نبذة عن حياة الكاتب
غزوات الرسول
الطبعة : الطبعة الاولى
المؤلف : سميح عاطف الزين
فئة الكتاب : سيرة
عدد الصفحات : ٤٧٦
تاريخ النشر : ١٩٨٨

غزوَة الأحزَاب
سلسلة غزوات الرسول
(4)


غزوَة الأحزَاب



سميح عَاطف الزَّين


بِسْمِ اللَّهِ آلْرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً}.

غزوة الأحزاب
وفي ظلال هذه النفحات الإنسانية التي كان رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، يشيعها في أجواء المدينة، كان المسلمون ينعمون بظل هذه الأجواء، وكلها تحفل بالإيمان والخير والعطاء، فتتأصّل في نفوسهم الدعوة الإسلامية، وتزيدهم إنسانية على إنسانيتهم. وفي هذا الوقت الذي كان رسولُ الإسلام، صلى الله عليه وآله وسلم، يعمل من أجل خير الإنسانية عامةً، وأبناء الجزيرة العربية خاصةً، كان أعداؤه خارجها يغضبهم ذلك بسبب الجهالة العمياء التي اتخذوها طريقاً لهم في الحياة، وبسبب الشِّرْك الذي جعلوه ديناً يعمي القلوب. وهذا كله دفعهم إلى تعميق الحقد عليه، وإلى اختلاق أسباب التآمر كافة للنيل منه.. ثم يزيد في حقدهم وتآمرهم ذلك البناءُ في المدينة الذي بات ينذر بتهديم كياناتهم لما فيه من قيمٍ تدفع الناس للاطمئنان إليه، والانجذاب نحوه، بصورة إرادية أو عفوية.. فيثورون محنقين، ويقومون في بقاعهم يعدّون كل ما لديهم من إمكانيات للقضاء عليه إلى الأبد!. ولكن، لم يكن ذلك ليخفى على رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم ، ولا غاب عن باله ما تلحُّ فيه العرب من استعدادات لقتاله، إذ كان يبث العيون في شتى النواحي من الجزيرة، تتقصّى له الأخبار، وترصد التحركات، لتطلعه على كل ما يدور فيها من مكائد ومؤامرات تحاك ضده وضدّ دعوته. وإلى جانب العرب، في حقدهم على الإسلام وعلى رسوله، صلى الله عليه وآله وسلم، كان اليهود أشدَّ حقداً، وأعتى عداوة، وكان بنو النضير منهم أكثر المتحمسين لفكرة القضاء على محمد، صلى الله عليه وآله وسلم.. فمنذ أن أُخرجوا من المدينة مكرهين، وهم يخططون لتلك الفكرة، فوجدوا أن السبيل الوحيد لتحقيقها هي جمع العرب في غزوة واحدة للمدينة، ويكون فيها تحقيق حلمهم الأكبر. ومن أجل ذلك خرج منْهم نفرٌ، فيهم حُيي بن أخطب، وسلاّم بن أبي الحقيق، وكنانة بن الربيع بن أبي الحقيق، ومعهم من بني وائل هواذة بن قيس وأبو عمّار، وجعلوا خطتهم الاتصال بقبائل العرب وحثّها على مقاتلة العدو المشترك...
وكانت وجهة هؤلاء الداعين للحرب مكة أولاً حيث قريش التي هي صاحبة السيادة بين القبائل، وما تفعله قريش يمكن أن يشدَّ القبائل الأخرى، ويجعلها تقتدي بها.. فلما وصل أولئك الدعاة إلى مكة، استقبلتهم قريش مرحّبة، محتفية بقدومهم، فأقامت لهم الولائم، وعقدت الندوات من غير أن تسأل عن دافع مجيئهم، حتى يفصح هؤلاء النَّفر عما يريدون، وإن كانوا لم يأتوا إلاّ لأمرٍ هامٍّ وخطيرٍ.
وفي إحدى الندوات، وقد أزِفَ موعد التصارح، سألت قريش حييّاً عن قومه، بني النضير، وما حلَّ بهم بعد إجلائهم عن المدينة، فقال حُيَي: لقد تركناهم بين خيبر والمدينة يتردّدون حتى تأتوهم فيسيروا معكم إلى محمد وأصحابه.. وأدركت قريش ما في نيات القوم، فعادت تسأل:
ـــــ وما هي أخبار بني قريظة؟
فأجاب حُيي: أقاموا بالمدينة مكراً بمحمد، حتى تأتوهم فيميلوا معكم...
ولم يعد الأمرُ خافياً إذن فلِمَ لا يطرح على بساط المناقشة والبحث؟. فقد بات معروفاً ما جاء لأجله هؤلاء النفرُ، ولكنَّ قريشاً كانت قد بحثت أمرها مع محمد مراراً عديدة. وإنه الأمر الذي لا ينفَكُّ شغلها الشاغل، وهمها الأول، ولكن ما كان يشغل قريشاً، ويجعلها في حيرة دائمة، وما لم تستطع في مجالسها الوصول إلى نتيجة حاسمة أو رأي نهائي بشأنه، هو معرفتها: إن كان دينُ محمد الذي يزعمه هو أحقُّ من دينها! ولذا فإنها ترى الفرصة سانحةً الآن لأن تطرح هذا الأمر على بني يهود، حتى تقف على رأيهم فيه، فهم أهل توحيد وأصحاب دين سماوي، شأنهم في ذلك شأن ما يدعو إليه محمد بن عبدالله، صلى الله عليه وآله وسلم.. وإذا كانوا على خلاف معه، فمعنى ذلك أنّ ما يدّعيه هو كذب بكذب، إذن فليقفوا من اليهود على حقيقة الأمر.. فسألت قريش ذلك النفر بقولها:
«يا معشر يهودَ! إنكم أهل الكتاب الأول وأهل العلم بما أصبحنا نختلف فيه نحن ومحمد، فأصدقونا القول: هل ديننا خيرٌ أم دينه؟».
وجاء جواب اليهود بما يخالف الحقيقة كلها:
«بل دينكم خير من دينه، وأنتم أولى بالحق منه»..
وهذا ما كان أجابهم به كعب بن الأشرف من قبلُ..
وارتاحت قريش!.. فقد اهتدت إلى ما يحيرها.. إذن فهي على حق في عداوتها لمحمد!.
ولكن هل كانت قريش فعلاً على حق أم أن مراوغة بني يهود لها، وكذبهم عليها، هما اللذان جعلاها تعتقد ذلك؟!.
لا!...
لم تكن قريش على حق أبداً بل كانت على الباطل، ومثلها كان بنو يهود على الباطل والضلال.. فالضلال قد ركب عقول ذلك النفر ونفوسهم، حتى أوقعهم في الخطأ الفاحش الذي لا يغتفر!.. لقد أنكروا أحقّية دين الله تعالى، وجعلوا الكفر خيراً منه!...
فهل بعدُ أفظع من ذلك جريمة ترتكب؟!
وماذا كان دافع بني يهودَ حين أوغلوا في ارتكاب تلك الجريمة إلاَّ مُصَادقة قريش وكسب عواطفها وجعلها تسير في ركابهم؟!.. إذن فهي مطامع الدنيا، ولكن ليس أكثر انحطاطاً ولا أشدَّ خِسّة من هذه المطامع عندما تتخذ الكفر بدل الإيمان وسيلة لها في الحياة!...
