نبذة عن حياة الكاتب
العبادات

الصيام
الصوم، لغة، هو الإمساك ويطلق على الصمت وهو الإمساك عن الكلام. وقد ورد هذا المعنى في القصص القرآني الكريم، من أن جبريلَ (عليه السلام)، خاطب مريم (عليه السلام) بقوله تعالى: {فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَانِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا *} [مَريَم: 26].. أي نذرت للرحمن الإمساك عن الكلام، فلن أحدَّث اليوم أحداً من الناس، أو أتفوّه له بكلمة. والصوم، في الاصطلاح الشرعي، وهو الإمساك عن أشياء كثيرة، كالأكل والشرب والجماع، وذلك في زمن مخصوص معيَّن، يبتدئ مع طلوع الفجر وينتهي مع الغروب، طيلة أيام شهر رمضان المبارك، أو في الأيام التي ينوي فيها المسلم الصوم قضاءً أو نافلةً. ويشترط في الإمساك أن يكون مقترناً بنية القربة لله تعالى والامتثال لأمره.
قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ *} [البَقَرَة: 183-184].
وهكذا فإن الصيام فريضة قديمة، كتبها سبحانه وتعالى، على الذين آمنوا بـالله وملائكته وكتبه ورسله، في كل عصر ومصر، ومنذ عهد أول رسولٍ إلى البشر كما كتب عليكم أنتم يا أمة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم). وهكذا يجب الصيام «أياماً معدوداتٍ»، فليس هو فريضة العمر، ولا تكليف الدهر، بل هو شهر من اثني عشر شهراً في السنة، أي تسعة وعشرون، أو ثلاثون يوماً فقط، تتأمن فيها للصائم الراحة النفسية والجسدية، وتنتشر خلالها روح التآلف والتآخي بين أفراد العائلة، وبين ذوي القربى، ويظهر فيها التعاطف مع المساكين والمحتاجين.. إلى ما هنالك من فضائل أو فوائد للصوم، في تلك الأيام المعدودات، التي هي أيام شهر رمضان المبارك. وقد دلّ على وجوب الصوم قول الله تعالى:
{شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ *} [البَقَرَة: 185] فقد جاء عن الله تعالى أن شهر رمضان، شهر مبارك، لأنه أنزل فيه القرآن هدى للناس من الضلالة؛ وفيه آياتٌ بيّنات واضحات تفرق بين الحلال والحرام، وتظهر الحق من الباطل. وقد اراد تعالى لعباده اليسر رأفة بهم، وأعطاهم الرخصة بالإفطار، لكل من تضطره بعض الظروف إلى عدم الصيام، ثم أكّد سبحانه على هذه الرخصة بإيرادها في الآيتين المباركتين 184 و185 من سورة البقرة عزَّ وجلَّ: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ} [البَقَرَة: 184]. وذلك تأكيداً على رعاية الله تعالى للمؤمنين، وإفساح المجال أمامهم لكي يُكملوا عدة أيام رمضان، في أيام أخر، فيصوموها قضاءً بعد ارتفاع أعذارهم، حتى لا يضيع عليهم أجر صيامه وثوابه، لما له من فضل عظيم وفوائد لا تحصى، ولما فيه من رحمة واسعة للعباد.
وبهذه المعاني للصيام يمكن أن تتجلَّى لنا مِنةُ الله تعالى علينا في هذا التكليف الشاق على النفوس والأبدان، وتنجلي لنا الغاية الكبرى منه، وهي هذه التربية الربانية للنفوس لأن الصيام ينمّي فيها عاطفة الرحمة والأخوة، والشعور برابطة التضامن بين الإنسان وأخيه الإنسان، وتظهر فيه الروح الإسلامية السامية في صفوف المسلمين، بحيث يدفع الصائم شعورُه بالجوع والعطش إلى صلة الآخرين، ويجعله يساهم مع الأبرار الأخيار، في القضاء على غائلة العوز، وقهر المرض.. فتقوى أواصر الأخوة، والمحبة بين أفراد الأمة، وهذا ما يجعل من رمضان المبارك شهر الرحمة والمغفرة، ولذا يقول رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «إذا دخل شهر رمضان فُتّحت أبواب السماء، وغُلّقت أبواب جهنم، وسُلْسِلَتِ الشياطين»(+).
ويبيّن لنا اللهُ تعالى حدود الصيام وواجباته بقوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ *} [البَقَرَة: 187] (+) .
ولا تحتاج هذه الآية الكريمة إلى تفسير أو تأويل، ففيها وضوح تام على ما أحلَّ اللهُ تعالى للصائم، وما حرّم عليه، في ليالي الصوم وأيامه. وكلها حدودٌ وضعها الله تعالى لعباده، فلا يجوز مخالفتها حتى لا يأثم المؤمن ويقع في الخسران.
فضل الصيام وأثره على النفس الإنسانية:
إن خير ما وصف به الصيام، وأظهر فضائله، وأبرز آثاره على النفس الإنسانية، بل وعلى المجتمعات البشرية، هو كلام رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).
وقد وردت عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) أحاديث كثيرة من فضل الصيام وأثره. ومنها: قولُه (صلى الله عليه وآله وسلم): «الصيام جُنّة (أي ستر)، وهو حصن من حصون المؤمن، وكل عمل لصاحبه إلا الصيام» ، يقول الله عزَّ وجلَّ: «الصيام ولي أنا أجزي به»(+).
وقولهُ (صلى الله عليه وآله وسلم): «يا معشر الشباب، من استطاع منكم الباءة (أي القدرة على الزواج) فليتزوج فإنه أغضّ للبصر، وأحصن للفرج. ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه وجاء»(+).
