نبذة عن حياة الكاتب
غزوات الرسول
الطبعة : الطبعة الاولى
المؤلف : سميح عاطف الزين
فئة الكتاب : سيرة
عدد الصفحات : ٤٧٦
تاريخ النشر : ١٩٨٨

غَزوَة حُنَين وَالطَائف
سلسلة غزوات الرسول
(9)


غَزوَة حُنَين وَالطَائف



سميح عَاطف الزَّين


بِسْمِ اللَّهِ آلْرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
{لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ * ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَذلِكَ جَزَآءُ الْكَافِرِينَ}.

غزوة حنين والطائف
لقد كانت الأيام التي قضاها النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، والمؤمنون في مكة، بعد الفتح المبين، قليلة في عددها، ولكنها كانت رحيبة، كبيرة بأجواء الإيمان، وبإقامة العلاقات الطيبة، وفي شتى جوانبها.. فهذا البيت الحرام، وقد طُهّر من الأصنام والرجس، يرتفع فوق ظهره الأَذانُ بإعلان الشهادتين والدعوة إلى الصلاة، ويؤمُّ رحابَهُ المؤمنون يؤدون الفريضة وراء رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، ثم يلتفون حوله مهتدين إلى نور الحق، الذي أضاءَ شعلته هذا الرسول الكريم ليبقى السناءَ المُشعَّ إلى آخر الدهور..
وكان حريّاً بالناس، وهم يعيشون في ظلال هذه الأجواء، ألاَّ يبقوا على عداوتهم للإسلام، وعلى بغضائهم للنبيِّ، صلى الله عليه وآله وسلم، بل أن يتخلوا عن ذلك كله، وأن يتحوّلوا في أفكارهم ومشاعرهم نحو الدعوة ورسولها، منكرين عبادة الأصنام، واقفين على ما كانت تزين لهم نفوسهم من زلل وشطط..
وإذا كان من أشقّ الأمور على الإنسان وأصعبها، التخلي بين ليلة وضحاها عن المفاهيم الراسخة في نفسه، فإن التخلّي عن العقيدة الدينية هو أشدّها، لما فيه من صراع داخلي يقف فيه الإنسان على مفترق الطرق في تقرير مصير حياته في الدنيا، وما سيؤول إليه أمره في الآخرة.. وإذا كان أهل مكة قد تخلوا عن عقيدتهم الدينية السابقة فإنَّ ما رأوه من فعل محمد، صلى الله عليه وآله وسلم، في المعاملة، وما سمعوه منه من قول، كان له أكبر المؤثرات والدوافع التي جعلتهم يرتضون ذلك التخلّي، وأن يُقبلوا على الإسلام راضين، قانعين.
ولم يقتصر تحطيم الأصنام وإزالة معالم الشِّرْك على ما في داخل مكة، بل إنَّ الرسول، صلى الله عليه وآله وسلم، بعث عدداً من السرايا إلى جوار مكة لمحو آثار أعظم أصنام العرب وأكثرها شأناً عندهم. فخرج خالد بن الوليد إلى أرض «نخلة» لاقتلاع «العُزّى» وتكسيرها، وكانت شجرةً كبيرةً عَبَدتْها قريش وكِنانة، وبالقرب من بيتها وثنٌ تعبده غطفان. كما خرج عمرو بن العاص إلى «رهاط» من أرض نخلة لهدم «سُواعَ» صنم هذيل، وكذلك سعد بن زيد الأسهلي الأنصاري ذهب إلى جبل «المشلل» على ساحل البحر لهدم «مُناةَ» صنم كَلْبٍ وخُزاعة..
وكان بَعُثُ تلك السرايا لأيام قلائل بقينَ من شهر رمضان، وقد عادت كلها ظافرة متممة المهامَّ التي أوكلت إليها من دون أن تلقى مقاومةً قطُّ، مما جعل داخل مكة يلتقي مع البقاع المجاورة على الإيمان يسري في كيان الناس، إلاَّ أولئك المؤلَّفة قلوبهم الذين دخلوا الإسلام إمّا رغبةً أو رهبةً، فإنهم كانوا غير مخلصين له بكلّيتهم، ولكنهم مع ذلك ارتضوا الواقع الجديد، رغم ما يحمل من تحوّل في العادات والتقاليد، وتبدل الأمور والشؤون..
على أنه مهما بدا من إقبال الناس على الإسلام، أو مهما ظلّ في بعض النفوس من كمائن دفينة، فإنَّ سلطان الإسلام قد حلَّ ومعه السلام والأمان لقريش وغيرها من قبائل العرب، إلاَّ بعضاً من هذه القبائل التي ظلت تتوهم في نفسها قوةً، تَقدِرُ من خلالها على محاربة المسلمين وتحول دون وصول هذا الركب السائر في شبه جزيرة العرب إلى ديارها..
وكان من تلك القبائل هَوازِنُ التي تقيم على مقربة من مكة، في الجبال الواقعة إلى جنوبها الشرقي. فقد عرفت بفتح مكة، ودخولها في الإسلام، فخافت على نفسها من كارثة تحلُّ بها، إذ لا يمكن أن يتركها المسلمون وشأنها، بل سوف يغيرون عليها، ليرغموها على الدخول في دينهم، وهذا ما لا ترضاه ولا تقبل به.. ولذلك رأت هوازن أن تستعدَّ للحرب، فجمع مالك بن عوف النضَري هوازنَ وثقيفاً إليه، ودعا قبائل نضر وجشم، فانضمت كلها ولم يتخلّف عن هذا الانضمام من هوازن إلاَّ كعبٌ وكِلابٌ..
وكان مالك بن عوف هذا شاباً لا يتجاوز الثلاثين من عمره، قوي الحمية، شديد المراس، فرأى ألاَّ يخرج بمن اجتمع حوله إلى المعركة إلاَّ ومعهم النساء والأبناء والأموال، ليكون في ذلك مَدْعاةً لحماسة الرجال، واستماتتهم في الذود عن الحُرُمات والأرزاق.
وكان في القوم دُريْدُ بن الصُمّة، زعيم جُشَم، هذا الرجل الذي حنكته التجارب وضرّسته الحروب، قبل أن يفقد بصره، ويصير شيخاً هرماً، ولم يعد قادراً على قيادة المعارك، كما كان يفعل أيام بأسه وقوته.. فسارَ مالك بالقوم مذكياً فيهم روح القتال، حتى نزلوا بوادٍ لهم، فسأل دريد بن الصمّة:
ــــ بأي وادٍ أنتم؟.
قالوا: بأوطاس..
قال: نِعم مجال الخيل، لا حَزْنٌ ضِرْسٌ ولا سَهْلٌ دَهْسٌ ، ولكن ماليَ أسمع رُغاءَ البعير ونُهاق الحمير وثُغاء الشاءِ وبكاء الصغير؟.
قالوا: إن مالك بن عوف ساق مع الناس أبناءهم ونساءهم وأموالهم حتى يقاتل كل منهم عن أهله وماله.
قال: راعي ضأنٍ ورب الكعبة، إئتوني به!..
وجاءه الرجلُ، فقال له: يا مالك، إنك قد أصبحت رئيس قومك وإنَّ هذا يوم كائن له ما بعده من الأيام. مالي أسمع رُغاء البعير، ونُهاق الحمير، وثغاء الشاءِ وبكاءَ الصغير؟..
قال مالك: سُقْتُ مع الناس أموالهم وأبناءهم ونساءهم..
قال دريد: ولمَ ذاك؟.
قال مالك: أردت أن أجعل خلفَ كل رجل أهله وماله ليقاتل عنهم.
قال دريد: وهل يردُّ المنهزمَ شيءٌ؟ إنها إن كانت لك لم ينفعك إلاَّ رجل بسيفه ورمحه، وإن كانت عليك فُضِحتَ في أهلك ومالك..
ولم يجب مالك، فعادَ دريد يسأل: وما فعلت كعبٌ وكلابٌ؟.
قالوا: لم يشهدها منهم أحدٌ..
قال: غاب الحدُّ والجدّ، ولو كان يومَ عَلاءٍ ورِفعةٍ لم تَغِبْ عنه كعبٌ ولا كلابٌ، ولَوَدِدْتُ أنكم فعلتم ما فعلوا، فمن شهدها منكم؟.
قالوا: عمرو بن عامر، وعوف بن عامر!.
قال: ذانك الجذعان من عامر لا ينفعان ولا يَضُرّان!..
ثم توجَّهَ بالكلام إلى مالك فقال له:
ــــ يا مالك! إنك لم تصنع بتقديم الجماعة إلى نحور الخيل شيئاً، ارفعهم إلى مُتَمنَّع بلادهم وعَلْيا قومهم، ثم الْقَ الصُبَّاء على متون الخيل، فإن كانت لك لحق بك مَنْ وراءك، وإن كانت عليك ألفاك ذلك قد أحرزت أهلك ومالك..
قال مالك محتدّاً: والله لا أفعل ما تقول، إنك كبرت وذهب عقلك وعلمك..
ثم التفت إلى الناس يقول لهم:
والله لتُطيعُنَّني يا معشر هوازن أو لأتّكِئَنَّ على هذا السيف حتى يخرج من ظهري.
فقالوا: أطعناك.
فقال دريد بن الصمّة: هذا يوم لم أشهده ولم يَفُتْني..
وانصاعَ الناسُ لرأي مالك بن عوف، فراح يدبّر شيئاً من الخطة التي أشار عليه بها دريدُ بن الصمّة، بأن فرّق المقاتلين في قمم حُنَيْنٍ، وقدَّم كميناً عند مضيق الوادي، لكي يكون بإمكانهم إذ ما أقبل المسلمون عليهم أن يشدّوا عليهم شَدّةَ رجلٍ واحد، يرشقونهم السهام والنبال، ويُنزِلون بهم بالطعان، فتتضعضع صفوفهم، ويتشتت شملهم، فيهزموهم شرّ هزيمة..
وبعد أن رتّبَ مالكٌ أمورَ حربه، بعث بجواسيس له يتقصّون أخبار المسلمين، فجاءته الأخبار ناصحة له بالعودة، ولكنَّه لم يأبه للنصح بل رمى المخبرين بالجُبْن، وحبسهم عنده مخافَة أن يُشيعوا الأمر في الجيش، فتثبط الهمم وتخور العزائم.
أما المسلمون في مكة فقد بلغتهم استعدادات هوازن ومن معها للحرب، فبعث الرسول، صلى الله عليه وآله وسلم، عبدالله بن أبي حَدْر الأسلمي، يدخل بينهم ويقف على أخبارهم، ولم يغب عبدالله أكثر من يومين إذ عادَ يحدِّث الرسول، صلى الله عليه وآله وسلم، بما جهزه أولئك القوم من عدّة وما عبّأوا من قوى، فأمَرَ عليه وعلى آله الصلاة والسلام بالتهيؤ للخروج ونادى مناديه بإعلان التعبئة للقتال.
وجاء من يذكر لرسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، أن عند صفوان بن أمية دروعاً وأسلحة كثيرة، فبعث يسأله أن يعيرها له، فجاءه صفوان يقول: أغصباً يا محمد!.
قال: بل عارية ومضمونة حتى نؤديها إليك.
قال صفوان: ليس بهذا بأس.
وذهب صفوان إلى بيته، فأتى بمئة درع يعيرها للنبي، صلى الله عليه وآله وسلم..
وكان لدى نوفل بن الحارث بن عبدالمطلب، ابن عم النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، رماحٌ كثيرة بلغت ثلاثة آلاف رمح، ما إن طلبها النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، منه، حتى جمعها سريعاً إليه، فنظر إليها النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، وقال لابن عمه: «كأني أنظر إلى رماحك هذه تقصف ظهر المشركين».
وأتمَّ المسلمون استعدادهم للخروج بوقت قصير، فعبّأ الرسول، صلى الله عليه وآله وسلم، الصفوف، ووضع الألوية والرايات في أهلها، فدفع بلواء المهاجرين إلى علي بن أبي طالب (عليه السلام) وبلواء الأوس إلى ُأسيد بن حضير، ولواء الخزرج إلى حُباب بن المنذر، كما أعطى رايةً لعمر بن الخطاب ورايةً لسعد بن أبي وقاص (رضي الله عنهم) وغيرهم ممن حمل رايات القبائل العديدة.