أوَلا يدرك أولئك النفر من بني يهود أنَّ إقرارهم بدين قريش، دين الوثنية والشرك، على أنه خير من الدين الذي يدعو إليه محمد هو إقرار في الوقت نفسه بأن ذلك الدين خير من اليهودية؟! لأنَّ اليهودية التي أنزلت على موسى (عليه السلام) هي دين سماوي والدين الذي أنزل على محمد، صلى الله عليه وآله وسلم، هو دين سماوي، فإن جعلوا الوثنية خيراً من إحدى هاتين الرسالتين السماويتين، كانت أيضاً خيراً من الأخرى. واليهود يعلمون بأن رسالات السماء هي أَوْلَى باتباعها والإيمان بها، ولكنهم مع يقينهم هذا، فإنهم أنكروا الإسلام وفضلوا الوثنية عليه.. ولكن لماذا؟ قاتلهم الله... إنّ الحقد قد أعمى بصائرهم، فكان منهم ما كان تعدّياً على الله سبحانه، وافتراءً على دينه الحق..
ولم يكن ذلك الموقف التاريخي الشائن من نفرٍ يهودي ليذهب دون أن تحفل به السماء، فقد جاءَ العقاب عليه سريعاً عندما نزل التكذيب لهم بقولٍ هو فوق كل الأقوال، ذاك قول الله سبحانه وتعالى في القرآن الكريم:
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيباً مِّنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ هَؤُلاَءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ سَبِيلاً * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَن يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ نَصِيراً} .
نعم، ذلك هو الحق من الله عزَّ وجل: لعنة أبدية، وسُبةٌ سرمدية لبني يهودَ إذ جعلوا الكفر خيراً من دين الإيمان بالله الواحد الأحد...
لقد شاء يهود جزيرة العرب يومئذٍ مراوغة خسيسة، فإذا هي لطخة سوداء على فعلتهم الشنعاء لا يمحوها الزمان ما دام كتاب الله ــــ سبحانه ــــ قائماً على مدى الأزمان.. وأما عقابها، فهو اللعنة الدائمة التي لا يعرف مداها إلاَّ الله تعالى، لأنَّه حُكِم على من تصبه هذه اللعنة ألاَّ يكون له نصيرٌ في الدنيا ولا في الآخرة.. وليس العقاب لهم فقط لأن التعدّي حصل على دين محمد، صلى الله عليه وآله وسلم، بل لأنه كان تعدياً على التوراة نفسها، كتاب بني يهود، الذي يوصيهم بالنفور من الأصنام وأصحابها، والبعد عن الشِّرك وأعوانه، فإذا هُم والشِّرك وأصحابه حلفاء قائمون...
... اطمأنت قريش إلى ما كان يحيّرها، بل انزلقت بالمخادعة ــــ وإن كانت بالحقيقة لا تخادِعُ إلاَّ نفسها ــــ فوافقت ذلك النفر على خطته لقتال محمد، ثم ضربوا موعداً لذلك...
وخرج دعاة الحرب من مكة يحملون موافقة قريش سِمةَ إقناعٍ لقبائل العرب الأخرى، فراحوا يتنقلون من مضارب إلى أخرى، وينزلون عند غطفان من قيس غيلان، وعند بني مرة، وبني فزارة، وأشجع، وسُلَيْم، وبني سعد، وأسَدْ، وكل قبيل أو عشيرة لها عند المسلمين ثأر، أو في نفوسها عداوة لمحمد، وهم يحمدون لهم وثنيتهم، ويشجبون الدعوة الإسلامية ويحقّرونها، حتى أمكنهم تحقيق الغرض الذي خرجوا من أجله، فعادوا إلى ديارهم يتحدّثون بما فعلوا، متفاخرين، متباهين، داعين بني أقوامهم للتهيؤ والاستعداد.
انقضت شهورٌ قليلة، وحان الموعدُ المتفق عليه، فخرجت القبائل والعشائر، جماعات وأحزاباً، يحملون رايات العرب وتأييد اليهود، والكل يتوجهون إلى المدينة لغزوها، والقضاء على الإسلام وأهله..
وخرجت قريش بقيادة أبي سفيان بن حرب في أربعة آلاف راجلٍ، وثلاثمائة فارس، وخمسمائة وألف ممتطٍ بعيره. وخرجت بنو فَزارة من غطفان وعلى رأسها عُيَيْنة بن حصن بن حذيفة في رجال كثيرين، وفي عدّتهم ألف بعير وسلاح وفير. وخرجت أشجع بقيادة مسعود بن رخيلة في أربعمائة محارب، وقبلها خرجت بنو مرّة وعلى رأسها الحارث بن عوف. وسارت سليم وأصحاب بئر معونة في سبعمائة رجل. ثم انضم إلى تلك القبائل والبطون بنو سعد، وبنو أسد، في أكثر رجالهم..
والتقت تلك الجموعُ الغفيرة، وقد بلغ عددها عشرة آلاف محارب أو نحوها، وكان ذلك في شهر شوّال من السنة الخامسة للهجرة. وعقدت الزعامة لأبي سفيان بن حرب وساروا جميعاً تحت إمرته قاصدين المدينة.
كانت أخبارُ خروج القبائل قد بلغت المدينة منذ البداية، إذ سارع رجال النبيِّ، صلى الله عليه وآله وسلم، الموزعون في مختلف الأنحاء يطلعونه على ما يجري، ويصفون له أعداد الغزوة وعُدَدِها، فرأى صلى الله عليه وآله وسلم أنَّ الأمرَ شديد الخطورة، ويستوجب اتخاذ التدابير العاجلة للحؤول بين الأحزاب، وتحقيق غايتها العدوانية، فدعا إليه على الفور كبار الصحابة يشاورهم في الأمر...
بدت الآراء أثناء ذلك التشاور متوافقة في التركيز على موقع المدينة وجغرافية الأرض المحيطة بها، فوجدوا أن أكثر نواحيها تشكل عوامل طبيعية تمنع الأعداء من الدخول إليها بطريقة سهلة: فإلى جانب الجبال، وهي حواجز بطبيعتها، تقوم «حَرّةُ واقم» من الناحية الشرقية للمدينة، و«حَرّة الوبرة» من ناحيتها الغربية، و«آطام بني قريظة» في جنوبها الشرقي، فإن حصّنت تلك الحرّات والآطام أكثر مما هي عليه، يصبح من الصعب على العدو اختراقها، أو يكون دونه عقبات شديدة.
وأشارَ البعض بأن تكون مؤخرة الجيش الإسلامي عند آطام بني قريظة بحيث يسهل عليه تلقي المدَدَ الذي قد يحتاجه من تلك الناحية. ولكنَّ البعض رأوا بأن تلك الجماعة من اليهود لا يُمكن أن يؤمن غدرها، إذ ربما ترى في كثرة الأحزاب ما يشجعها على الانضمام إليها فبنو قريظة وهم يهودٌ، لديهم من الاستعداد ما يكفي للانقلاب على المسلمين في أي وقت يظهر فيه ضعفهم. ومع أنه بدا الإجماع على صحة رأي هذا البعض، إلاَّ أنهم وجدوا من الخير لهم عدم إعلان العداوة لبني قريظة، فَعهْدُ الرسول، صلى الله عليه وآله وسلم، لهم ما زال قائماً، وهو يفرض موادعتهم ما داموا يحترمون هذا العهد، حتى إذا تبين أنهم هُمُ الذين أقدموا على نقضه، فإن الأمر حينئذٍ سيختلف وسيجدون السبيل الذي يتدبّرونه للحؤول دون خطرهم..