ويفهم من هذا الحديث الشريف أنَّ الصيام يقهر شهوات النفس الأمارة بالسوء، وبذلك فهو من أشد التكاليف على النفس لأنه يروّضها فعلاً، ويحرمها مما ترغب فيه وتهواه، ويمنعها من كثير من الانفعالات المادية والحسيّة. فهو من الناحية المادية يمنع عليها المأكل والمشرب والنكاح طوال ساعات النهار، فتضعف حركتها في المحسوسات، وتهدأ وتسكن فترتاح وتريح معها البدن. وهو من الناحية الحسيّة، يؤثر على الحواس، ويجعل النفس تستنكف عن اللهفة إلى تعاطي ما ألفته، فيعصم الصومُ لسان الإنسان عن قول الباطل أو الكذب، ويغض من بصره عن رؤية الحرام، ويحصّنه ضد الشهوة الجنسية، ويدفع به للحفاظ على طهارة قلبه وعمله. وحين يقوم الصائم بكل ذلك فإن باستطاعته التعرف على حدود الصيام، ومن عرف هذه الحدود، وتحفّظ مما كان ينبغي أن يتحفّظ منه محا اللهُ تعالى عنه سيئاته لقول رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «من صام رمضان وعرف حدوده، وتحفظ مما ينبغي أن يتحفظ منه كفَّر ما قبله»(+).
وخطب رسولُ الله (صلى الله عليه وآله وسلم) - كما روي عن سلمان الفارسي (رضي الله عنه) ـ الناسَ في آخر يوم من شهر شعبان، فقال: «أيها الناس! قد أظلكم شهر عظيم مبارك، شهر فيه ليلة خير من ألف شهر، شهر جعل الله تعالى صيامه فريضة، وقيام ليله تطوّعاً. من تقرَّب فيه بخصلة من الخير كان كمن أدّى فريضة فيما سواه، ومن أدى فريضة فيه كان كمن أدى سبعين فريضة فيما سواه. وهو شهر الصبر، والصبر ثوابه الجنة. وشهر المواساة، وشهر يزاد في رزق المؤمن فيه. ومن فطَّر فيه صائماً كان مغفرة لذنوبه وعتق رقبته من النار، وكان له مثل أجره من غير أن ينقص من أجره شيء».
وتابع سلمان الفارسي (رضي الله عنه) روايته، مُخبراً بأن البعض، سألوا رسولَ الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في تلك الخطبة قائلين: يا رسول الله، ليس كلنا يجدُ ما يُفَطِّرُ الصائم؟ فقال (صلى الله عليه وآله وسلم):
«يعطي الله تعالى هذا الثواب من فطر صائماً على ثمرة، أو على شربة ماء، أو مذقة لبن»(+).
ثم عاد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وتابع خطبته، فقال: «وهو شهر أوله رحمة وأوسطه مغفرة، وآخره عتق من النار. من خفَّف عن مملوكه فيه غفر الله له، وأعتقه من النار. واستكثروا فيه أربع خصالٍ: خصلتين ترضون بهما ربكم، وخصلتين لا غناء بكم عنهما. فأما الخصلتان اللتان ترضون بهما ربكم: فشهادة أن لا إله إلا الله، وتستغفرونه. وأما الخصلتان اللتان لا غناء بكم عنهما: فتسألون الله الجنة، وتعوذون به من النار»(+).
الصيام ركن من أركان الدين:
الصيام في عبادة المسلمين، كما في سائر عبادات أهل الكتاب، هو ركن من أركان الدين. ومهما اختلفت تسمية الأديان عند أهل الكتب السماوية فإن الدين عند الله الإسلام. وقد نصّ على ذلك القرآن بقوله تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلاَمُ} [آل عِمرَان: 19].
وقوله عزَّ من قائل: {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ} [الحَجّ: 78]. وقد اتخذ الصوم عند أهل الكتاب صوراً وأشكالاً مختلفة، تبعاً لاختلاف شرعهم ومناهجهم. وأما بالنسبة إلى المسلمين، فقد فرضه الله تعالى، في شعبان في السنةِ الثانية للهجرة، فرض عينٍ على كل مكلف. وهو واجب الأداء في شهر رمضان المبارك تبعاً للنصوص القرآنية التي أنزلت به، فلا يجوز بالتالي للمكلف الإفطار، ما لم يكن لديه عذر شرعي، أو رخصة من الشارع المقدس. و الأسباب التي تفرض على المكلف الإفطار هي التالية:
1 - الحيض والنفاس:
فقد اتفق جميع الأئمة على أن المرأة لو كانت في حالةِ الحيض أو النفاس، لا يصح منها الصيام، ولا الصلاة. واتفقوا على أنها بعد الطهر تعيد الصوم ولا تقضي الصلاة.
2 - المرض: وفيه آراء عديدة، تبعاً لأصحاب المذاهب:
- قال الإمامية: لا يجوز الصيام في حالة المرض لحصول الضرر الذي يسقط تكليف الصوم لأن المرض ضرر يحرم الصوم معه، فلو صام المريض حينئذ فلا يصح صومه، ويكفي أن يغلب على ظنه حصول الضرر. أما ضعف الجسد فليس سبباً للإفطار مع تحمّل الجوع؛ فالسبب الموجب هو المرض، لا الضعف ولا الهزال، ولا المشقة أو التعب.
وقال الأئمة الاربعة: إذا شعر الصائم أنه مريض، وخاف زيادة المرض من جراء الصيام، أو خاف إن هو صام أن يتأخر شفاؤه فهو بالخيار إن شاء صام، وإن شاء أفطر؟ ولا يتعيَّن عليه الإفطار لأنه رخصة لا عزيمة، في مثل هذه الحال. أما إذا غلب على ظنه الهلاك، أو تعطيل حاسة من حواسه، فيتعين عليه أن يفطر، ولا يصح منه الصوم.
3 - الحامل والمرضع وفيهما أيضاً تباين بين آراء الفقهاء:
- قال الإمامية: إذا تضررت الحامل التي قرب أوانُ وضعها، أو خافت بعد أن وَلَدَتْ على مولودها المرتضع، وجب عليها أن تفطر، ولم يجز لها الصيام، لأن صيامها في مثل هذه الحالات يتأتى عنه ضرر، وهو محرَّم ولو صامته.
