةً للصناعاتِ التي تُنتِجُ المصنوعاتِ الاستهلاكيّةَ كالجبنِ والثيابِ وأدواتِ الحراثَةِ وما شابهها، ما يساعدُ في نظرِهِمْ على تطويرها والسّير بها نحو الاشتراكية.
ولكن من المفارقات التي نلاحظها في الوقت الراهن، في أواخر القرن العشرين، هو العزوف عن تلك السياسة التي كانت تتبعها الدول الاشتراكية فيما سبقن والتي كانت تسعى من خلالها إلى تطويرِ البلدان المتخلفة لإدخالها في الاشتراكية، وتطوير نفسها هي من الاشتراكية إلى الشيوعية، وها هي روسيا اليوم تعمل في ظل سياسة الانفتاح للرجوع من الاشتراكيةِ إلى الرأسماليةِ، وهذا تقهقر هام في أيديولوجيتها.
والبلدان الاشتراكية حينَ تستورِد بضاعةً، لا تستورد إلّا ما يزيدُ الإنتاجَ وليس ما هي في حاجةٍ إليهِ فقطْ، بخلافِ البلدانِ الرأسماليةِ، فإنكلترا ــــــ مثلًا ـــــــ تسيرُ وراءَ الرّبحِ الماديّ لأنها تجعلَ النفْعيةَ أساسًا لسياستها في التجارةِ الخارجيةِ، وهي تبيعُ كلّ شيءٍ لجميعِ الشعوبِ والأممِ، ما دامَ بيعها قادِرًا على تحقيقِ الرّبح الاقتصاديّ.
أمّا ما تفعلُهُ أميريكا منْ تقْييدِ التجارةِ معَ روسيا في أصناف مُعينَةٍ، ومنْ منعِ التجارةِ معها في أصنافٍ أُخرى، فذلكَ لا يتبَعُ وُجْهَةَ النظرِ الاقتصاديّةَ بلِ السياسةَ الحربيةَ باعتبارِ أنها تعاملُها كدولةٍ محاربةٍ حُكْمًا، وإنْ لمْ تكن محاربة فعلًا. وما عدا ذلكَ فإنّ السياسةَ التجاريةَ عندَ أميريكا قائمةٌ على النفعيةِ.
وقد اختلف الاقتصاديون الغربيون في النظر إلى التجارةِ الخارجيةِ، وكانتْ لهمْ فيها مذاهبُ شتّى تتلخّصُ بما يلي:
1 ـــــــ حريّةُ المبادلَةِ:
وهذه الحرّيّةُ في التبادُلِ تقضي بأنْ تجري المبادلاتُ التجاريةُ بينَ الدوَلِ دونَ أيّ قيدٍ، وبعدمِ فرض أيّ رسمٍ جمركيّ، أو أيّ حاجزٍ يُواجِهُ الاستيرادَ. وهذا المذهبُ يعْني زَوالَ رقابةِ الدولةِ لأنها تصبح غير مُكلّفَةٍ بمراقَبَةِ التصديرِ، ولا بمراقَبَةِ الاستيرادِ، باعتبارِ أنّ التوازَن بينَ التصدير والاستيرادِ تؤمّنُهُ القوانينُ الطبيعيةُ، فهوَ توازُنٌ طبيعيّ وآليّ.
وهذهِ النظريةُ تخالِفُ الإسلامَ لأنّ التجارةَ الخارجيّة علاقةٌ منْ علاقاتِ الدولةِ بغيرِها منَ الدوَلِ والشعوبِ والأممِ. وهذهِ العلاقاتُ كلّها خاضعةٌ لسيطرةِ الدولةِ التي تقومُ بتنظيمِها، وتشرفُ مباشرةً عليها، سواءٌ كانتْ علاقاتٍ تجاريةً بينَ أفرادٍ أو علاقاتٍ بينها وبين دولة أخرى.
ولذلكَ لا يصحّ الأخذُ بنظريةِ حريةِ المبادَلةِ مُطلقًا لأنّ الدولةَ يجبُ أنْ تُباشر مَنْعَ بعْضِ المواد وإباحةَ بعضها، وتباشرَ موضوعَ التجّار الحربيين والمعاهدينَ، وإنْ كانت تكتفي بالإشرافِ على رعاياها في تجارتهم الخارجيةِ والداخليّة.