وبقيت أمام المؤتمرين الناحيةُ الشمالية من المدينة، فهي وحدها مكشوفة ويمكن أن تشكّل نقطة الضعف في مقاومة المسلمين، بل ولعلّها الثغرة الوحيدة التي يُمكن للعدو النفاذ من خلالها إلى قلب المدينة، مما يفرض وجود الجيش الإسلامي كله في تلك الناحية متصدّياً للغازين.. ولكن ذلك الوجود خطر بذاته، إذ مهما بلغ عدد الجيش الإسلامي فإنه يبقى أقلّ بكثير من عدد الأعداء، إلاَّ أن نفوس جنوده كانت حافلة بقوة الإيمان، وكان استعدادهم كبيراً لتخفيف وطأة الخطر عنه!. وأخذ هذا الأمر حيّزاً كبيراً من وقت المجتمعين من دون أن يهتدوا إلى حلّه، بل واستبدَّ بهم الهمُّ والقلقُ، حتى رانَ الصمت على مجلسهم، ولم يقطعه إلا صوت سلمان الفارسي، الذي كان بين عِداد المجتمعين في مجلس رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، إذ قال:
ــــ أتأذن يا رسول الله بأن أُشير..!
قال الرسول، صلى الله عليه وآله وسلم: تفضل، وهاتِ ما عندك يا أخا الإسلام.
قال سلمان: «يا رسولَ الله، إنا كنا بأرض فارسَ إذا تخوَّفنا الخيل خندقنا علينا».
وتهلّل وجه رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، بالبشر، فانعكس بِشْرُهُ ارتياحاً على نفوس الصحابة، إذ وجدوا في فكرة حفر خندق في ناحية المدينة الشمالية، ما يبعد كثيراً خطر تلك الناحية عن الجيش الإسلامي، مما يجعل فرص تصدّيه للعدو أوفر، وإمكانية تحرّكه أقوى.. نعم لقد زال الضيق الذي ملأ نفوس المجتمعين، فانبروا يضعون الخطة الكفيلة بالدفاع والصمود، والوسائل التي يمكن اعتمادها للتنفيذ..
وخرجوا راضين، وعلى عون الله متوكلين، فأمَرَ رسولُ الله، صلى الله عليه وآله وسلم، بأن يؤذَّن في الرجال للاجتماع، وما هو إلاَّ وقت قصير حتى كان جميع المسلمين قد حضروا، فأخبرهم رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، بأمر الغزو، وما يتطلب من تحصين المنازل والآطام، وسدّ المنافذ والثغور وتقوية دعائمها، ثم بعث إلى المقيمين في المنازل الواقعة في جهة المدينة الشمالية أن يحملوا كل ما عندهم، وأن يلجأوا إلى الحصون الداخلية. فلمّا انتهى من تحديد المهمات وتوزيعها، عادَ وأخبرَ الناس بما اعتزمه والصحابةُ من حفر الخندق، داعياً الرجال إلى شدّ العزائم، وحمل المعدات والأدوات، كي يخرج بهم إلى مكان حفر ذلك الخندق.
وراح رسولُ، الله صلى الله عليه وآله وسلم، يطوف في ناحية المدينة الشمالية، يقوم بالكشف على جوانبها، ويتفقّد أرضها، ويحسب ويوازن، حتى عيّن النقاط والأماكن التي يتوجب أن يجري الحفر عندها، وقد أرادَ للخندق أن يكون وراء جبل «سلع»... فلما انتهى من ذلك، جمع حوله الرجال، ووزعهم جماعات، على أن تضم كلّ جماعة عشرة رجال، يقومون بحفر أربعين ذراعاً، وبذلك، وما أن تفرغ كل جماعة من حفر أذرعها تلك، إلاَّ ويكون الحفر قد اتّصل ببعضه، والخندق قد استوى محفوراً...
واندفع رجال الإسلام إلى العمل تشدهم العزيمة، ويحدوهم الأمل؛ يستعينون بما عندهم من الأدوات والوسائل، وما استعاروه من بني قريظة من معاول ومكاتل..
كانت النفوس تمتلىء حماساً، والسواعد والأيدي قوة، وكان العمل يبدو صعباً وشاقاً، لأنَّ الأرض صلبة قاسية، والطقس شديد البرد.. ولكنْ، أيّاً كانت المتاعب والمصاعب فإنهم لن يأبهوا، ولن يتخاذلوا.. فمن أنهكه الضربُ بالمعول، عليه أن يتركه لغيره ويتولى نقل الحجارة والتراب، ومن أتعبه قلعُ الصخور فإنَّ أمامهُ تكسيرها، ورصّ جوانب الخندق بها، ومن لا يجد وعاءً له، عليه بنقل التراب في ثوبه...
هكذا أخذ أولئك الرجالُ على أنفسهم أن يعملوا، وهكذا اندفعوا إلى ذلك العمل وهم مسرورون، فرحون، كلٌّ يريد أن يبذل، ويعطي، حتى لا تفوته المشاركة مع إخوان صابرين، مُتجلدين.. إن نظروا إلى بعضهم البعض زاد سرورهم، وهم يرون العرقَ يتصبّب من الجباه فيختلط بالغبار، والأثواب وقد تشققت والصدور وقد علاها التراب فيجدون فيما يرون تعبيراً عن أشرف خدمة يؤدونها، وتجسيداً لأسمى واجب يقومون به..
ثم لا يبخل الرسول الأعظم، صلى الله عليه وآله وسلم، على نفسه بالجهد، شأنه شأن كل الرجال، بل كان يضرب ساعةً بالمعول، ويجرف التراب ساعة بالمِسْحاة، ثم ينقل على كتفه الصخور، ويحمل في ثوبه التراب... إنه يعمل، ويكدُّ في العمل، وهو يتنقل بين جماعة وأخرى، يحثّهم على الدأب والمواصلة، ويشحذ فيهم العزيمة والصبر، لأنه يريدهم أن يستهينوا بالتعب، وأن يطرحوا الوهن، حتى ينجزوا المهمة، كيلا يداهمهم العدو، وهم لم يفرغوا منها بعدُ... وإنه لفي دعوته إلى الصبر والتحمّل، لا يرى خيراً من بيان أمر الله سبحانه، يدعو فيه المؤمنين لقتال الأحزاب والمشركين كافة كما جاؤوا يقاتلونهم، وإن جزاءهم سيكون النصرُ من عنده، لأنه سبحانه وتعالى مع المتَّقِين..
وتهنأ نفوسُ المؤمنين بوعد الله تعالى الصادق، فتزيدُ تلك الطمأنينة أصحابها اندفاعاً ومثابرةً على العمل... وتعترض جماعةً منهم صخرةٌ عظيمةٌ بيضاءُ، قد ضربت عمقاً في الأرض بعد أن قُشِع التراب عنها، فلا تقبل أن تُزاح من مكانها، ولا تقدر عليها الأدوات التي كانت تحاول اقتلاعها، بل كانت تفُلُّ الحديد في الأيدي، وتجهد العاملين حتى يشقّ عليهم أمرها ويستعصي، فينظرون إلى بعضهم حائرين، مشدوهين...
وكان في تلك الجماعة عمرو بن عوف، وسلمان الفارسي، وحذيفة بن اليمان، والنعمان بن مقرن، وستة غيرهم من الأنصار.. وقفوا لا يدرون ماذا يفعلون، وقد أخذ بهم الوجد، من أن يسبقهم إخوانهم في العمل، فيظهر تقصيرهم عنهم.. ولكن أهمّ من ذلك في نظرهم كان عجزهم عن اقتلاع تلك الصخرة، لأن تركها في مكانها غير ممكن، إذ قد يجد فيها العدو معبراً إلى صفوفهم فتذهب كل الجهود بدداً...
ووقفوا يتشاورون بأمر الصخرة، ولكن ليس بيدهم حيلة، فقد حاولوا، وجهدوا، ولكنَّ الصخرة ظلت عصيّة. إذن ماذا يفعلون؟
قال أحدهم: لن نترك الصخرة ولو تألَّبت الجموعُ كلها عليها...
والتفت واحدٌ آخر إلى سلمان الفارسي وقال له: يا سلمان! إرقَ إلى رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، فأخبره بأمر الصخرة.
