نبذة عن حياة الكاتب
غزوات الرسول
الطبعة : الطبعة الاولى
المؤلف : سميح عاطف الزين
فئة الكتاب : سيرة
عدد الصفحات : ٤٧٦
تاريخ النشر : ١٩٨٨

غَزوَة تَبُوك
سلسلة غزوات الرسول
(10)


غَزوَة تَبُوك



سميح عَاطف الزَّين


بِسْمِ اللَّهِ آلْرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
{مَا كَانَ لأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُم مِّنَ الأَعْرَابِ أَن يَتَخَلَّفُواْ عَن رَّسُولِ اللَّهِ وَلاَ يَرْغَبُواْ بِأَنفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ يَطَئُونَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ * وَلاَ يُنفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً وَلاَ يَقْطَعُونَ وَادِياً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ}.

غزوة تبوك
كان الوقت في أوائل الخريف، وهي فترة تشتد فيها الحرارة حتى تصبح أشد من قيظ الصيف، ثم إنَّ الرحلة من المدينة إلى بلاد الشام طويلة وشاقة، وتحتاج إلى الجلَد وإلى المؤونة والماء. ومثل هذه الأمور، قد تعسر على جيشٍ ينطلق من المدينة إلى تلك البلاد، ولذلك يتوجب لها إعداد وتخطيط محكمان، يختلفان عما اعتاده المسلمون في سالف الغزوات والحروب، عندما كان رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، يتخذ القرار في الخروج دون أن يفصح عن وجهته، أو عندما كان أحياناً يغير وجهة المسير، يقود جيشه إلى غير الناحية التي كان يقصد، وذلك تضليلاً وإيهاماً للعدو حتى تلتبس عليه الأمور، ولا يعود قادراً على اتخاذ التدابير التي تمنع عنه الزحف.
من أجل ذلك، كان قرار رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، أن يعلن منذ البداية عن عزمه لمقابلة الروم على حدود بلادهم، وأن يستعد المسلمون لحمل السلاح كل من استطاع إليه سبيلاً. فبعث في القبائل جميعاً، يدعو للتهيؤ، وفي الوقت نفسه دعا إلى توفير سائر الإمكانيات والتجهيزات نظراً لما يحتاجه الجيش الذي يعدّه من أدوات حرب وعتاد، وما يقتضي ذلك من أموال طائلة، حضّ أهل الغنى على أن ينفقوا في سبيلها مما آتاهم الله من فضله.
وقد استقبل الناس دعوة رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، للإنفاق والتهيؤ استقبالاً متبايناً. فأما المؤمنون الصادقون، الذين امتلأت قلوبهم هدى ونوراً، فقد أقبلوا يلبون الدعوة خفافاً مسرعين، ومنهم الفقير الذي لا يجد دابةً يحمل نفسه عليها، ومنهم الغني الذي يضع ماله بين يدي رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، برضى وطيب خاطر.
وجاء أبو بكر الصديق بأربعة آلاف درهم، هي ماله وكل ما يملك، فسأله النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، إن كان قد أبقى لأهله شيئاً، فقال أبو بكر (رضي الله عنه): أبقيت لهم الله ورسوله.
فهو يرى بأنه ينتمي إلى دولة الإسلام، وهي التي تقوم برعاية شؤونه وشؤون أهله وعياله، فإن كانت دولته بخير، فإنما يكون هو ومن يكفل بخير، ولو كان لا يملك درهماً واحداً، لأنها هي التي تكفل حياة أفرادها، بما يستحقون من كرامة وعناية. أما إذا أزيلت هذه الدولة من الوجود، فإن أموال الأرض كلها وثرواتها، ولو كانت من الذهب الخالص، لا تفيده بشيء، لأنه بزوال دولته يفقد الانتماء، ويصبح بلا هوية ولا وطن.
نعم تلك كانت نظرة أبي بكر الصديق التي ترى في وجود دولة الإسلام وجوداً للمسلمين، وفقدانها فقداناً لكيانهم الجماعي، وزوالاً لهوية المسلم الفردية.
هذا من الناحية المادية. أما من الناحية الإيمانية والدينية، فإنَّ با بكر يعهد بعياله إلى الله تعالى ورسوله، صلى الله عليه وآله وسلم، فهما خير كفيلين، وخير معينين لكل إنسان على وجه الحياة إن سلم أمره للَّه سبحانه، وانضوى تحت لواء رسوله الكريم.
وتبقى نظرة أبي بكر الصديق ثابتة بصدقها حتى يومنا هذا. ولئن أضاعَ المسلمون هذه النظرة ولم يهتدوا إليها، فإن أعداءهم قد أخذوها وتمسكوا بها دستوراً ينشئون على أساسها الدول ويقيمونها ولو بالاعتداء والظلم. فهذا رئيس وزراء إسرائيل، مناحيم بيغن يصرح أن دولة إسرائيل، هي لجميع بني يهود في العالم. فهو يرى أن الانتماء الصحيح لليهودي إنما يكون لدولة يهودية موجودة، دون أن يكون للجنسية التي يحملها اليهودي ــــ أية كانت هذه الجنسية ــــ أي أثر على ذلك الانتماء. وبالفعل نشهد، ويشهد العالم، كيف أن اليهود في مشارق الأرض ومغاربها، يعملون على الدوام لمدّ دولة إسرائيل بكل مقومات العيش، وبكل أسباب القوة، حتى تبقى محافظة على وجودها، ويبقى لهم الانتماء الذي يريدون.
ومثلَ أبي بكر الصديق فعل عبدالرحمن بن عوف، إذ تصدّق بمائتي أوقية من الفضة، فلما سأله النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، هل تركت لأهلك شيئاً؟ قال: نعم، أكثر مما أنفقت وأطيب. قال له: كم؟ فقال: ما وعَدَ الله ورسولُهُ من الرزق والخير.
وهكذا انبرى سائر المؤمنين الموسرين، ينفقون لتجهيز الجيش، فقدّم عثمان بن عفان (رضي الله عنه) ألف دينار وثلاثمائة بعير وخمسين فرساً. وكان لهذا التبرع السخي، الأثر الكبير في إنجاز تجهيز جيش العسرة. وجاء عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) بنصف ماله وحمل العباس بن عبدالمطلب مالاً كثيراً، قيل إنه بلغ تسعين ألف درهم. وقدّم عاصم بن عديّ كمية كبيرة من التمر قيل بلغت سبعين وَسْقاً، أي حمل بعير، أو في المكيال ستين صاعاً بحيث يزن الصاع ستة أرطال وثلثاً. ولم يبخل المؤمنون الآخرون بما عندهم، أمثال طلحة بن عبدالله، وسعد بن عبادة الأنصاري، ومحمد بن مسلمة، وغيرهم، ممن قدّم ما يقدر عليه. وشاركت النساء في التجهيز، فكن يلقين في ثوب مبسوط بين يدي رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، ما بأيديهن من أساور وخواتم وما في آذانهن من شُنوف وأقراط، وما بأعناقهن من عقود وقلائد..
نعم هكذا كان اندفاع المؤمنين، فكلٌّ يعطي بحسب طاقته، وما ألهمه الله سبحانه وتعالى. فمن استطاع أن يجهّز غيره لم يتأخر في ذلك، ومن لم يستطع اكتفى بتجهيز نفسه.
وجاءَ النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، نفرٌ من المؤمنين، عجزوا عن تجهيز أنفسهم، يسألونه أن يحملهم على ما عنده من الركائب، ولم يكن قد بقي منها شيء يفيض عن الحاجة، فقال لهم: «ما أجد ما أحملكم عليه». فتولّوا وعيونهم تفيض بالدمع، حزناً على ما فاتهم من شرف الجهاد، ولكثرة ما ذرفوا من دمع، بسبب عجزهم عن تجهيز أنفسهم، سُمّوا بالبكائين. وكانوا سبعة من الأنصار هم: سالم بن عُمير، وعُلبة بن زيد، وأبو ليلى عبدالرحمن بن كعب، وعمرو بن الحُمام بن الجَموح، وعبدالله بن المغفَّل، وهَرَم بن عبدالله، والعِرياض بن سارية الفزاريّ. وفيهم نزل قوله الله تعالى:
{الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لآ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّواْ وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلاَّ يَجِدُواْ مَا يُنفِقُونَ} .
هذا هو فعل المؤمنين الصادقين، عطاءٌ وبذلٌ، وتضحيةٌ في سبيل الله ورسوله. أما الذين دخلوا في الدين رغباً ورهباً ـ رغباً في مغانم الحرب، ورهباً من بأس المسلمين، ـ فقد تثاقلوا، وبدأوا يلتمسون الأعذار. فهذا الجَدّ بن قيس، أحد بني سلمة، يقول له الرسول، صلى الله عليه وآله وسلم، ذات يوم وهو في جهازه لهذه الغزوة: «يا جَدّ، هل لك العام في جهاد بني الأصفر..؟.
فقال: «يا رسول الله، أوَتأذن لي ولا تفتنّي؟ فوالله لقد عرف قومي أنه ليس أحدٌ أشدَّ عُجباً بالنساء مني، وإني أخاف إن رأيت نساء بني الأصفر أن يفتنَّني فأذَنْ لي يا رسول الله». فأعرض عنه الرسول، صلى الله عليه وآله وسلم، وقال: قد أذنت لك..
وفي الجَدّ وأمثاله من المعذّرين، نزل قوله تعالى:
{وَمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ ائْذَن لِّي وَلاَ تَفْتِنِّي أَلاَ فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُواْ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ} .
وقوله تعالى:
{وَجَآءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ} .
ومن الذين لم يدخل الإيمان في قلوبهم، بل هم دخلوا في الإسلام لأغراض ومآرب معينة، قوم من المنافقين، رأوا في عدوة رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، لغزو بلادٍ بعيدة، وفي جوٍّ محرقٍ لاهب، ما يستدعي هزءهم وسخريتهم فراحوا يتهامسون بذلك فيما بينهم، ويقول بعضهم لبعض: «لا تنفروا في الحرّ» زهادة في الجهاد، وشكّاً في الحق وإرجافاً برسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، فأنزل الله تبارك وتعالى فيهم:
{وَقَالُواْ لاَ تَنفِرُواْ فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّاً لَّوْ كَانُواْ يَفْقَهُونَ * فَلْيَضْحَكُواْ قَلِيلاً وَلْيَبْكُواْ كَثِيراً جَزَآءَ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} .
ولم يقف المنافقون عند حد تباطُئِهم عن الخروج للقتال، بل صاروا يحرّضون الناس على التخلف عن ذلك. ورأى الرسول، صلى الله عليه وآله وسلم، أنَّ ما يسعى إليه هؤلاء إنما هو الفتنة بعينها، لما في دعواهم من تخذيل لغيرهم، وبذرٍ للشكوك، وافتعال أعذار كاذبة، فأخذهم بالشدة، وضرب على أيديهم بكل قسوة. فلما بلغهُ أن جماعة منهم يجتمعون في بيت سُوَيْلم اليهودي، بعث إليهم طلحة بن عبيدالله في نفر من أصحابه، فحرق عليهم بيتَ سُويلم، وفرَّ الضحاك بن خليفة من ظهر البيت، فانكسرت رجله، بينما نجا الباقون بفرارهم. وقد كان للحزم والشدّة اللذين أظهرهما رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، في معاملة المنافقين، ما خفَّف غلواءهم في تخذيل الناس وتثبيط الهمم، وإنْ لم يقعدهم بتاتاً عن الدّس والتحايل بشتى الأساليب.
وانتهى الاستعداد، واجتمع الجيش، فخرج به النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، بعد أن استخلف على المدينة عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) لأن المدينة دار هجرة الرسول والمسلمين، ولأن فيها ومن حولها منافقين ربما كادوا للإسلام، فما ينبغي أن تترك على غير علي (عليه السلام) الذي وجودُه بذاته فيها يبقى مرهوباً يخشاه المنافقون. أما عليٌّ (عليه السلام) فقد وقف بين يدي رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، حزيناً لعدم اشتراكه في الجهاد وهو أبو الزند والسيف الفتَّاكين، وقال: «بأبي أنت وأمي يا رسول الله، أتخلفني مع النسوة والصبيان؟» فرفع النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، إليه طرفه الشريف وقال: «يا عليُّ، أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلاَّ أنه لا نبيَّ بعدي؟ إنه لا ينبغي في الظرف الحاضر أن يبقى في المدينة إلاَّ أنا أو أنت». فأذعن علي (عليه السلام) لقول النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، لأنه كان يدرك ويشعر بدقة الموقف. وأذهل هذا الاستخلاف المنافقين وأهل الريب الذي علموا أنهم مراقبون من علي الذي لا تأخذه في الله لومة لائم، وبذلك توارت بعض الوقت من أذهان المنافقين صورة الفتنة التي كان يمكن أن تمرَّ في مخيلاتهم أثناء غياب النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، عن المدينة المنورة. وحانت ساعة المسير، فأصدر الرسول، صلى الله عليه وآله وسلم، أوامره، وزحف الجيشُ قاصداً تبوك في شهر رجب من السنة التاسعة للهجرة. ثلاثون ألفاً، كان يتقدمهم عشرة آلاف فارس على رأسهم رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، بقيادته الحكيمة الرشيدة، وبقوة شجاعته النادرة، فخرجت النسوة يشهدن هذا الجحفل الجرار، وهو يتوجه صوب الشام، مخترقاً الصحراء، لا يأبه لظمأ أو حرّ أو جوع، بل يستهين بكل شيء في سبيل الله ونصرة دينه...
وبعد أن انطلق الجيش نحو تبوك، وأمسى بعيداً عن المدينة فكّر المنافقون أن يضربوا ضربتهم القاضية، ويجعلوا المدينة في قبضة أيديهم، ولكنهم رأوا أنَّ العائق الكبير الذي يقف في طريقهم هو علي بن أبي طالب (عليه السلام) فراحوا يُرجِفون عليه ويقولون: «ما خلّفه محمد إلا استثقالاً له وتخفّفاً منه» وكان ذلك من شدة مكرهم وخداعهم. وأمعنوا في المكر، فراحوا يأتون علياً (عليه السلام) متظاهرين بالمودة له، وبغبطته على ثقة الرسول، صلى الله عليه وآله وسلم، به، إذ أبقاه على الأهل والذراري في الوقت الذي يكابد فيه المسلمون مشاق السفر في الأرض البعيدة، ويعانون من شظف العيش ومرارة القتال.
وكان علي (عليه السلام) يعرف نفاقهم ومكائدهم، ولكنه كان مطمئناً إلى يقظته وقدرته على أن لا يترك للمنافقين مجالاً للإفساد، ولا لأهل الريب والطمع فرصة لتحقيق الأغراض الدنيئة.
فقد فوّت رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، عليهم فرصة الفساد، بإبقائه علياً (عليه السلام) في المدينة، فما عادوا يرتجون وقوع فساد ولا اختلاط أمر ولا شقاقاً ولا نفاقاً. إلاَّ أن هذا الفشل الذي أصابهم لم يقعدهم عن سوء التفكير، فأمّلوا بخسارة تنزل بالمسلمين وتكون نهاية سلطانهم وحتى وإن لم يخسروا الحرب، بل وإن ربحوها، وهو أقل الاحتمالات، فإن ربحهم ذاك ــــ إن حصل ــــ لن يكون إلاَّ ربحاً هزيلاً، لأنهم سيعودون منهوكي القوى، ضِعافاً مضعضعين، بخلاف ما هم عليه وقت خروجهم. ومثل هذا الضعف تصوّره المنافقون قوةً لهم إذ يمكّنهم من أن يجعلوا أنفسهم عيوناً لدولة الروم، يقدمون لها جميع المساعدات، التي تمكّنها من معاودة قتال المسلمين والقضاء عليهم..
تلك كانت النيّات التي عقدها المنافقون، يوم خروج النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، إلى تبوك، ولم تَخْفَ تلك النيّات الخبيثة على رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، البصير الحكيم، فاستخلف أخاه علياً على المدينة، حتى يمنع أهلها من الريب والنفاق، ومن تحقيق أغراضهم، إذْ ببقائه في المدينة يضمن سلامة الأمور، أياً كانت النتائج التي تسفر عنها الحرب مع دولة الروم..
ثم ما زال الجيش الإسلامي يتقدم في مسيرته، حتى بلغ الحِجْرَ، وبها أطلال لمنازل ثمود منقورة في الصخر. فلما نزل، صلى الله عليه وآله وسلم، بالناس أخبرهم بأنها ديار المعذبين، وقال: «لا تدخلوا بيوت الذين ظلموا أنفسهم إلاَّ وأنتم باكون خوفاً أن يصيبكم ما أصابهم»، ثم أمر رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، بالنزول فاستقى الناس من بئرها. قال لهم: «لا تشربوا من مائها شيئاً، ولا تتوضأوا منه للصلاة، وما كان من عجين عجنتموه فاعلفوه الإبل ولا تأكلوا منه شيئاً. ولا يخرجنَّ أحدٌ منكم الليلة إلاَّ ومعه صاحب له». ذلك أن المكان كانت تعصف فيه أحياناً عواصف الرمل فتطمر الناس والإبل. ولقد خرج رجلان من بني ساعدة، أحدهما لحاجته والآخر في طلب بعير له، فطمرت أحدهما الرمال، واحتملت الريح الآخر، وقد عثر في الصباح على الأول فَنَجَا، بينما كانت طيء قد التقطت الآخر، فعادت وأهدته إلى رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم.