- وقال الأئمة الأربعة: إذا خافت الحامل أو المرضع على نفسها أو ولدها، يصح صيامها، ويجوز لها أن تفطر. فإن أفطرت فعليها القضاء بالاتفاق، ولكن لم يتفقوا على وجوب الفدية(+).
فقال الحنفية: لا تجب عليها الفدية مطلقاً.
وقال المالكية: تجب الفدية على المرضع دون الحامل.
وقال الشافعية والحنبلية: تجب الفدية على كل من الحامل والمرضع، إن خافت على ولدها فقط، أما إن خافت على نفسها وولدها معاً، فإنها تقضي ولا تفدي.
4 - السفر:
لقد اشتهر عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: «ليس من البر الصيام في السفر»(+).
وفيه بعض التباين ما بين الإمامية، والمذاهب الأربعة الأخرى.
- قال الإمامية: إذا تمت للمسافر شروط قصر الصلاة لا يقبل منه الصوم، ولو صام عليه أن يقضي بدون كفارة. وهذا إذا شرع في السفر قبل الظهر، أما إذا شرع فيه وقت الظهر أو بعده، فعليه أن يبقى على صيامه، وان أفطر فعليه كفارة من أفطر عمداً.
وإذا وصل المسافر إلى وطنه أو محل إقامته قبل الظهر، ولم يكن قد تناول شيئاً من المفطرات وجب عليه البقاء على الصيام، فإن أفطر كان أيضاً كمن أفطر عمداً.
- وقال الأئمة الأربعة: يفطر المسافر بالشروط المعتبرة في صلاة القصر، وأضافوا شرطاً آخر وهو أن يشرع المسافر في سفره قبل طلوع الفجر، بحيث يصل إلى محل الترخيص الذي فيه قصر الصلاة قبل طلوع الفجر، فإذا شرع في السفر بعد طلوع الفجر حرم عليه أن يفطر، ولو أفطر قضى بدون كفارة.
والإفطار عندهم في السفر رخصة وليس بعزيمة، بمعنى أن المسافر الذي توفرت له جميع شروط الإفطار له الخيار إن شاء صام وإن شاء أفطر.
5 - داء العطش والجوع:
قال الائمة: إنَّ من به داء العطش الشديد، والجوع الشديد، يجوز له أن يفطر، ولا كفارة عليه إذا استطاع القضاء. وانفرد الإمامية بالقول إنه يجب عليه إطعام مسكين إذا استطاع القضاء، ولا يحق لمن به داء الجوع الشديد الإفطار إلا إذا كان خوفه معتدّاً به شرعاً.
الهرم:
اتفق جميع الأئمة على أن الهرم الذي يجد مشقة وضيقاً لا يقدر معهما على الصوم، يرخص له بالإفطار مع الفدية عن كل يوم إطعام مسكين. وانفردت الحنبلية بأن الفدية في مثل هذه الحالة مستحبة وليست واجبة.
شروط الصوم:
اتفق جميع الأئمة على أن صوم رمضان واجب عيناً على كل مكلف أي على كل بالغ عاقل. وبذلك فلا يجب الصوم على الصبي، إلاّ أن صيامه يصح إن كان مميّزاً.
ولا بد لصحة الصيام من: النية كما هو شأن جميع العبادات لأن النية هي روح العبادة وقوامها. وقد اشتهر عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قوله: «من لم يبيّت الصيام من الليل فلا صيام له»(+).
وقوله (صلى الله عليه وآله وسلم): «من لم يبّيت الصيام قبل طلوع الفجر فلا صيام له» (+). فلا بدَّ من حصولها قبل طلوع الفجر، واستمرارها حتى وقت الغروب.
صيام المجنون:
اتفق جميع الأئمة على أن المجنون لا يجب عليه الصيام حال جنونه، ولا يصح صومه فيما لو صام، وزاد الحنفية أنه إذا استغرق جنونه كل شهر رمضان فلا يجب عليه القضاء. وإذا جُنّ نصف الشهر، وأفاق النص الآخر، يصوم ما بقي ويقضي ما فات أيام جنونه.
صيام السكران أو المغمى عليه:
- قال الإمامية: يجب القضاء على السكران، سواء أكان السكر بفعله أم لم يكن. ولا يجب على المغمى عليه، ولو كان الإغماء يسيراً.
- وقال الحنفية: المغمى عليه كالمجنون تماماً.
- وقال المالكية: لا يصح الصوم من السكران والمغمى عليه، إذا كان السكر والإغماء مستغرقاً من طلوع الفجر إلى غروب الشمس أو معظم الوقت. أما إذا استغرق نصف اليوم أو أقله، وكانا منتبهين وقت النية ونويا، ثم طرأ الإغماء والسكر فلا يجب القضاء عليهما حينئذٍ.
- وقال الشافعية: لا يصح من السكران والمغمى عليه الصيام إذا غاب شعورهما في جميع الوقت. أما إذا كان في بعض الوقت فيصح صيامهما، ولكن يجب القضاء على المغمى عليه مطلقاً، سواء أكان الإغماء بسببه أم قهراً عنه، ولا يجب القضاء على السكران إلا إذا كان السكر بسببه خاصة.
- وقال الحنبلية: يجب القضاء على السكران والمغمى عليه، سواء أكان ذلك بفعلهما أم قهراً عنهما.
المفطرات:
ويستحب حين الإفطار عند الغروب تلاوة هذا الدعاء: «اللهم لك صمت، وعلى رزقك أفطرت، وبك آمنت وعليك توكلت، ذهب الظمأ وابتلَّت العروق، وثبت الأجر إن شاء الله».