ثم استعمل على مكة عتّاب بن أسيد بن أبي العيص بن أميَّة أميراً على الناس وقال له: يا عتّاب، أتدري على من استعملتك؟! استعملتك على أهل الله، ولو أعلم لهم خيراً منك استعملته عليهم، وكان عمره إذ ذاك نيفاً وعشرين سنة، وكان رجلاً صالحاً. روي عنه أنه قال: أصبتُ في عملي هذا بُردَيْن معقَّدين كسوتهما غلامي، فلا يقولنَّ أحدكم أخذ مني عتاب كذا، فقد رزقني رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، كلَّ يومٍ درهمين فلا أَشبَعَ الله له بطناً مَنْ لا يُشبعه كلَّ يوم درهمان. وترك مُعاذَ بن جَبَلْ الأنصاري يعلمهم ويفقّههم إذ كان عالماً بالقرآن، متبحِّراً بالدين.
وخرج رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، من مكة لستٍّ خلون من شهر شوّال سنة ثمانٍ للهجرة، في عشرة آلاف ممن جاؤوا معه لفتح مكة، وألفين ممن أسلموا بعد الفتح..
خرج جيش المسلمين تحفُّ به مظاهر القوة، وتبدو عليه سِماتُ التفوق والاعتزاز، فظنَّ البعض أن النصرَ حليفهم لا محالة لكثرة عددهم، فقالوا: «لا نُغلَبُ اليومَ عن قِلّة»..
ولم يكن هذا الاطمئنان لكثرة العدد هو وحدَه ما دلَّ على ذهنية مهتزّة لدى الكثيرين ممن خرج إلى حُنين، بل إن تلك الجماعة من قريش وهي تخرج لأول مرة تحت إمرة رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، قد نَبَتْ بها روح الإيمان حتى أنها لتبدو أقرب إلى الجاهلية منها إلى الإسلام، إذ ما إن أطلّت على «ذات أنواط» وهي الشجرة العظيمة التي كانوا يأتونها كل سنة فيذبحون عندها ويعتكفون عليها يوماً بأسره، حتى عاودتهم نزعة الجاهلية، فتنادوا من جنبات الطريق، وأقبلوا على رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، يقولون له: «اجعلْ لنا ذات أنواطٍ كما لهم ذات أنواط»..
ونهاهم النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، عن هذا التفكير الأخرق، فقال: «الله أكبر! قلتم، والذي نفس محمد بيده، كما قال قوم موسى: [اجْعَلْ لَنَا إلهاً كما لهمْ آلهةٌ. قالَ: إِنَّكُمْ قَوْمٌ تجهلون].. إنها السُنَنُ، لَتَرْكَبُنَّ سُنَنَ مَن كان قبلكم»..
وإذا كان ما أبدته تلك الجماعة من قريش لم يُدْهِش الرسول، صلى الله عليه وآله وسلم، لِمَا يَعْلَمُ مِن أحوالها، فإنَّهُ أيضاً لم يشأ أن يقسو على أصحابها حرصاً على وحدة الصف، فتابع تقدمه بالجيش حتى وصل في المساء إلى حُنين، فاستراحوا، وناموا قسطاً وافراً من الليل، فلمَّا كان السَّحَر، وفي عتمة الفجر نهضوا من الرقاد، ولم يلبثوا أن تحركوا بانحدارٍ نحو وادي حنين، وهمُّهم أن يفاجئوا العدوّ قبل طلوع الصباح.. ولكنهم على خلاف ما ظنوا كان العدوّ يتربص بهم، فلم ينم ليله، بل بقي ساهراً بانتظارهم، حتى إذا قربوا منه، انهالت عليهم السهام والنبال مثل وابلٍ من المطر، ثم اندفعت الكتائب تنحطّ من شعاب الوادي وأحنائه ومضايقه، وفي مقدمتهم رجل على جملٍ أحمر، بيده راية سوداء في رأس رمح طويل، كلما أدرك المسلمين طعن برمحه، وهوازن وثقيف وأنصارهما منحدرون وراءه يطعنون مثل طعانه...
ولم يكن المسلمون يتوقعون هذا الهجوم الشديد عليهم، حتى إذا كانت المباغتة، اعترتهم الدهشة، وأذهلهم الخوف، فيما كانت الحيرة تستبدُّ بهم وتقذف في نفوسهم البلبلة والاضطراب، ففقدوا التنظيم، ونسوا الواجب المقدس، وارتدوا إلى الوراء، يمضون في الهروب وقد سيطرت عليهم أحاسيسُ ملؤها الوخز في الصدور والوسوسة في الأفئدة، بينما كان العدو يلحق بهم بخيله ورجاله، ممعناً الضرب والطعن في ظهورهم، وكان أكثر المتضررين بنو نصر بن معاوية من بني رئاب فقد أصابهم الشيء الكثير...
ورأى رسولُ الله، صلى الله عليه وآله وسلم، هلعَ الناس وتدافعهم القهقرى بغير وعي، كما رأى الإبل تحمل بعضها على بعض، فراح ينادي: أيها الناس! هلمَّ إليَّ أنا رسول الله، أنا محمد بن عبدالله!..
ولكنَّ الناس في جزعهم كانوا لا يسمعون، وفي خوفهم لا يدركون، بل ظلوا يمعنون في الارتداد والهروب، لا يلوون على شيء بل وقد لا يعرف أحدٌ صاحبه، ولا ينضوي تحت لوائه، حتى انكشفوا عن رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، وهو في مؤخرة الجيش على بغلته البيضاء «دلدل»، ومضوا عنه إلى البعيد، فلم يبقَ معه إلا نفرٌ من المهاجرين والأنصار وأهل بيته، كان منهم وزيراه أبو بكرٍ وعمر (رضي الله عنهما)، وأقرباؤه علي بن أبي طالب (عليه السلام) وعمه العباس بن عبدالمطلب، وابنه الفضل بن العباس، وابن عمته أبو سفيان بن الحارث، وابنه ربيعة بن الحارث، وأسامة بن زيد، وأيمن بن أم أيمن، مولاة الرسول، صلى الله عليه وآله وسلم، وحاضنته، وقد استشهد في تلك المعركة ذوداً عن النبي، صلى الله عليه وآله وسلم..
وفي هذا الموقف الصعب، وفي النفر القليل الذي وقف يحمي رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، ذوداً عنه بالأرواح والأنفس، قال العباس:
نصرنا رسولَ الله في الحرب تسعة
وقد فرَّ من قد قرَّ عنه فأقشعوا
وقولي إذا ما الفضلُ كرَّ بسيفه
على القوم أخرى يا بنيَّ لِيَرجعوا
وعاشِرُنا لاقى الحِمام بنفسه
لما ناله في الله لا يتوجع
أجل، كان فرار الجيش الإسلامي، بكليته، لا فرق بين الصحابة وبين مُسْلِمَةِ أهل مكة أو غيرهم من الناس، فالكل أغواه الشيطان فما رام إلاَّ النجاة بنفسه، مولِّياً الأدبار لا يلوي على شيء. ووقفت فئة قليلة من قريش، تنظر إلى تقهقر المسلمين والغبطة تأخذها، وترى تشتت صفوفهم والسرور يملأ نفوسها..
كانوا من الجُفاة الذين لم تتطهر قلوبهم بالإسلام فتُخلص لله الواحد، وممَّن خذلهم انتصار المسلمين بالأمس على قريش، فلم تصْفُ نيّاتهم، فإذا بهم يُظهرون ما اختزنوا في الجوارح من غِلًّ وحقد، ويُفصحون عما يفرحهم من شماتة بوقوع الهزيمة، فيقول أبو سفيان بن حرب: «لا تنتهي هزيمتهم دون البحر».. ويقول كَلَدَة بن حنبل: «ألا بَطَلَ السحرُ اليوم!». وكان قريباً منه أخوه لأمه صفوان بن أمية، وكان ما زال على شركه، لم تنتهِ المدة التي جعَلها له الرسول، صلى الله عليه وآله وسلم، ليختار، فردَّ عليه قائلاً: «اسكت فضَّ الله فاك! فوالله لأن يَرُبّني رجل من قريش أحبُّ إليَّ من أن يَرُبّني رجل من هوازن».. أما شيبة بن عثمان بن طلحة، وهو من كان أبوه قد قُتل يوم أُحد، فقال: «اليوم أدرك ثأري من محمد».. وليس من غير المتصوّر أن يكون هذا الخبيث، قد حاول النيل من النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، ولكنَّ شيئاً جرى على لسانه، بعد أن غشّى فؤاده فلم يعد قادراً أن يطيقه، مما أوقر في ذهنه أن النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، ممنوع منه، ومن غيره من بني البشر فلا يطاله مكروهٌ، ولو تألّبت عليه قوى الشر كلها، لأنَّ الله سبحانه وتعالى حاميه وناصره. وقد اعترف بذلك فقال: «فأَدَرتُ برسول الله لأقتله، فأقبل شيء حتى تغشَّى فؤادي، فلم أطق، فعرفت أنه ممنوع»..
كانت هذه الأحاديث تدور على ألسنة أولئك الضالّين، والنبي، صلى الله عليه وآله وسلم، ما زال في مكانه، يشهد مرور القبائل به الواحدة تلْوَ الأخرى وهي مولِّيةً الأدبار لا تلوي على شيء، فإذا به يقف في هذه اللحظة الفاصلة، وفي أحرج الساعات، أعظم موقف وأروعهُ، إذ قرر البقاء في ميدان المعركة، ومجابهة الأعداء، ولو لم يقتحم القتالَ معه إلاَّ ذلك النفرُ القليل الذي يحيط به، ولكنه رأى ألاَّ يترك وسيلة إلاَّ ويستعملها علَّ الناسَ تعود إلى صوابها، فطلب إلى عمه العباس، وكان جهوري الصوت، قَوِيَّه، أن ينادي في الناس بما يعيد إليهم الوعي، ويثيبهم إلى الرشد.. ووقف العباس، يصرخ من قلب محنق وبأعلى صوته: «يا معشر الأنصار الذين آوَوا ونصروا! يا معشر المهاجرين الذين بايعوا تحت الشجرة! إن محمداً حيٌّ فهلمُّوا»..
وكرّر العباس النداء حتى تجاوبت في كل جنبات الوادي أصداؤه، وبلغت مسامِعَ الفارّين، فإذا بالرعدة تدبُّ في أوصالهم، وتحيي في نفوسهم الروح الشمّاء التي ألِفَتْهم في شتى المعارك والحروب، وإذا بتلك الوسوسة الشيطانية تندحِرُ أمام صحوة الإيمان، فيُذْهِبُ الله سبحانه وتعالى عنهم مشاعِرَ الخوف، ويحلّ في نفوسهم السكينة، بوساطة ملائكته الذين هم جنودُ الله تعالى، يملأ بها النفوس المؤمنة التي تغفلُ في ساعة من الساعات عن أَداء الواجب، لتعيدها إلى صدقها وإخلاصها فتمضي ملبية نداء الحق مستبشرة برحمة الله ورضوانه.
وحلّت قدرة الله في جنوده الأوفياء، فإذا بنداء العباس وهو يدّوي في الآذان، تهتزّ لأصدائه أوتار القلوب، فيرجع المؤمنون وهم يتصايحون من كل صوب: «لبَّيك لبَّيك يا رسول الله»... ويرتدّون إلى المعركة مستبسلين..
وراح المؤمنون يخوضون غمار المعركة ببسالة نادرة، ويَصْلَونَ نارها بشجاعة فائقة.. وفي حُمّى القتال اندفع علي بن أبي طالب (عليه السلام) وراء رجُل الجمل الأحمر من هوازن، الذي راح ينكبُّ على المسلمين بالقتل والطعن، حتى إذا تخلف عنه قومه رفع رايته على رمحه فاتبعوه، ثم تقدم يرتجز:
أنا أبو جرول لا براحْ أقاتل الأعداء في الصباح
حتى نُبيحَ القومَ أو نُباحُ
اندفع فارس الإسلام علي (عليه السلام) وراء فارس المشركين حتى لحق به، فهوى على عرقوبي جَمَله بضربةٍ شديدة جعلته يقع على عَجُزه. ثم وثب على أبي جرول يعاجله بضربة سيف لا تخطىء، فتشطره نصفين، ويخرُّ متخبطاً بدمائه، فينظر إليه علي (عليه السلام) ويقول:
قد علم القومُ لدَى الصباحْ أني في الهيجاء ذو نِطاحْ
وكان الصباح قد انبلج وطفا النور على عماية الفجر، عندما صارت هوازن وثقيف ومن معهما وجهاً لوجه مع المسلمين في الوادي، يلتحمون بقتالٍ عنيف، وعراك دموي شديد، ولكن بعزم واندفاع من المسلمين، وخُوارٍ وضَعفٍ من المشركين، ذلك أن المسلمين كانوا قد استعادوا الثقة بأنفسهم واستردوا اللُّحمة التي فقدوها، فهان عليهم الموت في سبيل الله، وأقدموا على اقتحام المعركة موقنين بأنَّ النصر لهم لا محالة.