2 ـــــــ الحماية التجارية:
نظريةُ الحمايةِ هذه تقضي بأنْ تتدخّل الدولةُ لتحقيقِ توازُن المبادلاتِ معَ الخارج. والقَصْدُ منَ الحمايةِ التجاريةِ التأثيرُ على الميزانِ التجاري ومعالجةُ العَجْزِ. لأنّ التوازُنَ العَفْوِيّ بينَ التصديرِ والاستيرادِ، لا يمكنُ أن يحقّقَ أيّ توازُنٍ صحيح، ولا يسدّ أيّ عجْزٍ، فلا بُدّ منَ الحمايةِ التجاريةِ.
ولذلكَ تُوضَعُ رُسومٌ جمركيةٌ وقيودٌ للتصديرِ والاستيرادِ.
وهذهِ النظريةُ، كما وردتْ، قاصرةٌ لأنها تجعَل تدخّل الدولة قائمًا على تحقيقِ توازُن المبادلاتِ معَ الخارجِ، أو على سدِّ العجْزِ، ومقتصرًا على ذلكَ. وهذا غيرُ صحيحٍ فإنّ تدخّلَ الدولةِ يجبُ أنْ يكونَ لمعامَلةِ الدوَلِ الأخرى بالمثلِ أو لسدِّ حاجاتِ البلاد وتوفير أرباحٍ ماليةٍ لإيجاد عملاتٍ صعبةٍ. وعليهِ فحصْر التدخّل لتحقيقِ توازُنٍ المبادلاتِ وسدِّ العجزِ غيرُ صحيحٍ. إذ إنّ تدخّلَ الدولةِ يكونُ أحيانًا لأغراضٍ سياسيةٍ واقتصاديةٍ وتجارّيةٍ، وأحيانا منْ أجلِ حملِ الدعوةِ.
3 ـــــــ الاقتصاد القومي:
نظريةُ الاقتصاد القوميّ مرتبطةٌ بفكرةِ «الحمايةِ التجارية» المشتقّة منْ نظريةِ الصناعاتِ الثقيلةِ.
وأصحابُ نظريّاتِ الاقتصادِ القوميّ يَرَوْنَ أنّ النموّ الاقتصاديّ للأمّةِ يجبُ أن يهدفَ إلى إعطائِها السلطانَ السياسيّ معَ السلطان الاقتصاديّ.
كما يَرَوْنَ أن نموّ بلدٍ يمرّ بمراحلَ ثلاث:
1 ـــــــ الرعويةِ الزراعيةِ.
2 ـــــــ الزراعة الصناعية.
3 ـــــــ الزراعة الصناعيةِ التجارية.
ولا تكونُ البلادُ ذاتَ سلطانٍ حقيقيّ إلّا عندما تملكُ أُسطولًا وأسواقًا ويكون سكانها ذوي مواهبَ مختلفَةٍ. ولا بُدّ من انسجام القوى المنتجةِ والنموّ الاقتصاديَّ كشرطٍ للسلطانِ السياسيّ.
ويَروْنَ كذلك أنّ الصلات الاقتصادية الدوليةَ، وإنْ كانتْ تستفيدُ منْ حرية المزاحمة، لكن يشترطُ في ذلك أن تبلغَ جميعُ البلدان المتنافسةِ درجة الكمالِ في نموِّ القوى. وتنشيطًا لهذا النموّ يجبُ حمايةُ الصناعةِ.
أمّا الزراعةُ فلا ينبغي أن يكونَ لها أيّةُ حماية، بلْ يجوزُ تصديرُ مُنْتجاتها دونما أيّ قَيْدٍ أو شرْطٍ، ويبقى سِعرُها حرًّا بحسبِ شرائِطِ السوق الحرّةِ. وعلى هذا فإنّ نظريةَ الاقتصادِ القوميّ صناعيةٌ في جوهرِها.