والمفطرات هي الأشياء التي يجب الإمساك عنها من طلوع الفجر إلى المغرب، وهي:
1 - الأكل والشرب عمداً:
اتفق جميع الأئمة على أن الأكل والشرب عمداً يبطلان الصيام، ويوجبان القضاء. وأوجبت الإمامية والحنفية الكفارة(+) مع القضاء. في حين لم توجب المالكية والشافعية والحنبلية الكفارة.
2 - الأكل والشرب نسياناً:
اتفق معظم الأئمة على أن من أكل أو شرب ناسياً لصومه، فلا قضاء عليه ولا كفارة، بل يتابع صوم يومه عند التذكر، إلاّ المالكية فإنها أوجبت عليه القضاء دون الكفارة.
3 - الجماع:
اتفق جميع الأئمة على أن الجماع عمداً مبطل للصيام وموجب للقضاء والكفارة.
أما الجماع نسياناً فلا يبطل الصيام عند الإمامية والحنفية والشافعية، ويبطله عند المالكية والحنفية.
وقال الإمامية: من تعمَّد البقاء على الجنابة في شهر رمضان إلى أن يطلع الفجر فسد صومه وعليه القضاء والكفارة.
بينما قالت بقية المذاهب: إن الصوم في مثل هذه الحالة صحيح، ولا شيء على الصائم من قضاء أو كفارة.
4 - الاستمناء:
اتفق جميع الأئمة على أن الاستمناء مفسد للصوم إذا حصل بالاختيار. وهو موجب، عند الإمامية، للقضاء والكفارة معاً. بينما عند الأئمة الأربعة، هو موجب للقضاء فقط، دون الكفارة.
5 - القيء:
اتفق جميع الأئمة على أن القيء قهراً لا يفسد الصيام، ولكنهُ يفسده عمداً ويوجب القضاء. وحدَّد الحنفية هذه المسألة بقولهم: إذا كان القيء ملءَ الفم يفسد الصيام.
6 - الحقنة:
اتفقت جميع المذاهب على أن الحقنة بالمائع تفسد الصوم وتوجب القضاء.
7 - الارتماس:
- قال أكثرية الإمامية: إن رمس تمام الرأس في الماء، مع البدن أو بدونه، يفسد الصوم، ويوجب القضاء مع الكفارة.
- وقال الأئمة الأربعة: لا تأثير للارتماس في إفساد الصوم.
أنواع الصيام:
الصيام على أربعة أنواع: واجب، مستحب، محرم ومكروه.
1 - الصيام الواجب هو صيام شهر رمضان، وقضاؤه، وصيام الكفارات، وصيام النذر، باتفاق جميع الأئمة.
أ - صيام شهر رمضان:
هو فريضة وذلك منذ بدئه إلى انتهائِه وهو واجب عيناً على كل بالغ، عاقل. وكذلك كل متعلقاته كالقضاء والكفارات.
ب - صيام قضاء رمضان:
1 - اتفق جميع الأئمة على أن من وجب عليه قضاء ما فاته من أيام شهر رمضان المبارك أن يقضيها في نفس السنة، أي في الأيام المتخللة ما بين رمضان الفائت ورمضان الآتي. وله أن يختار الأيام التي يشاء للقضاء. وعليه أن يبادر إلى القضاء إذا بقي من الأيام بقدر ما فاته قبل حلول رمضان الآتي.
2 - كما اتفق الأئمة على أن من تمكَّن من القضاء خلال السنة، وترك متهاوناً حتى دخل رمضان الثاني، فعليه أن يصوم رمضان الحاضر ثم يقضي بعده الفائت، ويدفع كفارة عن كل يوم إطعام مسكين. لكن الحنفية قالوا بالقضاء دون الكفارة.
وإذا عجز من القضاء، بحيث استمر به المرض من رمضان الأول إلى رمضان الثاني، فلا قضاء عليه ولا كفارة عند الأئمة الأربعة، بينما الإمامية تسقط القضاء ولا تسقط الكفارة.
3 - من أفطر في شهر رمضان لعذر شرعي، وتمكّن بعده من القضاء ولكن لم يقضِ حتى مات:
- قالت الإمامية: يجب على ولده الأكبر أن يقضي عنه ما فاته.
- وقالت الحنفية والشافعية والحنبلية: يتصدق عنه ولده الأكبر عن كل يوم بإطعام مسكين.
- وقالت المالكية: يتصدق عنه الولي إذا أوصى بالصدقة عنه، وإذا لم يوصِ فلا يجب عليه.
4 - من صام قضاءً من رمضان وكان الوقت متسعاً:
- قال الإمامية: يجوز له الإفطار قبل الزوال، ولا يجوز له بعده. وإذا أفطر بعد الزوال وجب عليه أن يكفِّر بطعام عشرة مساكين، فإن عَجِزَ عن الإطعام فصيام ثلاثة أيام.
وقال الأئمة الأربعة: يجوز له أن يعدل عن صومه، ويفطر قبل الزوال أو بعده.
ج - صيام الكفارات:
الكفارات التي توجب الصوم عديدة ومنها: صيام كفارة قتل الخطأ، وكفارة الظهار، وكفارة الاعتكاف، وكفارة اليمين. ولكل منها أحكامها الخاصة التي تبحث في بابها. ونقتصر هنا على حكم من صام مكفِّراً عن إفطاره عمداً في شهر رمضان.
إن الصيام في كفارة من أفطر عمداً في شهر رمضان، هو شهران متتابعان، فما حكم من يفطر خلال الشهرين؟.
- قال الإمامية: إذا أفطر، أي قطع الصيام خلال مدة الشهرين، لعذر شرعي كالمرض، أو حيض المرأة أو نفاسها أو مرضها، فلا ينقطع التتابع وينتظر زوال العذر الشرعي ثم يتم الصيام. أما إذا أفطر في الشهر الأول دون عذر شرعي، فقد وجب عليه أن يستأنف صيام شهرين من جديد، لأن التتابع، يتم في نظرهم، إذا صام المكفِّرُ الشهرَ الأول بكامله، ويوماً واحداً من الشهر الثاني، حينها يجوز له الإفطار، ثم يصوم بعده، متمّاً ما تبقى من مدة الكفارة، بانياً على ما صام من مدة سابقة.