وكان رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، يرقب مجرى القتال، بقلبٍ ملؤه الإيمان، وبعزمٍ لا يُضاهى، تطيب نفسه بعودة الوعي إلى نفوس المؤمنين، والشجاعة إلى صدورهم، فيعبِّرُ عن شدة هذا الصَّدام، ويقول: «الآن حميَ الوطيس» ، ثم يطلب إلى عمه العباس، الذي ظلَّ يلازمه كظله لا يفارقه أبداً، أن يناوله حفنة من الحصى، فيأخذها ويلقي بها نحو الأعداء ويقول: «شاهَتِ الوُجوه».. ولا يلبث الرسول الشجاع طويلاً في مكانه، بل ينزل إلى ساح الوغى، محرّضاً المؤمنين على الثبات، والبلاء الحسن، بقوله:
أنا النبيُّ لا كَذِبْ أنا ابنُ عبد المطلبْ
ورأى المؤمنون نبيَّهم في قلب المعركة، فتنادوا صارخين: الله أكبر.. يا للمهاجرين! يا لَلأنصار!.. واشتدت السواعد، وتضاعفت القوى، وعظم البلاءُ الحسن، فإذا بجوّ المعركة يتحوّل من هزيمةٍ إلى نصر، وإذا بهوازن وثقيف ومن معهما يجدون أن كل مقاومة لم تعد ذات جدوى، وأنهم معرضون للفناء عن آخرهم، فما كان منهم إلاَّ أن أخذوا يفرون منهزمين، لا يلوون على شيء، تاركين وراءهم نساءهم وأبناءهم وأموالهم غنيمة للمسلمين.
ولحق المسلمون بهؤلاء الأعداء يطاردونهم، وزادهم إغراءً بهذه المطاردة أن أعلن الرسول، صلى الله عليه وآله وسلم: أنَّ من قتل مشركاً فله سَلَبُهُ.. وكان ابن الدغنة ممن يلاحقون فلول المنهزمين، فرأى جملاً عليه رَكْبٌ ظنَّ به امرأة طمع في سَلَبها، فأناخ الجمل، ليجد شيخاً كبيراً، تتفطّر ملامحه بالأسى والحزن.. فسأله هذا الشيخ:
ــــ ماذا تريد بي أيها الرجل؟.
قال ابن الدغنة: أقتلك.. قال: ومن أنت؟ قال: ربيعة بن زُمَيع السُّلَمي. ثم ضربه بسيفه ــــ وكأنَّ سِنِيَّ عُمْرِ هذا الشيخ الفاني جعلت يده ترتجف ــــ فلم يصبه..
فقال له: «بئس ما سلّحتك به أمك! خذ سيفي هذا من مؤخر الرحل ثم اضرب به، وارفع عن العظام واخفض عن الدماغ فإني كذلك كنت أضرب به الرجال. ثم إذا أتيت أمك فأخبرها أنك قتلت دريد بن الصمّة، فرُبَّ والله يوم قد منعتُ فيه نساءك».. ولكنَّ ذلك لم يُجدِ دريداً شيئاً، إذ عادَ ابن الدغنة فقتله لأنه مشرك..
وتابع المسلمون الأعداءَ حتى سهل أوطاس، وهنالك كانت نهاية المعركة حيث أوقعوا بهم الضربة القاضية، وهزموهم شرَّ هزيمة، وسَبَوا النساءَ والأولاد، فاحتملوهم إلى النبي، صلى الله عليه وآله وسلم.
أما مالك بن عوف، فقد فرَّ وقومَه مع هوازن، وأخيراً افترق عنهم عند نخْلة، ثم ولَّى وجهه نحو الطائف يحتمي بها.
وكذلك كان نصرُ الله للمؤمنين نصراً مؤزَّراً. وكانت هزيمة المشركين تامة ساحقة، وكان الفضل في هذا النصر لله سبحانه وتعالى ولنبيّه الكريم في ثباته، ولتلك الفئة القليلة من ذوي القربى والصحابة الذين أحاطوا بالنبي، صلى الله عليه وآله وسلم، يمنعونه، ويذودون عنه، فيقوَوْن به، ويقوى بهم، وكذلك الأخيار يشدُّ بعضهم أَزْرَ بعضٍ في الملمَّات والصعاب، فتكون لهم وقفة عزٍّ تميِّزهم عن الناس.
وفي هذه المعركة نزل قول الله تعالى:
{لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ * ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَذلِكَ جَزَآءُ الْكَافِرِينَ} .
ولم يكن هذا النصرُ سهلَ المنال، بل دفع المسلمون ثمنَهُ غالياً من مُهَج الرجال وأرواحِ الأبطال الذين استشهدوا في الموقعة، وقد كان عددهم كبيراً، حتى قيل إن قبيلتين من المسلمين أُفنيتا، أو كادتا أن تُفْنَيا، وقد صلَّى الرسول، صلى الله عليه وآله وسلم، عليهم، داعياً لهم الله سبحانه أن يُدخلهم الجنة جزاءً على ما قدَّموا من تضحيات..
أما النتائج المادية للموقعة فكبيرةٌ، لقد كانت الغنائم التي حَصَلَ عليها المسلمون كثيرة، وقد أحصيت يومئذٍ فكانت اثنين وعشرين ألفاً من الإبل، وأربعين ألفاً من الشاءِ، وأربعة آلاف أوقية من الفضة، هذا عدا عن الأسرى الذين بلغ عددهم حوالي ستة آلاف من الرجال والنساء، نُقِلُوا مع الغنائم إلى وادي الجعرانة، حيث آووهم إلى أن يقضيَ رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، أمرَه فيهم..
وبعد هزيمة هوازن، لم يبقَ إلاَّ الطائف وفيها ثقيف، ومالك بن عوف الذي هرب إليها مُحتمياً، فأَمَرَ الرسول، صلى الله عليه وآله وسلم، بالمسير إلى الطائف في شهر شوَّال ذاته من سنة ثمان للهجرة..
وكانت الطائف من أشهر مدن العرب في شبه الجزيرة، بخصب أرضها، ولطيف مناخها حتى أنها كانت لتشكِّل بكرومها وأعنابها واحةً في وسط الصحارى، وهذا ما جَعَلَ أهلها ذوي ثروة طائلة، فحصّنوها وجعلوا لها أبواباً تُغلَق عليها كأكثر مدن العرب في ذلك العصر، وقد أدَّى بهم هذا التحصين المنيع لاكتساب دراية بحرب الحصار وخبرة في الدفاع عن مدينتهم.. فلمَّا بلغها المسلمون، كانت الحصون قد أغلقت في وجوههم، فأمر الرسول، صلى الله عليه وآله وسلم، أن يقيموا معسكرهم على مقربةٍ منها. وفيما هم منهمكون في ترتيب المعسكر، كانت ثقيف قد اعتلت جدران الحصون وراحت ترشقهم بالنبال حتى قتلت جماعة منهم وجرحت أخرى، عندها أمر الرسول، صلى الله عليه وآله وسلم، بالمعسكر فانتقل بعيداً عن مرمى النُّبل، وفي هذا المكان ضُربت قُبَّتان لزوجتيه أم سلمة وزينب، اللتين كانتا معه منذ ترك المدينة. وبين هاتين القُبَّتَين كان النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، يصلِّي. فأقيم بعدها في المكان نفسه مسجدٌ في الطائف تيمّناً وتبرّكاً..
كانت الحصون منيعة، فلم يفلح معها الحصارُ، خصوصاً وأن ثقيفاً كانت لخبرتها ودرايتها أذكى من أن تخرج للقتال، فظلت في مواقعها، تمنع المسلمين من الاقتراب نحو الحصون. وأقامَ النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، ينتظر مع الصحابة، ما الله صانِعٌ بهم وبعدوِّهم، حتى مرَّت فترة والحال كما هي لا تتبدّل، فجاءه أحد الأعراب يقول له:
«يا رسول الله، إنما ثقيف في حصنها كالثعلب في جُحره، لا سبيل إلى إخراجه منه إلاَّ بطول المُكْث، فإن تركته لم يلحقك منه ضُرُّ».
ولم يلْقَ هذا العرضُ بترك الحصار تجاوباً لدى النبيِّ، صلى الله عليه وآله وسلم، فراحَ يتفكّر في وسيلة تمكّنه من إصابة ثقيف. وكان معه في الحصار الطفيل الدوسي، الذي صحبه ولم يفترق عنه منذ غزوة خيبر، فأوفده النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، إلى بني قومه يستنصرهم، لعلمه أن بني دوس، المقيمين في أسفل مكة، عندهم علم بالرماية بالمنجنيق وبمهاجمة الحصون في حماية الدبابات . وذهب الطفيل فجاء بطائفة من قومه ومعهم أدواتهم، وكان ذلك بعد أربعة أيام من حصار المسلمين للطائف.
ورمى المسلمون هذه المدينة بالمنجنيق، فلم يكن لرماياتهم أثرٌ يذكر. فزحفوا إليها بالدبابات يريدون الوصول إلى جدرانها ليخرقوها، ولكنَّ رجال الطائف لم يمكنوهم من هذا الخرق، إذ سارعوا يُحْمُون الحديد بالنار حتى إذا انصهرت قطعه ألقوا سائلها على الدبابات فأحرقتها، مما اضطر المسلمين للتراجع من تحتها خيفة أن يحترقوا، وأثناء تراجعهم رمتهم ثقيف بالنبل فقتلت جماعة أخرى منهم وكان عبدالله بن أبي بكر الصديق قد أصيب في هذا الحصار، مع من أُصيبوا وجرحوا، فلم يندمل جرحه بعد ذلك حتى توفي منه في المدينة، بعد انتقال رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، إلى الرفيق الأعلى.
فشلت محاولات المسلمين في دخول الطائف، وحالت حصونُها دون فتحها، ولكنَّ ذلك لم يفتّ في عَضُد النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، فارتأى اعتماد وسيلة جديدة علَّها تكون الأجدى في قيادة ثقيف إلى الاستسلام. وقد كانت خطته رغم أنه يكره قَطْع الشجرة ــــ كما ظهر جليّاً في وصاياه إلى جيوشه من قبل ــــ أن يأمر بتقطيع كروم ثقيف وإحراقها، لأن الشجرة وإن كانت مصونة عند النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، إلاَّ أنها لا تعود كذلك إن اعتمدت وسيلة لمحاربة العدو، وتحقيق النصر في المعركة. وبالفعل نفّذ الرسول، صلى الله عليه وآله وسلم، خطته فأَمَرَ المسلمين بالكروم يقطعونها. ورأت ثقيف ما يحلُّ بأحد أهم مواردها الاقتصادية، وتبيّن لها أن محمداً، صلى الله عليه وآله وسلم، جادٌّ في هذا الأمر، فبُعث إليه أن يأخذ هذا الرزق لنفسه إن شاء أو أن يدعه لله وللرَّحم لما بينه وبينهم من قرابة..
عندها أمرَ الرسول، صلى الله عليه وآله وسلم، بالتوقف عن القطع، وبعث من ينادي في ثقيف: «إن رسولَ الله، صلى الله عليه وآله وسلم، مُعتقٌ من جاء إليه من الطائف».. ففرَّ إليه قرابة عشرين من أهلها، وكان هذا الفرار وطلب العدو أن يترك أرزاقهم بداية لكسر شوكة ثقيف وإذعانها لمشيئة رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، فيما بعد..
ثم انقضى شهر وما زال المسلمون على حصار الطائف، وبانقضائه كان ذو القعدة قد أهلَّ والأشهر الحرم قد آذنت، فآثر الرسول، صلى الله عليه وآله وسلم، أن يرفع الحصار وأن يرجع بجيشه إلى أن تنتهي تلك الأشهر الحرم، فيكون بعدها الأمرُ لله سبحانه، فإمّا أن يعود لقتال ثقيف وفتح الطائف، وإمّا أن يكون أهلها قد اهتدوا وجاؤوه مسلمين.. وقد قال للنبي، صلى الله عليه وآله وسلم، رجل من أصحابه يوم ظعن عن ثقيف: «يا رسول الله؛ ادعُ عليهم»، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: «قولوا: آيبون، تائبون، عابدون لربنا حامدون، اللَّهم اهْدِ ثقيفاً وأْتِ بهم».