وَيَرَوْنَ أيضًا أنّ الأممَ التي تطمَحُ إلى القوّةِ يهمّها أن تجتازَ المرحَلَةَ الزراعيةَ إلى المرحلة الصناعيةِ. وفي البَلَدِ الزَراعيّ يبْقى جُزْءٌ منَ القوى المنتِجَةِ، وهيَ الأيدي العاملةُ، وجُزْءٌ عامٌّ منَ المواردِ الطبيعية، كالموادّ الأولية، يبقى ذلك عاطلًا. فيجِبُ، إذًا، في سبيل استثمارِ هذهِ القوَى وهذهِ المواردِ، أي الأيدي العاملةِ والموادّ الأوليةِ، ضم المجالِ الصناعيّ إلى جانبِ الزراعةٍ. والبلادُ التي تَنْذُرُ نفسها للزراعةِ وحدها لا تملكُ الإمكانيّات الاقتصاديةَ، ولا تصلُ إلى مستوى المعيشةِ التي يملكها البَلَدُ الزراعيّ والصناعيَ في آنٍ واحدٍ.
فالاقتصادُ القوميّ يفرضُ ضرورةَ وُجودِ الصناعةِ معَ الزراعة حتى تقفَ البلادُ على رجليها اقتصاديًا. وهو نظامٌ يعزّز الحمايةَ التجاريةَ للصناعةِ، ويفرضُ القيودَ اللازمة على الصادراتِ والوارداتِ الصناعيةِ وحدها، ويأخذُ بحريةِ المبادَلَة للزراعةِ ويرفع عنها القيودَ. وهذهِ النظريةُ لا يرتضيها الإسلامُ، لأنّ ترْكَ الحريةِ للمبادلات الزراعيةِ معَ الخارجِ يَعْني عدمَ مُراقَبَةِ الدولة لتجارةِ المنتجاتِ الزراعيةِ. ولا يجوزُ ذلكَ لأنّ الدولةَ يجبُ أن تتولى تنظيمَ كلّ ما يخرجُ من البلاد أو يدخلُ إليها زراعيًا كانَ أو صناعيًا أو غير ذلكَ. فتمنعُ خُروجَ بعضِ الموادِّ وتُبيحُ بعضها.
أمّا تدخلُ الدولةِ الصناعيّةِ لأجلِ مصلحةِ البلادِ فهوَ أمْرٌ من أمورِ رعايةِ شؤونِ الأمةِ، وهو ما يأمرُ بهِ الإسلامُ، إلا أنّ ذلك مُقَيّدٌ بمصلحةِ الدعوةِ لتنشيطِ الصناعةِ.
ويتبينُ مما ذكرنا أنّ الاقتصادَ القوميّ، وإنّ كانَ في جُزْء من الصناعةِ يدخُلُ فيما هوَ منْ رعايةِ شؤون الأمّةِ التي يقولُ بها، لكنُه مع ذلكَ يُخالفُ الإسلامَ لِعَدَمِ رَبْطِهِ بمصلحةِ الدعْوةِ. والنظريّة المطلقة إجمالًا، تُخَالِفُ الإسلامَ في دعوتها للحريةِ الزراعيةِ المطلَقةِ، ولهذا لا يأخذُ المسلمونَ بهذهِ النظريةِ.
4 ـــــــ السياسةُ الاكتفائية:
يُقصَدُ بالسياسةِ الاكتفائيةِ طُمُوحُ بَلَد منَ البلادِ إلى كفايةِ نفسهِ بنَفسِهِ، وتأليفهِ وَحْدَةً اقتصاديةً مُغْلَقَةً تستغني عما سواها، فَلَا تستوردُ ولا تُصَدّرُ.
وهذهِ السياسةُ تَختلِفُ عنِ الاقتصاد القوميّ وتُغايرُ نظرية حريةِ المبادلَةِ. وقد طُبقَتْ بين الحربينِ الأخيرتين وتجلّتْ بشكلينِ:
أحدهما: الاكتفائية الانعزالية.
والثاني: الاكتفائية التوسعية.
وكانت ألمانيا النازيةُ نموذجَ البلادِ التي أخذتِ بالسياسة الاكتفائيةِ، وكانتْ تُطَبَّقُ فيها تدابيرُ ألجأتها إليها سياستُها الداخليةُ والخارجية التي لمْ تعُد تتلاءَم معَ قواعدِ المبادلةِ العالميةِ.