ثم إن رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، سار حتى كان ببعض الطريق، فإذا رهط من المنافقين يقولون للمؤمنين: أرأيتم أن رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، يقودنا إلى قتال الروم، «أتحسبون جلادَ بني الأصفر كقتال العرب بعضهم بعضاً! والله لكأنّا بكم غداً مُقْرنين في الحبال». وكانت غايتهم من ذلك، كما هو واضح، إرجافاً وترهيباً للمؤمنين. ولعلَّ مقالة هذا الرهط قد بلغت الرسول، صلى الله عليه وآله وسلم، فدعا إليه عمّار بن ياسر وقال له: «أدرك القوم قد اخترقوا فسلهم عما قالوا، فإن أنكروا، فقل: بلى، قلتم كذا وكذا..». فانطلق إليهم عمّار، فقال ذلك لهم، عندها أدركوا بأنه قد أوحي بأمرهم إلى رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، فأتوه يعتذرون إليه، فقال وديعة بن ثابت، وهو آخذ بحقب ناقة رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم: «يا رسول الله، إنّما كنا نخوض ونلعب». فنزل فيهم قرآنٌ بقوله عزَّ وجلَّ:
{يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِؤُواْ إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُونَ * وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآياتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُونَ} .
ثم مضى رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، سائراً في جيشه، وكان السير شاقاً والناس منه في عُسْرة لشدةٍ من الحر، وجدْب في البلاد، في وقت طابت عند الناس فيه الثمار والظلال، وأحبوا المقامَ في الفيء والظل، وكرهوا الشخوص إلى منازل بعيدة. في هذا الوقت جاءَ الأمر بالخروج إلى تبوك، ووقعت الدعوة إلى الجهاد لدفع عدو غاشم، ودرء خطر حالّ، فلم يكن أمام المؤمنين ــــ وهم أهل الدعوة وحماتها ــــ إلاَّ الامتثال للأمر، والتلبية للدعوة، لا يقعدهم عن داعي الجهاد داعٍ، ولا يبقيهم سبب، أياً كانت الأسباب غير مؤاتية، ومهما كانت الظروف غير ملائمة إذ:
{مَا كَانَ لأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِّنَ الأَعْرَابِ أَن يَتَخَلَّفُواْ عَن رَّسُولِ اللَّهِ وَلاَ يَرْغَبُواْ بِأَنفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ يَطَئُونَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ * وَلاَ يُنفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً وَلاَ يَقْطَعُونَ وَادِياً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} .
ولقد قاسى رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، والمؤمنون في هذه السفرة مشقة بالغة، وعنتاً شديداً، حتى لقد ذكر أن الرجلين من شدة الجوع كانا يقتسمان التمرة بينهما؛ وكان آخرون يتداولونها بمصّها ثم يشربون عليها.. ولقد كثرت حاجتهم إلى الماء، فأصابهم عطش شديد، حتى قيل إنهم كانوا ينحرون الإبل، التي هم بأمس الحاجة إليها، فينفضون أكراشها ويشربون ماءها..
وليس من عجيب، في اجتماع هذه المشاقّ من الطعام، والماء، والقيظ، ومشقة السفر، أن يدعى الجيش الزاحف إلى تبوك، بجيش العُسْرة.. إلاَّ أنه مهما يكن الإعسار، ومهما تكن الشدة، فإنّ المشاق التي عانى منها المسلمون في سيرهم إلى تبوك كانت امتحاناً من الله سبحانه لهذا الجيش الكبير، إذ أراد به عزَّ وجل، تمحيص المؤمنين، وإظهار أهل النفاق، على حقيقتهم. ولقد ظهرت الحقيقة، فكان المؤمن، صابراً، صادقاً، متلهفاً للقتال في سبيل الله، بينما بدا المنافق، الذي يتظاهر بالإيمان، خائر القوة، واهن الهمة، يتسلل من وراء الصفوف، ليرجع إلى المدينة، فيقعد مع المتخلفين.. وكان كلما تخلَّف رجل يقولون: يا رسول الله، تخلف فلان، فيقول: «دعوه، فإنّ يَكُ فيه خير فسيُلحقه الله تعالى بكم، وإن يَكُ غير ذلك فقد أراحكم الله منه».
وكان من هؤلاء المتخلفين الذين لم يخرجوا مع النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، أبو خيثمة أحد بني سالم، الذي لم يلبث، بعد أن سار مع رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، بضعة أيام، أن داهمه يوم حار، فعاد إلى أهله، ليجد امرأتين له، في عريشين لهما ببستان، قد رشّت كل منهما عريشها، وبرّدتْ له فيه ماءً، وهيأت له فيه طعاماً. فلما دخل قام على باب العريشين، فنظر إلى امرأتيه وما صنعتا له، فقال: «رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، في الضّخّ (الشمس) والريح والحر، وأبو خيثمة في ظل وماءٍ بارد وطعامٍ مهيأٍ، وامرأةٍ حسناء، في مالٍ مقيم؟ ما هذا بالنَّصف».. ثم نظر إلى امرأتيه وقال: «والله لا أدخل عريش واحدة منكما حتى ألحق برسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، فهيّئا لي زاداً..».
واحتمل أبو خيثمة زاده، ثم أتى ببعيره، فوضع عليه الرحل، وجدَّ في طلب رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، حتى أدركه وقد ترك تبوك.
ومن بين الذين تخلَّفوا أثناء السير نحو تبوك أبو ذر الغفاري، جندب بن جنادة، الذي تأخر به بعيره عن الجيش، فقيل لرسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم: يا رسول الله، قد تخلّف أبو ذر، وأبطأ به بعيره، فقال: «دعوه، فإن يَكُ فيه خير فسيلحقه الله بكم، وإن يَكُ غير ذلك فقد أراحكم الله منه»..
وكان بعير أبي ذر قد تعب ولم يعد قادراً على أن يلحق بالركب. فلما رآه أبو ذر على هذه الحالة تركه وأخذ متاعه فحمله على ظهره، ثم خرج يتبع أثر الجيش ماشياً. وكان رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، قد نزل في بعض منازله، فنظر رجل من المسلمين، وقال: يا رسول الله، أرى رجلاً يمشي على الطريق وحده، فقال رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم: «كُنْ أبا ذرّ». فلما قرب، وعرفه الناسُ، قالوا: «يا رسول الله، هو والله أبو ذر». فقال رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم: «يَرحَمُ الله أبا ذر، يَمشي وحدَه، ويَموتُ وحدَه، ويُبعثُ وحدَه»..
ولئن تتداول الأيام، وتنقضي السنون، فإنها تأتي مصدقة لقول رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، فقد روى عبدالله بن مسعود، قال: «لما نفى عثمانُ أبا ذر إلى الرَّبذة ، وأصابه بها قدره لم يكن معه أحد إلا امرأته وغلامه، فأوصاهما أن أغسلاني وكفّناني، ثم ضعاني على قارعة الطريق، فأول ركب يمرُّ بكم فقولوا: هذا أبو ذر صاحب رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، فأعينونا على دفنه. فلما مات فعلا ذلك به، ثم وضعاه على قارعة الطريق. وأقبلتُ ــــ يقول ابن مسعود ــــ في رهطٍ من أهلِ الكوفة وأثناء السير فوجئنا بالجنازة حتى لكادت الإبل أن تطأها لولا أن تقدم منا غلام، وقال هذا أبو ذر صاحب رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، فأعينونا على دفنه. فاستهللت أبكي وأقول: «صدق رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، حين قال عنك يا أبا ذر: يَمشي وحده، ويَموت وحده، ويُبعث وحده. ثم نزلت أنا وأصحابي فواريناه».
هذه صورة حية عن بعض أولئك المؤمنين، الذين نذروا أنفسهم للدعوة، مهما كانت الصعاب وكيفما كان المصير.
وبلغ جيش المسلمين تبوك، فنزل رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، وأقام معسكره هناك، لا يجد أثراً للروم... ذلك أن الروم كان قد بلغهم أمر مسيرة محمد، صلى الله عليه وآله وسلم، إليهم، وما هو عليه من كثرة العدد، ومناعة القوة وكأنهم تذكروا حربهم مع المسلمين أيام «مؤتة» وما شاهدوا من استبسالهم وما رأوا من قدرتهم على الصمود، فأدركوا أنه لا قِبَلَ لهم على مواجهة هذا الجيش الذي يزحف به محمد، صلى الله عليه وآله وسلم، لأنه سوف يكون بمثل روحيةِ ومناقبيةِ جيشِ مؤتة، فكيف إذا كان يفوقه عدداً وعدة وبقيادة رسول الله نفسه؟!.. ولذلك آثر الروم الانسحاب بالجيش الذي كانوا وجهوه إلى الحدود، ليحتمي داخل بلاد الشام في الحصون دون أن يلاقي جيش المسلمين في حرب أو قتال.
إذن انتهى المطاف بالمسلمين إلى تبوك في أقصى الشمال، وكان الروم وحلفاؤهم قد سمعوا أنباء هذا الجيش الكبير، وقدرته على اجتياز المصاعب لملاقاتهم، فآثروا الانسحاب إلى الداخل، حيث استقرَّ هرقل وجيشه في حمص، ويبدو أن هرقل كان لا ينوي الانسحاب فقط وعدم مواجهة المسلمين في تبوك، بل واستدراجهم إلى الداخل حيث يمكنه الانقضاض عليهم إذا ما حاولوا اللحاق بجيشه، ولكن خطة الرسول، صلى الله عليه وآله وسلم، كانت المكوث في تبوك دون التوغل، مع أنَّ فكرة اللحاق بهم لم تغب عن ذهنه، ولكنه اكتفى بما أنعم الله عليه وعلى المسلمين من انتصار على البيزنطية كما أنعم عليه من قبل من انتصار على الوثنية واليهودية.
نعم نزل رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، في حصن تبوك، واكتفى بهذا النزول، إذ لم يرَ مبرراً لتتبّع الروم إلى بلادهم مع تعب جيشه ووصبه، وطالما أنه قهرهم بالرعب والخوف، قبل أن يقهرهم بالحرب، وطالما أنه أدخل في روعهم، أن بلادَ الإسلام، لن تكون لهم لقمة سائغة كما يتوهمون، بل هي حصينة بإيمان أبنائها، منيعة بقوة دينها، عزيزة بسلطان دولتها..
وأقام رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، عند الحدود، ينازل من شاءَ أن ينازله أو يقاومه، ويعمل لصون وضمان هذه الحدود حتى لا يتخطاها بعد ذلك أحد. وأثناء إقامته هناك بعث ببعض الرسائل إلى أمراء القبائل، والمقاطعات الواقعة تحت حكم الروم، ومن هؤلاء أهل الجرباء، وأهل أذرح، ويوحنّا بن رؤبة صاحب أيْلة ، ويدعوهم إلى الإذعان أو الغزو، فقبلوا جميعهم بالخضوع، وقدموا الطاعة، وصالحوه، صلى الله عليه وآله وسلم، وأعطوه الجزية. وكتب لهم رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، كتب أمْنٍ، هذا نص أحدها، وهو الذي كتبه إلى يوحنّا:
«بسم الله الرحمن الرحيم
هذه أمَنَةٌ من الله ومحمد النبي رسول الله ليوحنّا بن رؤبة وأهل أيْلة سفنهم وسيّاراتهم في البر والبحر لهم ذمة الله ومحمدٍ النبيِّ ومن كان معهم من أهل الشام وأهل اليمن وأهل البحر. فمن أحدث منهم حدثاً فإنه لا يحول ماله دون نفسه، وإنه طيب لمحمد أخذه من الناس. وإنه لا يحلّ أن يمنعوا ماءً يردونه ولا طريقاً يريدونه من برّ أو بحر».
ورأى رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، أنه لم يبق من حاجة إلى القتال بعد انسحاب الروم، وبعد إقامة المعاهدات مع أهل البلاد الواقعة على الحدود، إلاَّ أنه تحسّب لأُكَيْدر بن عبدالملك الكنديّ النصراني، أمير دومة الجندل ومعاونته جيوش الروم إن جاءت من ناحيته، ولذلك بعث إليه خالد بن الوليد في خمسمائة فارس.
وخرج خالد على رأس هذه السرية، وأسرع بالانقضاض على دومة الجندل، في غفلة من مليكها، الذي خرج في ليلة مقمرة ومعه أخ له يسمى حسّان، ونفر من أهل بيته، يصطادون بقر الوحش، فإذا بهم يجابهون بخيل رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، تلقاهم في وجوههم، وتأخذهم أسرى دون أية مقاومة، إلاَّ ما بدر من حسان، أخي أكيدر، فإنَّ مقاومته أدت إلى قتله..
وفتحت دومة أبوابها، وساق خالد منها ألفي بعير وثمانمائة شاة وأربعمائة وسق من بُرّ وأربعمائة درع، أخذها وذهب بها ومعه أكيدر ليلحق برسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، وقد ترك الرسول تبوك بعد أن أقام فيها نحو عشرين ليلة.
وصل خالد بن الوليد، وقدّم أكيدر الكندي بين يديّ رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، وكان أكيدر نصرانياً، فعاقده الرسول، صلى الله عليه وآله وسلم، على الطاعة، وتقديم الجزية.
وكان خالد قد حمل معه، من جملة ما حمل من مغانم ثوباً مزركشاً بالذهب، كان أكيدر يلبسه، لما عُرفَ عنه من إقبالٍ على زخرف الحياة ومتعها، وإعراضٍ عن جليل الأعمال وشريفها، فاتخذ مظاهر الدعة والترف مشرباً ومسلكاً له في الحياة.. ولشدة ما تميّز به ذلك الثوب من دقة الصنع، وندرة الحبكة والتطريز، لفت نظر بعض الصحابة، فراحوا يتلمسونه بأيديهم، وهم معجبون به، فإذا رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، ينهاهم عن ذلك لأنه في الحقيقة، لا يعدو عرضاً من أعراض الدنيا الزائفة، التي قد تطغى على كيان الإنسان، فتجذبه عن ميزته الإنسانية، وتفرغه من صدق جوهره، فإذا كان هذا الحال بالنسبة لبعض الصحابة الذين نذروا أنفسهم للجهاد في سبيل إعلاء كلمة الله تعالى، فكيف بالنسبة للمسلمين عامة، أفلا تقعدهم مثل هذه الأعراض عن العمل في سبيل الغاية الجليلة التي إليها يسعون؟!..
نعم، لقد أبى رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، على الصحابة حتى الإعجاب بثوب موشَّى بالذهب، ورفض أن يكون عندهم هذا الإعجاب، وهم يعرفون أن هنالك نعيماً أبدياً في الآخرة لا يزول، وجنة سرمدية لا تفنى.. فجاءهم النهي بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: «أتعجبون من هذا! فوالذي نفسي بيده، لمناديل سعد بن معاذ في الجنة أحسن من هذا»!.
تلك كانت سرية خالد بن الوليد إلى «دومة الجندل»، وما أعقبها من خضوع مليكها أكيدر، عامل هرقل الروم، بموجب كتاب أمان من رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، له، مقابل دفعه الجزية..
وكان في طريق العودة من تبوك ماء يخرج من وَشَلٍ، ليس بغزير ولكن قد يروي بعض الركبان القلائل، ويقع بوادٍ يقال له المشقَّق، فلما كان الجيشُ منه على مسافة، أمر رسولُ الله، صلى الله عليه وآله وسلم، ألاَّ يقربوه، فقال:
«من سبقنا إلى ذلك الوادي فلا يستقينَّ منه شيئاً حتى نأتيه»، ولكنّ بعض المنافقين لم يمتثلوا للأمر، بل سبق إليه نفر منهم فاستقوا ما فيه، حتى إذا أتاه الرسول، صلى الله عليه وآله وسلم، لم يجد فيه شيئاً، فسأل: من سبقنا إلى هذا الماء؟ فقيل له: يا رسول الله، فلان، وفلان.. قال: أوَلَمْ أنهَهُمْ أن يستقوا منه حتى آتيه؟!..
ولعن رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، أولئك النفر، ودعا عليهم، لأنَّ ما فعلوه يخالف روح الجماعة وتعاونها، إذْ كان الجيش كله بحاجة للماء، والواجب يقضي بأن يُوزَّع هذا الماء على الجميع، فيستقي كل واحدٍ ولو بِنَزْرٍ يسير، لا أن يرتوي عدد قليل، ويُترك الباقون للعطش، مما يدلُّ على عدم تحسس أولئك المنافقين لمصلحة الجماعة، والتباعد عن العمل لتأمين تلك المصلحة، فحق لهم أن ينالوا غضب رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، ودعوته عليهم..
ونزل رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، عن راحلته، فوضع يَدَهُ المباركة تحت الوشل ، فجعل يصب في يده منه، ثم ينضحهُ به ويمسحه، وهو يدعو الله تعالى، بدعائه النبوي الذي تتفتَّقُ له الحجب وتحمله الملائكة الكرام إلى حيث ينبغي أن يُحمل، وإذا الماء ينبجس من الحجر، فيسمع له صوت شديد وهو يتفجّر، فيشرب الناس ويرتوون، ثم يحملون حاجتهم منه ويرتحلون..
ومن الحوادث التي رافقت النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، في طريق عودته من غزوة تبوك، ما رواه عبدالله بن مسعود، عن موت أحد المؤمنين الصادقين: قال: «قمت في جوف الليل، فرأيت شعلةً من نارٍ في ناحية المعسكر، فاتبعتها فلما وصلت إذا رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، وأبو بكر وعمر (رضي الله عنهما) وإذا عبدالله ذو البِجادين مِنْ مُزينة قد مات. وإذا هم قد حفروا له، وقد نزل النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، يأخذه منهما يسجّيه في حفرته، فيقول لهما: «أدْنيا إليَّ أخاكما».. فدلّياه إليه، فلمّا هيأه لقبره، قال: «اللَّهم إني أمسيت راضياً عنه، فارضَ عنه».. ويتمنى عبدالله بن مسعود لو يكون هو الميت فيقول: «يا ليتني كنت صاحب الحفرة». فيا لها من صحبة رفيعة لخاتم أنبياء الله صلوات الله عليه وآله وسلم تبدو في كل مناسبة حتى تصل إلى تمنِّي الموت بين يديه ونيل رضاه!!