ونزل المسلمون بالجعرانة حيث تركوا غنائمهم وأسراهم. وإنهم لفي ذلك النزول إذ جاء وفدٌ من هوازن قد أسلموا، يرتجون أن يردَّ عليهم الرسول، صلى الله عليه وآله وسلم، نساءهم وأبناءهم وأموالهم، بعدما ذاقوا أشدَّ العذاب لفراقهم، وأبشع الهوان والذلّ لأسْرِهم.. جاءَ هذا الوفد يبدي إسلامه وشكايته، فقال رجل: «يا رسول الله، إنما في الحظائر عماتك وخالاتك وحواضنك اللواتي كُنّ يكفلنك. ولو أنَّا مَلَحْنا للحارث بن أبي شمِر الغساني، أو للنعمان بن المنذر ، رجونا عطفه وعائدته علينا وأنت خير المكفولين»..
وسأل الرسول عن حواضنه، فقيل له: إنَّ أختك من الرضاعة بين السبايا، فطلب أن يأتوا بها، فلمَّا جاءت عرف حقاً أنها أخته، الشيماء بنت الحارث بن عبدالعُزّى، التي طالما حملته ودغدغته على ذراعيها، يوم كان صبيّاً في المهد، وأمها حليمة ترأف به وتحنو عليه.
فماذا يفعلُ محمد، صلى الله عليه وآله وسلم، يا ترى وقد وَجَدَ هذه الأخت بين السبايا؟!..
لقد قام من فوره يبسط لها رداءه ويجلسها عليه، ثم يدنو منها محباً، عطوفاً، مؤانساً، يتذكران أيام الطفولة في ديار بني سعد من هوازن، وكيف عاشا سويّة هناءة تلك الأيام، ويسألها عن أمه حليمة، وعن زوجها الحارث، وعن إخوته وأخواته في الرضاعة، والناس من حوله يتطلعون ويسمعون، متفكرين بإنسانية رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، ووفائه، وبخصاله النبيلة، التي تسمو على الخصال، وتعلو على الصفات مهما كبرت عند بني البشر، فيحمدون الله تعالى أن هداهم إلى الإيمان بفضل هذا الرسول الكريم..
وبعد أن اطمأنت الشيماءُ وفرحت بلقاء رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، خيّرها إنْ أحبت أبقاها عزيزة مكرمة، يكفل كهولتها، ويردُّ عنها غائلة الدهر، وإن أحبت متَّعها وأَرجَعَها إلى قومها، فاختارت الرجوعَ إلى قومها.
ولم يكن هذا العطف المحمدي ليقتصر على الشيماء بنت الحارث وحدها، بل وَجَبَ أن يشملَ كلَّ من جاؤوه من هوازن مسلمين، نادمين، فقال لهم الرسول، صلى الله عليه وآله وسلم: «أبناؤكم ونساؤكم أحبُّ إليكم أم أموالكم؟». قالوا: «يا رسول الله، خيّرتنا بين أموالنا وأحسابنا! بل تردّ علينا نساءنا وأبناءنا فهو أحبُّ إلينا». فقال لهم: «أما ما كان لي ولبني عبدالمطلب فهو لكم وإذا ما أنا صلَّيت الظهر بالناس، فقوموا وقولوا: إنا نستشفع رسول الله إلى المسلمين، وبالمسلمين إلى رسول الله في أبنائنا ونسائنا، فسأعطيكم عند ذلك، وأسأل لكم».
ولما كان الظهر وانتهت الصلاة، وقف رجال هوازن يستشفعون في أبنائهم ونسائهم، فقال الرسول، صلى الله عليه وآله وسلم: «وأما ما كان لي ولبني عبدالمطلب فهو لكم».
فقال المهاجرون: «وما كان لنا فهو لرسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم».
وقالت الأنصار: وما كان لنا فهو لرسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم».
فقال الأقرعُ بن حابس: «أما أنا وبنو فارة فلا»..
وقال عباس بن مُرداس: «وأما أنا وبنو سُلَيم فلا»..
ولكنَّ بني سليم رفضوا موقف ابن مرداس، وقالوا: بلى، ما كان لنا فهو لرسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم.
وهنا قال رسولُ الله، صلى الله عليه وآله وسلم: «أمَّا من تمسَّك منكم بحقه من هذا السَّبي، فله بكل إنسان ستُّ فرائض من أولِ سَبْي أصيبه، فردّوا إلى الناس أبناءهم ونساءهم».
وكذلك رُدَّتْ نساءُ هوازن وأبناؤها إليها، وكان ذلك بفعل إسلامها، وبفعل عظمة محمد، صلى الله عليه وآله وسلم، وإنسانيته التي لا تضاهى..
وسأل رسولُ الله، صلى الله عليه وآله وسلم، عن مالك بن عَرْف، ماذا فعل؟ فقيل له إنه ما يزال بالطائف مع ثقيف، فقال لوفد هوازن: «أخبروا مالكاً إن أتاني مسلماً رددت عليه أهله وماله وأعطيته مئة من الإبل».
ولم يُعتِّمْ مالك حين أتاه خبر عفو النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، عنه ــــ إن أتاه مسلماً ــــ أن تجهّز سرّاً، حتى لا تراه ثقيف، ثم خرج من الطائف في وسط الليل حتى قدم على رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، فأعلن إسلامه، فردَّ عليه أهله وماله، وأعطي فوقها مئةً من الإبل. وقد عبّر مالك عن مشاعره بعد إسلامه، فقال:
ما إنْ رأيتُ ولا سمِعْتُ بِمِثْلِهِ
في الناسِ كلِّهم بمثْلِ مُحمَّدِ
أَوْفى وأَعْطى للجَزِيل إذَا اجْتُدِي
وإذا تَشَا يُخبِرْكَ عَمَّا في غدِ
وإذا الكَتِيبةُ عَرَّدتْ أَنْيابُها
أمَّ العِدَى فيها بكُلِّ مُهنَّدِ
فَكَأنهُ ليثٌ لَدَى أَشْبالِهِ
وَسْطَ الهَبَاءَةِ خادِرٌ في مَرْصَدِ
ورأى الناس أن رسولَ الله، صلى الله عليه وآله وسلم، يعطي كلَّ من جاءه من هوازن أهلَهُ ومالَهُ، فخافوا أن تُنقِصَ هذه الأعطيات قسمتهم من الغنائم، فسرى الهمس بينهم، يُريد كل واحدٍ أن يأخذ فيْئه، حتى بلغ ذلك الهمسُ رسولَ الله، صلى الله عليه وآله وسلم، فوقف إلى جانب بعير، وأخذ وَبَرَة من سنَامِهِ فجعلها بين إصبعيه، ثم رَفَعَهَا وقال: «أيها الناس، والله مالي في فيئكم ولا هذه الوبرة إلاَّ الخُمْس، والخُمْسُ مردود عليكم».
ثم أمر عليه الصلاة والسلام أن يردَّ كل واحد ما غنم، حتى تقتسم الغنائم بالعدل، وهو يقول للناس: «فمن أخذ شيئاً في غير عدل ولو كان إبرةً، كان على أهله عاراً وناراً وشناراً إلى يوم القيامة». ونادى منادي الرسول، صلى الله عليه وآله وسلم: «من أخذ شيئاً فليرده حتى الخيط والمخيط»..
وتدفق الناس يردون غنائمهم، فجاء رجلٌ من الأنصار بكبّة من خيوط الشعر، فقال: «يا رسول الله، أخذت هذه الكبَّة أعمل بها بردْعة بعير لي» فقال له صلى الله عليه وآله وسلم: «أما نصيبي منها فلك». فقال الأنصاري: «أما إذْ بَلَغَتْ هذا، فلا حاجة لي بها، ثم طرحَها من يده بين الغنائم».
وكان عقيل بن أبي طالب، قد أتى بإبرةٍ وأعطاها لزوجه، فاطمة بنت شيبة بن ربيعة، قائلاً: «دونك هذه الإبرة تخيطين بها ثيابك».
فلما سمع المناداة بإعادة كل شيء، رجع إلى امرأته يقول لها:
«ما أرى إبرتك إلاَّ قد ذهبت»..
ثم أخذها وألقاها في الغنائم..
وأتى رسولُ الله، صلى الله عليه وآله وسلم، فخمَّس الغنيمة، ثم فصل الخُمْس لنفسه، ووزع الباقي على الناس. فكان نصيب المجاهد لكل رجل أربعاً من الإِبل وأربعين شاةً، فإن كان فارساً أخذ اثني عشر بعيراً وعشرين ومائة شاة. ووزع من خُمسه على قادة القبائل بُغْية تأليف قلوبهم وقد كانوا إلى الأمس القريب أشدَّ أعدائه، وهم الذين وقفوا في أتون المعركة ينظرون، وبعضهم يبدي الشماتة، فأعطى لهؤلاء أكثر من المجاهدين، فكانت مئة من الإبل لكل من أبي سفيان بن حرب، وابنه معاوية، والحارث بن الحارث بن كَلَدَة، والحارث بن هشام بن المغيرة، وسهيل بن عمرو، وحويطب بن عبدالعُزَّى، والسائب بن أبي السائب، وغيرهم من رؤساء بني بكر، وقيس، وسليم، وغطفان، وفزارة، وتميم.. حتى لم يبق أحدٌ من أشراف القبائل وزعماء العشائر، ممن تألف بعد فتح مكة، وحضر وقعة حنين، إلاَّ وأعطي مئة من الإبل، وبعض الفضة.
وكان نصيبُ مَن دُونَ هؤلاء شأناً، خمسين من الإبل، وقد بلغ عددهم عشرات..؟.
وبينما كان رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، يعطي هؤلاء الناس المؤلَّفة قلوبهم قام رجل من تميم يقال له «الخُوَيْصرة»، فقال: اعدلْ يا رسول الله!..
فقال النبيُّ، صلى الله عليه وآله وسلم: وَيْلَكَ إِنْ لَمْ أَعْدِلْ أنا فَمن يعدل؟!..
فقال عمر بن الخطاب: «يا رسول الله، ألا أقتله؟».
قال له النبي الرحيم: «دَعْه، فإنه سيكون له أتباعٌ يتعسفون في الدين حتى يخرجوا منه كما يخرج السهم من الرمية»..
وقد كان عطاء الرسول، صلى الله عليه وآله وسلم، لهؤلاء المؤلفة قلوبهم كبيراً إلى حدٍّ قضى لهم جميع حاجاتهم. فقد أعطى صفوان بن أمية مئة من الإبل، ثم مئة، ثم مئة.. ونظرَ إليه الرسول، صلى الله عليه وآله وسلم، بعد هذا العطاء الكبير فرآه يرمق شِعْباً مملوءاً نِعماً وأغناماً، فقال له:
«أَعجَبَكَ هذا الشِّعْب يا أبا وهب».
قال: نعم..
فقال له صلى الله عليه وآله وسلم: «هو لك بما فيه»..
عندها قال صفوان: «إن الملوك لا تطيب نفوسها بمثل هذا، ما طابت نفس أحد بمثل هذا إلاَّ نبيٌّ، أشهد أن لا إله إلاَّ الله وأنك رسولُ الله»..
فكان كرمُ رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، هذا سبباً في إسلامه، قبل انقضاء المدة التي استمهله فيها ليختار بين بقائه على الشِّرك أو يدخل في الإسلام..
على أنَّ هذا الذي تألَّف به النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، قلوب تلك الفئة من قريش ومن قبائل العرب، لم يعجب بعض المسلمين، ولم يدركوا الحكمة من ورائه، مما جعل الأنصار يتحدث بعضهم إلى بعض، حتى قال قائلهم: «لقيَ والله رسولُ الله قومَه».
ولشدة تأثُّر الأنصار بما صنعَ الرسولُ، صلى الله عليه وآله وسلم، جاءَهُ سعد بن عبادة يبلّغه وجْدَ أنفسهم عليه وهو يقول: «يا رسول الله، إن هذا الحيَّ من الأنصار قد وجدوا عليك في أنفسهم لما صنعت في هذا الفيء الذي أصبت، فقسمت في قومك، وأعطيت عطايا عظيمة في قبائل العرب، ولم يكُ في هذا الحي من الأنصار شيء»..
فقال له الرسول، صلى الله عليه وآله وسلم: «وأين أنت منهم يا سعد؟».
قال سعد: «إنما أنا رجل أيَّدَ قومَه فيما يقولون».