وسارعَ سلمان إلى الرسول، صلى الله عليه وآله وسلم قائلاً:
ـــــ يا رسول الله وصلنا في الحفر إلى صخرة كبيرة عميقة، فاستعصت علينا، وقد حاولنا اقتلاعها فلم نقدر عليها حتى كُسر الحديدُ في أيدينا، فَمُرَنا فيها بأمرك، فوالله لا نحب أن نتجاوز الخط الذي رسمته لنا.
وتوجَّه الرسول، صلى الله عليه وآله وسلم، إلى حيث تلك الصخرة، يقف عليها، وجلس القرفصاء يتفحَّصها، ثم قام فأخذ معولاً كبيراً رفعه فوق رأسه وأهوى به على تلك الصخرة بكل قوته وعزمه، وهو يقول: بسم الله، وبعون الله.. فانقدح الشرر من الصخرة، ولمعت برقة شديدة فتراءى للحاضرين أنها أنوار تسطع في جوف ليل مظلم، وإذا برسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، يكبر تكبيرة الفتح، فيسمعه كل من في تلك الناحية فيكبرون وراءه. وينهال النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، على الصخرة بضربة أخرى، أشدّ وأقوى، فينطلق منها اللمعان مجدداً، ويعود الرسولُ، صلى الله عليه وآله وسلم، ومن ورائه المسلمون يهلّلون ويكبرون. وتكون من عزمِه ضربةٌ ثالثة لا تخلو من اللمعان نفسه، فيكون التكبير من جديد، الله أكبر، الله أكبر... إنها أصوات المؤمنين تتعالى فتشق عنان الفضاء... الله أكبر... وهو العظيم القادر على أن يفرق البحر، وأن ينسف الجبال، ويشقق الأكوان، وبه استعانَ رسولُ الله، صلى الله عليه وآله وسلم، في مغالبة تلك الصخرة، فإذا هي تنفلق في وسطها، وتتشقق في جوانبها، فينهالُ الصحابة عليها بالمعاول يقتلعون جذورها التي عمقت، ويرفعون أجزاءها التي تكسرت، وهم لا ينفكون يكبّرون، وبصدق رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، يؤمنون. ويجلسُ أصحابُ الصخرة يمسحون العرق الذي بلَّل أجسادهم، وهم يحيطون بالرسول، صلى الله عليه وآله وسلم، بعيون راضية، وقلوب مؤمنة، فيسأله سلمان الفارسي بعد أن يستأذنه قائلاً:
«بأبي أنت وأمي يا رسول الله.. ما هذا الذي رأينا وأنت تضرب الصخرة»؟.
فقال له الرسول الأعظم الذي لا ينطق عن الهوى:
«أما الأولى فإن الله عزَّ وجلَّ فتح عليَّ بها اليمن. وأما الثانية فإنَّ الله تعالى فتح عليَّ بها بلاد الشام والمغرب وبدت لي قصور قيصر التي يفتحها الله للمسلمين بإذنه. وأما الثالثة فإنَّ الله سبحانه فتح عليَّ بها المشرق، وظهرت لي قصور كسرى التي تجتاحها سنابك خيولكم، بمشيئة الله تعالى».
وفرح المسلمون وهم يسمعون بشارة رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، بالفتوحات، فتكون تلك البشارة دليلاً على أنَّ الله سبحانه سيؤيدهم بالنصر في جهادهم، فيقولون: الحمد لله على وعده الصادق.. وتتطايرُ فرحة البشرى، من جماعة إلى جماعة، فتكنزها القلوب وتحضنها النفوس، فإذا النداء من كل جانب: «هذا ما وعدنا الله ورسولُه، وصدق الله ورسوله».
ولكنَّ الذين في قلوبهم مرضٌ، أولئك الذين اندسّوا بين المؤمنين بدافع الحياء لا عن قناعة بالمشاركة في ذلك العمل المجيد، هؤلاء لم يصدّقوا وعْدَ الرسول، صلى الله عليه وآله وسلم، للمؤمنين، فراحوا يجتمعون إلى بعضهم، وهم يُسِرّون في الآذان: «ألا تعجبون من هذه الأحاديث؟!.. إنه يخبر الناس بأنه يبصر من يثرب قصور الحيرة ومدائن كسرى، ويعد بأنها سوف تفتح لهم، وهاهم يحفرون هذا الخندق حتى يحتموا به خائفين مِنْ تجاوزه؛ أليس في ذلك ما يدعو إلى السخرية»؟!.
لكنَّ هذا التخذيل الذي كان يطيب لنفوس المنافقين لم يتعدّها إلى نفوس المؤمنين، فيستمر هؤلاء بالعمل على الطريقة نفسها التي بدأوا بها غير حافلين بأي أمر إلاَّ الانتهاء من حفر الخندق...
ويتواصَلُ العمل في الليل والنهار، ويبقى رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، قائماً على ذلك العمل، مشرفاً على سيره، مشاركاً فيه... حتى يأخذه التَعَبُ، فيجلس يرقب تلك الجهود المبذولة عن رضىً، وقد ارتاحت نفسه، وداخلته الطمأنينة فإذا به يتكىء بجانبه الأيسر على حجر كبير، ويأتيه النعاس، فيغفو..
ويرى المؤمنون رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، يفترش الأرض، ويتوسّد الحجارة في إغفاءته، فيشقّ عليهم الأمر، ويحزنون، فيتّصلون من واحد لآخر: «الزموا الهدوء، ولا تأتوا بضجيج، ولا يحاولنَّ أحدٌ الاقترابَ من رسول الله حتى يأخذ قسطاً من الراحة»... ثم يقولون في أنفسهم: «لا حول ولا قوة إلا بالله»..
ولكنَّها دقائق معدودات يرون بعدها رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، قد صحا من غفوته، وهبَّ من مكانه واقفاً يتقدم نحوهم معاتباً وهو يقول: «ألا أيقظتموني»!.. ثم لا يلبث أن يسارع إلى معول، فيلتقطه، وينزل إلى عمق الخندق يضرب فيه وهو يردد: «اللَّهم إن العيشَ عيشُ الآخرة، فاغْفر للأنْصار والمُهاجِرَة»..
وينسابُ دعاءُ النبيِّ، صلى الله عليه وآله وسلم، على الشفاه، فيغنِّيه المؤمنون لحناً طيباً مشجعاً، وتتناقله الحناجر نغماً رخيّاً، تنزاح به كل الأتعاب، وتنطوي معه كل الشدائد، فيندفع المؤمنون يهزجون فرحين:
نحنُ الَّذين بايعوا مُحمّدا على الإسلام ما بقينا أبدا
ويعاودون الإنشاد قائلين:
والله لولا أنت ما اهتدَينا ولا تصــــدَّقنا ولا صـــــلَّينا
فأنـــزلنْ سكــينةً علــــــــــينا وثبِّتِ الأقدام إن لاقيــنا
إنَّ الأُلى قد بغَوا علينا إذا أرادوا فـــتنـــةً أبَيــــــــــــنا
هكذا عاشَ المؤمنون تلك الفترات في حفر الخندق، يؤمنون بالواجب حقاً مقدساً، وبالعمل شرفاً سنيّاً، ويصدقون الرسولَ، صلى الله عليه وآله وسلم، نبيّاً كريماً، فلا يحفلون بما يصيبهم من تعبْ، ولا يملّون مما يواجههم من نَصَبْ. ولكن إذا كانت هذه حالهم، فإنَّ حالة تلك الفئة من المنافقين، الذين جاؤوا يشاركون في العمل خوفاً من المصير على حياتهم كانت مغايرة، إذ لم تكن لديهم القوة على احتمال ذلك التعب المضني، ولا الصبر على ذلك العناء الشديد، فما وجدوا أنفسهم إلاَّ متراخين، كسولين، عاجزين عن المتابعة، ويأخذهم الحياء من الإفصاح عما بهم، فلا يجدون إلاَّ الهروب سبيلاً للخلاص من النكبة التي أوقعوا بها أنفسهم، فيذهبون متسللين إلى بيوتهم، الواحد تلو الآخر، حتى بلا ذريعة يحتجون بها، أو إذْنٍ يمكن أن يحصلوا عليه من رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم...