.. وتابع رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، العودة بجيشه إلى المدينة حتى نزل بـ«ذي أوان» وهو بلد على مسافة ساعة من المدينة.. وفي ذلك البلد، كان جماعة من المنافقين، قد ابتنوا لهم مسجداً، واتخذوه مكاناً للتداول والتآمر على رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، والمؤمنين، وكانوا يحاولون في اجتماعاتهم هناك، تحريف كلام الله عن مواضعه، في سبيل غاية شنيعة، وهي دسّ التفرقة بين المسلمين، والعمل على إيذائهم وإيقاع الضرر بهم. وتُعبِّر هذه الجماعة عن نواياها الشريرة بقول بعضهم لبعض: «ابنوا مسجدكم، وأعدوا ما استطعتم من قوة ومن سلاح، فإني ذاهب إلى قيصر، فآتي بجنده من الروم، فأخرج محمداً وأصحابه». وهكذا كانت هذه الجماعة تعمل في الخفاء للإيقاع بالمسلمين، وقد عقدت العزم على تنفيذ تآمرها في الوقت الذي كان يتجهّز فيه رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، ويجمع الجيش للمسير إلى تبوك.. ذلك أنها توهمت خطأ بأنَّ المسلمين سوف ينهزمون لا محالة، لأنَّهم في ملاقاتهم للروم، سوف لا يكون لهم قِبَلٌ بقتالهم، فتنزل بهم المصيبة، ويذهبون أشتاتاً ويفرُّون ضعافاً، وفي هذه الحالة، تُقدم تلك الجماعة على تنفيذ مخططها الخبيث، فتقوم بالاتصال بالروم، حتى يقدموا إلى المدينة ويحتلوها.
وقد جاءت النتائج تكذّب ظنون تلك الجماعة، وتخيّب آمالها، وجاءت الأحداث تذهب بأباطيلها ورجس شياطينها أدراج الرياح. إذ عرفت، أن الروم، الذين عوّلت عليهم في القضاء على المسلمين، لم يجرؤوا على مواجهة الجيش النازل في تبوك، بل آثروا الانسحاب إلى داخل بلادهم، يلوذون بالحصون، في حين أقام الرسول الأعظم، صلى الله عليه وآله وسلم، وجيشه هنالك ما شاء الله تعالى أن يقيموا..
هذه الجماعة المنافقة ــــ إمعاناً منها في التخفي والمكر ــــ كانت قد جاءت النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، تسأله أن يصلّي في المسجد الذي ابتنته وقتَ استعداده وتهيؤه للخروج إلى تبوك، وقالت: «يا رسول الله، إنّا قد بنينا مسجداً لذي العلة والحاجة والليلة الشاتية، وإنّا نحب أن تأتينا فتصلي فيه»..
لقد أرادوا بسؤالهم ذاك أن يتخذوا من صلاة النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، في المكان الذي زعموه مسجداً، إقراراً بشرعية بنائه وإثباتاً لهم على صحة عملهم. ولكنَّ رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، طلب إليهم التريث لحين عودته، مبدياً أنه على جناح سفر، وحال شغل، ولو رجع لأتى مسجدهم ففعل ما شاء الله.. فلمّا كان نزوله بـ«ذي أوان»، نزل عليه الوحي بأمر المسجد وبنائه ضراراً وكفراً وتفريقاً بين المؤمنين، عندها دعا إليه مالك بن الدُّخْشُم، أخا بني سالم بن عوف، ومَعْنَ بن عَدِيّ، أخا بني العجلان، وأمرهما بأن ينطلقا إلى ذلك المسجِدِ، الظالِمِ أهلُهُ، فيحرّقانه عليهم ويهدّمانه..
وخرج الرجلان مسرعَين، فقصد مالك أهله في بني عوف، وأتى بسَعَف النخل، ثم عادَ إلى رفيقه، فأشعلا السعف وحملاه واندفعا إلى المسجد يضرمان النار في جنباته، فهوى مهدّماً على أهليه، ولقد أمكن لمن كانوا فيه من جماعة أهل النفاق أن يفروا هاربين قبل أن يحترق مسجدهم على رؤوسهم، ويتهدم على جثثهم..
ولقد سمي هذا المسجد، الذي أُسس بنيانه على الكفر والضرر، مسجد الضرار، وفيه وفي الجماعة التي ابتنته نزل قول الله تعالى:
{وَالَّذِينَ اتَّخَذُواْ مَسْجِداً ضِرَاراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَاداً لِّمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ * أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * لاَ يَزَالُ بُنْيانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلاَّ أَن تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} .
وعادَ رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، بعد هدم مسجد الضرار إلى مدينته المنورة، فخرج الناس إلى ثنية الوداع يتلقَّوْنَهُ بالتهليل والتكبير، فرحين بما آتاهم الله من فضل، وبما أحاطهم من نعم، إذ أعاد إليهم الرسولَ العظيم، والجيش الإسلامي المظفر، تحفُّ بهم رايات النصر خفاقة، وتحيط بهم ألوية العزّ عالية، من أعسر مسيرة، وأشق سفر، وأعظم غزوة.
واستراح النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، في ظلال هذا الفيء الرباني، ليستقبل الوحي، يأتيه بآيات منزلات، تبين أحوال الناس في المجتمع الإسلامي، وما تنطوي عليه سرائرهم، سواء بالنسبة إلى بعض القضايا السابقة على غزوة تبوك، أم أثناء تلك الغزوة أو بعدها.
فالمجتمع الإسلامي قبل فتح مكة كان قد خلا من النفاق أو كاد، إلاَّ أنه بعد هذا الفتح وبدخول جماعات كثيرة في الإسلام، لم يكُنِ الإيمانُ قد استقر بعدُ في قلوبهم، عادَ النفاق معها يستشري، وحاول أهلوه العملَ على هدم البنيان المتين الذي أقيم مدعَّماً بالصدق والإيمان. فجاءت الآيات القرآنية تفضح أفاعيل المنافقين، وتصوّر أحوالهم النفسية والعملية، في حملة طويلة تكشف ما كان لهم في هذه الفترة من محاولات كثيرة لإيذاء الصف المسلم وفتنته، وتحويله بشتى الدسائس والأكاذيب عن وجهته، كما أنها في الوقت ذاته تكشف عن حالة الخلخلة وعدم التناسق في التكوين العضوي الذي صار عليه المجتمع الإسلامي بعد دخول تلك الجماعات وعدم انطباعها بالطابع الإسلامي الصحيح.
وهكذا يبدو من سياق آيات سورة التوبة ــــ ولا سيما من الآية الثامنة والثلاثين إلى آخر السورة ــــ أن في المجتمع الإسلامي فئات متعددة:
فئة السابقين المخلصين من المهاجرين والأنصار، وهم الذين يؤلفون قاعدة المجتمع المسلم الصلبة القوية. وهم الذين عاهدوا الله ورسوله على الحق، ونذروا أنفسهم وأموالهم للجهاد في سبيل إعلاء كلمة الله ونصرة دينه، فنزلت الآيات تبين فضائلهم في تلبية دعوة رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، وإقدامهم على الخروج معه، مهما كانت المصاعب والمشاق التي تعترضهم، وأياً كانت المسافات أو المخاطر التي تنتظرهم. لا يتقاعسون عن واجب، ولا يقصّرون عن أمر، بل يلبون النداء بصفاء نيّاتهم، ويهبُّون للأمر الجلل بنقاوة ضمائرهم، فلا يفرطون بذرَّة من عمل أو جهد، أو من فكر وشعور، طالما أنها تخدم الغايات الكبرى التي إليها يهدفون.
وإلى جانب أولئك الأولين الصادقين، كانت على خلافهم الجماعات الأخرى من المنافقين والأعراب الذين لم يخالط قلوبَهم صفاءُ الإيمان. فمن هذه الجماعات كان أهل النفاق في المدينة. وآخرون خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً، لأنهم لم ينصهروا في بوتقة الإسلام انصهاراً تامّاً. وهنالك طائفة مجهولة الحال، كانت تختفي حقيقتها، وإن كان أمرها لا يخفى على الله سبحانه وتعالى وفق ما يعلمه من حالها ومآلها. يُضاف إليهم جميعاً المتآمرون على الدين، المتسترون باسمه.
ففي هذه الفئات نزلت آيات «سورة التوبة» تفضح فعالهم المنكرة، ثم تحمل عليهم حملة شعواء مليئة بالوعيد والتهديد، وبسوء ما ينتظرهم من عقاب شديد، في نار جهنم، جزاءً لما كانوا يفعلون.
ومن خلال عرض السياق القرآني، في تلك الآيات الطويلة، لأحوال المنافقين، نقع على نموذج لأهل النفاق ظهر قبل غزوة تبوك، وهذا النموذج يتمثل بقصة ثعلبة بن حاطب الأنصاري، الرجل الورع التقي، الذي تميّز بحبه للصلاة، وموافاتها في مواقيتها، فلا يتخلّف عن فريضة أبداً، بل يقوم في المسجد، راكعاً، ساجداً، حتى لقب بحمامة المسجد، لكثرة مكوثه الطويل فيه، وعدم مبارحته إلاَّ إذا اقتضته ضرورة لمثل هذه المبارحة، ولكنَّ هذا الإنسان المؤمن العابد، انقلب إلى رجل منافق، يطمعُ بالمال، ويؤثره على كل شيء.. فكيف أتاه هذا النفاق، حتى مَرَدَ عليه، وصار أعمى البصيرة، غليظ القلب؟.
كان ثعلبة رجلاً فقيرَ الحال، لا يملك مالاً ولا يقتني ماشية، إلاَّ أنه يعيش مما يكسب من رزق حلال فيه الكفاية، والبعد عن الفاقة المدقعة، وسبحان الله ــــ الذي يعلم خفايا القلوب ــــ كيف أن الهوى امتلك قلب ثعلبة، فأحبَّ أن يكون من ذوي الثروات وأصحاب الأموال، تأتيه من أي مصدر وبأي طريق، لأنَّ هذا لا يهمّ، بل المهم أن تأتيه وتحقق له الحلم الذي يراوده.
وجلَسَ ثعلبة في أحد الأيام إلى رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، يقول: «يا رسولَ الله، ادعُ الله أن يرزقني مالاً».
قال له الرسول الحكيم: «يا ثعلبة، قليل تؤدي شُكرَهُ خيرٌ من كثير لا تُطيقه».
ولم يُدرك ثعلبة أبعادَ نُصْح رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، له، فعادَ يُلحُّ في طلبه، فرأى الرسول، صلى الله عليه وآله وسلم، أن يسلك معه وسيلة أخرى للإقناع، فقال له:
«يا ثعلبة! أما لك في رسول الله أسوة حسنة؟ والذي نفسي بيده لو أردت أن تسير الجبال معي ذهباً وفضّةً لسارت».
لم يَرْعَوِ ثعلبة، ولم يتّعظ بحياة رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، فعاد يقول:
«والذي بعثك بالحق، لئن دعوتَ الله فرزقني مالاً، لأعطِينَّ كل ذي حقٍ حقه».
عندها دعا الرسول، صلى الله عليه وآله وسلم، ربَّهُ: «اللَّهم ارزق ثعلبة مالاً».
وكانت فترة وجيزة، وأُلهم ثعلبةُ، فاتخذ له غنماً..
ومع الأيام راحت أغنامه تتكاثر بشكل غريب، وتنمو بسرعة فائقة، كما ينمو زرع مؤصّل في أرض طيبة، حتى لم تعد زرائبها في المدينة تكفي لاستيعابها، فلما رأى ثعلبة ذلك، تنحى بها عن المدينة ونزل في وادٍ من أوديتها.
وامتلكت هذه الأرزاق على ثعلبة كل مشاعره، فلم يعد له من همٍّ إلاّها، حتى تعلقه القديم بالصلاة، وحبه للإقامة في المسجد بدآ يخبوان شيئاً فشيئاً، فصار ينقطع عن صلاة الجماعة، ولا يحضرها إلاَّ الظهر والعصر..
ولعلَّها قيلولة الأغنام في هذه الفترة من النهار، هي التي كانت تفسح له في المجال للذهاب إلى هاتين الصلاتين، إلاَّ أنَّ الوقت لم يطل به حتى تركهما ولم يعد يحضر إلاَّ صلاة الجمعة.
ورأى الناسُ ما فعلَ ثعلبة، وكيف ألهاه الغنى، وغرّه المال، إلى حدّ وصل به إلى ترك واجب الفريضة، فأسف له المؤمنون، بينما سُرَّ المنافقون لفعله عظيم السرور..
ولم يكن أمره خافياً على رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، ولكنه شاءَ أن يطلقها صرخة لوم وتنديدٍ به، فلمّا كان الناسُ مجتمعين يوماً، سألهم عنه، وما آلَ إليه حالُهُ، فأبدوا ما صارَ إليه من فتنة، وما آثَرَ من عَرَض الحياة الدنيا على الآخرة، فقال الرسول الحكيم؛ «يا ويح ثعلبة! يا ويح ثعلبة، يا ويح ثعلبة»..
وكان الله سبحانه وتعالى قد أنزل الآيات التي تتعلق بالصدقات، وفيها الأمر إلى رسوله الكريم:
{خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَوَاتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} .
فلمَّا كان موعد الخروج لجمع الصدقات، بعث في ذلك الحول رجلين من المؤمنين، أحدهما من جهينة، والآخر من سُلَيْم، وطلَبَ إليهما ألاَّ يغفلا ثعلبة بن حاطب، بل يمرّان عليه حتى يأخذا منه الصدقة..
وأتى الرجلان ثعلبةَ، فلمَّا عرف مقصدهما، صاح مستنكراً: «ما هذه إلاَّ جزية، ما هذه إلاَّ أخت الجزية، ما أدري ما هذا»؟..
لقد أُرْتِجَ على ثعلبة فاختلطت عليه الأمور حتى باتَ لا يميّز بين الصدقة والجزية، أو قل إنه تنكُّرٌ متعمَّدٌ منه لفريضة هي حق الله على كل صاحب مال، وإخلافٌ للوعد الذي قطعه على نفسه لرسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، بأن يؤدي كل ذي حقٍ حقه، إن رزقَهُ الله مالاً.. وها هو لا يؤدي أيّ حقٍ، بما فيه حق الله سبحانه وتعالى، بل يراوغ صاحبَي الصدقة فيقول لهما: انطلقا حتى تفرغا، ثم عودا إليَّ..
ورجعا إليه، بعد الطواف في مهمتهما، فما كان منه إلاَّ أن عادَ لاستنكاره السابق، وصَرَفهما من دون أن يعطيهما شيئاً.. وأتى الرجلان يخبران رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، بما صنع ثعلبة، فلم يزِدْ على أن ردَّدَ: «يا ويح ثعلبة»..
وإذا كان ظنُّ ثعلبة أن مالَهُ قد أغناه عن الله ورسوله، فإنَّ الله سبحانه العليم البصير، قد شاءَ أن يكشف أمره، فأنزل فيه قرآناً مبيناً يحشره مع المنافقين، الذين مردوا على النفاق، فعشش في قلوبهم لا يتخلَّى عنهم إلى يوم يلقون الله سبحانه بما أخلفوه من وعود، فقال عزَّ وجلّ:
{وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ * فَلَمَّا آتَاهُم مِّن فَضْلِهِ بَخِلُواْ بِهِ وَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ * فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُواْ اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ * أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ} .
وتلقَّى الناسُ عن الرسول، صلى الله عليه وآله وسلم، آياتٍ بيِّناتٍ بحق ثعلبة، وراحوا يتلونها في مجالسهم حتى وصلت إلى مسامعه، يحملها إليه أحَدُ أقاربه، إذ ذَهَب يوبّخُهُ على ما فعل، حتى أغضب الله تعالى وأنزلَ بحقه هذه الآيات التي تحمل عليه بشدةٍ إلى يوم القيامة..
وزاغت الدنيا في عيني ثعلبة، إذ امتلكه الخوف وأخذته الرهبة، فاحتمل نفسه احتمالاً وأتى رسولَ الله، صلى الله عليه وآله وسلم، يسأله أن يقبل منه الصدقة، ولكنَّ رسولَ الله، صلى الله عليه وآله وسلم، أبى عليه ذلك، وقال له: «إنَّ الله منعني أن أقبل منك صدقة». ورأى ثعلبة أنَّ الله سبحانه قد أنزل به حكمه، فجعل يحثو التراب على رأسه، ويندب حظَّه، ولكن من غير أن يُبدي توبةً نصوحاً، فالتفت إليه رسول الله وقال له: «هذا عملك. قد أمرتك فلم تطعني. قلت لك: «أما لك في رسول الله أسوة حسنة»، ولكنَّك لم تنتفع بالموعظة، فكان حكم الله تعالى فيك نفاقاً، ولله وحده ملك السموات والأرض، وهو على كل شيء قدير»..
تلك هي قصة ثعلبة بن حاطب، المثالُ الحيُّ على كل كاذب، مخادع، يتنكر لوعده، ويخلف عهده. ولكنْ أين المفرُّ والله سبحانه وتعالى بالمرصاد، فلئن أغرَّه المال فبخلَ به فإنَّ الله سبحانه وتعالى قد أعقبه نفاقاً في قلبه، لا يحولُ ولا يزول، بل يستقرُّ فيه إلى أن يلقى وجهَ ربه الكريم، فيكون له الحساب على ما أخلف من وعد، وما أحدث من كذب.