فقال له الرسول، صلى الله عليه وآله وسلم: «اجمع لي قومك».
فلما اجتمع الأنصار وقف النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، يخاطبهم قائلاً بعد أن حمد الله وأثنى عليه بما هو أهله: «يا معشر الأنصار، ما قالةٌ بلغتني عنكم، ووجَدةٌ وجدتموها عليَّ في أنفسكم؟ ألم آتِكم ضُلاّلاً فهداكم الله، وعالةً فأغناكم الله، وأعداءً فألّفَ الله بين قلوبكم؟».
قالوا: بلى! الله ورسولُهُ أمنُّ وأفضلُ.
قال: ألا تجيبوني يا معشر الأنصار!.
قالوا: بماذا نجيبك يا رسولَ الله؟ لله ولرسوله المنُّ والفضلُ.
قال: «أما والله لو شئتم لقلتم فلَصَدَقْتُمْ ولَصُدِّقْتُم. أتيتنا مكذَّباً فصدَّقناك، ومخذولاً فنصرناك، وطريداً فآويناك، وعائلاً فآسيناك. أوجَدْتُم يا معشر الأنصار في لُعَاعةٍ (الشيء اليسير) من الدنيا تألّفتُ بها قوماً ليُسلموا ووكلتكم إلى إسلامكم! ألا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس بالشاة والبعير وترجعوا برسول الله إلى رحالكم! فوالذي نفس محمد بيده لولا الهجرة لكنت امرءاً من الأنصار. ولو سلك الناسُ شِعْباً ووادياً وسلكتِ الأنصارُ شعباً ووادياً لسلكتُ شعْبَ الأنصار وواديها. الأنصار شِعار، والناس دِثار. اللَّهم ارحم الأنصارَ، وأبناءَ الأنصار، وأبناءَ أبناءِ الأنصار».
هذا الصدقُ المحمديُّ، وهذا الوفاءُ النبويُّ جعلا الأنصارَ يبكون بحرقة في العيون حتى اخضلّت لِحاهُم من الدمع، فقالوا: رضينا برسول الله قَسْماً وحظاً.
وقاموا إليه، يتقدمهم الشيوخ والسادة، يقبلون يديه، ويرجونه مسامحتهم وهم يقولون: «رضينا بما قسمت يا رسول الله وهذه أموالنا بين يديك فإن شئت فاقسمها على قومك، وإنما قال من قال منا مِنْ غير وغْر صدرٍ، وغلّ في قلب، ولكنهم ظنوا سخَطاً عليهم، وتقصيراً منهم، وقد استغفروا الله من ذنوبهم، فاستَغْفِر لهم يا رسول الله».
فقال صلى الله عليه وآله وسلم: «اللَّهم اغفر للأنصار ولأبناء الأنصار، ولأبناء أبناء الأنصار» وقد أعادَ هذا التسامحُ السكينة إلى نفوس الأنصار، فرجعوا إلى رحالهم راضين مستبشرين.
إن هذا الموقف بين رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، وبين الأنصار، كان أبلغ درسٍ في السياسة الرشيدة التي كان يعتمدها صلى الله عليه وآله وسلم في معالجة شتَّى القضايا والأمور، والتي كان من خلاها ينفذ إلى القلوب فيريحها، وإلى النفوس فيملأها بالطمأنينة، وإلى العقول فيتملَّكها ويأسرها بالإيمان بالله وبه رسولاً، ذلك كان نهجه الدائم في كل مرة كانت القلوب تحتاج فيها إلى الراحة، والنفوس إلى الاطمئنان، لأنه هو نهجه الذي لا يحيد عنه إذ يخاطب الفكر والعقل في كل مرة يقتضي المواقف العقلانية في المنهجية والتطبيق..
ولقد كانت تلك المعالجات تتم بالصدق والإخلاص المعروفين عن الرسول، صلى الله عليه وآله وسلم، وتوزن بالميزان المحمدي العادل، الذي لم تعرف البشرية في تاريخها، لا من قبلُ، ولن تعرف من بعدُ، مثل هذا الميزان لأنَّ في إحدى كفتيه دائماً حكم السماء، وفي الكفة الأخرى فِعال البشر، ولا يمكن لهذه الفعال أن تستوي في نظر محمد بن عبدالله صلى الله عليه وآله وسلم إلاَّ إذا توافقت مع حكم الله تعالى، لأنه وحده الحكم، الثابت، الأزلي..
وهذا الميزان المحمدي كان يطبقه رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، على نفسه، مثلما يطبقه على الآخرين. فعندما جَمَعَ إليه الأنصار، ذكّرهم أول ما ذكّرهم بفضله عليهم، هدايةً، وغِنىً، وتأليفاً للقلوب بإرادة الله سبحانه وحكمته، ثم عادَ يذكرهم بفضائلهم هم عليه ونصرتهم للدعوة، وجهادهم في سبيل إعلاء كلمة الله، وكل ذلك بلا أي تردّد أو تحفظ، بل إظهاراً للحقوق والفضائل..
ولقد أثبتَ رسولُ الله، صلى الله عليه وآله وسلم، أن مخاطبته الصادقة لهؤلاء الأنصار كانت بمنزلة الدواء للوجد الذي أحسّوا به، وشفاءً لوهْمِ الإجحاف الذي ظنّوه، فإذا هم الأتقياء، الأصفياء، المخلصون المستغفرون، وإذا هو الرسول الأعظم الذي ارتفع بهم إلى أعلى مراتب السمو الإنساني التي تعلو بهم على المال والجاه، وتنأى بهم عن الغنائم والمتاع، وعن كل ما يُغري الناس ويتدافعون عليه من متاع الحياة الدنيا.
ولم يكن الأنصار وحدهم قد ساورهم بعض الظن في صنع رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، أثناء توزيع الفيء، بل إنَّ بعض الصحابة أتوه قائلين: «يا رسول الله، أعطيت عيينة بن حصن، والأقرع بن حابس مئة، وتركتَ جُعَيْلَ بْنَ سُراقَةَ الضمَّري».
فقال: «والذي نفس محمد بيده لجعيل بن سراقة خير من مثل عيينة والأقرع، ولكنّي تألفتهما ليُسلما، ووكلتُ جعيل بنَ سُراقة لإسلامه».
على أنه مهما تكن الظنون التي رافقت نفوس الناس، أو الاعتراضات التي ظهرت على تقسيم النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، للغنائم، فإنَّ أمراً جوهرياً يجب ألاَّ يغيب عن الأذهان، وهو أن عطاءه صلى الله عليه وآله وسلم للمؤلّفة قلوبهم كان من الخُمس الذي هو حق خالص للرسول، صلى الله عليه وآله وسلم، يضعه حيث يشاء ويعطيه لمن يشاء من ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل! بدليل قوله تعالى:
{وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ} .
فقد استعمل رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، خُمُسَه في أسمى وأعلى غاية، ألا وهي هداية فئة من الناس إلى الإيمان الحق، فقد وجد أن الدعوة الإسلامية توجب تأليف القلوب، وقد شهد موقعة حُنَين جماعة من سادة قريش وقادة قبائل العرب الذين لهم منزلة في قومهم، فلماذا لا يعطيهم الرسول، صلى الله عليه وآله وسلم، من هذا الفيء العظيم، إن كان في هذه العطاءات، ومهما بلغت، ما يزيل الضغينة التي ما زالت في قلوبهم على الدعوة ـ وقد بدت جلية في مقالتهم أثناء احتدام المعركة ـ ويجعلهم على طريق الإيمان الحق، بما يتناسب مع جوهر الدين الإسلامي الذي لا يحفل إلاَّ بصاحب الإيمان الصادق وليس بمن يدخلون فيه لسبب أو لآخر، دون أن يلامس ذلك الإيمان قلوبهم؟!...
فتلك هي العبر في ذلك التوزيع، وتلك هي العِظات في تصرف رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، هذا فضلاً عن أنَّ إعطاء المؤلفة قلوبهم هي فريضة من الله، واجبة من الصدقات الدائمة في الإسلام، وليس فقط من الغنائم التي تحصل في ظرف معين، وذلك لقوله تعالى:
{إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَآءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} .
وكما كانت الدروس الهادية التي أعقبت غزوة حنين والطائف، كذلك كانت أحداثها مليئةً بالدروس الهادفة المربِّية.. فقد خرج المسلمون للجهاد في سبيل الله، ودَحْر الشرك في بعض الجيوب الداخلية، بعد فتح أَغلاق مكة، وبعدما دانت قريش القوية المتغطرسة لسلطان الإسلام، ومكَّن الله سبحانه لرسوله وللمؤمنين من نواحي هذا العدو ومن نواحي غيره من العرب.
لقد خرجوا، وهم في فوْرة الفوز بالفتح المبين، وفي سوْرة العُجب بما كانوا عليه من كثرة العدد وقوة العتاد.. وقد نظروا إلى كثرتهم تلك فأعجبوا بها، واطمأنوا إليها، معتقدين أن هذه الكثرة هي مصدر القوة وسبيل النصر.. إلاَّ أنهم ما لبثوا أن فروا من وجه هذا العدو حين فاجأهم بانحداره إليهم، مولِّين الأدبار، لا يلوُون على شيء، يتدافعون أمامه تدافع السيل، ويتكبكبون تكبكب الأنقاض من البناء الشامخ الذي انهار أعلاه على أسفله. ومما لا شك فيه أن الهزيمة كانت قد حلّت بهم لولا ثبات النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، ومعه تلك الفئة القليلة التي باعت أنفسها لربّها، وأحاطت بهذا النبي الكريم الدائم الصلة بربه، فمدَّها بالثقة واليقين، وتوجه بقلوبها إلى الباري، فاستمدت منه العون والمؤازرة.. نعم لقد كان لإخلاص هذه الفئة القليلة، وحُسْن صِلتها بالله وبرسوله، والتجائها إلى الإيمان، أكبر الأثر في تسيير الموقعة، إذ أمدَّها تعالى سريعاً بالمدد اللازم وهو يوقظ سبحانه وتعالى الضمائر في صدور الفارين، ويزيل الغشاوة عن بصائر الهاربين، فينزل السكينة على قلوبهم، ويعيدهم إلى القتال ليبدلوا اليأس بالبأس، والضعف بالقوة، وتتحول الهزيمة إلى نصر مؤزر.
لقد ركن المسلمون إلى أنفسهم ساعة من الزمن، فوكلهم الله إلى تلك الأنفس، وكانت النتيجة غلبة العدوِّ لهم، رغم كثرة العدد. ولكنهم لمَّا رجعوا إلى ربهم واستعانوا به، جاءهم العون فكان لهم النصر الكريم والفوز العظيم..
وأدرك المسلمون أن النصْرَ حقاً بيد الله وحده، ومصدر هذا النصر هو دائماً صدق الإيمان بالله، وحسن الاعتماد عليه، أما الكثرة والعتاد، والتعبئة، وحسن التنظيم، وما إلى ذلك من الأمور والشؤون التي يكون التوسلُ بها والاعتماد عليها فإنها كلها، أو كل واحدة منها، لا تكفي لإحراز النصر، ولا تأتي إلاَّ في المقام الثاني من أسباب القوة لخوض المعارك وتحقيق الانتصارات، إذ يبقى المقام الأول، بل الأساس الثابت هو الاعتماد على الله سبحانه، لأنْ لا قوةَ تستمد إلاَّ من الله، ولا نصرَ إلاَّ من عنده.
هذه حقائق لا ينبغي أن تغيب عن أذهان المسلمين، فهل يدركون هذه الحقائق؟ وهل يشعرون اليوم بمقدار ضعفهم أمام أعدائهم؟ وهل يعرفون سرَّ ما هم عليه من ضعف، على رغم كثرة ما هم عليه من العدد، وما عندهم من الإمكانيات والقدرات، التي يمكن أن تتحكم إلى حدٍّ بعيد بمصير العالم كله لو أحسنوا استعمالها واستغلالها؟.
قد يكون جُزافاً القول بأن هنالك سرّاً لضعف المسلمين يجب عليهم إدراكه... والحقيقة أنه لا سرَّ هناك على الإطلاق، ما دام الأمر واضحاً وضوح النهار، وبمثل هذا الوضوح لا يبقى مجال لأن يُغمض المسلمون أعينهم، ويحاولوا نكران ما هو ظاهر لهم، أو يطالبوا بالأدلة على صدق هذا الظاهر.. فإذا كان لا يصح في الأذهان شيء للتدليل على النهار والشمس ساطعة، فإنه كذلك لا يصح في أذهان المسلمين شيء للتدليل على واقع ضعفهم وتشرذمهم في هذه الأيام.. فقد هجر المسلمون دينهم ونسوا الله خالقهم وبارئهم، فأنساهم سبحانه وتعالى أنفسهم حتى غدوا كزرعٍ غاض ماؤه، وانقطع عنه غذاؤه، فأصبح هشيماً تذروه الرياح، وكان الله على كل شيءٍ مقتدراً.