وهذه السياسةُ، وإنْ كانتْ في مظهرها تأخذ شكل تدابيرَ، فإنها، في حقيقتها، لها أهداف سياسيةً، وهي تشكّل أساسًا اقتصاديًا للنظام، يتلخّصُ في أنّ البلدَ الذي يملكُ موادّ أوّليةً وكيماويةً وآلاتٍ ومصانع وأيدي عاملةً يستطيعُ الاعتمادَ على كل ذلك، ويكونُ قادرًا على الاكتفاء الذاتيّ. والمهِمّ في الموضوع هو التنظيمُ. أمّا رؤوسُ المال فتأتي في المقام الثاني. والحكومة في السياسة الاكتفائيّةِ، تضعُ لنفسها هدَفًا سياسيًا يخضعُ له التنظيمُ الاقتصاديّ والماليّ. ولكي تصِلَ السياسةُ الاكتفائيّةُ إلى هَدَفِها، وهو جعلُ الاقتصادِ القومي قادِرًا على كفاية نفسِهِ بنفسِهِ، لا بدّ أنْ تستعِدّ للاستغناء عن كثيرٍ منَ الحاجاتِ، لأنّ من شأن السياسةَ الاكتفائيةَ أن تجعلُ البلَدَ عاجزًا عن توفير جميعِ الحاجات. والمهمّ أن تُوفّرَ هذهِ السياسةُ منَ الاقتصادِ القومي، الحاجاتِ الأساسية للفرْدِ وللأمةِ وللدولةِ توْفيرًا يجعلها سائرةً في طريقٍ تصاعديّ.
ومن هنا يتحتمُ على الدولةِ التي تسيرُ في ضوْء الاكتفائيّة في التجارةِ الخارجيةِ أنْ تعْمَلَ بطريقةٍ ما لضم البلادِ التي تحتاجُ فيها إلى الموادّ الأوليّة.
والضمّ يكونُ بالاندماج، أو بعقْدِ معاهداتٍ تجاريةٍ. أمّا إلغاءُ الحدودِ الاقتصاديّةِ فإنّهُ يعني ضمّ البلادِ، أي إلغاءَ الحُدودِ السياسيةِ، إذ لا يمكن إلغاءُ أحدهما بدون إلغاء الآخر. وإذا لم تستطع ضم الأقطارِ التي تحتاجُ إلى الموادِ الأوليةِ فيها، فيجبُ أنْ تصبرَ على عدمِ إشباعِ بعضِ حاجاتها، وتسعى لعدَمِ الاحتياجِ إلى ما يُشْبعُ الحاجاتِ الأساسيةَ، لأنّ فقدانَ ما يُشبعُ هذه الحاجات الأساسية لا يمكن الصبرُ عليه.
هذا هو ملخص السياسة الاكتفائية الانعزالية والسياسة التوسعيّة. فالانعزالية هي التي تتوفر فيها الحاجات الأساسية، والتوسعيةُ هي التي لا تتوفرُ فيها جميع الحاجات الأساسية والكمالية إلّا في مدى معيّنٍ بالضم أوِ المعاهداتِ، سواءٌ كانت حاجات أساسيةً أو كماليةً.
والناظرُ في السياسةِ الاكتفائيةِ لا يجدها معالجةً تجاريةً أو اقتصاديّةً، بلْ يرى فيها تدبيرًا وقائيًّا مؤقتًا لما يعترِضُ الدولةَ من حصارٍ اقتصاديّ أو تجاريّ.
وبناءً عليهِ فلا يُقالُ ما هو الحكْمُ الشرعيّ في شأنها؟ ولا يُقالُ إنّها تُناقِضُ الإسلامَ أو تخالفُهُ، بلْ هيَ أُسلوبٌ منَ الأساليبِ التي تُنشِئُها الضرورةُ فتُوخَذُ كأُسلوبٍ إذا كانتْ واقعيةً عمليةً، أي إذا كانَ هناكَ واقعٌ خاصّ، وكانَ الاكتفاءُ باقتصادياتِ البلادِ قادرًا على إشباعِ الحاجاتِ الأساسيةِ. ولا تُؤخذُ هذِه السياسةُ إذا لمْ يكنْ لها واقعٌ، إذْ لا يمكِنُ الاستغناءُ عنِ الحاجات الأساسيةِ للدّولةِ، أوِ الأمّةِ أو الأفرادِ. وتدخُلُ في بابِ رعايةِ المصالحِ التي يتولاها الخليفَةُ، وقدْ جَعَلَ الشرّعُ لهُ أنْ يقرّرَ ما يراه مُناسبًا منَ الأساليبِ، وما يرى فيهِ مصلحةَ المسلمينَ، أيْ أنّ الاجتهادَ يلعَبُ دورهُ في هذهِ الأمورِ وأمثالها.