- وقال الحنفية والمالكية والشافعية: لا يجوز لمن كان عليه كفارة شهرين متتابعين أن يفطر يوماً واحداً، لعذر أو لغير عذر، لأنه بذلك يقطع التتابع. فإن أفطر في أثناء الشهرين وجب عليه أن يستأنف مدة الكفارة من جديد أي مدة الشهرين بالتتابع.
أما الحنبلية، فقد اعتبرت أن الإفطار لعذر شرعي لا يقطع التتابع.
سبق وذكرنا أن الكفارة تجب على كل من تعمد فعل المفطر في أيام رمضان المبارك. والكفارة: إما عتق رقبة، أو صيام شهرين متتابعين، أو إطعام ستين مسكيناً. ولكن من عجز عن صيام شهرين، أو عن عتق رقبة، أو إطعام ستين مسكيناً، فما حكمه؟
- قال الإمامية: في مثل هذا العجز يخيّر المكلف بين أن يصوم ثمانية عشر يوماً، أو أن يتصدق بما يقدر عليه. ولو عجز حتى عن ذلك أتى بالممكن من الصدفة أو الصيام، فإن عجز أنابَ إلى الله تعالى، واستغفره سبحانه.
- وقال الحنفية والمالكية والشافعية: إذا عجز عن جميع أنواع الكفارات، استقرت في ذمته إلى أن يصبح موسراً فيؤديها، وهذا ما تقتضيه القواعد الشرعية.
- وقال الحنبلية: إذا عجز عن جميع أنواع الكفارات، سقطت عنه ولو أيسر بعد ذلك لا يجب عليه شيء.
الصيام المحرم:
قبل البحث في الصيام المحرم لا بد من الإشارة إلى حكم من ينكر وجوب الصوم من الأساس، وما هو عقابه؟
إنَّ كل من ينكر الصوم من الأساس يعد مرتدّاً، ويجب قتله باتفاق الجميع. ولكن من آمن بوجوبه، ولكنه تركه تهاوناً واستخفافاً عوقب بما يراه الحاكم. فإن عاد عوقب ثانية، فإن عاد قتل. حيث ثبت عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) أن فاعلي الكبائر إذا أقيم عليهم الحد مرتين، قتلوا في الثالثة. وقيل: الرابعة.
ذلك لأن الصوم فرض على كل مؤمن، لقوله تعالى:
{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [البَقَرَة: 183]، وإن من خالف هذا الفرض الذي يُعدُّ ركناً من أركان الإسلام، فقد أصبح بحكم المرتدّ لتهاونه واستخفافه به.
قد يقول البعض: إنني مؤمن وإيماني بحقيقة وجود الله تعالى ثابت في القلب، ولا ينكره عليَّ أحد؟
والجواب: إن كنت حقّاً مؤمناً، كما تدعي، فلِمَ تخالف أوامر الله تعالى، وتتعدى حدوده، وتهمل أو تترك فرائضه؟ إن الإيمان في القلب لا يكفي، بل يجب أن تستتبعه العبادات المكملة له، وكل إيمان مجرد عن هذه العبادات يكون ناقصاً، لأن التدين هو شعور معمق في النفس، وشعائر مفروضة واجبة الأداء والإتمام. فحذار أيها المسلم من الوقوع في شرك الكبائر، بترك الفرائض، لأنها لا توجب الذم من الناس وحسب، وتوجب العقاب من الحاكم فقط، بل هي تغضب رب العالمين، وكيف يستقيم إيمان مع غضب الله تعالى؟!
بعد هذا التوضيح نعود إلى حكم الصيام المحرم.
الصيام المحرّم:
أ - صوم يومي العيدين:
فقد اتفق جميع الأئمة على أن صيام يوم الفطر، ويوم الأضحى محرمان.
ب - صوم المرأة المستحب دون إذن زوجها:
وقد اتفقوا على أن المرأة لا يجوز لها أن تصوم استحباباً بدون إذن زوجها، وخاصة إذا كان صيامها يعطل حقّاً من حقوقه، ما عدا الحنفية فإنهم قالوا: إن صيام المرأة بدون إذن زوجها مكروه، وليس بحرام.
ج - صوم أيام التشريق(+):
لم يتفق أئمة المذاهب في هذا الصوم:
- قال الإمامية: لا يجوز صيام أيام التشريق لمن كان في منىً خاصة.
- وقال الحنفية: صيامها مكروه تحريماً. والمكروه تحريماً هو الأقرب إلى الحرام.
- وقال المالكية: يحرم صيام الحادي عشر والثاني عشر في غير أيام الحج، ولا يحرم في الحج.
- وقال الشافعية: لا يحل صيام أيام التشريق لا في الحج ولا في غيره.
- وقال الحنبلية: يحرم صيامها في غير الحج، ولا يحرم في الحج.
د - يوم الشك:
وقد اتفق جميع الأئمة على أن من أفطر يوم الشك، ثم تبين أنهُ من رمضان يجب عليه الإمساك ثم القضاء.
ولكن إذا صام يوم الشك، ثم تبين له أنه من رمضان، فهل يجزيه ولا يجب عليه القضاء؟
- قال أكثر الإمامية والحنفية: إن صومه يجزيه ولا يجب عليه القضاء.
- وقال المالكية والشافعية والحنبلية: لا يجزيه الصوم ويجب عليه القضاء.
الصيام المكروه:
جاء في كتاب (الفقه على المذاهب الأربعة) أن من الصوم المكروه إفراد يوم الجمعة بالصوم، وكذا إفراد يوم السبت، والصيام قبل شهر رمضان بيوم أو يومين لا أكثر.