وإذا كان فرارهم ذاك قد تمَّ خلسةً عن الأعين، فإنه غاب عن بالهم بأن عين الله سبحانه ساهرة، وهي ترقب كل حركة يقوم بها الإنسان على وجه هذه الأرض، وأنهم سيجازون على فعالهم تلك، فقد نزل بهم قول الله تعالى:
{لاَّ تَجْعَلُواْ دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُم بَعْضاً قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنكُمْ لِوَاذاً فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} .
نعم إن الله سبحانه وتعالى يرقب من عليائه، كل حركة من حركاتنا، وكل سَكَنةٍ من سَكَناتنا، لأنه أقرب للإنسان من حبل الوريد، وإذا كانت فِعالُ المنافقين الذين كانوا يتسلَّلون هروباً تستحق العذاب الأليم، فإن فِعال المؤمنين الصابرين، المجالدين، الذين لم يستهينوا بالعمل، ولم يتخلّفوا عن الواجب، هي لها أيضاً جزاؤها الكريم من عند الله سبحانه، ولكنه الجزاءُ الأوفى المجسَّد بالرحمة والغفران.. فلئن احتاج بعضهم إلى قضاء شأن خاص، وكل امرىء قد تكون له بعض الشؤون التي تفرض عليه القيام بها، فإنَّ هؤلاء لا يمكن أن يذهبوا لتلك الشؤون إلاَّ أن يستأذنوا رسولَ الله، صلى الله عليه وآله وسلم، بذلك.. ويأمرُ الله تعالى رسولَهُ الكريم بأن يأذن للمؤمنين لقضاء حاجاتهم، وأن يستغفر لهم، لأنهم ما تركوا عملهم إلاَّ لضرورة دعت إليه، وذلك بقوله تعالى:
{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإذَا كَانُواْ مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَّمْ يَذْهَبُواْ حَتَّى يَسْتَئْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَئْذِنُونَكَ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَئْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَن لِّمَن شِئْتَ مِّنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} .
وبنفحات الألوهية هذه التي أقامت الموازين والفوارق بين المؤمنين والمنافقين، تتابع العمل في حفر الخندق حتى انتهوا منه بعد ستة أيام متواصلة، بذلوا أثناءها، في اللَّيل والنهار، جهوداً مضنية حقاً، وما كان لغيَر المؤمنين أن يؤتوها في مثل تلك المدة الوجيزة...
وما إن انتهى العمل من حفْر الخندق ، حتى وقف رسولُ الله، صلى الله عليه وآله وسلم، يرقبه بعينٍ راضية، ونفس مطمئنة، فحمد الله وأثنى عليه، لما منَحهُ ومنح المؤمنين من قوة العزيمة، وطول الصبر حتى مكّن لهم إقامة هذا الخط للدفاع عن أنفسهم وعن مدينتهم...
وعادَ أولئك العاملون إلى بيوتهم ليرتاحوا، بل لكي ينفضوا عنهم الأوساخ والغبار، ثم يستعدوا للمواجهة والقتال.. بينما انصرف الرسول، صلى الله عليه وآله وسلم، إلى تفقّد التحصينات التي أقيمت، وتعزيز تدابِير الدفاع التي اتخذت، وتقوية سبل الصمود التي اعتُمدت.. فلما اطمأنَّ إلى تنفيذ ما كان قد أمرَ به، وإلى أنَّ جميع الأمور التي أرادها قد دُبّرت، دعا إلى المناداة بالخروج، ثم ركب في ثلاثة آلاف مقاتل يتقدمهم إلى الناحية الشمالية من المدينة حيث أُقيم الخندق. وهنالك نُصبت للرسول، صلى الله عليه وآله وسلم، خيمته الحمراء وأُقيم معسكر الجيش الإسلامي، متخذين من هضبة «حبل سلع» حاجزاً يحمي ظهورهم من العدو، ومن الخندق عاملاً يفصل بينه وبينهم..
هذا ما كان من أمر المسلمين، وما قاموا به من استعدادات للدفاع عن أنفسهم.
أما المشركون، فبعد التقاء جموع أحزابهم في بدر، ولمّا لم يجدوا المسلمين في انتظارهم كما كانوا يأملون، فإنّهم توزعوا كتائب عديدة، قادَ معظمها أبو سفيان بن حرب، وتقدّم بها يريد دخول المدينة، فإذا هي كالحصن المنيع لا تمكّن الأعداء من الاقتحام أو الغزو.
وإنها لمفاجأة تجبَهُ الأحزابَ، وتوقف زحفَ الغازين..
فما كان في ظنهم أبداً أن تلاقيهم المدينة بتلك الآطام والتحصينات المنيعة لتمنع عليهم دخولها!...
وما كانوا ليحسبوا أن الجبال التي تحيط بها هي العوامل التي تفوّت عليهم ولوجها...
بل ولم يكن يخطر على بالهم قطُّ بأن المسلمين يمكن أن يحفروا هذا الخندق الذي يبعدهم عن الوصول إليها..
وكأنما تلك الأحزابُ قد ذهلت عن كل الحواجز والموانع، ولم يبْق في ذهنها إلاَّ هذا الخندق تفكِّرُ به، فإذا هو حديث عهد بالحفر، عميق المدى، واسع العرض، لا يجرؤون على النزول إليه، لأنه يبتلعهم في أعماقه.. ينظرون إليه غير مصدّقين.. ولكن هل يمكن أن يكذبوا أعينهم وهي تريهم بأنه حقيقة قائمة لا يمكن إنكارها؟!...
ويشعرون بالغضب والحنق فيتساءلون:
«من أين لمحمد وأصحابه هذا الصنيع في الحرب؟ إنها لمكيدة لم تعرف بها العرب قطُّ، ووسيلة في الدفاع لم تستخدم عندَهُم من قبل»!..
ولئن كَثُر التساؤل وطال التحديق، فإنَّ ذلك لن يجدي تلك الأحزاب نفعاً.. فهذا الخندق يبدو أمامهم، ولن يمكنهم اجتيازُه، تماماً، كما أنهم لن يستطيعوا اختراق الآطام، فماذا يفعلون؟.
لقد جاؤوا يغزون المدينة، وفي ظنهم أنها لن تصمد أمامهم أكثر من يوم أو بعض يوم.. وها هُمُ يرون أنَّ دخولها عسيرٌ جداً، إن لم يكن ضرباً من المحال، فلِمَ إذن لا يرجعون؟!...
ولكن هل رجوعهم أمرٌ هيّن عليهم؟!..
لا!.. لئن رجعوا على هذا النحو، بلا قتال، فإنها الهزيمة النكراء...
إذن فلم لا يضربون حصاراً على المدينة، ويطوقونها من عدة جهات، علَّ الأيام القليلة المقبلة تتيح لهم سبل اقتحامها والقضاء على محمد وأصحابه؟!.. وعلى هذا الأمل، أعطيت الأوامر بالنزول، وإقامة معسكراتهم حول المدينة..
فنزل جنود الأحزاب يحاصرون المدينة، وينتظرون الوقت الذي يأمرهم فيه قادتهم بالهجوم..