ومن هذا المثال الحي، الذي يشهده الناسُ في كل زمان ومكان، يبدو جليّاً أن النفاق لا يولد مع الإنسان بل يكتسبه في حياته، تدفعه إليه عوامل نفسية، وتشدُّهُ إليه أعمالُهُ المادية..
فالإنسان، وبوصفه فرداً وسط جماعة، عليه الالتزام بواجبات معينة هي في مصلحة الجماعة. فإن انفلت من أداء واجبه على الوجه الأكمل، أو أهمل القيام بهذا الواجب، أو امتنع عن تنفيذ ما يطلب إليه القيام به، بحق وعدل، فحينها يكون النفاق قد دخل إلى قلبه، ومع الزمن يصبح طبعاً متأصلاً فيه، يتحكّم بتصرفاته، ويسيّر خطاه.. ذلك أن من يخالف التزاماته الخاصة منها أو العامة، ولكي يتملّص من العقاب على ما ارتكب من مخالفة، لا بد وأن يختلق الأعذار الكاذبة لذلك، فيغدو كاذباً. ثم يتمادى في هذا الكذب، فلا يعود يصْدُقُ في قول ولا في فعل، حتى يغدو خائناً لنفسه، ولمحيطه، ومع الأيام يستمرىء ما قام به، فتحلو له أكاذيبه، ويستسيغ طعم خيانته، حتى يغدو منافقاً، يمارس أي أسلوب من أساليب المراوغة والاحتيال، ويسلك أي طريق من طرق الالتواء والتلاعب. وهكذا يكون النفاق علَّةً يكتسبها الإنسان من جراء أقواله وأفعاله. وصدق رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، حيث يقول: «صفات المنافق ثلاث: إذا حدَّث كذب، وإذا وعَدَ أخلف، وإذا أؤتمن خان».
فحذار أيها الناس، وحذار أيها الإنسان المسلم، من النفاق.
فمثل الذين مردوا على النفاق، كمثل إبليس مرَدَ على مخالفة أوامر الله حتى أعقبه حرمان التوبة، فطلبت منه القدرة على هذه التوبة، فهو على الضلال قائم، وعلى البغي والفساد دائم، إلى أن يلقى الله تعالى..
فهل يقبل الإنسان أن يكون إبليساً بين عائلته، وفي مجتمعه، وفي إنسانيته؟!.
أم هل يرضى أن يصيبه ما أصاب ثعلبة، وأن ينتهي إلى ما انتهى إليه؟
لا، الإنسان العاقل، لا يريد ذلك لنفسه ولا لمجتمعه الذي ينتمي إليه..
إذن فالبعدُ عن النفاق هو طريق السلامة: سلامة النفس وسلامة السلوك، وسلامة المصير، وما عقل إنسانٌ في هذه الحياة إلاَّ وعَرفَ قدره فوقف عنده، إن رامَ مأرباً، أياً كان هذا المأرب ــــ شرط أن يكون حقاً ــــ فله أن يسعى إليه بكل جوارحه وجهوده، ولكن بأن يعلم أنه قادرٌ على أن يؤديَ حقه. فإن رامَ المال، فليسْعَ إليه، ولكن إن أُعطِيه، عليه أن يؤديَ حقوقه كاملة، بالصدقة، وبالإنفاق الشريف، والاستثمار الحق.. وإنْ رامَ نفوذاً، فليعملْ له، ولكن إن بلغَهُ عليه أن يضع العَدْل نصب عينيه، فلا أذيةَ، ولا استغلالَ، ولا ظلمَ... وهكذا في شتى شؤون الحياة وأمورها.. وأمّا من ليست لديه الثقة بأنه قادر على أن يؤدي الأمرَ الذي يريده حقه، إن وصَلَ إليه، فعليه ألاّ يسعى إليه، بل وألاّ يتمناه في الأصل، إذ عليه أن يبقى في نطاق الاستطاعة التي يحتملها، والإمكانية التي يقدر عليها، وذلك كله مصداقاً لقول رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم: «قليل تؤدّيه خير من كثير لا تطيقه». وقوله صلوات الله عليه وعلى آله وسلم: «ما قلَّ وكفى خير مما كثُر وألهى»... وهكذا أراد الله سبحانه وتعالى أن يجعل مثَلَ ثعلبة بن حاطب آيةً دالةً على تصرّف الإنسان وسلوكه، فيبتعد أبداً عن نقض عهدٍ يأخذه على نفسه، ويرعوي أبداً عن الكذب على الله وعلى الناس: وإلاَّ فإن ميراثه لنفسه سيكون النفاق في قلبه إلى يوم يلقى ربه. وهذا الأمر الرباني هو الذي مَنَعَ على رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، قبول صدقة ثعلبة، وقبول توبته التي ظهر بها، فكان تصرفه، صلى الله عليه وآله وسلم، تصرفاً تأديبياً بردّ صدقته، مع عدم اعتباره مرتداً فيؤخذ بعقوبة الردة، ولا مسلماً فتقبل منه زكاته. ولكنَّ هذا لا يعني إسقاط الزكاة عن المنافقين شرعاً، لأن الشرع يأخذ الناس بظاهرهم، أما فيما ليس فيه علم يقيني كالذي كان في حادث ثعلبة، فلا يقاس عليه. على أنه وبمقتضى الشريعة، فإن الزكاة تبقى فريضة يعرف المؤمنون أنها نعمة من الله سبحانه، فمن امتنع عن أدائها أو حرم من قبولها منه، فهو خاسر لا محالة، لأنه يحرم من جراء ذلك فضل الزكاة بما فيها من تطهير للأنفس وتزكية للقلوب، وراحة للأبدان، ذلك لقوله تعالى:
{خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا} .
ولئن ظهر حادث ثعلبة نموذجاً معيناً عن أهل النفاق في المجتمع الإسلامي، فإن غزوة تبوك جاءت لتظهر نماذج أخرى من الناس كانوا أكثر إمعاناً في النفاق، يمارسونه بأشكال عديدة وصور متنوعة.
فمن هؤلاء من كان لا يعبأ بهتاف الجهاد، حتى إذا كانت دعوة رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، لهم في تلك الغزوة، تثاقلوا عن التلبية رغباً في متاع الدنيا وإعراضاً عن الآخرة. وفيهم نزل قول الله تعالى:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ * إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} .
وبعد المتثاقلين يأتي طلاب المقاصد السهلة والمنافع العاجلة، فهؤلاء ينشطون، ويبدون متحمسين إذا دُعوا إلى سفر قصير الأمد مأمون العاقبة. أما إذا بعدت عليهم الشقة، فإن عزائمهم تخور، وهممهم تضعف، فسيتنكفون عن الخروج مُبدين من النفاق أشدّه ومن الكذب أكثره، حتى أنهم لا يتورعون عن الحلف بالله أنهم لا يستطيعون هذا الخروج ـ والله سبحانه وتعالى يعلم إنهم لكاذبون، كما يصفهم في قوله عزَّ وجلَّ:
{لَوْ كَانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قَاصِداً لاَّتَّبَعُوكَ وَلَـكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} .
ومن أهل النفاق كانت جماعات لا تغني عند الشدة، ولا تنجد عند الخطر، ولا تعين عند الحاجة، وكيف يكونون ذوي شدة وأولي نجدة ومعونة وفي طبائعهم الجبن والخمول والشُّحُّ!. فهم يشفقون من المتاعب، وينفرون من المسؤولية، ويخشون من الإنفاق ويؤثرون دَعَةَ السلامة مع الذل والهوان، على خطر الجهاد مع العزة والكرامة. فهؤلاء يصف القرآن الكريم حالهم بهزء وسخرية، وهم يحاولون البحث عن مخابىء يلجأون إليها بعد أن يطلبوا الإذن بالقعود. وفيهم نزل قول الله تعالى:
{وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنكُمْ وَمَا هُمْ مِّنكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ * لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَئاً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلاً لَّوَلَّواْ إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ} .
وقوله تعالى:
{وَإِذَآ أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُواْ بِاللَّهِ وَجَاهِدُواْ مَعَ رَسُولِهِ اسْتَئْذَنَكَ أُوْلُواْ الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُواْ ذَرْنَا نَكُن مَّعَ الْقَاعِدِينَ * رَضُواْ بِأَن يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَفْقَهُون} .
ولكن على خلاف أهل التثاقل وطلاب المقاصد الهيّنة وأصحاب الذعر من المشاق، كان هناك بعض المسلمين ممن تخلفوا عن رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، في غزوة تبوك، ثم أحسّوا وطأة الذنب، فاعترفوا بذنوبهم، ورجوا التوبة. فكان منهم التخلف وهو العمل السيِّىء، وكان منهم الندم والتوبة وهو العمل الصالح. وفي هؤلاء نزل قول الله تعالى:
{وَآخَرُونَ اعْتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُواْ عَمَلاً صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللَّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ * خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَوَاتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ * وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ الشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} .
وهكذا منَّ الله سبحانه على هذه الجماعة لما علمه من حسن سريرتهم، وصدق توبتهم فأمر رسوله، صلى الله عليه وآله وسلم، أن يأخذ بعض أموالهم يتصدق بها عنهم، وأن يستغفر لهم. ذلك أن أخذ الصدقة منهم يرد إليهم شعورهم بعضويتهم الكاملة في الجماعة المسلمة فهم يشاركون في واجباتهم وينهضون بأعبائها، وهم لم يُنبذوا منها أو يبعدوا عنها، وفي أخذ الصدقات منهم تطهير لهم وتزكية، وفي دعاء رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، لهم طمأنينة وسكن. ومن هؤلاء المتخلفين الذين لم يختلقوا الأعذار، عند عودة رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، من غزوة تبوك، ولم ينكروا أحوالهم، ثلاثة من المسلمين هم: هلال بن أمية الواقفيّ، ومرارة بن الربيع العَمْرِيّ، وكعب بن مالك، فقد أتَوا رسولَ الله، صلى الله عليه وآله وسلم، يصدقونه القول، فلم ينظر بأمرهم بل أرجأ ذلك حتى يقضي الله تعالى فيهم.
ويقص كعب بن مالك الحالة التي صار فيها، والتي تنطبق على صاحبيه، نتيجة لذلك التخلّف. وفي هذه القصة تظهر صور صادقة عن النفس الحساسة المؤمنة، في أروع حالات الصدق والصراحة، وفي أشدّ الضيق والحيرة.. إلا أنها من خلال ذلك تحظى بالنجاة فتملأها الفرحة، وتكون لها توبة كاملة وإخلاص نهائي.. وفي القصة صورة أخرى عن المجتمع الإسلامي وهو يرتقي صُعُداً في سلم الوعي، وسمو الإدراك، وشدّة الإحساس النقي بذنب المذنب وتوبة التائب.
يقول كعب بن مالك، وهو يخبر قصته:
«حين تخلفت عن رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، في غزوة تبوك، لم أكن قطّ أقوى ولا أيسر مني حينذاك، والله ما اجتمعت لي راحلتان قطّ من قبل، ولكنهما اجتمعتا في تلك الغزوة. وكان رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، قلّما يريد غزوة يغزوها إلاَّ ورَّى بغيرها. حتى كانت تلك الغزوة، فجلى للمسلمين أمرهم ليتأهبوا لذلك أهبته، وأخبرهم بالوجهة التي يريد، وقد غزا رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، في حرّ شديد، واستقبل سفراً بعيداً، في وقت طابت فيه الثمار وأورفت الظلال. فلما تجهّز رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، وتجهز معه المسلمون، جعلت أغدو لأتجهز معهم، فأرجع ولم أقضِ حاجة، فأقول في نفسي: أنا قادر على ذلك إن أردت.. ولم يزل التردد يتمادى بي حتى شمَّرَ بالناس الجدُّ فأصبح رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، غادياً، والمسلمون معه، ولم أقضِ من جهازي شيئا»، فقلت: أتجهَّز بعدهم بيوم أو يومين ثم ألحق بهم، فغدوت بعد أن فصلوا لأتجهَّز فلم أقضِ شيئاً، ثم غدوت فرجعت ولم أقضِ شيئاً، فلم يزل ذلك يتمادى بي حتى أسرعوا وفاتني الغزو، فهممت أن أرتحل فأدركهم ـ وليتني فعلت ـ فلم أفعل، فكنت إذا خرجت في الناس، بعد خروج رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، فطفت فيهم، يحزنني أني لا أرى إلاَّ رجلاً متهماً بالنفاق، أو رجلاً ممن عذر الله من الضعفاء.
ولم يذكرني رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، حتى بلغ تبوك، فقال وهو جالس في المؤمنين: «ما فعل كعب بن مالك؟» فقال رجل من بني سلمة: يا رسول الله، حبسه بُرْداه، والنظر في عطْفيه (أي شغله إعجابه بنفسه). فقال له معاذ بن جبل: بئس ما قلت! يا رسول الله ما علمنا منه إلا خيراً. فسكت عليه وعلى آله الصلاة والسلام. فلمّا بلغني أن رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، قد توجَّهَ قافلاً من تبوك، حضرني همي وحزني، فطفت أتذكر الكذب وأقول: بماذا أخرج من سَخْطة رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، غداً؟.
واستعنت على ذلك بكل ذي رأي من أهلي، فلما قيل لي: إن رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، قد قرب قدومه زاح عني الباطل، وعرفت أني لا أنجو منه إلاَّ بالصدق، فأجمعت أمري أن أصدقه. وجاء رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، وعلى مثل عادته، كان إذا قدم من سفر، بدأ بالمسجد، فركع ركعتين ثم جلس للناس، فلما فعل ذلك، جاءه المخلَّفون، فجعلوا يحلفون له ويعتذرون، وكانوا بضعة وثمانين رجلاً، فيقبل منهم رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، علانيتهم وإيمانهم، ويستغفر لهم، ثم يَكِلُ سرائرهم إلى الله تعالى.
وتقدّمت منه فسلّمت عليه، فتبسَّم تبسم المُغضِب ثم قال لي: تعال..
فجئت أمشي حتى جلست بين يديه، فقال لي: ما خلّفك؟ ألم تكن ابتعت دابة تمتطي ظهرها؟ قلت: إني يا رسول الله، والله لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا، لرأيت أني سأخرج من سخطه بعذر، ولما أُعطيتُ من قدرة على الجدل، وسبك الكلام وحسن التخلّص، ولكن والله لقد علمتُ لئن حدثتك اليوم حديثاً كذباً لترضينَّ عني، وليُوشكنَّ الله أن يُسخطك عليّ، ولئن حدثتك حديثاً صدقاً تغضب عليَّ فيه، إني لأرجو عقباي من الله فيه، والله ما كان لي عذر، وما كنت قطُّ أقوى ولا أيسر مني حين تخلّفت عنك.. فقال رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم: «أما هذا فقد صدقت فيه، فقم حتى يقضي الله فيك». فقمت وبادرني رجال من بني سَلمة، فاتَّبعوني، فقالوا لي: والله ما علمناك كنت أذنبتَ ذنباً قبل هذا، ولقد عجزت، أن لا تكون اعتذرت إلى رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، بما اعتذر به إليه المخلَّفون، قد كان كافيك ذنبك استغفارُ رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، لك. فوالله ما زالوا بي، يلومونني على صدقي وصراحتي، حتى أردت أن أرجع إلى رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، فأكذِّب نفسي ولكني قلت لهم:
ــــ هل لقي هذا أحد غيري؟.
قالوا: نعم، رجلان قالا مثل مقالتك، وقيل لهما مثل ما قيل لك.
قلت: من هما؟.
قالوا: مُرارة بن الربيع العَمْري، وهلال بن أمية الواقفي.
فلما سمعت بذكرهما، قلت في نفسي: لقد ذكروا لي رجلَين صالحين، قد شهدا بدراً، فلي فيهما أسوة.. فصمتّ ومضيت عنهم في سبيلي..
ويتابع كعب فيقول:
ونهى رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، المسلمين عن الكلام معنا أو التحدّث إلينا نحن أولئك الثلاثة، فاجتنبنا الناس، وتغيَّروا لنا، حتى تنكَّرتْ لي نفسي والأرض التي أمشي عليها، فما هي بالأرض التي كنت أعرف. ولبثنا على ذلك خمسين ليلة.. فأما صاحباي فاستكانا، وقعدا في بَيْتَيْهِما، خلال تلك المدة، وأما أنا فكنت أَشبَّ القوم وأجلَدهم، فكنت أخرج وأشهد الصلوات مع المسلمين، وأطوف بالأسواق من غير أن يكلمني أحد.. وكنت آتي رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، فأسلّم عليه وهو في مجلسه بعد الصلاة، فأقول في نفسي: هل حرَّك شفتيه برد السلام عليَّ أم لا؟ ثم أصلِّي قريباً منه، فأسارقه النظر، فإذا أقبلتُ على صلاتي نظر إليَّ، وإذا التفتُّ نحوه أعرض عني.
وطال عليَّ الأمر من جفوة الناس، ولم أعد أحتمل، فمشيت حتى تسوّرت جدار حائط أبي قتادة، وهو ابن عمِّي، وأحبُّ الناس إليَّ، فسلمت عليه، فوالله ما ردَّ عليَّ السلام. فقلت: يا أبا قتادة، أنشدك بالله، هل تعلم أني أحب الله ورسوله؟ فسكت. فعدت فناشدته، فسكت عني، حتى رددتها ثلاثاً، فقال: الله ورسوله أعلم. ففاضت عيناي بالدمع، وتولَّيت عن الجدار ثم غدوت أطوف بالسوق، وإذا نبطي من أنباط الشام، ممن قدم بالطعام يبيعه بالمدينة يقول:
من يدل على كعب بن مالك؟ فرأيت الناس وقد جعلوا يشيرون له إليَّ حتى جاءني، فدفع إليَّ كتاباً من ملك غسَّان، وكنت كاتباً، فإذا فيه: «أما بعد، فإنه قد بلغنا أن صاحبك قد جفاك، ولم يجعلك الله بدار هوان ولا مَضْيَعة، فالحق بنا نُواسِك».