الأسواق الخارجية:
الحربانِ العالميتان قامتَا لإيجادِ أسواقٍ خارجيةٍ للمُنتجات وحمايةِ الدول المتحاربة لتجاراتها. ولا شكّ أنّ تصريفَ الإنتاجِ من أهمّ الأمورِ التي تزيدُ ثروةَ البلادِ. ولا بدّ لذلكَ، إذًا، منَ العملِ على إيجادِ أسواقٍ خارجيةٍ لتصريفِ الإنتاجِ المحلّي. وإيجادُ الأسواقِ لتصريفِ الإنتاجِ لا يكفي، بل يجبُ أن نحصلَ عَلى العملةِ الصعبةِ اللّازمةِ لنا لشراءِ ما يلزمُ للثورةِ الصناعيّةِ منَ الآلاتِ والموادّ الأوليةِ وغيرها. وبعدَ الحصولِ عليها تقومُ سياسةُ إيجادِ الأسواقِ الخارجيةِ على أساسٍ تجاريّ صناعيَ. ولهذا لا يكونُ للميزان التجاريّ، معَ أيّ بلدٍ، أهميةٌ كبيرةٌ منْ حيث كونُهُ لصالحنا أمْ لا، أي لا يهمّ أن تكونَ صادراتنا لبَلَدٍ معادلةً لوارداتنا منهُ، بلْ يجوزُ أنْ نجعَلَ الميزانَ التجاريّ معَ البَلَدِ لصالحِنا فتكونُ صادراتنا له أكثرَ من وارداتنا منه، ويجوزُ أن تكون وارداتنا منه أكثر من صادراتنا إليه إذا كانت التجارةُ الخارجيةُ معه تجارةً صناعيةً. وبناءً عليهِ يجبُ أن نختارَ البلدانَ التي نعقدُ معَها الاتفاقيّات التجاريةَ، وأن لا تكون غايتنا الوحيدة من التجارة مع كلّ بَلَدٍ خارجيّ إيجاد أسواقٍ فيه. فما هيَ الفائدةُ ـــــــ مثلًا ـــــــ في عقدِ الاتفاقيّاتِ التجاريةِ معَ أسبانيا، أو اليونانِ، أو قبرصَ، أو كوريا، أو ما شاكَلَها منَ البلدان؟ إنها، وإن وُجِدَ فيها تصريفُ بضاعةٍ، فليسَ فيها ما يلزم للثورةِ الصناعية، ولا ما يلزمُنَا منَ العملَة الصعبةِ. ولكنْ يُبْحثُ عن بلدانٍ مثل ألمانيا، روسيا، تشيكوسلوفاكيا، فرنسا، إنكلترا، وأميركا، التي نَقْدِرُ على تصريفِ البضاعةِ فيها، وأخْذِ عملاتٍ صعبةٍ منها، وفي الوقتِ نفسهِ توجد إمكانية الحصولِ على ما يلزمُ لثورتِنا الصناعيةِ من مصانع وخبراءَ، وعُمال فنيينَ. لمثلِ هذهِ البلادِ ينبغي أنْ تُرسَلَ الوفودُ، ومعها يجب أن تُعْقَدَ الاتفاقيَّات التجارية. وعلى هذا يحصرُ الاتصالُ إذًا بالأكثرِ نفعًا من البلدان حتى لا تضيع الفائدة من جرّاء البحث غير المجدي. وبذلكَ يقتصر البحث عن الوسائل الكفيلة بتحقيق الثورة الصناعية في البلاد، عن طريق التجارة الخارجية.

مقدمة الكتاب
القسمُ الأوّل
القِسم الثاني
القِسم الثالِث
القسم الرابع
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