وها هي الأيام تمرُّ ولا شيء من تلك الأوامر.. وها هي الليالي تمضي والآمالُ التي منَّت بها الأحزاب نفوسها تنقضي معها، فالأمور لم تتبدّل منذ قدومهم، لأنهم ما زالوا على حصارهم بلا جدوى، والمسلمون ما زالوا في الداخل يتمتعون بالحماية والمنعة. فيستمرون في الانتظار...
وعادت الأحلامُ تخبو من جديد.. لقد جاؤوا يؤملون غزو المدينة سريعاً، ثم يعودون محمّلين بالأسلاب والغنائم، ظافرين بالنصر النهائي على محمد وأصحابه.. ولكنَّ شيئاً من ذلك لم يتحقق، بل على العكس بدت العلائمُ تظهر بأنَّ الظروف قد خانتهم، وباتت الأوضاع تتحوّل ضدَّهم، إذ كلما طال بهم الانتظار، كان ذلك مدعاة إلى ضعفهم، وانحلال قواهم.. وها هي الأيام تكشف عن صدق هذا الحدس، عندما بدأ التململ في صفوف المقاتلين يظهر، والملل في نفوسهم يقوى، فراحوا يطالبون قادتهم بالذهاب، ويتطاولون عليهم بالعصيان.
وإذا كان قادة الأحزاب لا ينفكون يواصلون الاجتماعات، ويعقدون الندوات للتشاور والائتمار، دون أن يتوصلوا إلى حل يجمعون عليه، فإن ما راح الجنود يجابهونهم به، كان يدفعهم إلى اتخاذ قرارٍ نهائي، يحسم الأمر فيما بينهم...
وكانت الآراء أثناء اجتماعاتهم تظهر متشتّتة، متضاربة...
فمن قائل: أترون يا قوم بأننا لم نحمل معنا من المتاع والزاد ما يكفي، فمن أين نطعم إن طال بنا المقام على هذه الحال؟!...
إلى قائل: أم لعلكم لا تحفلون بأيام الشتاء هذه، وما يحمل لنا طقسها الرديء من بردٍ قارس ينخر عظامنا، ومن عواصف هوجاء تكاد تقتلع خيامنا.. لا، لن نقدر على مقاومة حرب الطبيعة، وقد تألّبت علينا قواها العاتية، فذهابنا خير من بقائنا وسط هذه الأعاصير!..
ومنهم من أبدى بأنهم أصبحوا على وشك الضياع والتيه، لا يدرون أَخَيْراً جاؤوا من أجله أم شراً سوف ينقلب ضدهم.. وما عليهم إن عادوا لديارهم وأهليهم ينعمون بالدفء والأمان؟...
.. لقد كانت الآراء متفرقة، والخلاف واضحاً بين قادة الأحزاب، حتى بدا للبعض بأن الأمر بات ينذر بأسوأ العواقب.. وكان ممن أجفَلهُ تضارب الآراء أكثر من غيره، وأوقع في نفسه الوجد، حُيي بن أخطب، إذ خاف أن يُجمع الرأي على الذهاب عن المدينة، فتذهب تلك الجهود التي بذلها لشدّ العرب إلى غزوها سُدًى، وتضيع الآمال التي عوّل عليها في القضاء على محمد، وإذ ذاك لن يكون من السهل أبداً معاودة جمع قبائل العرب من جديد على حربه.. وستكون ــــ بالنتيجة ــــ الهزيمة التي تلحق به وببني قومه من اليهود إلى الأبد.. ولكن هل يدع حُييّ بن أخطب هؤلاء العرب المغفلين أن يخذلوه حقاً؟!.. لئن كان محمد قد استعصى عليهم بما أقام من استعدادات، فإنه لن يعدم الوسيلة لتبديد كل ما أقامه ثُمَّ الوصول إليه، والانتقام منه...
لا!.. إنه لن يترك هؤلاء الأحزاب يذهبون، ما دام عنده عقل يفكر ويدبر؟!...
ولكن ماذا يمكن لابن أخطب أن يفعل؟!...
إنه يهودي... وهو لن يعدم الوسيلة التي يحتال فيها على الأحزاب حتى تصمد لقتال محمد وأصحابه..
... ويقف حُيَي بن أخطب وسط اجتماع حافل قائلاً:
ما أحسبني إلاَّ دخيلاً عليكم يا قوم، فاعذروني إن غدوت قافلاً إلى الديار في أبناء قومي..
وبُهت المجتمعون فسألوه عما دهاه حتى يقول ذلك، فأجاب بخبث ودهاء:
ــــ وما تظنوني فاعلاً، وهذا جمعكم قد وهَنَتْ منه النفوس وهانت عليه الكرامة، حتى آثَرَ الذل والمسكنة!..
ونظر المجتمعون بعضهم إلى بعض مدهوشين، فقالوا له:
ــــ ما هذا التجنّي علينا يا ابن أخطب، وما دهاك حتى تنعتنا بهذه الأوصاف الشنيعة؟!..
ــــ فقال اليهودي:
ــــ يا سادة العرب! لقد ظننتُمُ العودة إلى دياركم نجاةً لكم، ولكنها والله الهزيمة التي هي أشدُّ من هزيمة القتال، فمن رغب في مثل هذا العار يلحقه فليذهب، وإلاَّ دعونا نقوم على أمر جامع لا يكون فيه إلاَّ نصرُنا وعزنا جميعاً..
قالوا وقد أخذهم الحماسُ: هيا وقل لنا ما تفكّر به!...
قال اليهودي: لقد نسيتم أنَّ بني قريظة منّا نحن معشر اليهود، وأن إقامتهم بجوار محمد ما كانت إلاَّ على مضض، فلم لا نتسلل إلى بيوتهم، ونقنعهم بفتح أبواب آطامهم أمامنا، وبذلك نقطع المددَ عن المسلمين، وندخل إلى المدينة نقاتلهم في عقر دارهم؟!...
وطافَ الفرحُ على وجوه زعماء الأحزاب، فقالوا له:
ــــ وكيف السبيل إلى ذلك؟.
قال اليهودي: أنا أذهب إلى زعيم بني قريظة وأحرّضه على الانضمام لجموعنا..
قالوا بصوت واحد: هيا وأْتِهِ مسرعاً..
وتوصّلوا في ذلك الاجتماع إلى وفاق بعدما أمكن لابن أخطب أن يقنع قادة الأحزاب بجدوى خطته.. فانتظر حتى أقبل الليلُ، وغطت الظلمة القاتمة الأرجاء، فتسلل في نفر من أصحابه حتى وقفوا على حصن بني قريظة، وطلبوا أن يتحدثوا إلى زعيمهم كعب بن أسد.. ولكن كعباً ما إن علِمَ بما جاءَ له حُيي، حتى ارتعدت فرائصه من الخوف، ونصحهُ بالعودة من حيث أتى قبل أن ينكشف الأمر، وتدور الدائرة عليه وعلى بني قومه.. إلاَّ أن حيياً ما زال به، يداهن ويراوغ، حتى أقنعه بأن يسمح له ومن معه بالدخول، وما إن تقابلوا، وصاروا وجهاً لوجه، حتى بادره حيي قائلاً:
«ويحك يا كعب، أترفض مواجهتي وقد جئتك بعز الدهر وببحرٍ طامٍ! جئتك بقريش على قادتها وسادتها حتى أنزلتهم بمجتمع الأسْيال من رومة ، وبغطفان على قادتها وسادتها فأنزلتهم بذنب نَقمى إلى جانب أحد، وقد عاهدوني وعاقدوني ألاّ يبرحوا حتى نستأصل محمداً ومن معه؟»...