إن موقف المسلمين اليوم، كموقف السابقين في بداية معركة حُنين، ولكن الفارق الذي يبقى بين الموقفين هو أن مسلمي حُنين أفاقوا من الغشية التي أصابتهم، وسارعوا بالرجوع إلى ربهم، فسارع إليهم نصرُ الله تعال وتأييده، فالله سبحانه لا يغيِّر ما بقومٍ حتى يُغيِّروا ما بأنفسهم.
أما مسلمو اليوم فطالما أن هذا التغيير مفقود عندهم، وطالما أن رجوعهم إلى ربهم ما زال مفقوداً، فإنهم سيظلون كثرة لا غنى فيها، وأينما نظرنا إليهم سنراهم فئاتٍ مغلوبةً على أمرها، يتحكم فيها أعداؤها وأعداء دينها، وينعمون دونها بخيراتِ أوطانها، ويسخرونها في منافعهم كسُخرة الأسياد للعبيد، ويتحكمون بمصائرها وتقرير مصير حياتها بمثل ما يريدون ووفق ما يرغبون.. فكأن المسلمين قد أصبحوا يعنيهم الشاعر بقوله:
ويُقضَى الأمرُ حين تغيب تيمٌ
ولا يُستأذَنون وهم شهودُ
وستبقى شعوب الإسلام عاجزة عن اتخاذ القرار رغم كل تمثيلها في المنظمات الدولية والإقليمية، ورغم كل حضورها في المؤتمرات، أو إبرامها للمعاهدات، لأن في ذلك التمثيل أو الحضور، وفي هذا الإبرام، يبقى ما هو خفيّ عنها، وعاملٌ ضد مصالحها، أكثر مما هو ظاهرٌ لها ومطلعة عليه..
فهل آن الأوان بعد هذه الرؤية الواضحة، لأن يستيقظ المسلمون، كلُّ المسلمين، في مشارق الأرض ومغاربها، من سُباتهم العميق، ويفيقوا من غفلتهم الطويلة، حتى يستعيدوا الثقة بأنفسهم، ويصلوا ما بينهم وبين ماضيهم المجيد، وعزهم السالف، وأيامهم الميمونة؟!...
لا! لم تصل الأمور بعدُ إلى درجة اليأس، فتباشير اليقظة تلوح في الأفق، والوعي بدأ يدبُّ في العالم الإسلامي، مبشراً بفجر جديد، وبمطلع من مطالع النور لهذه الأمة الحائرة في أمرها. والحيرة أيتها الأمة الكريمة هي: الظلام الدامس بعينه، وهي التي تأخذ بيد صاحبها إلى ساحة التردد لإبعاده عن جادة الهداية.. ولكن على المسلمين، وقد أنعم الله تعالى عليهم بنور الهداية، أن يهتدوا بشعاع هذا النور، فيخرجوا من الظلمات التي تحيق بهم، ويتعرفوا على دينهم وما أودع الله تعالى فيه من ذخائر القوة والعزة والسعادة، وبذلك تكون لهم القوة بعد الضعف، والعزة بعد المذلة، والسعادة بعد الشقاء. حقق الله أماني المسلمين الواعين، المدركين، وهدانا جميعاً إلى الصراط المستقيم.
ولئن كان هذا الربط بين ماضينا وحاضرنا ضرورياً ونحتاجه إلى إعادة الوعي فينا، فإن سيرة خاتم الأنبياء، محمد بن عبدالله، صلى الله عليه وآله وسلم، تبقى ذخراً حيّاً لنا، نستمدُّ منها الإلهام والعبرة، والنهج والطريق، في كل ما نحتاجه، وما نتطلع إليه.. ولقد أظهر محمد، صلى الله عليه وآله وسلم، ما يفوق حدَّ التصور من بعد النظر وحسن السياسة، أثناء حنين والطائف وبعدهما، وذلك مكَّنه من العودة بألوف المسلمين من العرب وكلّهم راضيةٌ نفسُه، مطمئنٌ قلبُه، يعظّم الله سبحانه، ويحمد رسوله الكريم، ذلك الرسول الأعظم الذي أقام في الجعرانة، بعد إيذان الأشهر الحرم بالمجيء، فترة من ذي القعدة، حتى إذا خرج من الجعرانة إلى مكة، كان معتمراً فلما قضى عمرته، وثبّت عتابَ بن أُسيد في استخلافه على مكة، وخلّف معه معاذ بن جبل ليفقّه الناس في الدين ويعلمهم القرآن، عادَ هو والأنصار والمهاجرون إلى المدينة لست ليالٍ بقين من ذي القعدة سنة ثمانٍ للهجرة.
عادَ رسولُ الله، صلى الله عليه وآله وسلم، إلى المدينة، بعد فتح مكة وانتصاره في حُنين وحصاره للطائف كما فصَّلنا سابقاً بعد أن اعتمر في الجعرانة وسار إلى مكة حتى إذا فرغ من عمرته، رجع إلى المدينة، وهو في ذلك كله مطمئن إلى تأييد الله سبحانه، وإلى النصر المؤزر الذي حققه في تلك المسيرة التاريخية التي جعلت الجزيرة برمَّتها خاضعة لسلطان الإسلام، أو على طريق الخضوع لهذا السلطان. ولقد قاسى الرسول، صلى الله عليه وآله وسلم، والمؤمنون في تلك المسيرة، فترة طويلة من العناء والمشقة، إلاَّ أنه صلى الله عليه وآله وسلم تحمَّل منها النصيب الأكبر، بوصفه القائد الأعلى لجيشه، والحاكم في شؤون الناس، والمرشد إلى الدين، فكان بحاجة إلى فترة يهدأ فيها بعد التعب، ويرتاح من ثقل الأعباء، وهموم المسؤوليات.. ولكن! مَنْ كان هو محمد، صلى الله عليه وآله وسلم ، الذي يحمل على عاتقه أكبر تكليف نزل من رب العالمين، فهل يركُنُ إلى الراحة طلباً للراحة، أم أنه يتخذ من تلك الراحة، خلوة إلى النفس، يستجمع فيها الأفكار ويقوِّمُ الأعمال، ويرسم السُّبلُ التي تقوي صروح الإيمان، والطرقَ التي تدعّم أركان الدولة، فتنطلق بهما الدعوة إلى آفاق جديدة، وإلى بقاع خارج حدود شبه الجزيرة؟!.
إنه لمن حقه أن يقضي بين أهله والمؤمنين وقتاً من السكينة، ولكنها تبقى في جميع أحوالها، سكينةَ المعرفة التي تتلقى الوحي، وهَدُأَة الراحة التي تدرس الماضي وعِبَره، وبساطة العيش التي ترتقب المستقبل وتطلعاته وتعدُّ له عدته.. وحقيقة هذه المعرفة بشموليتها واتساعها، وفي جوهر ما تحتويه من أمور الدنيا، وأخبار الآخرة، إنما كانت دائماً وأبداً قبساً روحانياً يهبه الله تعالى إلى نبيه الكريم، ومنهجاً عملياً يرشد به رسوله العظيم..
ولكي يمكن لبني البشر إدراك هذه المعرفة، والوقوف على حقيقتها، فإن عليهم الاهتداء بنورانية القرآن الكريم.. ومن هنا نرى أن المعرفة تقوم على درجات ثلاث:
أولاها: علم اليقين، أي المعرفة التي تقوم على الخبر الصادق الأكيد، كما لو عاد شخص صادق من مكة المكرمة وأخبر عما رأى خلال زيارته لبيت الله الحرام، فتكونت لدى سامعه فكرة صحيحة عما أُخبرَ عنه، ثم راح يرويها كما سمعها، فهذه الفكرة هي بمنزلة علم اليقين عنده، وذلك مأخوذ من قوله تعالى:
{كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ * لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ} .
أي لو كنتم تعرفون المسائل على حقيقتها لكنتم كأنكم تنظرون إلى نار جهنم وترونها رأي العين.
والثانية: عين اليقين: أي المعرفة التي تقوم على المُشَاهَد المحسوس، وعلى الرؤية بالعين المجردة، كما لو ذهب من تكوَّن لديه علم اليقين بنفسه إلى الحج، ووقف بنفسه على معالم هذا الحج، وذلك مأخوذ من قوله تعالى:
{ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ} .
أي من المؤكد أنكم سترونها بأعينكم حين تعرض عليكن، وبعينها وبذاتها، فتحصل لكم المعرفة اليقينية بالعين والذات..
والثالثة: حق اليقين: أي المعرفة التي تقوم على التجربة والممارسة الفعلية، كما لو قام قاصد الحجّ بالطواف على الأماكن، وتأدية الشعائر والمناسك التي تستلزمها هذه الفريضة، حتى تتكوَّن لديه المعرفة بالأماكن ويتوفّر له العمل الفعلي بأداء الواجب ممَّا يجعله يتحقق يقيناً من كل ما لمسه وقام به، وذلك ينطبق عليه قوله تعالى:
{إِنَّ هذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ} .
أي الحق الذي توصلت إلى معرفته الحواس بأجمعها فصار حقاً ممثلاً في الإدراك ومجسّداً في الفكر، ويلامس الحواس كلّها، ويستولي اليقين، أي التصديق الحازم به على الكيان والعقل والحواس جميعها حتى صار عقيدة.. وإذا كانت درجات المعرفة هذه تواجهنا في جميع شؤون حياتنا، فإن القرآن الكريم أرادها للتدليل على حقيقة البعث، ولإقناع الناس بأن هناك فعلاً نشأة أخرى بعد النشأة الأولى... فالقرآن الكريم في «سورة التكاثر» كما في سورة «الواقعة» وكما في غيرهما من موارد الكلام عنه، يخبر الناس بأنهم مبعوثون لا محالة.. فالمؤمنون المصدّقون تتكون لديهم المعرفة عن هذا البعث، وتكون معرفتهم هي «علم اليقين»، باعتبار أنهم قد آمنوا بما جاء به محمد، صلى الله عليه وآله وسلم، وأيقنوا بصدقه وعلموا أن ما يقوله هو الحق بعينه.
فإذا كان الموت، وبُعث الناس، ووجدوا أن ما أخبرهم به القرآن حقيقة يرونها بأم العين، ويحيونها بالحواس فإنهم هنا يكونون قد وصلوا إلى معرفة «عين اليقين»، التي لا ريب فيها ولا شك.. حتى إذا تفرّقَ الأحياءُ المبعوثون، كلٌّ إلى مصيره، وصار هؤلاء في النعيم، وزُجَّ أولئك في الجحيم بنتيجة الأعمال في الحياة الدنيا كان هذا «حق اليقين».. فسبحان الله الخالق العظيم، الذي هدانا إلى الحق والمعرفة ولولاه لما كنا نهتدي..
ولقد كان رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، يحيا بالقرآن وحياً وتنزيلاً، وتوجيهاً وعملاً. فعن طريق «علم اليقين» جاءته الرؤية الصادقة والخبر اليقين من ربه تعالى بفتح مكة. وبمقتضى معرفته بهذا الفتح عقد معاهدة الحديبية التي اعتبرها بعض الصحابة جائرة بحقوق المسلمين حتى إذا كان الموعد وتحقق الوعْدُ الصدق، ودخل النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، والمؤمنون إلى مكة في عمرة القضاء، كان ذلك «عين اليقين». فلما دانت مكة بالإسلام، ومورست فيها شعائره، وطبقت أحكامه، كان ذلك هو حق اليقين.. فتلك المعرفة القائمة على التوجيه الربَّاني، وعلى الهدي القرآني، هي التي قادت خطى الرسول، صلى الله عليه وآله وسلم، في أعظم مسيرة عرفها التاريخ البشري، فانطلق يرسي حقائق لم يألفوها فيما سلف، حتى جعلَ الناسَ تقرُّ حقاً بسمو الرسالة التي يحمل، وبصدق الدعوة التي إليها يدعو.. ولقد بلغ تأثير الإسلام في الناس حداً، جعل وفود القبائل في شبه الجزيرة تقبل على المدينة طائعةً راضية، لتدخل في الدين الجديد ولتقدم الولاء للرسول الأعظم.