وجاء في كتب الفقه عند الإمامية: يكره صوم الضيف بدون إذن مضيفه، والولد من غير إذن والده، ومع الشك في هلال ذي الحجة خوفاً من كونه عيداً. ويكره قلع الضرس، والسواك بالعود الرطب، والمضمضة لغير وضوء، والجدال والمراء لقول الإمام علي (عليه السلام): «إذا صمتم فاحفظوا ألسنتكم عن الكذب، وغضوا أبصاركم، ولا تنازعوا، ولا تحاسدوا، ولا تغتابوا، ولا تماروا».
الصيام المستحب:
اتفق جميع الأئمة على استحباب الصوم في جميع أيام السنة، خاصة صيام ثلاثة أيام من كل شهر، والأفضل أن تكون في «الأيام البيض»، أي الثالث عشر، والرابع عشر والخامس عشر من الشهر القمري ويوم عرفة - وهو التاسع من ذي الحجة -، وصوم شهر رجب، وشهر شعبان، والصوم كل يوم إثنين وخميس، إلى غير ذلك مما جاء في الأحاديث الشريفة.
- استحباب السحور : يستحب للصائم في وقت السحر تناول شيء من الطعام أو الشراب وإن قلَّ، حتى ولو كان جرعة ماء. ويستحب تأجيله لآخر الليل، لقول رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «لا تزال أمتي بخير ما عجلوا الفطر وأخروا السحور»(+). وقوله (صلى الله عليه وآله وسلم): «تعاونوا بأكل السحور على صيام النهار»(+). وقوله (صلى الله عليه وآله وسلم): «استعينوا بطعام السحر على صيام النهار»(+).
ورتّب الله على السحور أجراً عظيماً، وخاصة إذا كان مصحوباً بالاستغفار، لقوله عزَّ وجلَّ: {وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ *} [آل عِمرَان: 17]، وقول رسوله الكريم: «تسحروا، في السحور بركة» (+).
ثبوت الهلال:
اتفق الأئمة الأربعة على أن شهر رمضان يثبت برؤية الهلال، ولو كان من واحدٍ عدلٍ، أو إكمال عدة شعبان ثلاثين يوماً، إلا الإمامية فإنهم اشترطوا شهادة عدلَين.
فإن من رأى الهلال منفرداً، يلزمه العلم بعلمه، سواء رأى هلال رمضان فيجب عليه الصوم، أو رأى هلال شوال فيجب عليه الإفطار، من غير فرق بين أن يكون الرائي عدلاً أو غير عدل، ذكراً أو أنثى. واعتمد أئمة المذاهب الأربعة على ما رواه ابن عباس من أن رجلاً أعرابيّاً جاء رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قائلاً بأنه رأى هلال رمضان، فقال له الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم): «أتشهد بأن لا إله إلا الله» ؟. قال الأعرابي: نعم. قال الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم): «أتشهد أن محمداً رسول الله؟» ، قال الأعرابي: نعم. فقال عندها الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم): «يا بلال؛ أذِّن في الناس، فليصوموا غداً»(+).
وعن ابن عمر (رضي الله عنهما) قال: «تراءى الناس الهلال، فأخبرت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أني رأيته فصام، وأمر الناس بصيامه»(+).
واتفق الأئمة جميعاً على أن الهلال يثبت بالرؤية، لقول رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته، فإن غُمَّ عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين يوماً» (+). وقوله (صلى الله عليه وآله وسلم): «جعل الله الأهلة مواقيت للناس، فصوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإن غُمَّ عليكم فعدوا له ثلاثين يوماً» (+).
واختلفت آراء الأئمة حول الشهود العدول في إثبات الهلال، في شَهري رمضان وشوال، وفي إثباته في حالات الصَّحوِ والغيم. وتظهر اتجاهات مختلف المذاهب حول هذه الأمور وفقاً لما يلي:
- قال الإمامية: يثبت من كل شهر رمضان وشوال بالتواتر، أو بشهادة رجلين عدلين، من غير فرق بين الصحو والغيم، ولا بين أن يكون الشاهدان من بلد واحد، أو من بلدين متقاربين، لقول رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «وإن شهد شاهدان فصوموا وأفطروا» (+).
ولكن يشترط في الشاهدين عدم تناقض شهادتيهما في وصف الهلال. ولا تقبل شهادة الصبيان، ولا النساء، ولا الفاسق، ولا مجهول الحال.
وقالوا أيضاً: يثبت كل من شهر رمضان وشوال بإكمال ثلاثين من غير فرق بين الصحو والغيم، مادام أوله قد ثبت بالطريق الشرعي الصحيح.
- وقال الحنفية: يثبت هلال رمضان بشهادة رجل واحد وامرأة واحدة ويشترط في الشاهد الإسلام والعقل والعدالة، هذا إذا كانت السماء غائمة. أما إذا كانت السماء صحواً فلا يثبت رمضان إلا بعد رؤيته من قبل جمع عظيم.
وأما هلال شوال فلا يثبت إلا بشهادة رجلين أو رجل وامرأتين، هذا إذا كان في السماء ما يمنع من الرؤية. أما إذا كانت السماء صحواً فلا يثبت إلا بشهادة جماعة كثيرين، بحيث يحصل العلم بخبرهم من غير فرق بين هلال رمضان وهلال شوال.
وقالوا: بوجوب الإفطار بعد إكمال صيام ثلاثين يوماً.
- وقال المالكية: لا يثبت الهلال إلا بشهادة عدلين من غير فرق بين هلال رمضان وشوال، ولا بين الصحو والغيم. ويجب عندهم الإفطار بعد إكمال الثلاثين يوماً عند الغيم، وصوم اليوم التالي للثلاثين عند الصحو. مع كذب الشهود الذين شهدوا بثبوت أول رمضان مهما كان عددهم.