وتردَّدَ كعب بن أسد في الجواب... فقد أخذه التفكير فيما يعرضه عليه حيي، ولكنه يرى بأنه صاحب عهد الموادعة مع محمد، وأن قومه بني قريظة آمنون في ظل هذا العهد، فهل ينقضه ويعرض بني قومه للهلاك؟!!.. لا! إنه لا يقدر على ذلك، فقال لحييّ: ــــ «بل جئتني والله بذل الدهر وبجهام أهرق ماؤه فهو يرعد ويبرق وليس فيه شيء»...
فقال ابن أخطب يحرّضه: «لعلك نسيت يا كعب ما فعله محمد بنا نحن معشر اليهود! فقد أخرج بني قينقاع أذلَّةً، وأجلى بني النضير مقهورين، ولن يأتي يوم إلاَّ ويكون مصيركم يا بني قريظة مثل مصير كل بني يهود في المدينة»..
قال كعب: «لقد عاهدنا محمد على حسن الجوار، ووادعنا على السلم، وما رأينا منه إلاَّ وفاءً وصدقاً لعهوده، فما يصيبنا إن حنثنا بالعهد وانتصر محمد»؟!
قال حييّ: إنه للوهم بعينه.. وكيف يكون له النصر وتلك الجموعُ حول المدينة قد جاءت تطلب الثأر عنده؟ لعلك يا كعب تستهين بقوة قريش وغطفان، وتستخف بغايات تلك القبائل التي أتت مؤازرة تطلب السلب والنهب»!
وطالَ النقاشُ بين الرجلين، واحتدم الجدال بينهما، وما زال كلّ منهما يتمسك برأيه.. فكعب بن أسد يريدُ البقاء على الحياد، وحييّ بن أخطب يريده أن ينضمّ إلى الأحزاب.. وما زال به حييٌّ، يؤلّبه على النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، ويغويه بالآمال العريضة، حتى أقنعه بالانضمام إلى الأحزاب، فأقبل عليه يعانقه، وهو يَعِدُه بالنصر الأكيد.. ولكنَّ كعباً استدرك أمراً لم يثبت عليه أثناء النقاش، فعاد يقول لحييّ: «وعلى فرض أن محمداً قد انتصَرَ فما يحلُّ بنا»؟.
قال حُيي: «أعاهدك يا كعب، لئن رجعت قريش وغطفان، ولم يصيبوا محمداً، لأدخلنَّ معك في حصنك، فيصيبني ما يصيبك».
قال كعب: إذن فأمهلونا أياماً عشرةً نتمكن أثناءها من إعداد عدتنا، ونصبح قادرين على القتال».
قال حُيَي: لك ذلك يا كعب..
وعادَ حُيَي بن أخطب في تلك الليلة يخبر قادة الأحزاب ــــ الذين كانوا ما يزالون في انتظاره ــــ بما جرى معه وكيف أمكنه أن يقنع زعيم بني قريظة بالانضمام إليهم، فراحوا يهنئونه على نجاحه، وهم يتوهمون بأنَّ انحياز بني قريظة لهم سوف يساعدهم على تبديل الأحوال، وتحقيق ما جاؤوا إليه...
ولكن أنّى لابن أخطب، مهما كان صاحب حيلة ودهاء، وأنّى للأحزاب مهما كانت جموعها غفيرة وقواها شديدة، فإنها لن تحقق نصراً على المؤمنين، وهم على عهدهم لله قائمون، أو أن تهزم جنده وهم لدينه ناصرون!... فما كادَ يطلعُ الصباحُ حتى كان خبرُ نقض بني قريظة لعهدهم قد بلغ رسولَ الله، صلى الله عليه وآله وسلم، فاهتزَّ له، وخاف من سوء عاقبته الوخيمة.. فرأى ألاّ يُشاع ذلك الخبرُ بين المسلمين حتى لا يكون له أثره السلبي على صمودهم، ولكنه أراد أن يقف على جلية الأمر، فدعا إليه سعد بن معاذ، سيد الأوس، وسعد بن عبادة سيد الخزرج، وبعض الصحابة الآخرين أمثال عبدالله بن رواحة، وخوّان بن جبير وغيرهم، يطلعهم على ما تناهى إليه من نقض بني قريظة لعهده معهم، ويبعثهم يستجلون الحقيقة، وهو، صلى الله عليه وآله وسلم، يوصيهم بأن يكتموا الخبر إن وجدوه صحيحاً وإلاَّ فليجهروا به ويذيعوه على الناس..
وذهب هؤلاء الصحابة إلى دار كعب بن أسد، فأبى أن يقابلهم.. فقالوا: هذا أول البلاء... ولكنهم لم يحفلوا برفضه بل أصرّوا على رؤيته، مما أجبره على الاجتماع بهم، وقد جاءَ في نفر من بني قومه، تظهر على وجوههم الضغينة، والشرُّ يبدو من عيونهم، يسألونهم بحدّةٍ وغضبٍ عما يريدون، فقالوا لهم:
«جئنا نؤكد عهد موادعة رسول الله لكم».
فردوا عليهم بصلافة ووقاحة: «ومن رسول الله الذي تزعمون»؟!...
ونظر الصحابة بعضهم لبعضٍ، والغضب يعتمل في نفوسهم، ولكنهم أظهروا اللّين والصبرَ، فقالوا:
«محمد رسول الإسلام! الذي عاهدكم على الموادعة وحسن الجوار».
فردّ نفرُ بني قريظة: «لا عهد لمحمد عندنا».
لقد بدا واضحاً للصحابة منذ البداية بأن بني قريظة قد نقضوا العهد بالتأكيد، إلاَّ أنهم أظهروا التغافل عن مكرهم وغدرهم علّهم يجدون سبيلاً لإقناعهم بالعودة عما فعلوه، فراحوا يذكِّرونهم بما يلقون من حسن معاملة المسلمين لهم، وبالحفاظ عليهم، ويظهرون رغبتهم في البقاء على ذلك الوفاق والوئام.. ولكنهم لم يسمعوا من القوم إلاّ ما ينذر بالغدر والخيانة إذ قالوا لهم: «الخير لكم في أن تذهبوا، فما أنتم إلاَّ أعداء لا نرجو إلاَّ قتالهم»..
وكان سعد بن معاذ حليفاً لبني قريظة، وقد ساءه ما يبدي حلفاؤه هؤلاء من خيانة وعداوة، إلاّ أنه رغم ذلك آثر أن يكون ناصحاً لهم لعلّهم يرعوون عن غيهم، فقال لهم:
«والله إني لأخشى عليكم مثل يوم بني النضير وأمرَّ منه»..
وكأنما رأى زعيم بني قريظة في نصح سعد حجةً على المسلمين، فقال له: «ردّوا بني النضير إلى ديارهم، وسننظر في أمرنا معكم»!
قال سعد: «لقد نكثوا عهدهم، وخانوا وعدهم. وما أراكم تسيرون على خطاهم إلاّ خطأ، فأنتم حلفائي ويعزُّ عليَّ أن تقعوا بمثل ما وقعوا فيه من خطأ».
قال كعب: «نحن لا نريد نُصْحَ أحد، وقد اشترطنا عليكم حتى ننظر فيما يكون بيننا وبينكم، فاذهبوا إلى محمد وأبلِغوه شرطنا»..
وثارَ سعد بن معاذ، يريد أن يهجم على الرجل ويقتله ــــ إذ أرادَ أن يكون ناصحاً للقوم حافظاً لهم فما وجد عندهم إلاَّ الغرور والاستعلاء ــــ ولكنه رغم غضبه عادَ يتمسك بالصبر ثم ألحَّ عليهم بأن يعيدوا النظر في موقفهم ذاك لأنه أَجدى لهم، إلاَّ أنهم لم يبدوا إلاَّ فحشاً في القول، ومزيداً في التهجّم والاستهزاء، حتى أخرجوه عن حكمته وصبره، فراح يكيل لهم الشتائم بمثل ما يشتمون، فتقدم أصحابه يأخذونه من كتفه، وهم يقولون: «دع عنك شتائمهم يا سعد، فالذي بيننا وبينهم أقوى من الشتيمة وأبعد من الخلاف في القول».