وما إن فرغت من قراءة الكتابة حتى قلت: وهذا من البلاء أيضاً، قد بلغ بي ما وقعت فيه أن طمع فيَّ رجل من أهل الشرك.
وأسرعت من فوري إلى تنوّر أحرق ذلك الكتاب بالنار..
وكانت انقضت أربعون ليلة، عندما جاءني رسولٌ من نبي الله، صلى الله عليه وآله وسلم، يقول لي: إن رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، يأمرك أن تعتزل امرأتك..
فقلت له: أطلِّقها أم ماذا؟.
قال: لا، بل اعتزلها ولا تقربها..
وعلمت أنه صلَّى الله عليه وآله وسلّم أرسل إلى صاحبيَّ بمثل ذلك.
فأتيت امرأتي وقلت لها: إلحقي بأهلك، فكوني عندهم حتى يقضي الله في هذا الأمر ما هو قاضٍ.
ولكنَّ امرأة هلال بن أمية ذهبت إلى رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، وقالت له: يا رسول الله، إن هلال بن أمية شيخ كبير، ضائع، لا خادم له، أفتكره أن أخدمه؟ ولم يمنعها رسولُ الله، صلى الله عليه وآله وسلم، عن خدمتها له، وأفهمها أنه لا يجوز له أن يقربها. فلما علم بعض أهلي ذلك، جاؤوا يخبرونني به، ويطلبون إليَّ أن أستأذن رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، لامرأتي، كما أذن لامرأة هلال. فقلت لهم: والله لا أستأذنه فيها، ما أدري ما يقول رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، إذا استأذنته فيها، وأنا رجل شاب.
ولبثنا بعد ذلك عشر ليال، حتى اكتملت الليالي الخمسون من حين نهى رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، عن كلامنا وكنت صلّيت الفجر صبح تلك الليلة على ظهر بيتٍ من بيوتنا، فبينا أنا جالس على تلك الحال، وقد ضاقت عليَّ نفسي، وضاقت عليَّ الأرض بما رَحُبَتْ، إذ سمعت صوت رجل يصرخ، وهو يقول بأعلى صوته: يا كعب بن مالك، أبشر..
عندها خررت ساجداً، وعرفت أن قد جاء فرج الله تعالى.
وكان رسولُ الله، صلى الله عليه وآله وسلم، قد أعلن توبة الله علينا حين صلّى الفجر، فذهب الناس يبشروننا، فلما جاءني ذلك الرجل بتلك البشارة السنية نزعت ثوبيَّ، فكسوته إياهما على بشارته، ثم انطلقت أتيمم مكان رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، فتلقاني الناس يهنئونني بالتوبة وهم يقولون: ليهنك توبة الله عليك.. وما زالوا كذلك حتى دخلت المسجد، ورسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، جالس ومن حوله الناس، فتقدمت فسلمت عليه، فقال لي وهو مشرق الوجه من السرور: «أبشر بخير يومٍ مرَّ عليك منذ ولدتك أمك. قلت: أمن عندك يا رسول الله أم من عند الله؟.
قال: بل من عند الله.
وجلست بين يديه، أنظر إلى وجهه المضيء، إذ كان عليه وعلى آله الصلاة والسلام، إذا سُرَّ استنار وجهه حتى لكأنه القمر بكماله، وكنا نعرف ذلك منه. ولقد آنسني ذلك المنظر البهيج وأنا أتطلع إليه، فقلت:
يا رسول الله، إن من توبتي إلى الله عز وجل أن أنخلع من مالي قُربةً إلى الله وإلى رسوله.
قال صلى الله عليه وآله وسلم: أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك.
قلت: إني ممسك سهمي الذي بخيبر.
ثم قلت: يا رسول الله، إن الله قد نجاني بالصدق، وإن من توبتي إلى الله أن لا أحدث إلاَّ صدقاً ما حييت».
تلك هي قصة كعب بن مالك ورفيقيه، هؤلاء الثلاثة الذين تخلفوا عن غزوة تبوك، ولكنهم كانوا صادقين مع أنفسهم، ومع رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، حتى أحسّوا أن أنفسهم لم تعد منهم، وأن الأرض على رحبها لا تطيقهم.. لقد ندموا على ما فعلوا فتاب الله عليهم. ونزل فيهم قرآن كريم:
{لَّقَد تَّابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِّنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ * وَعَلَى الْثَّلاَثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُواْ حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّواْ أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُواْ إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ * يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ} .
تلك كانت معالجة القرآن الكريم لأحوال الناس النفسية والعملية. وقد برزت تلك المعالجة في الآيات البينات بمناسبة غزوة تبوك، وما ظهر فيها من صدق نية ومن نفاق.. على أن الله سبحانه وتعالى، لم يقرر أحكامه العلوية بشأن المتخلفين عن غزوة تبوك وحدها بتلك الآيات البيِّنات، بل قرر ذلك لكل زمان تكون فيه دعوة للجهاد في سبيل الله. فأولئك الذين تخلَّفوا عن رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، فرحين بتخلفهم ذاك، وداعين إلى عدم الخروج خوفاً من الحر، يضرب الله فيهم المثل، لكل جماعة تتخلف عن دعوة حق حين تختلق الأعذار الواهية.. فيذكر الله تعالى أن فرحهم وضحكهم هو آني ومؤقت، وأما بكاؤهم فسوف يكون أبدياً في نار جهنم.. وإن جميع الذين يتخلفون عن الركب في أول مرة، لا يصلحون لكفاح ولا يُرْجَون لجهاد، ولا يجوز أن يؤخذوا بالسماحة والتغاضي. ولا أن يتاح لهم شرف الجهاد الذي تخلوا عنه راضين. فإن أظهروا أنهم يُبدون استعداداً لمقاتلة العدو، فإنهم ممنوعون من ذلك، لأنهم غير مؤهلين له، طالما ارتضوا بالقعود والتخلف أول مرة.
نعم هذا هو الطريق الذي رسمه الله تعالى لنبيه الكريم. وإنه لطريق الدعوة الإسلامية ورجالها أبداً. فليعرف أصحابها في كل زمان، وفي كل مكان، ذلك الطريق، طالما أن كتاب الله باقٍ في ديمومته، وفيه قوله تعالى:
{فَرِحَ الْمُخَّلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلاَفَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُواْ أَن يُجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ في سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُواْ لاَ تَنفِرُواْ فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرَّاً لَّوْ كَانُواْ يَفْقَهُونَ * فَلْيَضْحَكُواْ قَلِيلاً وَلْيَبْكُواْ كَثِيراً جَزَآءَ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ * فَإِن رَّجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَآئِفَةٍ مِّنْهُمْ فَاسْتَئْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُل لَّن تَخْرُجُواْ مَعِيَ أَبَداً وَلَن تُقَتِلُواْ مَعِيَ عَدُوّاً إِنَّكُمْ رَضِيتُم بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُواْ مَعَ الْخَالِفِينَ * وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُمْ مَّاتَ أَبَداً وَلاَ تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُواْ وَهُمْ فَاسِقُونَ * وَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلاَدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ} .
ولم يكن بيان الله تعالى في أهل النفاق، وفضحهم على فعالهم الشنيعة، إلاَّ حفاظاً على وحدة الصف والجماعة، لأن سلامة الصف ووحدة الجماعة لا يكونان إلاّ بتطهيرهما من المنافقين الذين لا يؤمنون بأهدافهما، ولا يشاركون في مشاعرهما. وما وجودهم إلاّ عوامل ضعف وخلخلة، وذهاب بأسباب القوة والمنعة. إذ لو كانوا من المؤمنين الصادقين، الذين يريدون الخير العام، لكانوا دوماً على أهبة الاستعداد لتلبية نداء الواجب حينما يدعوهم. فالخير في بقائهم بعيدين عن كل أمر جلل، وعن كل غاية للمؤمنين، حتى لا تكون الفتنة، ولا يكون الاضطراب، وفي كتاب الله التأكيد على ظلم الباغين، الذين يبتغون الفتنة، ويقعون بها:
{* وَلَوْ أَرَادُواْ الْخُرُوجَ لأَعَدُّواْ لَهُ عُدَّةً وَلكِن كَرِهَ اللَّهُ انبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُواْ مَعَ الْقَاعِدِينَ * لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً وَلأَوْضَعُواْ خِلاَلَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِنَ * لَقَدِ ابْتَغَوُاْ الْفِتْنَةَ مِن قَبْلُ وَقَلَّبُواْ لَكَ الأُمُورَ حَتَّى جَآءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ * وَمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ ائْذَن لِّي وَلاَ تَفْتِنِّي أَلاَ فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُواْ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ * إِن تُصِيبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُواْ قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِن قَبْلُ وَيَتَوَلَّواْ وَّهُمْ فَرِحُونَ} .
وقال تعالى:
{سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُواْ عَنْهُمْ فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَآءَ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ * يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْاْ عَنْهُمْ فَإِن تَرْضَوْاْ عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} .
وإذا كان رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، قد اشتدَّ على المنافقين بعد غزوة تبوك، فضربت بهم الأمثال مما ارتعدت له فرائصهم، فخافوا وانزووا، ولم تقم لهم بعد في حياته الشريفة قائمة، فإن أمة الإسلام مدعوة اليوم للسير على هدى رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، حتى تنهض بأمانة مقدسة، فرضها الله تعالى، وإنَّ أول ما عليها في هذا السبيل أن تحمل على المنافقين حملةً شعواء، علّها تطهّر الصفوف من فتنهم وغواياتهم، وتسير في الطريق الصحيح الذي شاءها الله تعالى أن تسير عليه. على أنه، وبغزوة تبوك، التي كانت في شهر رجب سنة تسع للهجرة، انتهت الغزوات النبوية التي بلغ عددها تسعاً وعشرين غزوة، والبعوث والسرايا التي بلغ عددها سبعاً وأربعين ولم يكن فيها قتال. وقد أريق في جميع هذه الغزوات والسرايا أقل دم عرف في تاريخ الحروب والغزوات، فلم يتجاوز عدد القتلى فيها جميعها ما يقارب الثلاثة آلاف قتيلٍ من الفريقين .
وكانت حروب النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، مؤسسة على الأصلين القرآنيين الحكيمين: «والفتنة أشد من القتل» و«لكم في القصاص حياة يا أولي الألباب» وكانت خاضعة، كما أسلفنا، لقواعد خلقية وتعليمات لم تعرفها حروب البشر من قبلُ ومن بعدُ.
أما بالنسبة إلى نتائج تلك الحروب ونجاحها وسرعتها فلم يخسر المسلمون فيها طوال عشر سنوات إلا بنسبة خمسة أشخاص في الشهر الواحد وكان أقصى خسائر العدو في النفوس 15 شخصاً، فلما اكتملت السنوات العشر خضع أكثر من مليون ميل مربع للحكم الإسلامي. وإنَّ خير دليل على الغاية من تلك الحروب الإسلامية وصيَّة الرسول الأعظم، إذا ودَّع جيشاً، كان يقول لهم: «أوصيكم بتقوى الله، وبمن معكم من المسلمين خيراً، اغزوا باسم الله، في سبيل الله، من كفر بالله ولا تغدروا، ولا تغلّوا، ولا تقتلوا وليداً ولا امرأة، ولا كبيراً فانياً ولا تهدموا بناءً».. ولذا لم ينجم عن تلك الحروب إلا القليل من القتلى والجرحى، في حين نجم عنها الكثير من التقارب والتسامح والسلام.. ولِمَ لا والحروب التي خاضها المسلمون ما كانت إلا لخير الإنسانية، وليست للاستعلاء أو لاستغلال الشعوب وابتزازها واضطهادها والتحكم بمصائرها.. كما لم يكن الدافع لهذه الحروب الثأر والكراهية والحقد التي ينجم عنها الظلم، بل كان الدافع الوحيد نشر الإسلام وإعلاء كلمة الله من أجل دحر الشر في دنيا بني البشر، بجميع معانيه، وإقرار الحق والعدل، والخير بكلّ مراميه.
* * *

قدوم الوفود على المدينة من نتائج غزوة تبوك
كانت غزوة تبوك، بأحداثها التي تبدو لأول وهلة، أحداثاً عادية بسيطة، غزوةً من جملة الغزوات التي انتصر فيها الإسلامُ على أعدائه. ولكنَّ النتائج التي أتتْ بها، أبَتْ أن تُصَنِّفَها في هذه العاديَّة والبساطة من الأمور أو الأحداث، بل اعتبرتها فترةً زمنيةً من أهم فترات الدعوة الإسلامية عطاءاتٍ واجتناء ثمراتٍ طيبة. ففي هذه الغزوة لم يجرِ قتالٌ بين المسلمين والروم؛ إلاَّ أنه بدا واضحاً للعيان، وجليّاً في الأذهان، وبصورة خاصة للقبائل العربية، الواقعة على أطراف شبه الجزيرة، بأن أولئك الروم الذين تدين لهم بالولاء، وتستمدّ منهم القوة والنفوذ، قد ظهروا ضعافاً أمام المسلمين، بانسحابهم من مواقع المواجهة، تفادياً لخوض حرب معهم، فلماذا لا تفكر هذه القبائل إذن وتُعيد النظر بهذه التبعية للأجنبي الرومي، والدلائل كلها تشير إلى اضمحلال سلطانه، والتوقعات تدلُّ على زوال حكمه؟!..
فمثل هذا الإطار الفكري الجديد، الذي أخذ يطغى على ذهنية تلك القبائل من العرب، لم يكن أبداً ليوجَدَ لولا غزوة تبوك، وقد جاءت العهود التي أعطاها النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، لبعض الملوك والأمراء، الذين كانوا يدينون بالولاء للروم، تدعم هذا الإطار وتزيده متانة، هذا فضلاً عما ألقاه هذا الاتصال بين محمد، صلى الله عليه وآله وسلم، وأولئك الحكام من ظلالٍ روحيةٍ جديدة، تبعث على التلاقي ما بين الفكر النصراني القائم في هذه المنطقة، وبين الفكر الإسلامي الذي يبدو بملامح مستقيمة، لا اعوجاج فيها، إذ تهدف في جملة ما تهدف، إلى التعامل مع الحياة الإنسانية وفق قواعد جديدة، وإلى معالجة شتى قضايا الناس وشؤونهم بمفاهيم غاية في الرحابة والسموّ.
هذا بالنسبة إلى قبائل العرب الواقعة على الناحية الشمالية من أطراف شبه الجزيرة.
أما في الداخل، فقد رأى الأعراب، ورأت مختلف القبائل والبطون، في البعيد والقريب، أنه لا شأْنَ بعد اليوم لتلك الكيانات الفردية التي كانت تقوم عليها حياتها. فتلك قريش، رغم مكانتها، والسيادة التي كانت تتمتع بهما على جميع القبائل، قد أذعنت لسلطان الإسلام، وأضْحَت تدين له بالولاء، فهل من العجب إذن، إن أقبلت تلك القبائل على الإسلام تدخل فيه أرتالاً، وإنْ جاءَ الناسُ من كل فج عميق، يدخلون في دين الله أفواجاً؟!..
أما على صعيد البنية الإسلامية، وحيث المجتمع الإسلامي قد قام على أُسس متينة، فقد كانت غزوة تبوك حدّاً فاصلاً، أفرز المسلمين إلى فئاتٍ برزت متباينة في أحوالها النفسية والعملية. فالأولون من المهاجرين والأنصار، لم يتغيّر في أحوالهم شيء. فهُمُ، كانوا، ولا يزالون، رجالات الدعوة الخلّص، يمنحونها عوامل القوة والاستقرار، ويمدّونها بكل أسباب الانتشار والاستمرار. إنهم القاعدة الصلبة، والدعامة الراسخة للمجتمع الإسلامي، وفوقها يُشادُ البناءُ ويشمخ.
وإلى جانب هؤلاء المؤمنين الصادقين، كان المنافقون، الذين تشعَّبت أهواؤهم، واختلفت نزعاتهم وحالاتهم. منهم الضعاف الجبناء، الخائفون، الذين لا يعطون للدعوة بقدر ما يريدون الأخذ منها. ومنهم المتآمرون الدخلاء على هذه الدعوة يدّعون الإسلام في الظاهر، ويعملون في الخفاء للقضاء عليه، والإجهاض على مسيرته.
وإلى هؤلاء وأولئك يضاف طلاب الدَّعوة والراحة، الذين لا يأبهون كلما دعا الداعي للجهاد، ولا يتحملون أية مسؤولية في سبيل الصالح العام، بل يسيرون مع الرياح كيفما اتجهت، همُّهُمُ الوحيد تأمين المنافع والحفاظ على مصالحهم الشخصية، يسعون إلى تحقيقها من أي مصدر أتت، سواء أكان ذلك في ظل حكم قبلي جاهلي، أم في ظل الإسلام، أو حتى في ظل التبعية الأجنبية، أو أي حكم قد يقوم ويسود، أيّاً كان نوعه وشكله...
وقد يبدو هذا الفرز لفئات الناس في المجتمع الإسلامي، وكأنه مظهر من مظاهر ضعفه، إلاَّ أنه في الحقيقة على خلاف ذلك تماماً، إذ كان ضرورة حتمية لتصحيح الخلل في هذا المجتمع، وتخليصه من عوامل الضعف التي تقوم فيه، ومن أوكار التآمر التي قد تحدث الاضطراب في نواحيه. ومن هنا نزلت الآيات القرآنية المباركة، تكشف المنافقين، وتحمل عليهم حملة تقضي على مآربهم الدنيئة، وغاياتهم السافلة، حتى تُبعِدَ كل تأثيرٍ لهم في حياة الجماعة الإسلامية.