* * *

وفد طيء
قدم إلى المدينة وفد من طيء وكان على رأسهم سيدهم «زيد الخيل» فأقبل زيد على النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، يحدثه فأحسن الحديث وأجاد في إتقان أدب الموقف بين يدي الرسول، صلى الله عليه وآله وسلم، فقال له النبي، صلى الله عليه وآله وسلم: «ما ذُكر لي رجل من العرب بفضلٍ ثم جاءني إلاَّ رأيتُه دون ما يقال فيه إلاَّ زيد الخيل فإنه لم يبلَّغ كلُّ ما فيه». ودعاه «زيد الخير» بدلاً من «زيد الخيل».
ولقد أقطعه النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، «أرضين»، وكتب له كتاباً بذلك، وكان ذلك الإقطاع ـ فيما يظهر ـ إقطاع منفعة، لاستخراج المعادن والزيوت، وزرع ما يصلح للزراعة. وكان النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، يفعل ذلك في الأراضي النائية عن المدينة، ليُمَكِّن الناس من استغلالها، وإخراج ينابيع الثروة من باطنها، فكان منهم من يُعطى الأرض لقاء أجر، ومنهم من يكون إعطاؤه لتأليف القلوب.
وخرج «زيد الخير» من عند رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، راجعاً إلى قومه كي يدعوهم إلى الإسلام، فقال رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم: «إن ينجُ زيدٌ من حُمَّى المدينة»، فلما انتهى من بلاد نجد إلى ماء من مياهه يقال له «فردة» أصابته الحمَّى، فمات بها، فلما توفاه الله سبحانه عمدت امرأته إلى الوثائق التي كتبت بين رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، وبين زوجها «زيد الخير» فأحرقتها جميعها، وبلَغَ خبر عملها هذا علمَ النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، فبعث، في ربيع الثاني سنة تسع للهجرة، عليَّ بن أبي طالب (رضي الله عنه) في مئة وخمسين فارساً إلى طيء، يدعوهم للإسلام، فإن استجابوا أمَّنهم وعاهدهم، وإلاَّ غزاهم وحقَّقَ أمرَ الله ـ سبحانه ـ فيهم. ولم يأبَهْ بنو طيء لدعوة علي (رضي الله عنه) فشَنَّ عليهم غارة عاجلة، وفي طليعة الفجر، انتهت باستسلامهم، فتقدَّم وفرسانه يهدمون صنمهم «العُلْس»، ويأخذونهم أسرى إلى المدينة؛ ولم ينجُ إلاَّ عدي بن حاتم الطائي ـ وكان على النصرانية ـ ففرَّ بأهله إلى بلاد الشام. وكانت بين أسرى طيء ابنة سيدها الشهير حاتم الطائي، وتدعى «سَفَّانَة» فاحتجزت مع السبايا في غرفة بجانب المسجد، حتى مرَّ الرسول، صلى الله عليه وآله وسلم، على الأسرى، فأعلنت عن نفسها، ورجَتْه أن يمنَّ عليها وهي تقول: «يا رسولَ الله، هلك الوالِدُ وغاب الوافِدُ فامنُنْ عليَّ منَّ الله عليك». ومثل هذا الرجاء جعلَ الرسول، صلى الله عليه وآله وسلم، يتفكَّرُ بما كان لوالد الأسيرة من سمعة طيبة بكرمه وحسن ضيافته بين العرب، فأمَرَ على الفور بتسريحها من ضيق أسرها إكراماً لشرف بيتها وسماحة أبيها، ثم كساها كسوة حسنة، وبعث بها إلى بلاد الشام حيث يقيم أخوها عديّ.
وجاءت «سفَّانَة» تلتقي هذا الأخ، وتحدّثه عن عفو محمد، صلى الله عليه وآله وسلم، ورأفته بها، فيسألها:
ــــ وما ترين في هذا الرجل يا أختاه؟.
فأجابته: «أرى والله أن تلحق به سريعاً، فإنْ يَكُ نبيّاً فللسابق إليه فضيلة، وإن يك ملكاً فلن تزال في عز اليمن، وأنت أنت»..
فقال، بعد تفكير طويل: «والله هذا هو الرأي».
ولم يعتّم عدي بن حاتم الطائي أنْ ارتحل بأهله إلى المدينة، وأقبل على النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، يُسلِم على يديه، وذلك لِفضل حسن معاملته وإكرامه لمن يستحق الإكرام من أصحاب البيوتات التي فيها نسمات خير يأمل أن تنضوي تحت لواء الإسلام العظيم.. وهكذا أقبلت القبائل، وأقبل ساداتها بعد فتح مكة، على رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، يقرُّون له بالرسالة ويدينون بدين الإسلام، وهو في مقامه بالمدينة مطمئن إلى نصر الله وإلى شيء من سكينة الحياة العابقة بالهناءة، الزاخرة بالتطلعات.
ويشاءُ الله سبحانه، أن تدخل على هذه الفترة من حياة النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، سحابة من الحزن الشديد، والألم العميق، إذ توفيت ابنته زين (سلام الله عليها) بعد ذلك المرض الذي لم يفارقها منذ أن تعرّض لها مشركان خبيثان، يوم خروجها من مكة، وأجفلا بها راحلتها حتى وقعت أرضاً، فاعتلّت منذ ذلك اليوم، إلى أن وافتها المنية في هذه الفترة. هذا الحادث أثَّر في نفس النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، أشدَّ الأثر، لما كانت تختزنه هذه النفس الصافية من مشاعر إنسانية، تفيض على القريب والبعيد.. فقد كان، صلى الله عليه وآله وسلم، رحيماً إلى أقصى غاية الرحمة، يشارك كل ذي ألم ألمه، وكلَّ ذي مصاب مصابه، فلا يترك في المدينة، ولا في أطرافها مريضاً إلاَّ عاده، ولا بائساً إلاَّ واسَاه، يأسو جِراح الكليم، ويريح قلب المتعب، ومن هنا كان حزنه شديداً على ابنته، خصوصاً وقد فقد بفقدها كل عَقِبٍ له، من ذكر وأنثى، إلاَّ فاطمة الزهراء وولديها الحسن والحسين (عليه السلام) جميعاً، فقد بقوا قُرّة عينٍ، وأحِبَّةَ فؤاد.
ولكنَّ ربَّ محمدٍ، صلى الله عليه وآله وسلم، الذي يرعاه من عليائه، لم يشأ جَلَّ وعلا أن يتركه لأحزانه، فرزقه من مارية القبطية غلاماً، دعاه إبراهيم، تيمّناً باسم إبراهيم (عليه السلام) أبي الأنبياء، وصاحب الحنيفية السمحة. ولم تكن ولادة إبراهيم حدثاً عادياً، فأزواج النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، جميعاً بعد السيدة خديجة (سلام الله عليها) لم يلدن له، رغم أنه كانت فيهن الفتاة الفتية، والنّصف التي أعقبت من قبلُ. فعلى امتداد سنوات عشر، ظلت حياة النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، خلواً من مولود جديد، حتى وُلد إبراهيم، فوجد فيه أُنساً لقلبه الكبير، وراحةً لنفسه الرضية.
ولقد أحبَّ رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، طفله إبراهيم (عليه السلام) حبّاً كبيراً، فكان يمرُّ كل يوم بدار مارية ليراه، وليزداد أنساً بابتسامته البريئة الطاهرة، ومَسرَّةً بنموّه وجماله، فيحمله بين يديه، ويأخذه إلى زوجاته، كي يرينه، ويرين شبهه العظيم به. ولكنَّ هذا الحب للطفل البريء، لم يُنْسِهِ قطُّ واجباته تجاه أزواجه، بل ظلَّ يقوم على معاشرتهن بالمعروف، وبالرحمة التي يعرفنها فيه، ضارباً في هذا العيش الكريم أعظم مثل وأروعه في المعاملة والتربية التي يؤديها في بيته، كما يؤديها في أمته. وكان يقول: «خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي».
ومن معالم هذه التربية أنه ما ظهر إنسان في التاريخ يأخذ بيد المرأة كي يعلي من شأنها ويصل إلى بلوغ أسمى مكانة في حياتها كالنبي محمد، صلى الله عليه وآله وسلم. ولقد عبّر عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) عن هذه المكانة الرفيعة، التي جعلها، صلى الله عليه وآله وسلم لنسائه والتي لم تكن معروفة قط عند العرب، إذ حدّث فقال:
«والله إنْ كنا في الجاهلية ما نعدُّ للنساء أمراً، حتى أنزل الله تعالى فيهن ما أنزل وقسم لهن ما قسم. فبينما أنا في أمر أَأْتمره، إذ قالت لي امرأتي: لو صنعت كذا وكذا! فقلت لها:
«ومالك أنتِ ولِمَ أنت هاهنا، وما تكلّفك في أمرٍ أريده!» فقالت لي:
ــــ عجباً لك يا ابن الخطاب! ما تريد أن تُراجَعَ أنت وإنَّ ابنتك (حفصة) لتُراجع رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، حتى يظل يومه غضبانًا.
قال عمر: فأخذت ردائي ثم خرجت، فدخلت على حفصة، فقلت لها: يا بنيّة، إنك لتراجعين رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، حتى يظلَّ يومه غضباناً؟.
فقالت حفصة: والله إنا لنراجعهُ.
فقلت: تعلمين أني أحذرك عقوبة الله وغضب رسول الله. يا بنيّة لا يغرنّك هذه التي قد أعجبها حسنُها وحب رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، إياها..
ويتابع عمر (رضي الله عنه) حكايته، فيروي:
ثم خرجتُ حتى أدخل على أمِّ سلمة لقرابتي منها، فكلّمتها، فقالت لي أم سلمة: عجباً لك يا ابن الخطاب! قد دخلت في كل شيء حتى تبتغي أن تدخل بين رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، وأزواجه!... قال عمر:
فأخذتْني أَخْذاً كَسرَتْني به عن بعض ما كنت أجد، فخرجت من عندها».
ففي هذا الجو الإنساني الرحيب، وفي هذا السموّ المجتمعي، كانت تعيش أزواج رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم. ولكن هذه الحياة، وإن كانت في جوّ النبوة، وفي بيوت رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، لم تكن لتقضي على المشاعر البشرية، والهواتف النفسية عند بعض الزوجات (رضي الله عنهن) فقد كان يبدر منهن، أن يشجر بينهنَّ، ما لا بد أن يشجر في قلوب النساء في مثل هذه الحال. فمن قبيل ذلك ما روي عن تعلق زوجات الرسول به، وغيرتهن من بعضهن البعض.
فقيل إن النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، كان يمكث عند زوجه زينب بنت جحش، ويشرب العسل. فاتفقت عائشة وحفصة على تنفيره من ذلك المكوث وعلى إبعاده عنه، وذلك بأن تقول أية واحدة منهما يدخل عليها: «أكلت المغافير . إني أجد منك رائحة مغافير» وقد نفّذت إحداهما ما اتفقت عليه مع صاحبتها، فلما سمع النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، ذلك قال:
«لا، ولكنني شربتُ عسلاً عند زينب بنت جحش، فلن أعود إليه».
فأنزل عليه قوله تعالى:
{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} .
ومهما يكن من أمر فإن الرواية تدل على المكانة الرفيعة التي جعلها النبيُّ، صلى الله عليه وآله وسلم، لنسائه، حتى أجازَ لهن مراجعته بشتى الأمور التي تواجههنّ، مهما كان شأن هذه الأمور، صغيراً أم كبيراً، فكان يستمع إلى آرائهن، ويحافظ على مشاعرهنّ، لتكون التربية العائلية التي يريدها، تربية سليمة، تقوم على احترام كيان المرأة، واعتبار شخصيتها.
ورغم تلك المعاملة، في أرفع مستوياتها، ورغم ما كانت تفيض به من رفق وحنان قلَّ نظيرهما، فقد ظلت المشاعر البشرية تلجّ بأزواج النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، أعظم لجاج، حتى إذا زادَ هذا اللجاج، وبلَغَ حداً لا يجوز أن يشغل به النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، وقته، رأى أن يلقي عليهن درساً يكفل ردَّ الأمور إلى نصابها، ويبعد هؤلاء الزوجات عن تصرفات لا تليق يهنّ، فاعتمد لأجل ذلك الصرامة والحزم، وقرر هجرهن، فإن نفع هذا الهجر وثُبنَ إلى رشدهن فذاك، وإلاَّ متَّعهن وسرّحهنَّ سراحاً جميلاً.