- وقال الشافعية: يثبت هلال كل من رمضان وشوال بشهادة عدل واحد، بشرط أن يكون مسلماً، عاقلاً عادلاً، ولا فرق بين أن تكون السماء غائمة أو صحواً.
وقالوا: يجب الإفطار بعد الثلاثين حتى ولو كان ثبوت رمضان حاصلاً بشاهد واحد من غير فرقٍ بين الصحو والغيم.
وقال الحنبلية: يثبت هلال رمضان بشهادة العدل الواحد، رجلاً كان أو امرأة. أما شوال فلا يثبت إلا بشهادة عدلين.
وقالوا: يجب الإفطار بعد إكمال الثلاثين إذا كان رمضان ثابتاً بشهادة عدلين. وأما إذا كان ثابتاً بشهادة عدل واحد فيجب صوم الحادي والثلاثين.
وعن رؤية الهلال في بلد دون بلد آخر، ذهب الأئمة إلى ما يلي:
قال الإمامية والشافعية: إذا رأى الهلال أهل بلد، ولم يره أهل بلد آخر، فإنْ تقارب البلدان في المطلع كان حكمهما واحداً، وإن اختلف المطلع فلكل بلد حكمه الخاص.
وقال الحنفية والمالكية والحنبلية: متى ثبتت رؤية الهلال بقطر وجب الصوم على أهل سائر الأقطار، من غير فرق بين القريب والبعيد. ولا عبرة باختلاف مطلع الهلال.
انظر وتأمل الهلال والاختلاف حول رؤيته
من الملاحظ أنه كلما قربت نهاية شهر رمضان المبارك، كلما ارتبكت الأقطار الإسلامية، وعمّت الحيرةُ الصائمين، لعدم تأكدهم من يوم العيد، وما يترتب عليه من آثار شرعية، فإنْ هم اعتبروه في يوم كذا فقد يأتي متأخراً، وإن رأوه متأخراً فقد يفاجئهم وهم على غير استعداد، مما ولَّد قلقاً في النفوس، وعدم وضوح في المعرفة.. ومن أجل ذلك قررت بعض الحكومات في البلاد الإسلامية، الاعتماد على أقوال الفلكيين في إثبات الهلال، ظنًّا منها أن القضايا الفلكية هي من نتاج العلم الذي يجب الأخذ به، لأنه أقرب إلى الحقيقة، فأثار ذلك جدالاً ومناقشات في الأندية والمجالس بين مؤيدي قرار الحكومات، وبين المعارضين له.
أما حجة المعارضين فهي أن القرار يتنافى مع الحديث الشريف: «صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته» ، لأن المعلوم من الرؤية هي الرؤية البصرية التي ألفها الناس منذ عهد الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى يومنا هذا، ولا بأس أن تكون الرؤية بالمنظار، الذي يقرِّب الأبعاد، لأنها تبقى معتمدة على البصر، وعلى رؤية الهلال بالعين، أما أن تعتمد الرؤية على الحساب والمنازل، دون البصر، فهذا بعيد عن لفظ الحديث الشريف.
وأما حجة المناصرين فهي أنه ليس في الإسلام ما ينافي الاعتماد على قول الفلكيين، لأن الله سبحانه وتعالى يقول في كتابه الكريم: {وَعَلاَمَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ *} [النّحل: 16]، هذا بالإضافة إلى أهمية العلم برأيهم، وما يحقق للبشرية من تقدم.
والحقيقة أن كلاًّ من الطرفين لم يأتِ بالحجة الدامغة. لأن حديث الرؤية لا يتنافى مع العلم اليقيني باعتبار أن الرؤية ذاتها هي وسيلة للعلم اليقيني، وليست غاية بحد ذاتها، كما هي الوسائل الموصلة إلى معرفة المجرات والنجوم والكواكب، حتى أصبح من أوضح الأمور معرفة كيفية تولد الهلال، وتحديد موقعه بالضبط. ثم إن القرآن الكريم يومئ إلى علم الفلك، والاهتداء به في قوله تعالى: {وَعَلاَمَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ *} [النّحل: 16]. فالرؤية ذاتها بالعين مباشرة وسيلة للعلم اليقيني بولادة الهلال، وليست غاية بحد ذاتها، شأنها شأن أي وسيلة من الوسائل الموصلة إلى حقيقة الواقع. أي أن الغاية الحقيقية هي إثبات مطلع شهر رمضان، وتحديد أول يوم صيامه، وكل وسيلة تؤدي للعلم اليقيني القاطع بذلك، يجب الأخذ بها، سواء أكان ذلك بالعين المجردة، أم بالمنظار، أم بطريقة علم الحساب، فالمهم هو التأكد بالصورة القاطعة، الجازمة وليس الاعتماد فقط على رؤية العين المجردة.
ومن ناحية ثانية، ومع تقدم العلوم في عصرنا الحاضر، والوصول إلى القمر، وتحقيق نتائج باهرة في معرفة تكوين الكون، يبدو أن علماء الفلك أنفسهم ما يزالون غير قادرين على إثبات العلم اليقيني القاطع لكل شبهة، في شتى المسائل الكونية التي قاربوها حتى اليوم، وبالتالي لا يصلون إلى العلم اليقيني القاطع في إثبات تولد هلال رمضان، كما تفيده الرؤية البصرية، لأن كل ما توصلوا إليه كان مبنيًّا على المقاربة أكثر منه على التحقق والتأكيد، بدليل تضارب أقوالهم - هم أنفسهم - في تحديد الليلة التي يتولد فيها هلال رمضان، وساعة ميلاده، ومدة بقائه.