نعم هذه بعض ثمرات غزوة تبوك، التي كانت خاتمة غزوات النبيِّ، صلى الله عليه وآله وسلم، وبعدها تمت كلمة الله في شبه جزيرة العرب كلها، فأقبل الناسُ وفوداً على المدينة، يقدِّمون الولاء والطاعة لرسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، ويعلنون إسلامهم أمام الله ورسوله والمؤمنين.
وهذه بعضٌ من تلك الوفود، التي وقع عليها اختيارنا، تدليلاً على المسيرة العظيمة التي قاد خطاها رسولُ الله، صلى الله عليه وآله وسلم، بنجاح وفلاح رائعين.
* * *
وفد ثقيف
كان وفد أهل الطائف أولَ القادمين إلى المدينة، بعد غزوة تبوك، جاؤوا يعلنون لله إسلامهم، ولرسوله ولاءهم، ولقد دفعهم إلى هذا المجيء، ما رأوا من رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، عندما حاصرَ بلدهم، إذ لم يجعل هذا الحصارَ طويلاً، رغم ما كان يتمتع به جيشه من قدرة على تهديم حصونهم، وإنزال الخراب والدمار في دورهم وأرزاقهم، وبما كانت عنده من غنائم تجعله يستمر في هذا الحصار حتى يذعن أهل الطائف، ويستسلمون رغماً عن إرادتهم، هذا فضلاً عن المعاملة الطيبة التي أبداها الرسول، صلى الله عليه وآله وسلم، عندما وافق على طلب ثقيف، فأمر بوقف حرق كرومها، وترك مزروعاتها، ثم لم يطل به الأمر بعد ذلك، فسار بجيشه تاركاً أهل الطائف لتفكيرهم فيما رأوه وما وجدوه من تلك المعاملة الإسلامية الرحيمة.
وأثناء ذلك الحصار كان عروة بن مسعود، أحد سادة ثقيف غائباً عن الطائف، في سفر له باليمن، فلمَّا عادَ إلى بلده، وكان النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، قافلاً من تبوك بذلك النصر المؤزَّر من الله سبحانه، أسرع إليه يعلن إسلامه، ويُبدي حرصه على دعوة قومه للدخول في دين الله. ولقد خافَ عليه الرسول الحكيم من حماقة أولئك القوم، وما يغلب عليهم من نخوة جاهلية، تجعلهم يقدمون على عمل طائشٍ، فحذَّره قائلاً له: «إنهم قاتِلوك».. ولكنَّ عروة اعتزَّ بمكانته من قومه فقال:
«يا رسول الله، أنا أحبّ إليهم من أبصارهم، فلا خوف عليّ من قوم مترددين، بين التلبية لنداء الحق، وبين البقاء على العناد والعنت، ولسوف يذعنون، ويقبلون على الهداية طائعين، مختارين»..
وذهب عروة إلى ثقيف يدعوها للإسلام، فلم تستجب له، بل ولم تُطِقْ صبراً على دعوته تلك، وهو يُلحُّ عليها، فقامت إليه ترميه بالنبال، حتى أثخنته بالجراح، فأشرف على الموت.. واجتمع أهلُه من حوله وهو يُسلِمُ الروح، فقال لهم:
«كرامة أكرمني الله بها، وشهادة ساقَها الله إليَّ، فليس فيَّ إلاَّ ما في أولئك الشهداء الذين قُتلوا مع رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، قبل أن يرتحل عنكم من حصاره للطائف».. وكان طلبه الأخير لهم، أن يدفنوه مع الشهداء، فلما قضى نحبه كان مثواه مع أولئك الأبرار. ويروى أنَّ النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، قال: «مثله مَثَلُ صاحبِ ياسين، دعا قومه إلى الله فقتلوه».
ولم يطل الأمر بثقيف حتى ندمت على ما فعلته بسيد من أسيادها الكرام. وزادَ في ندامتها ما اعتراها من خوف، وهي تجد نفسها وحيدة، منفردة بين العرب ببعدها عن الإسلام، فلا بلد من حولها، ولا جماعة قريبة، منها، إلاَّ ودخلت في هذا الدين، فكيف يكون مصيرها لو استكبرت وعاندت؟ وهل يقبل محمد، صلى الله عليه وآله وسلم، ببقائها على الشرك؟ أليس هو بقادرٍ على إعادة الكرَّة عليها، يفتح بلدها، ويصليها النار المحرقة؟!..
أجل، لقد ندمت ثقيف على ما فعلته بعروة بن مسعود أشدَّ الندم، ورأت أنَّه لا طاقة لها على مقاومة الدولة الإسلامية فذهب عمرو بن أمية، أخا بني عِلاج، من كبراء القوم، إلى كبير آخر فيهم يُدعى «عبد يا ليل بن عمرو بن عُمير» وكان المتحدث باسمهم، فلما اجتمع إليه قال: «إنه قد نزل بنا أمر ليست معه هجْرة، إنه قد كان من أمر هذا الرجل ما قد رأيت، وقد أسلمت العرب كلها، وليس لكم بحربهم طاقة فانظروا في أمركم». عندها ائتمرت ثقيف في ما بينها، وقال بعضهم لبعض: «أَلاَ ترون أنه لا يأمن لكم سرْبٌ، ولا يخرج منكم أحد إلاَّ اقتطع به»؛ ونتيجة للتداول والتشاور أجمعوا على أن يرسلوا رجلاً يكلّم محمداً، صلى الله عليه وآله وسلم، بأمرهم، على أن يكون هذا الرجُلُ كُفء عروة بن مسعود، وعلى مستوى الأحداث التي يعيشونها؛ فاختاروا لهذه المهمة «عبد يا ليل بن عمرو بن عُمير»، إلاّ أن «عبد يا ليل» أبى أن يذهب، وخشِي أن يُصنعَ به إذا رجَع كما صُنِعَ بعروة، فقال لهم: «لست فاعلاً حتى تبعثوا معي رجالاً». فأجمعوا على أن يبعثوا معه رجلين من الأحلاف، وثلاثة من بني مالك. فتألّف وفدٌ من ستة أشخاص: عثمان بن أبي العاص بن بشر بن عبد دُهمان، أخو بني يَسَار، وأوس بن عوف، أخو بني سالم، ونُمَيْر بن خَرَشة بن ربيعة، أخو بلحارث، والحكم بن عمرو بن وهب بن مُعتّب، وشُرْحَبيل بن غيلان بن سَلَمة بن معتّب، بالإضافة إلى عبد يا ليل.
وكان الثلاثة الأخيرون من الأحلاف؛ وقد رأس ذلك الوفد «عبد يا ليل»، فخرج بهم في شهر رمضان من سنة تسع هجرية، فلما دنَوا من المدينة ونزلوا قناةً، لقُوا بها أحد أبناء قومهم، المغيرة بن شعبة، يرعى طروش الصحابة في نوبته ـ إذ كانت رعيتها نُوَباً ـ فلما أخبروه بمقصدهم، وافدين على رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، وثَبَ المغيرة ليبشِّر الرسول، صلى الله عليه وآله وسلم، بقدومهم عليه؛ وإنّه لفي طريقه يشتدُّ حتى يبلغ المدينة إذْ لقيه أبو بكر الصديق (رضي الله عنه)، فاستوقفه يسأله عما يُعَجِّل به على هذه الحال، فقال له: هؤلاء وفدٌ من ثقيف، بني قومي، قد قدموا يريدون البيعة والإسلام، فقال له أبو بكر (رضي الله عنه): «أقسمت عليك بالله لا تسبقني إلى رسول الله حتى أكون أنا الذي أحدّثه». وقَبِلَ المغيرةُ، فعادَ إلى وفد ثقيف، يحدّثهم بما يليق بهم، ويعلّمهم كيف يحيّون رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، بتحية الإسلام: «السلام عليكم ورحمة الله وبركاته».. ولكن يبدو أن أولئك الأشخاص لم يفقهوا معنى هذه التحية، فما إن قدموا على رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، حتَّى حَيَّوهُ بتحية الجاهلية.
وكان رسولُ الله، صلى الله عليه وآله وسلم، يُدرك غِلظتهم فلم يأْبَهْ لتصرّفهم الجاهلي هذا، بل أمَرَ أن يُقدَّم لهم مكانٌ في ناحية المسجد ينزلون فيه، فيأتيهم ويحدّثهم عن الإسلام، ويبيّن لهم أحكام هذا الدين الذي يؤمن بإله واحد أحد، هو الله سبحانه وتعالى، وما يترتب على هذه الوحدانية من عبودية الناس، وهي العبودية التي تحقق للذات البشرية خلاصَها ورفعتها، وترسم للعباد جميعاً درب الصراط المستقيم..
وقد أخَذَ بعضُ الصحابة على أنفسهم، القيامَ على خدمة هؤلاء الأشخاص، يقدِّمون لهم الطعام، وكلَّ ما يحتاجون إليه؛ إلاَّ أنهم لم يطمئنوا إلاَّ على خالد بن سعيد بن العاص، إذْ كانوا لا يذوقون طعاماً قُدِّم لهم إلاَّ إذا طعم منه، أو شراباً إلاَّ إذا شربَ منه، وقد ظلوا على هذه الحال حتى أسلموا وبايعوا وفرغوا من كتابهم.
على أن تلك المدة التي أمضَوْها في رحاب المسجد، وبين المسلمين، لم تكن كافية، لأن ينفذ الدينُ الذي جاؤوا يسعون للدخول فيه، إلى قلوبهم، ولأن يشعروا بحلاوة الإسلام، وطعم الإيمان الحق، إذ طلبوا من رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، في بقيةٍ جاهلية، أن يدَعَ الطاغوت، وهو صنمهم «اللات» الذي كانوا يعبدون، فلا يهدمه طيلة ثلاث سنين.. ولكنَّ الرسولَ الأمين أبى ذلك عليهم مستنكراً ما يطلبون، فعادوا يسألونه أن يدعه لهم سنتين، فأبى؛ وما برحوا يسألونه سنة فسنة، وهو يرفض بجزمٍ واستهجان، حتى سألوه شهراً واحداً بَعْدَ رجوعهم إلى بلدهم فأبى أن يدعه، ورفض الخوض أو الحديث في مثل هذا الكلام، لأنه لا يمكن أن يجتمع الإسلامُ والوثنية، إذ لا إيمان مع الكفر، ولا طهارة مع النجاسة.
وأدرك وفد ثقيف استحالةَ ما طَلَبَ، فعادَ يخفّفُ في الطلب سائلاً رسولَ الله، صلى الله عليه وآله وسلم، «ألاَّ يهدموا أوثانهم بأيديهم» فوافقهم الرسول، صلى الله عليه وآله وسلم، على ذلك؛ ثم عادوا يسألون أن يعفيهم من الصلاة، فقال صلى الله عليه وآله وسلم لهم: «أما كسر أوثانكم بأيديكم فأعفيناكم منه، وأما الصلاة فلا، فإنه لا خير في دين لا صلاة فيه»..
ولعلَّ الإسنانَ يعجبُ من طلب هؤلاء القوم إعفاءهم من الصلاة، وهم قد أقاموا في المسجد، يرون بأم العين كيف يتدافع المؤمنون إلى الصلاة، فيقفون خاشعين لله رب العالمين، معرضين عن كل مطلب في حياتهم، وعن كل متاع في دنياهم، ثم يلحظون كيف كان الناسُ يجتمعون إلى رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، بعد الصلاة، فيحدّثهم بما يهدي إلى نورانية الإيمان، ويدلُّهم على صدق القول والفعل، ويبيِّن لهم طمأنينة حسن الطويَّة وصفاء السريرة، حتى لا يرتك أمراً من الأمور التي تبعد الإنسان عن كل ما يبخس قيمته، أو يحطُّ من كرامته إلاَّ ويلجُهُ، ولا شأناً من الشؤون التي ترتفع بالإنسان إلى معارج الرقي والكمال ــــ حتى ليكاد يبلغ مرتبة الملائكة المقربين ــــ إلاَّ ويطرقه.. نعم إنه لمن شديد العجب ألاَّ يأنَسَ وفد ثقيف بتلك الصلوات التي كان يرى، وألاَّ يتأثَّرَ بنفحات تلك الحلقات التي كان يشهد، فيجعل جفوة الجاهلية هي التي تغلب عليه، ويطلب ما يطلب من رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، أن يدَعَ الطاغوت وأن لا تكون لهم صلاة!..
ولكن يبطل العجب عندما يشاهد المرءُ في عصرنا هذا أناساً يشيِّعون صديقاً لهم، أو قريباً من أقربائهم، ويدخلونه المسجد للصلاة على جثمانه ظهراً كان أو عصراً فيقفون خارج المسجد وكأنَّ الصلاة لا تخصّهم من قريب أو بعيد.
فهل بعدُ من غرابةٍ من موقف وفد ثقيف من الصلاة وغيرها من الأحكام الشرعية ونحن نشاهد هؤلاء العازفين عن فريضة فرضها الله على المؤمنين؟
لا، فإن وفد ثقيف الذي فُطِر على الوثنية أقل جفوة من هؤلاء الذين فطروا على الإسلام، وخير منهم، فإن ذلك الوفد ناقش في الصلاة ثم التزم بها، ولكنَّ هؤلاء وأمثالهم يماحكون، وأحياناً يناقشون ويجادلون ثم لا يلتزمون. وهم يعلمون ما للصلاة من ثواب وما يترتب على تركها عمداً من عقاب.
وكان الوفد يرى أنَّ النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، إذا خطب بعد الصلاة، لا يذكر نفسه، فتساءلوا:
«كيف يأمرنا أن نشهد بأنه رسول الله وهو لا يشهد به في خطبته أمام الناس»؟ وسرى تساؤلهم إلى النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، فأرشدهم وقال: «إني أوَّلُ ما شهد أني رسولُ الله». وفي الذكر الحكيم: «وما محمد إلاَّ رسولٌ قد خلت من قبله الرسلُ.. إنَّ الله وملائكته يصلُّون على النبي، يا أيها الذين آمنوا صلُّوا عليه وسلِّموا تسليماً».
هكذا كان الرسولُ الأعظمُ يبيّن لوفد ثقيف ما يريد تبيانه، ويردُّ على طلباتهم وتساؤلاتهم بما هو حقٌّ ومقنع.. وكان عثمان بن أبي العاص، أصغرهم سناً، إلاَّ أنه كان أقربهم إلى الهداية، بما في نفسه من صفاء وما فيه قلبه من نقاوة وطهارة، فكان إذا وقف على رحالهم تركها وذَهَبَ مسرعاً إلى رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، يطلب أن يتْلُوَ عليه القرآن، ويشرَحَ له معاني الآيات، فيقبل عليه الرسول الكريم، يُدنيه منه، ويُشبعُ نفسَهُ بما تُحِبُّ، وعقلَهُ بما يقنع، حتى فَقِهَ كثيراً من أحكام الدين، مما جعل رسولَ الله، صلى الله عليه وآله وسلم، يكنُّ له عطفاً خاصاً، ويُقدِّمه على سائر أعضاء الوفد، في الإيمان والتقوى.
وكان قد طال مكوث وفد ثقيف في المدينة فأحبّ أن يرجع إلى قومه، فذهب إلى النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، يسأله ذلك فقال رئيسه «عبد يا ليل»: يا رسولَ الله، هل أنتَ مقاضينا حتى نرجع إلى قومنا»؟.
قال صلى الله عليه وآله وسلم: «إن أنتم أقررتم بالإسلام أقاضيكم، وإلاَّ فلا قضية بيني وبينكم».
قال عبد يا ليل: هناك أمور نرجو أن تعفينا منها، فنحن لا نقدر على فراقها وتركها.
ولمَّا سأله الرسول، صلى الله عليه وآله وسلم، عن تلك الأمور، قال: «أفرأيت الزنى، فإنَّا قوم نغترب ولا بد لنا منه».
قال صلى الله عليه وآله وسلم: الزنا حرام، والله سبحانه وتعالى يقول: {ولا تقربوا الزنى إنه كان فاحشةً وساءَ سبيلاً}.
قال عبد يا ليل: أفرأيت الرِّبا، فإنه أموالنا كلها.
قال صلى الله عليه وآله وسلم: «إنَّ الله تعالى يقول:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتقوا اللَّهَ وَذَرُواْ ما بَقِيَ مِنَ الرِّبَواْ إِن كُنْتُم مُّؤْمِنِينَ} .
ويقول:
{فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ} .
قال عبد يا ليل: أفرأيت الخمر، فإنه عصير أرضنا لا بُدَّ لنا منه».
قال صلى الله عليه وآله وسلم: «لقد حرَّم الله تعالى الخمر بقوله الحق:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} .
ولم يَعُدْ لدى وفد ثقيف ما يقول، فأذعَنَ، وأقرَّ بما أَنزَلَ الله ودعا إليه رسولُهُ، فقال جميع أعضائه: آمنا وأسلمنا، ونحن مستجيبون لما أَمَرَنا الله ورسولُهُ، وملبُّون لما يطلب منَّا الله ورسوله.