وانقطع رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، عن نسائه شهراً كاملاً، لا يكلّم أحداً في شأنهنَّ، ولا يجرؤ أحد أن يفاتحه في حديثهن. وإنّه، صلى الله عليه وآله وسلم، يوماً لفي خلوته إلى ربه وإلى نفسه، كان بعض الصحابة يجتمعون في المسجد ويتحدثون باعتكاف رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، وفراقه لأزواجه، وقد استبدَّ بهم القلق، وأخذهم الهمُّ لأجله، فيقولون: طلّق رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، نساءه.
ولم يحتمل عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) نفسه ساكتاً على هذا الأمر، فترك رفاقه وقصد النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، في مقامه طالباً إلى خادمه رباح أن يستأذن له في الدخول. ولكنَّ رباحاً خرج من غير أن يقول شيئاً، فعرف عمر أنه لم يأذن له. وكرر عمر النداءَ، ولم يجب رباح مرة أخرى، فرفع عمر صوته قائلاً: «يا رباح!! استأذن لي عندك على رسول الله فإني أظنه ظنَّ مجيئي من أجل حفصة، والله لئن أمرني بضرب عنقها لأضربنَّ عنقها».
وأذن النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، فدخل عمر، يجلس بين يديه، ثم ذكر من أمر المسلمين بالمسجد ما يقلقهم ويحزنهم، عندها كشف له النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، الحقيقة، وهي أنه لم يطلّق نساءه، بل أرادَ تأديبهنَّ بما يبعدهن عن أي لجاج، فزاد سرور عمر واستأذن بأن ينزل إلى المسجد ويفضي بالأمر إلى أولئك المقيمين فيه، يتفكرون، وينتظرون بأسىً وحزن.
وفي هذه الأمور التي تتناول حياة النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، في بعض شؤون بيته، نزل قرآن كريم:
{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ * قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلاَكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ * وَإِذْ أَسَرَّ الْنَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثاً فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَن بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هذَا قَالَ نَبَّأَنِي الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ * إِن تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِن تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاَهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلاَئِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ * عَسَى رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ أَنُ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجاً خَيْراً مِّنْكُنَّ مُسْلِماتٍ مُّؤْمِناتٍ قَانِتاتٍ تَائِباتٍ عَائِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّباتٍ وَأَبْكَاراً} .
وأدركت أزواج النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، خطأهنَّ، وثاب إليهنَّ رشدهن، فاستوت الحياة في بيوته مليئة بالسكينة. وهي السكينة التي يحتاجها كل إنسان ليقدر على مواجهة الحياة، وتحمّل الأعباء، فكيف إذا كان مثل رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، الذي يحمل أعظم رسالة وأكبر أمانة من السماء إلى الأرض؟
فما أروع الفترة التي يعيش فيها الناس مع السماء، والسماء تتدخل في أمرهم علانية وتفصيلاً. تسأل إحدى أزواج النبي، صلى الله عليه وآله وسلم: يا رسول الله! من أنبأك بأنني حدّثت بما أسرّيت لي؟ قال: نبأني العليم الخبير.. نعم هذه هي الصورة الرائعة لتدخُّل السماء، هذا التدخل الجليل، الذي يهدف لتسوية كل وضع، ولبيان الحكم الإلهي فيه، حتى يكون قاعدة ثابتة أزلية على الزمان تدل أن الله سبحانه يحيط بكل شأن من شؤون الإنسان، وبكل سكنة من سكناته، فهو أقرب إليه من حبل الوريد.
وما أروعها صورة من الحياة البيتية للنبي الكريم، الذي كان ينهض بإنشاء أمة وإقامة دولة على غير ما هو معروف في دنيا العرب، بل وفي دنيا الناس كافة، أمة تنهض بحمل أمانة العقيدة الإلهية في صورتها الأخيرة، وتنشىء في الأرض مجتمعاً ربانياً قِوامُه الأسرة السليمة من العاهات الاجتماعية، في صورة واقعية يحياها الناس.
وما أشرفها صورة من حياة إنسان عظيم، يزاول إنسانيته في الوقت الذي يزاول فيه نبوته، فلا تفترق هذه عن تلك، لأن إرادة الله جرت بأن يكون بشراً رسولاً، حينما جرت بأن يحمِّلَهُ الرسالة الأخيرة للبشر أو منهج الحياة الأخير.
وليست هذه الصورة في ترجمتها الحية إلاَّ لكي تكون حياة الرسول، صلى الله عليه وآله وسلم، كتاباً مفتوحاً يقرأه الجميع وتراجعه الأجيال بعد الأجيال، فيكون الأثر عميقاً في نفوس المسلمين، ليؤدوا واجبهم في بيوتهم من حيث التربية، والتوجيه، والتذكير، وليقوا أنفسهم وأهليهم من عثرات الحياة، وليأمنوا نار الآخرة وعذاب الجحيم.
على أنه مهما كانت الأمور التي كانت تمرُّ بها حياة النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، في بيته، فإنّها لم تغيّر شيئاً من سير الشؤون العامة التي ظلّت تسير على المنهج الذي يوحي به الله تعالى لرسوله وهو يقوم ببناء أمة الإسلام، مزودة بالإيمان الراسخ، قادرة على احتمال كل ما ينشأ عن مقاومة الظلم وإقامة العدل من تبعات، دون أن تَنِيَ عن مطاردة الشر بكل صوره وأشكاله، وإشاعة الخير بكل آفاقه ومعانيه.
وبمقتضى هذا المنهج الرباني، تأسست دولة الإسلام في المدينة المنورة، بعد هجرة الرسول، صلى الله عليه وآله وسلم، إليها، ووضعت لها القواعد التي تضمن سلامة مجتمعها من كل آفة، وحماية أرضها من كل غازٍ، وإعداد أفرادها ثقافياً وعسكرياً، ليكونوا على مستوى المسؤولية، في النهوض بأعباء الأمة المثالية الخيّرة.
ولم يطل الوقت حتى قامت دولة الإسلام، بكل المقوّمات التي تؤلف كيانها المستقل، سواءٌ على صعيد التكيّف الداخلي مع منهج السماء، أو على صعيد تطلعاتها بأطرافها القريبة والبعيدة تدين بالإسلام، أو بالنسبة لمطامع الدول الكبرى التي راحت تعمل جاهدة لمنع أي حكم قوي يمكن أن يقوم بجانبها. فتلك الدول، ولا سيما دولتا الفرس والروم، كانتا صاحبتي السلطان المطلق، ولهما وحدهما الحق بتقرير مصائر الشعوب من حولهما. فلما ظهرت دولة الإسلام، وتمتعت بالقوة والسيادة، أوجس الفرس والروم خيفةً منها، لأن وجودها يعني منافستهما على السلطان، إن لم يكن للقضاء على ذلك السلطان..
ولم تقف مخاوف هاتين الدولتين عند هذا الحدّ، بل رأتا في وجود دولة الإسلام ما يهدد مصالحهما إن من الناحية السياسية أو من الناحية الاقتصادية. فمن الناحية السياسية، كانت تقوم على أطراف الجزيرة قبائل من العرب، على شكل ممالك تدين للروم أو للفرس، وتأتمر بأوامرهم، فكان الغساسنة في بلاد الشام أتباعاً للروم، وكان المناذرة في العراق أتباعاً للفرس، وهذه الممالك قد تدين بالإسلام، مما يجعل خطر دولته حالاًّ لا محالة. أما من الناحية الاقتصادية، فكانت التجارة التي تقوم بها قبائل العرب، ولا سيما قريش، تذرع أطراف البلاد التي تخضع لدولتي الروم والفرس، ناقلة إليها المواد والسلع على اختلاف أنواعها. فإن انقطع العرب عن تلك التجارة، فإنَّ انقطاعهم يسبب لها خسارة كبيرة في موارد العيش، وفي شتى المنافع الاقتصادية التي تجنيها من وراء ذلك.
ولقد أمكن لدولتي الروم والفرس أن تفرضا إرادتهما على شبه الجزيرة، وساعدهما على التحكم بمصائر قبائلها، ما كانت عليه تلك القبائل من حياة قبلية، منعت قيام الوحدة الجامعة بينها، وحالت دون جمع شتاتها وتوحيد كلمتها، فخلت من وجود الكيان السياسي، الذي يكفل إقامة الدولة على أراضيها. وظلَّ عربُ شبه الجزيرة أحقاباً طويلة على تلك التفرقة، لا تهتم كل قبيلة إلا بشؤونها الخاصة، أو بإقامة تحالف مؤقت مع قبيلة أخرى، فضلاً عن العداوة الدائمة التي يفرضها شظف العيش، ويدفع إلى الغزو والسلب، ممّا أبعد كل فكرة لإقامة الدولة السياسية.
نعم، أدرك الروم والفرس هذا الواقع، فعملت الدولتان على بقائه واستمراريته. ومن هنا كان ظهورُ الإسلام الذي يحث على التكتل لا التفرقة، نذيرَ خطرٍ عليهما، فلما أخذ سلطانه يتوسع شيئاً فشيئاً، وانتشرت الدعوة فياضة في نواحي الجزيرة كلها، ثم لما كان فتح مكة وما أعقبه من زوال قوة قريش أقوى عدوّ للدعوة، فقد أيقن الروم أن الخطر بدأ يزحف عليهم، ويوشك أن يوقع بهم. ولذا رأوا أنه لا بُدَّ من عمل سريع لدرء هذا الخطر قبل أن يستفحل أمره.
وكان الروم يومئذٍ في أوج المجد والعنفوان، وكانوا يظنون أنهم قادرون على تحطيم دولة الإسلام، بفضل ما عندهم من القوة والعتاد، فلا بُدَّ إذاً من القيام بهذه الخطوة سريعاً، حتى يمكنهم القضاء على كل أمل لتلك الدولة في البقاء. ومن أجل ذلك راح الروم يعدون العدة، ويهيّئون لغزو حدود العرب الشمالية بما يحقق لهم أغراضهم.
واتصل نبأ تهيئة الروم لهذا الغزو برسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، مجسّماً أيَّما تجسيم، فقرَّرَ مواجهة هذه القوة بأشَدَّ منها، ورأى أن يذهب بنفسه لمواجهة الروم، على رأس الجيش الذي يعدّه.
* * *



المصادر
1 الحزن: المرتفع من الأرض.
2 الضرس: الذي فيه حجارة.
3 الدهس: اللين، الكثير التراب. وهو يعني بذلك أنه مكان صالح للحرب.
4 الجذعان: الضعيفان في الحرب.
5 الصُبّاء: يقصد المسلمين الذين صبأوا أي تخلوا عن دين الجاهلية.
1 عاشرهم كان أيمن ابن أم أيمن رحمه الله.
2 يربّني: يملكني ويسوسني.
1 يعني استعرت الحرب. وهي من الكَلِمِ التي لم يُسْبَق النبيّ إليها.
1 سورة التوبة، الآيتان: 25، 26.
1 الدبابات يومئذٍ عبارة عن صناديق كبيرة من الخشب عليها جلد، وفيها ثقوب صغيرة للرؤية، يدخل تحتها الرجال ويدبون بها حتى يقتحموا الحصون، فكانت وسيلة لاتقاء النبال والسهام.
1 الحظائر: الأمكنة التي وضع فيها السبي.
2 مَلَحْنا: أرضعنا.
3 الحارث بن أبي شمر الغساني هو ملك الشام من العرب، والنعمان بن المنذر ملك العراق.
1 عائدته: فضله.
1 اجتُدِي: سُئل الجدوى أي العطية.
2 عرَّدت أنيابُها: غلظت واشتدت.
3 المهنَّد: السيف المصنوع من حديد الهند.
1 الهباءة: الغبار يثور عند اشتداد الحرب.
2 خادر في مرصد: مقيم في عرينه.
1 سورة الأنفال، الآية: 41.
1 سورة التوبة، الآية: 60.
1 سورة التكاثر، الآيتان: 5، 6.
2 سورة التكاثر، الآية: 7.
3 سورة الواقعة، الآية: 95.
1 النّصَف: من كان متوسّط العمر.
1 المغافير: مفردها مِغفَر أو مُغفُر: صمغ يسيل من بعض الشجر.
2 سورة التحريم، الآية: 1.
1 سورة التحريم، الآيات: 1 ـ 5.

مقدمة الكتاب
القسمُ الأوّل
القِسم الثاني
القِسم الثالِث
القسم الرابع
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