وإلى أن يجيء اليوم الذي يتوفر فيه العلم اليقيني لأهل الفلك، بحيث لا تتعارض أقوالهم، بل وتتفق كلمتهم على تولد ذاك الهلال في يوم معيَّن، ويصبح رأيهم في ذلك موحَّداً، ومن القطعيات تماماً كالرؤية بالعين مباشرة، حينها فقط يمكن الاعتماد على علم الفلك، والعمل به. وعند ذلك نكون قد وصلنا إلى التخلص من هذا الحرج الذي يعانيه المسلمون، فيصبح عيدهم في يوم واحد، ويجعلونه نعمةً من الله تعالى، بدلاً من أن يكون حيرةً يساهم الجميع في إحلالها، كما هو حاصل من الاختلاف وتضارب الآراء في أقطار العالم الإسلامي.. حيرة، تنتج عن اختلاف الفقهاء أنفسهم، وعدم اتفاقهم على تحديد أول يوم في شهر رمضان المبارك، إذ ما زالت آراؤهم مشتتة تبعاً لاختلاف مطالع القمر فوق البلدان الإسلامية. وهذا الواقع الأليم هو ما يرفضه جمهور المسلمين بالكامل، ويريد توحيد الصوم في مشارق الأرض ومغاربها، وأن يبدأ المسلمون بصوم شهر رمضان كلهم في يوم واحدٍ ويفطرون في يوم واحد. ولا يهمهم أبداً أن يبقى الاعتبار لاختلاف مطالع القمر، لأن ذلك أوقع بينهم الاختلاف في أحد أهم المسائل الإسلامية، وجعلهم يعانون من جرائها أشدّ المعاناة. إذ كيف نتصور أنه في بلدٍ واحدٍ، تبقى جماعة من المسلمين صائمة، في حين تفطر جماعة أخرى وتعيّد، فكيف الحال بين مختلف البلدان الإسلامية؟
إن المسلمين، وربما الأكثرية الساحقة منهم، باتوا على يقين بأنَّ الاختلاف حول أول شهر رمضان، وحول يوم عيد الفطر سيبقيهم متفرقين، متنابذين، وسوف يستغل هذا الاختلاف أعداءٌ خبثاء، دهاة، قادرون على تشتيت آراء المسلمين، وعدم اتفاق كلمتهم على كثير من الأمور. وإن أولئك الأعداء، كثيراً ما يلجأون إلى أساليب أشدَّ فتنةً ودهاءً، بحيث يشيعون الخلاف بين أبناء المذهب الواحد، سنيًّا كان أو شيعيًّا، ويجعلون الشك سيد الموقف في نفوس المسلمين جميعاً. ومن هنا كانت تلك المأساة حيث يطعن كل بلد بصحة ما ذهب إليه البلد الآخر، وكل جماعة بما تعمل به الجماعة الأخرى.
أيها المسلمون!
إنَّ الله - سبحانه وتعالى - لم يفرض عليكم شهر الصوم لكي تجعلوه سبباً للفرقة والخلاف، وعاملاً للشحناء والبغضاء. بل على العكس من ذلك تماماً، فقد جعل - سبحانه - الصوم عبادة خالصة له تعالى، وجعله فريضة واحدة موحدة، لتجتمعوا على التقوى «لعلكم تتقون». فكان من الحِريِّ بكم أن تفعلوا كل ما بوسعكم لئلا يبتدئ وينتهي شهر رمضان المبارك على الخصومة والفرقة، بل يكون من أوله ولآخره شهر العبادة، والرجوع إلى ربكم الكريم، شهر السلام والاطمئنان، شهر المحبة والألفة، شهر العزة والوحدة، شهر التفكر والتأمل..
نعم أيها المسلمون: إن ما تعانون منه من أوضاع تسود بلادكم، وما تتأذون منه، من أحوال تسود عالمكم، إن هو إلا بفعل أعدائكم، وأعداء دينكم، الذين زرعوا المنافقين في صفوفكم، وأسلموا لكثير منهم مقاليد الحكم، وجعلوهم يعيشون في الخفاء، مترفين، ينفذون أوامر أسيادهم: «فرّق تسد»!.. وكل ذلك على حساب كرامة الأمة الإسلامية، وإبقائها في حالات الجهل، والجوع، والتخلف.. إن أهل النفاق، أولئك هم الذين أقامهم أعداؤكم جسراً لوطء بلادكم، ودوس كرامة الأخيار منكم، منذ أمدٍ بعيد، منذ بدء عهد الانحطاط الذي نتخبط به، ومنذ أن تولى سماسرة أعدائكم، وأعوانهم، وأدواتهم، تنفيذ مخططاتهم اللئيمة، الرامية إلى إبعادكم عن دينكم، لضرب الفكر الإسلامي، والنيل من دعاة التوحيد والوحدة.
نعم أيها المسلمون، إن شعائركم الدينية هي موضع فخر واعتزاز: فصلاتكم عبادة للخالق العظيم، وصومكم إقرار بالعبودية له عزّ وجلّ. بل والزكاة، والصدقة والحج إلى بيت الله الحرام، وكل الشعائر التي تقومون بها هي مما يميزكم، ويرفع من شأنكم، وينمي فيكم روح التعاون، والألفة، والاجتماع، والقوة. فلو أخذنا الصيام بحد ذاته، لوجدناه يقوي إرادة الفرد والجماعة، كما يقوي إرادة أمتكم ويجمع كلمتها على البر والتقوى، ويوحد أهدافهاومواقفها، ويقضي على نزاعاتها وخلافاتها. وأنتم عندما توحّدون هذه الشعيرة المباركة في كل أبعادها ومآثرها، تنعمون بوحدتكم وألفتكم، ورضوان ربكم الذي كتب عليكم الصيام - كما كتبه على الذين من قبلكم - لعلكم تتقون المعاصي، والمفاسد، وفي طليعتها الفرقة والعداوة، فاحذروهما أشد الحذر، واتقوا شرورهما. وإنكم إذا فعلتم: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عِمرَان: 110] هذه هي والله مقومات وجودكم، فصونوا هذه المقومات واعملوا بها لعلكم تفلحون.

مقدمة الكتاب
القسمُ الأوّل
القِسم الثاني
القِسم الثالِث
القسم الرابع
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