وسأَلَ وفد ثقيف رسولَ الله، صلى الله عليه وآله وسلم، أن يختار أميراً على بني قومهم، فاختار أصغرهم سنّاً عثمان بن أبي العاص، لأنَّ عثمان وحدَهُ، وقف من بين أعضاء الوفد، على حفظ سُوَرٍ من القرآن الكريم، وعرف معانيها، وهو يملك من الإدراك ما يجعله قادراً على إرشاد قومه حتى تكون لهم الهداية التامة.. وقد أبقى الرسول، صلى الله عليه وآله وسلم، إلى «عبد يا ليل» صلاحية التحدُّث إلى ثقيف عند العودة، لِمَا رأى فيه من جدارة على الإقناع، وذكاءٍ في النفاذ إلى النفوس. فلمّا خرجوا من عند رسول الله وتوجهوا إلى بلدهم راجعين، بَعَثَ الرسول، صلى الله عليه وآله وسلم، معهم أبا سفيان بن حرب والمغيرة بن شعبة، لكي يهدما «اللات» وبقية أوثان ثقيف..
ويتوقف الإنسان عند هذا الاختيار من قبل رسول الله حتى يتبين الحكمة منه، وصوابية العمل.. فأبو سفيان بن حرب، هو زعيم قريش، صاحبة السيادة فيما مضى على قبائل العرب كلها، والقائمة فيما سبَقَ على شؤون البيت الحرام. ومكة بلدةٌ، منافسة للطائف في التجارة والغنى. فيكون بعثُهُ لهدم «اللات» معبود الطائف، دليلاً مقنعاً لثقيف أنه لا أمَلَ لها في البقاء على الشرك، لأنَّ أيَّ إنسان، مهما علا مقامه، هو طوعُ أمرِ رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، وأيَّ جماعة، مهما كانت مكانتها، سائرة بلا ريب، إلى دين الله سبحانه وتعالى.
وأما المغيرة بن شعبة، فهو من بني ثقيف وقيامه نفسُهُ بهدم اللات، قهرٌ للتمرّد في نفوس هؤلاء القوم، وإزالةٌ للتشبث بعناد الرأي، إذْ إقدام واحدٍ منهم، كان يعبد هذه الطواغيت من قبل، يؤكد عدم نفعها أو ضرِّها، وعدم الجدوى من معارضة هذا الهدم.. هذا بالإضافة إلى أن للمغيرة فضلاً يجب أن يكافأ عليه، فهو الذي لاقى وفد ثقيف واهتمَّ به، إلاَّ أنه تنازل عن طيبة خاطر للصدّيق عندما طلب إليه أن يكون هو من يخبر رسولَ الله، صلى الله عليه وآله وسلم، بقدوم ذلك الوفد، ولذلك ما كان بَعْثه في هذه المهمة، مع ما تتضمن من شرف هدم الأصنام والقضاء على معالم الشِّرك، إلاَّ من قبيل المكافأة له على ما يستحق. هكذا نرى تقدير رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، في اختياره الرجلين دون سواهما، وفي هذا الاختيار من الحكمة والصواب ما لا يتوافر لإنسان غير محمد، صلى الله عليه وآله وسلم.
ولمَّا وصَلَ الجمعُ إلى الطائف، أرادَ المغيرة أن يقدِّم أبا سفيان، فأبى ذلك أبو سفيان عليه، وقال: ادخل أنت على قومك؛ وأقام أبو سفيان بذي الهرم.
أما الوفد، فقد اجتمع إلى بني قومه، وكان «عبد يا ليل» قد حرّض رفاقه في طريق العودة بأن يكتموا إسلامهم، حتى يتدبروا الأمر مع بني قومهم. فلمّا اجتمعت ثقيف تسأل عما جرى، أبدى الوفدُ تخوفاً شديداً، وخطراً داهماً. فقد أشاعَ بين القوم أنَّ محمداً، صلى الله عليه وآله وسلم، قد يشنُّ عليهم حرباً لا هوادة فيها، بعدما سألهم الإذعان لشروطه ورفضوها. وسألت ثقيف عن تلك الشروط، فقالوا لهم: هدم اللات، وتحريم الخمر والزنى والربا..
قالت ثقيف: وما أجبتم؟.
قال أصحاب الوفد: أبَينا ذلك..
قالت ثقيف: إنه يشترط علينا.. ولكنّا لا نقبل بهذه الشروط!..
وهنا قال أصحاب الوفد: ماذا بقي أمامنا يا قوم إلاَّ أن نتهيأ للقتال ونستعدَّ للحرب.. فهيا أصلحوا السلاح، وهبّوا للقتال، ورمّموا الحصون!..
وهمدت ثقيف، واعتراها الذعر!. ما بال هؤلاء النفر منها قد عادوا مرعوبين يسألونها الاستعدادَ للحرب؟ أَذَهبوا إلى المدينة دعاة حرب أم طلاب أمن وسلام؟!.. وبعد تفكير وتشاور، تراءى لثقيف ما ستؤول إليه الأحوال من سوء العاقبة إن هي وافقت على الحرب، فقال قائلها: والله ما لنا بقتال محمد طاقة! لقد دانَ له العرب كُلهم، فارجعوا إليه وأعطوه ما سأل، وصالحوه على ما يريد..
ورأى الوفدُ أنه حقّق غرضه، إذْ بدا واضحاً أن ثقيفاً لا تريد قتالاً، وها هي تتنازل لا عن مقدساتها السابقة وحسب، بل وعن أهم مقومات حياتها الاجتماعية، في الرِّبا والزِّنى والخمر...
ولمّا أذعَنَ القوم للحقيقة، أظهر «عبد يا ليل» ما كَتَمهُ وأصحابُهُ عنهم، فقال: «والله لقد أعطيناه ما أحببنا، وشرطنا ما أردنا، ووجدنا رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، أتقى الناس وأوفاهم، وأصدقهم وأرحمهم. بُورِكَ لنا ولكم في مسيرنا، وفيما قاضيناه عليه، فاقبلوا عافية الله».
وبُهِتَت ثقيف، فقالت بدهشة: «ولِمَ كتمتمونا هذا الحديث وغَمَمْتُمونا هذا الغمَّ»؟.
قال عبد يا ليل: «أردنا أن ينزعَ الله من قلوبكم نخوة الشيطان».
وبذلك انتهت ثقيف إلى الإسلام، إلاّ أن معالم الشرك ما تزال قائمة عندها، فهذه «اللات» وبقية الأوثان في أماكنها، ولا أحد يجرؤ على إزالتها، لأنَّ في اعتقادهم أن «اللات» ممنوعة من البشر بقوة خفية، إذ هي الربّة المقتدرة، وما من أحد من البشر يمكنه هدمها، ولئن حاولَ أحدهم مساسها بضرٍّ، فإنها ستكون نهايته، إذ هي ستقضي عليه لا محالة.
ذاك كان الاعتقاد السائد لدى ثقيف..
وأدرك «عبد يا ليل» ما يجول بنفوس القوم، وما يسيطر عليهم من وهم، فأعلن، منعاً لأي حيرة أو همّ، أنَّ المغيرة بن شعبة ما جاء إلاّ لهدم «اللات» وأنَّ معه، لهذا الغَرض، أبا سفيان بن حرب، يقوم بمالِهِ بذي الهُرْم.. فذهب على الفور، من يدعموهما، فلمّا أتيا، خرج أهل الطائف جميعاً يشهدون الأمر، وأغلبُ ظنهم أن مُصاباً سيحُلُّ بهادم «اللات».. وكان المغيرة يعرف ذلك الاعتقاد عند بني قومه، فصمَّمَ في نفسه على أن يُظهر سخف هذا الاعتقاد، وأن يستهزئ مِنْ ظنِّ هؤلاء القوم، ولذلك، ما إن تقدم يحمل المعول وبهم بالضرب به، حتى أوقع نفسه أرضاً، إلاّ أنه ما لبث أن قام على عجل، يركض مندفعاً إلى البعيد، والهلعُ بادٍ عليه.. وأمام هذا المشهد، أُرتج أهل الطائف، فضجوا بضجة واحدة، وصاحوا قائلين: «أبعدَ الله المغيرة، قتلته الربّة». لقد أخذهم الفَرَحُ وهم يرون المغيرة يسقط بتقدمِهِ من «اللات»، فعادتْ إلى نفوس بعضِهِم نخوةُ الجاهلية، فراحوا يقولون: «من شاءَ فليقترب من الربّة، فها هي على عهدها، مانعة نفسها من كل متطاول معانِد»...
لقد فَرِحَ أهل الطائف وضحكوا بشماتة وسخرية، ولكنّهم لم يدروا أن كلَّ ما رأوه لم يكن إلاَّ لعبةً أرادها المغيرة، وها هو وبمثل البرق الخاطف، يعودُ من هروبِه ليرفع المعوَلَ أمام الملأ وهو يقول: «قبحكم الله معشر ثقيف إنما هي حجارة ومَدَر»... ثم يتقدم نحو باب «اللات» فيهشمه، ويحطمه، فلا يكاد ينتهي منه، حتى يعلو فوق السور آخذاً بهدم حجارته، مزيلاً مداميكه، مدماكاً بعد مدماك، ومن حوله قومُهُ، بنو معتَّب، خشية أن يُرمى من أحد غدراً، حتى بدا عليه التعبُ، فتقدمت جماعة تساعدُهُ، وما زالوا كذلك حتى أتوا على بيت «اللات» كله، ولم يبق منه شيء يرتفع فوق الأرض. وكان صاحب مفتاح «اللات» من جملة الجموع التي جاءت تشهد الحادث، وقد رأى بأمّ عينه ما حلَّ بمعبودته «اللات» فبكاها من قلبٍ مُحرق، وندبها مع نسوة ثقيف وهُنَّ يَقُلن:
لتُبكَيَن دفّاع أسلمها الرضّاع
لم يحسنوا المصاع
ولم يُصدّقْ صاحب المفتاح أن ذلك يحدث، وأبى عليه وهمُهُ أن يذعِنَ للواقع، فراح يصرخ مولولاً:
«الويل لمن يقترب من الأساس»..
وسمَعَ المغيرةُ ذلك الصراخ، فقهقه ساخراً، ثم صاح بالناس: «هيا وانظروا يا قوم، عليّ بالأساس».
وتقدم المغيرة، وتقدّم معه، كل من كان يُعيِنُهُ في الهدم، يحفرون أساسَ بيت اللات، ويخرجون ترابه، فيذرُّونه في الفضاء، حتى لم يبقَ منه موطئ قدم إلاَّ وقد حفر، عندها فقط، أيقنَ أهل المكابرة أن «الربّة» وما تملك من قوة، لم يكن إلاّ وهماً كاذباً، خدعوا به أنفسهم، وخدعتهم به الأجدادُ طوال أجيال، حتى بَعَثَ الله سبحانه من يُبدّد ذلك الوهم، ويقضي على ذلك الخداع، فعادوا إلى بيوتهم، والكل في شتات من الفكر بين الماضي والحاضر، يسخرون بأنفسهم من أنفسهم، متلوّمين، محنقين، ساخرين..
على أنَّه وإنْ كان اللومُ والحنَقُ قد أخذهما في تلك الساعة، إلاَّ أنهما كانا تعبيراً عن الانفعال وهم يأسفون على ما أضاعوا من عمرٍ بالتفاهة، ويندمون على ما صرفوا من أيام على عبادةٍ باطلةٍ. ومهما تكن المشاعر التي أحسُّوا بها، فقد تبيّن لهم أن الله سبحانه وتعالى قد عوَّض عليهم الآن، بما أودَعهُ في قلوبهم ما إيمانٍ خالص، سوف يبقى مستقراً في الأذهان ما دامت الأرض قائمة، وفي النفوس مغلغلاً ما دامت السماء مرفوعة.
هُدِمتِ «اللاتُ» وأزيلت أصنام الطائف، فعادَ المغيرة وأبو سفيان، يقدّمان لرسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، ما احتملاه من الأموال والحليّ التي كانت عندهم، بعدما قضيا منها الديون التي كانت على عروة والأسود، ابْنَيْ مسعود بن عروة، الذي ذهب شهيد إيمانه بالله الواحد الأحد.
* * *

وفد همدان
ومن بعيد، من بلاد اليمن، أقبل على المدينة وفدٌ من همدان، منهم مالك بن نَمَط، وأبو ثور وهو ذو المِشعار، ومالك بن أيْفعِ، وضِمام بن مالك السَّلْمانيّ، وعميرة بن مالك الخارقيّ.. جاءَ هذا الوفدُ مُسلماً، غير متردّدٍ ولا متلوِّم، بل مبشّراً بوصول الإسلام إلى ديارهم، فَسُرَّ رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، بقدومهم أعظم سرور.
وكان هذا الوفد على أتمّ زينة وأحسن مظهر، يلبس من الحلل المقطّعات والحَبَرات، ويعتمر من العمائم العدنيّة الخالصة، فأقرَّهم الرسول، صلى الله عليه وآله وسلم، على هذا المظهر، لأنَّ الاعتناء بالهندام، واللياقة باللباس، دليلٌ على احترام الذات والمحافظة على الشخصية، فكان ارتياح الرسول، صلى الله عليه وآله وسلم، لتلك الأناقة التي جاؤوا بها، ونظرته بعين الرضى لأثوابهم، وقد خلت من كل وشْيٍ بالذهب أو الفضة، وبعدت عن أي مظهر من مظاهر الإسراف والترف الفاحشين اللذين لا يقرهما الإسلام.
ورأى وفدُ همدان ما يحيطهم به رسولُ الله، صلى الله عليه وآله وسلم، من حفاوة وتكريم، فأراد بعضُهم أن يبدي امتنانه وسعادته بالتشرف بحضرة النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، فقام مالك بن نَمط يرتجز بين يديه:
إليك جاوزنَ سوادَ الريف في هبوات الصيفِ والخريفِ
مخطّماتٍ بحبال الليف
ثم عادَ مالك يقول: «يا رسولَ الله، لقد جاءك خيارُ القوم من همْدان، من كل حاضر وبادٍ، وأتوك على قُلص نَواجٍ (إبل فتية)، لا تأخذهم في الله لومة لائم من مخلاف (مدينة في اليمن): خارف ويامٍ وشاكر، أهل السود (الإبل) والقود (الخيل) أجابوا دعوة الرسول، وفارقوا الآلهات (الأنصاب)، عهدُهم لا يُنقض ما أقامتْ لَعْلَع (جبل في اليمن)».
ثم أقام وفْدُ همدان في المدينة ما شاءَ الله أن يقيم، فلمَّا أراد العودة إلى بلاده، جعل رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، مالك بن نَمَط أميراً على من يُسلم من بني قومه، وأمَرَه بجهاد من يَقربهُم من المشركين، وقد عاونهم النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، بإرسال خالد بن الوليد في سرية، ليدعو في اليمن إلى الإسلام.
وكان في تلك السرية البراء بن عازب، فقال، يتحدث عن تلك السرية: كنت فيمن خرج مع خالد بن الوليد إلى أهل اليمن، وقد مكث يدعوهم إلى الإسلام، ستة أشهر، فلم يجيبُوهُ، كما كنّا نحب؛ فبعث النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، من بعد ذلك عليَّ بن أبي طالب (عليه السلام)، جاء يدعو الناس إلى دين الله، لا بقولٍ ولا بقتال، بل بكتاب من رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم. ونزلَ علي (عليه السلام) في ديار همدان، وقد صفَّ المقاتلين معه صفاً وحداً، ثم نادى في القوم، حتى اجتمعوا إليه، فقرأ عليهم كتاب رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، وما إن انتهى من قراءته، حتى تغير الموقف فجأة، فإذا بالقوم يفاوضونه، وإذا بهمدان تألف الإسلام، وتدخل فيه مؤمنة، راضية.
* * *

وفد الأزدِ
وَقَدِمَ من اليمن أيضاً وفد من الأزد، كان على رأسه صَرْدَ بن عبدالله الأزدي، ما إن أقام فترة بيد يدي رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، حتى أسلم وحَسُن إسلامه، فأمَّر الرسول، صلى الله عليه وآله وسلم، صَرْداً على من أسلم من بني قومه، وطلب إليه أن يدعو إلى دين الله الواحد بين قبائل اليمن.
وكان بجوار الأزديين مدينة مغلقة يقال لها جرش، وقد انضمت إلى أهلها خثعم، فأرادوا محاربة المسلمين حتى يمنعوهم عن متابعة دينهم، فخرج إليهم صرد بن عبدالله وحاصرهم في مدينتهم نحواً من شهر، وهم فيها ممتنعون، مما أجبره على ترك الحصار واللجوء إلى جبل يقال له «كشر»، يعتصم فيه، متحيّناً الفرصة للانقضاض على عدوِّه، بحيثُ يباغتهم مباغتةً لم تكن في حسبانهم.
ورأى المشركون أن يقوموا بغزو الأزديين، فلمّا خرجوا لهذا الأمر، وصاروا خلف الجبل، انعطف عليهم صَرْدٌ بمن معه، ودارَ بين الفريقين قتال شديد انتهى بنصر المسليمن.. وقد بلغَ خبرُ هذه الواقعة رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، فسأل بأي مكان حدثت، فلمّا قيل له عند جبل يقال له «كشر»، قال (عليه وعلى آله الصلاة والسلام): إنه ليس بكشر، ولكنه شُكر.
ولقد جاءَ بعد ذلك وفد من جرش فأسلموا وحَسُن إسلامهم، فأقطعهم رسولُ الله، صلى الله عليه وآله وسلم، حول بلدهم حِمىً ليستغلّوه، كما كان يفعل ذلك مع من يسلمون من أهل البلاد ليتمكنوا من استغلال الأرض، فلا يتركونها بوراً..
* * *

وفد بني تميم
ثم قدم على رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، عُطارد بن حاجب بن زارارة بن عُدَس التميمي في أشراف من تميم، وجاء مع ذلك الوفد الزِّبرقان بن بدر والأقرع بن حابس، وعُيينة بن حصن بن حُذيفة الفزاريّ والأخيران كانا شهدا مع رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، فتح مكة وحصار الطائف. فلمّا دخل وفد بني تميم المسجد، نادَوْا رسولَ الله، صلى الله عليه وآله وسلم، من وراء الحجرات: أن أخرج إلينا يا محمد. فآذى صياحُهم رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، فخرج إليهم.
قالوا: يا محمد، جئناك لنفاخرك فأذنْ لشاعرنا وخطيبنا.
قال صلى الله عليه وآله وسلم: أذنتُ لخطيبكم.
فقام عطارد بن حاجب، وقال: «الحمد لله الذي له علينا الفضْل وهو أهله، الذي جعلنا ملوكاً، ووهب لنا أموالاً عظاماً نفعل فيها المعروف، وجعلنا أعزَّ أهل المشرق وأكثره عدداً، وأيسره عُدَّةً، فمن مثلنا في الناس؟ ألسْنا برؤوس الناس وأُولي فضلهم؟. فمن يفاخرنا فليعدّدْ مثل ما عدَّدْنا، وإنّا لو نشاء لأكثرنا الكلام، ولكنا نحيا من الإكثار فيما أعطانا، وإنا نُعرف. أقول هذا الآن لتأتونا بقولٍ مثل قولنا، وأمرٍ أفضل من أمرنا».
وما إن جلس، حتى قال رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، لثابت بن قيس بن شمّاس أخي بلحارث بن الخزرج: «قم فأجِبِ الرجلَ في خطبته».
فقام ثابت فقال: «الحمد لله الذي السمواتُ والأرضُ خَلْقُهُ، قضى فيهنَّ أمره، ووسِعَ كرسيُّه عِلْمَهُ، ولم يكُ شيءٌ قطّ إلاّ من فضله. ثم كان من قدرته أن جعلنا ملوكاً، واصطفى من خير خلقِهِ رسولاً أكرمهم نَسباً، وأصدَقهم حديثاً، وأفْضَلَهم حَسَباً، فأنزل عليه كتابه، وائتمنه على خَلْقِهِ؛ فكان خِيرَة الله من العالمين. ثم دعا الناسَ إلى الإيمان، فآمن برسول الله، المهاجرون من قومه وذوي رَحِمه؛ أكرم الناس أنْساباً، وأحسن الناس وجوهاً، وخير الناس فِعالاً؛ ثم كان أوّل الخلق إجابةً ــــ واستجابَ لله حين دعا رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم ــــ نَحنُ؛ فنحن أنصارُ الله ووزراء رسوله، نقاتل الناس حتى يؤمنوا بالله، فمن آمن بالله ورسوله منع ماله ودمه، ومن كَفَرَ جاهدناه في الله أبداً، وكان قتله علينا يسيراً؛ أقول قولي هذا وأستغفر الله للمؤمنين وللمؤمنات، والسلام عليكم».
قال بنو تميم: يا محمد! إئذنْ لشاعرنا.
قال صلى الله عليه وآله وسلم: فليفعلْ.
وقام شاعرهم الزّبرقان بن بدر، فألقى قصيدة مليئة بالمدح والفخار، ومما جاء فيها:
نحن الكِرامُ فلا حيٌّ يُعادِلُنا
مِنّا الملوكُ وفينا تُنصَبُ البَيعُ
وكم قَسَرْنا من الأحيَاءِ كُلِّهُمُ
عند النِّهابِ، وفضْلُ العِزّ يُتَّبَعُ
ونحنُ نطعِمُ عندَ القحْطِ مَطْعَمَنا
من السَّواء إذا لم يُؤنَس الفَزَعُ
بِما تَرى الناس تَأتينا سَرَاتُهُمُ
من كلِّ أرضٍ هُوِياً ثم نَصْطَنِعُ
وردَّ عليه حسان بن ثابت ـ شاعر رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، ـ بما يَعْلُو شعره، ويستفيض عليه قوةً وبلاغةً. فقال حسان:
إنَّ الذوائِبَ مِنْ فِهْرٍ وإخوتِهِمْ
قد بَيَّنوا سُنةً للناسِ تُتَّبَعُ
يَرضى بها كلُّ مَنْ كانت سريرتُهُ
تقوى الإلهِ وكلَّ الخيرِ يصطَنِعُ
قومٌ إذا حاربوا ضرُّوا عدُوَّهُمُ
أَوْ حاولوا النَّفْعَ في أشْياعِهِمْ نفعوا
سَجِيَّةٌ منهُمْ غيرُ مُحْدَثَةٍ
إنَّ الخلائقَ، فاعلمْ، شَرُّها البِدَعُ
فلمّا فرغ حسان بن ثابت، قال الأقرع بن حابس: «وأبي إن هذا الرجل لمؤتّى له (أي موفق)! لَخَطيبُه أفصَحُ من خطيبنا، ولشَاعِرُه أشعرُ من شاعرنا، ولأصواتهم أعلى من أصواتنا».
ولمَّا فرغ القوم من تلك المبارزة الكلامية والشعرية، أسلم بنو تميم، وأجازهم رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، فأحسن جوائزهم. وكان عمرو بن الأهثم، قد خلّفوه في رحالهم، فقال قيس بن عاصم: يا رسول الله، إنَّه قد كان منّا رجل في رحالنا، وهو غلام حَدَثٌ وأُزرِيَ به، فأعطاه رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، مثل ما أعطى القوم.
وفي بني تميم، أنزلَ الله تعالى قوله:
{إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَآءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ * وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ واللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} .
* * *

قدوم ضِمام بن ثعلبة
وبعث بنو سعد بن بكر، أحدَ رجالهم، ضِمام بن ثعلبة إلى المدينة، كي يقف على حقيقة ما يدعو إليه محمد، صلى الله عليه وآله وسلم. فلما وَصَلَ أناخَ بَعيره كيف يقف على حقيقة ما يدعو إليه وعقَلَهُ، ثم دخل المسجد ورسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، جالس في أصحابه، وكان ضِمام بن ثعلبة رجلاً جَلْداً، أشْعَرَ ذا غديرتين، لا يعرف شخص النبيِّ، صلى الله عليه وآله وسلم، وقد أقبل على الجمع، مظهراً جفوةً في صوته وهو يسأل: «أيكم ابن عبدالمطلب»؟.
وقد كنّى النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، بذلك لأنه كان معروفاً فيه عند العرب من قبلُ، إذ إنَّ جدَّهُ عبدالمطلب هو حاضنُه ومربية بعد وفاة أبيه عبدالله. فلما سمعه الرسول، صلى الله عليه وآله وسلم، قال: «أنا ابن عبدالمطلب».
قال: با ابن عبدالمطلب، إني سائلُكَ ومُغْلِظٌ لك في المسألة، فلا تَجِدَنَّ في نفسك.
قال صلى الله عليه وآله وسلم: لا أجِد في نفسي، فسَلْ عمّا بدا لك.
قال: أنشدك بالله إلهك وإله من كان قبلك، وإله من هو كائن بعدك، آلله بعثك إلينا رسولاً؟.
قال صلى الله عليه وآله وسلم: اللَّهم نعم.
قال: فأنشدك بالله إلهك وإله من كان قبلك، وإله مَنْ هو كائن بعدك، آلله أمرك أن تأمُرَنا أن نَعْبدهُ وحده ولا نشرك به شيئاً، وأن نخلعَ هذه الأندادَ التي كانت آباؤنا تعبد من دونه؟.
قال صلى الله عليه وآله وسلم: اللهم نعم.
وتابع ضِمام يسأل النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، عن فرائض الإسلام فريضةً فريضةً، فسأل عن الصلوات الخمس، والزكاة، والصيام، والحجّ، وهو يناشِدُهُ، صلى الله عليه وآله وسلم، بالصيغة نفسها التي ذكرها، حتى إذا فرغ ولم يعد في نفسه محلٌّ للتساؤل، قال: «فإني أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً رسول الله، وسأؤدي هذه الفرائض وأجتنبُ ما نهيتني ثم لا أنقص ولا أزيد».
وانصرف ضِمام، فقال رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، حين ولّى: «إنْ صَدَقَ ذو العقيصتَين يدخل الجنة» واتى ضِمامُ بعيرَه فأطلق عِقاله، ثم خرج حتى قدم على قومه، فاجتمعوا إليه، ليفاجئهم بإعلان كفره بأصنامهم، ويكيل السّباب والشتائم إلى اللات والعزّى.
فأشفق عليه أبناء قومه مما يقول، إذ كان في زعمهم أن من يصيب آلهتهم بسوء فإنه يصاب بمرض البرَص أو الجذام، وقد ثبت ذلك الوهم في أذهانهم منذ القديم، ولذلك قالوا له:
ــــ صَهْ يا ضِمام! اتّق البرصَ، اتّقِ الجذام، اتّق الجنون!
قال: وَيْحَكم، إنهما والله لا ينفعان ولا يضرّان، ولا يغينان عنكم من الله شيئاً. إنَّ الله تعالى قد بعث رسولا، وأنزل عليه كتاباً، اسْتَنْفَذكُم به مما كنتم فيه؛ وإني أشهد ان لا إله إلاّ الله وحدَه لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، وقد جئتكم من عنده بما أمركم به ونهاكم عنه.
وراح ضِمام بن ثعلبة يعيد على مسامع بني سعد بن بكر كلَّ ما سأل النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، عنه، وبما أجابهُ الحبيبُ المصطفى، والقوم يصغون إليه بكل جوارحهم، وهُمُ كلما استمعوا إليه كلّما أحسّوا باطمئنان لم يعرفوه من قبلُ، وبمشاعرَ لم تُداخِلْ أفئدتهم قَطُّ، فلامس الإيمانُ قلوبَ أبناء بكر إذ استجابت لداعي الله، حتى أنه ما حلَّ مساءُ ذلك اليوم، إلاَّ وكان كل رجل وامرأة قد أسلم وشهد بشهادة الحق. فما سمع الناس بوافِدِ قومٍ كان أفضل من ضمام على بني قومه.
* * *

وفد بني حنيفة
ومن اليمامة جاءَ وفدٌ من بني حنيفة، قادماً على رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم. وكان فيهم رجلٌ داهية، منافق، حادّ الذكاء، بارعٌ في المراوغة، يدعى مُسَيْلِمَة بن حُبَيْب. نزل هذا الوفد في دار ابنة الحارث، امرأة من الأنصار، بعد أن خَلَّفَ مُسَيْلِمةَ في رحاله. فلمّا أسلموا، وسألوا النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، فأعطاهم، ذكروا له مسيلمة قائلين: يا رسول الله، إنا قد خلَّفنا صاحبنا في رحالنا وركابنا يحفظهما لنا. فأمر الرسول، صلى الله عليه وآله وسلم، له بمثل ما أمَرَ به للقوم. ثم انصرفوا عن رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، وجاؤوا مسيلمة بما أعطاه رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، فأخذته العزّة بنفسه، وغرَّه الغرور، لأن رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، أكرمَهُ وأعطاه دون أن يَمْثُلَ بين يديه. فما قفل راجعاً إلى اليمامة إلاَّ وهو يدّعي النبوّة، ويزعم أنَّ الله سبحانه أشركه في الأمر مع محمد، صلى الله عليه وآله وسلم. ثم جَعَل مسيلمة اللعين يسجع السّجعات، ويقول لهم، فيما يقول مضاهاةً للقرآن:
{لقد أنعم الله على الحُبْلى وأخرج منها نسمةً تسعى، من بين صِفاقٍ وحَشَا}.
وانطلق مسيلمة الخبيث في ادِّعائه للنبوة؛ يُحِلّ الخمر والزنا، ويضع عن قومه الصلاة، ترغيباً للناس في تصديقه واتِّباعه. ولكي يزيد الناسَ إيهاماً في دعواه، بعث بكتاب إلى رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، كتب فيه: «من مسيلمة رسول الله إلى محمد رسول الله. سلامٌ عليك؛ فإنّي قد أُشرِكت في الأمر معك، وإنَّ لنا نِصْفَ الأرض ولقريش نِصفَ الأرض، ولكنَّ قريشاً قومٌ يعتدون».
وقد حمل كتابَه هذا رسولان، فلمّا قُرىءَ لرسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، سأل الرسولين:
«فما تقولان أنتما»؟.
قالا: نقول كما قال.
فقال صلى الله عليه وآله وسلم: «أما والله لولا أن الرُّسُل لا تُقْتَلُ لضربتُ عُتَقَيْكما».
ثم كتب إلى مسيلمة: «بسم الله الرحمن الرحيم؛ من محمد رسول الله مُسيلِمة الكذّاب. سلامٌ على من اتبع الهدى؛ أما بعد، فإنَّ الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين».
وقد روي أنَّ مسيلمة ما تجرّأ وأعلن ادعاءه للنبوة إلاَّ بعد انصراف رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، من حجة الوداع، ومرضته التي مرضها.
على أنه ومهما يكن من أمر الوقت الذي كتب فيه مسيلمة إلى رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، فإنَّ ردَّ الرسول الأعظم، صلى الله عليه وآله وسلم، عليه ووصفه بالكذّاب، جعله سخرية لدى كثيرين من الناس، يتضاحكون عليه إذا ذكر لهم، ويهزأون به إذا حدّثهم، ولا يتورَّعون أن يجابهوه بأنّه منافق كاذب حتى دعي مسيلمة الكذّاب، بدلاً من مسيلمة بن حبيب. إلاَّ أنه بوفاة رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، اشتدَّ أمره حتى غلب على اليمامة، ولقد قُتِلَ في خلافة أبي بكر (رضي الله عنه) بسبب دعواه الكاذبة.

وبكتاب غزوة تبوك وما نجم عنها، نكون، بحول الله وقوّته، قد أنهينا كتب الغزوات، والله ولي التوفيق.



المصادر
1 تبوك: هي الآن ثكنة تابعة لإمارة المدينة في المملكة العربية السعودية على بعد سبعمائة كيلومتر تقريباً من المدينة المنوَّرة.
1 سورة التوبة، الآية: 92.
1 سورة التوبة، الآية: 49.
2 سورة التوبة، الآية: 90.
3 سورة التوبة، الآية: 82.
1 اخترقوا: أي اختلقوا كذباً وكفراً.
2 سورة التوبة، الآيتان: 64، 65.
3 سورة التوبة، الآيتان: 120، 121.
1 الرَّبذة: قرية من قرى المدينة على بعد ثلاثة أيام.
1 قيل اسمها أيلة لأنها سميت باسم أيلة بنت مدين بن إبراهيم (عليه السلام).
1 دومة الجندل: كانت قرية عامرة ولكنها خربت مع الزمن، ولكن أكيدر أعاد بناءها، وجعل من حولها سوراً يحميها، وفي داخلها حصن منيع. وكان أكثر سكانها من قبيلة كلب.
1 الوَشل: الحجر الذي يقطر منه الماء قليلاً قليلاً، أو أي مكان يرشح منه الماء.
2 ذو البجادين: البجاد: الكساء الغليظ الجافي. لقب بذي البجادين لأنه كان ينزع إلى الإسلام فيمنعه قومه عن ذلك ويضيقون عليه حتى تركوه في بجاد ليس له غيره، فهرب منهم إلى رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، فلما صار قريباً منه شق بجاده اثنين فائتزر بواحد واشتمل بالآخر فقيل له ذو البجادين.. وقيل إنه كان في حجر عمّه، يكفله ويحسن إليه، فلما بلغه أنه أسلم. هدَّده قائلاً: لئن فعلت لأنزعنَّ عنك جميع ما أعطيتك. قال: فإني مسلم. فنزع كل شيء أعطاه حتى جرَّده من ثوبه، فأتى أمَّهُ، فقطعت بجاداً لها بإثنين، فائتزر نصفاً وارتدى نصفاً، ولَزِم باب رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، وكان يرفع صوته بالقرآن والذكر.
1 سورة التوبة، الآيات: 107 ـ 110.
1 سورة التوبة، الآية: 103.
1 سورة التوبة، الآيات: 75 ـ 78.
1 سورة التوبة، الآية: 103.
1 سورة التوبة، الآيتان: 38، 39.
2 سورة التوبة، الآية: 42.
3 سورة التوبة، الآيتان: 56، 57.
4 سورة التوبة، الآيتان: 86، 87.
1 سورة التوبة، الآيات: 102 ـ 105.
1 سورة التوبة، الآيات: 117 ـ 119.
1 سورة التوبة، الآيات: 81 ـ 85.
2 سورة التوبة، الآيات: 46 ـ 50.
3 سورة التوبة، الآيتان: 95، 96.
1 وفقاً لدائرة المعارف البريطانية، بلغ عدد قتلى الحرب العالمية الأولى ستة ملايين وأربعمائة ألف نفس، وعدد قتلى الحرب العالمية الثانية بين خمسة وثلاثين مليوناً وستين مليون نفس. وتروي بعض المصادر أن عدد ضحايا محاكم التفتيش في أوروبا في القرون الوسطى والاضطهاد الكنسي قد وصل إلى اثني عشر مليوناً.
1 سورة البقرة: الآية 278.
2 سورة البقرة: الآية 279.
3 سورة المائدة: الآية 90.
1 المصاع: الضرب بالسيف. وهذه الأرجوزة تصف رجال ثقيف باللئام لأنهم لم يحسنوا الدفاع عن اللات ضرباً بالسيف.
1 الهبوة: ج هبوات؛ وهباء: الغَبَرة.
1 سورة الحجرات: الآيتان 4 ــ 5.
1 العقيصة: الضفيرة من الشعر.
1 المضاهاة: المشابهة أو التشبّه.
2 صفاق: الجلد الأسفل الذي يمسك البطن.
مقدمة الكتاب
القسمُ الأوّل
القِسم الثاني
القِسم الثالِث
القسم الرابع
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