وخرج أولئك الصحابة من عند بني قريظة غاضبين، حانقين، حتى أتوا رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، وأخبروه بحقيقة الأمر، فأسف لذلك كثيراً، ثم دعا إليه جماعة من المقاتلين، وأمرهم بالذهاب ومراقبة بني قريظة في ما يفعلون. ولم يبق خبر بني قريظة خافياً على المسلمين، فذعروا منه، وداخلهم الخوف من عواقبه لأنَّ بني قريظة أمسوا عدواً في الداخل، قد يكون أشد خطراً عليهم من العدو القابع خارج المدينة..
وفي هذه الأثناء التي داهم فيها ذلك الخوف المسلمين، كانت ثلاث كتائب للأحزاب تحاول التقدم نحوهم، وقد جاءت إحداها بقيادة ابن الأعور السلمي تنزل من فوق وادي جبل سلع، والأخرى بقيادة عيينة بن حصن تقترب من تحتهم، من الجانب السفلي، بينما اقتربت كتيبة أبي سفيان بن حرب حتى وقفت قبالتهم على الناحية الثانية من الخندق، وهذا ما جعل خوفهم يزداد، والرعبَ في قلوبهم يقوى، لأنهم رأوا الخطر يُحدِق بهم من كل جانب.
وكانت هذه الفترة من أشد الفترات صعوبةً على المسلمين، وأكثرها حرجاً، فلا شيءَ من حولهم يبعث على الأمل، بل على العكس إنَّ كل ما يحيط بهم لا يبعث إلاَّ على الرهبة والذعر، ولا يثير إلاَّ الهمّ والقلق...
إنه لبلاء عظيم يخترق بفظاعته حصون نفوسهم فيثير فيها الظنون القاتمة، ويندفع بفداحته إلى قلوبهم فيُنزِل بها المشاعر المظلمة؛ ويتعاظم هذا البلاء عليهم حتى يبلغ المدى الذي تزيغ معه الأبصارُ، وتبلغ به القلوبُ الحناجرَ، فيصير معه المسلمون على تلك الحالة التي وصفهم بها الله تعالى بقوله العزيز:
{إِذْ جَاءُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا} .
ورأى رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، ما أصاب المسلمين من هلعٍ في النفوس، وقلق على المصير، فراح يهوّن عليهم بأنّ الله سبحانه لن يتخلّى عنهم، وبأنه قادر على إزالة الشدة، ورفع الظلم، وأنه فاتح لهم طريق الظفر بالعدو والنصر عليه، وهو يقول بثقة النبي الصادق، والرسول الأمين: «والذي نفسُ محمدٍ بيده ليفرجَنَّ الله عنكم ما ترون من الشدة، وإني لأرجو أن أطوف بالبيت العتيق آمناً، وأن يدفع الله إليَّ مفاتيح الكعبة، وليهلِكنَّ الله كسرى وقيصر، ولتنفقنَّ كنوزهما في سبيل الله».
ويطمئن المؤمنون لوعد النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، فيشعرون بالهموم تتبدّد، وبالأحزان تتلاشى، فيصبرون محتسبين، داعين إلى الله سبحانه أن يعجل لهم في الخلاص من هذا المأزق الشديد. أمّا المنافقون فيبقى الضعف مسيطراً على نفوسهم، فلا يحفلون لوعد رسول الله بالنصر، ولا يقنعون بأنهُ الصادق الذي لا ينطق عن الهوى، وهم يرون من أخطار العدو ما يوشك أن يُنزل بهم البلاء، وينشر المصيبة، فلا يحتملون البقاء بين الصفوف، بل يؤثرون الانسحاب والانصراف إلى منازلهم، وهم يحتجون بالقول: بأنها عورة، ويخافون عليها من الدخول والاعتداء.. وإذا كان هنالك من حياءٍ في تصرف هذه الفئة من المنافقين، وهي تحتجّ لترك المؤمنين في أصعب الظروف وأحلكها، فإن فئة أخرى بلغت بها الوقاحة حداً أنْ لم تتورع في فرارها عن النيل من رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، وهي تتهمُهُ في صدقه، فيقول أصحابها بعضهم لبعض: «يَعِدُنا محمد أن يفتح كنوز كسرى وقيصر، وأحدنا اليوم لا يأمن على نفسه أن يذهب في حاجة له ويعود سالماً.. لنذهبنّ إلى بيوتنا فندخلها آمنين». وما زالت هذه الفئة من المنافقين تحرّض على الهروب، والانسحاب، حتى لم يبقَ أحدٌ منهم بين صفوف المؤمنين؛ وفيهم نزلَ قولُ الله تعالى:
{وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً * وَإِذْ قَالَت طَّائِفَةٌ مِّنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لاَ مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُواْ وَيَسْتَئْذِنُ فَرِيقٌ مِّنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِن يُرِيدُونَ إِلاَّ فِرَاراً * وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِم مِّنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُواْ الْفِتْنَةَ لأَتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُواْ بِهَا إِلاَّ يَسِيراً * وَلَقَدْ كَانُواْ عَاهَدُواْ اللَّهَ مِن قَبْلُ لاَ يُوَلُّونَ الأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولاً * قُل لَّن يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِن فَرَرْتُم مِّنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذاً لاَّ تُمَتَّعُونَ إِلاَّ قَلِيلاً} .
فالمنافقون يفِرّون، وكتائب الأحزاب تتقدّمُ، من أعلى ومن أسفل، وليس أمام المؤمنين إلاَّ الصمود والقتال، فتنهال سهامهم على تلك الكتائب مثل وابلٍ من المطر، فتجبرهم على التقهقر والتراجع، إلاَّ بعض فرسان من كتيبة أبي سفيان بن حرب، فإنهم راحوا يقتحمون الخندق وفي زعمهم أنهم يمهّدون للآخرين طريق اللحاق بهم، فلا يلبثون أن يجدوا أنفسهم وحدهم قد أقدموا على ذلك الاقتحام، بينما تقاعست جنود الأحزاب عن اللحاق بهم..
وكان أولئك الفرسان الذين اندفعوا في وسط الخندق هم: عكرمة بن أبي جهل، ونوفل بن عبدالعِزّى، وضِرار بن الخطاب بن مرداس، وهبيرة بن أبي وهب، وعمرو بن ودّ العامري.. وكان عمرو بن ودّ أول من عبر الخندق، ووصل إلى طرفه الآخر من ناحية المسلمين، وهو ينادي بأعلى صوته: «هل من مبارز»؟..
ويراه المسلمون مندفعاً على تلك الحالة من الهيجان والإقدام، فلا يجرؤ أحد منهم على أن ينتدب نفسه للنزول إليه وملاقاته. ويزيد في تقاعسهم ذاكَ ما كان للرجل من شهرة في القتال، وذيوع صيت في المبارزة، حتى قيل عنه في الجزيرة: «بأنه البطل الذي لا يقوم له رجل من العرب»، وقد سُمي لشهرته تلك «فارس يَليلْ».. أما السبب في هذه التسمية فيعود إلى يومٍ كان عمرو بن ودّ في ركب من قريش، يعبر وأصحابه، بوادي «بُلَيْل» ــــ القريب من بدر ــــ فيتصدى لهم عدد كبير من فرسان بني بكر، ويشتبكون معهم في قتال، فإذا بعمرو بن ود يصرخ بأصحابه أن يخلّوه وحده، ويذهبوا فارّين بأنفسهم من الموت.
ويروى أنَّ أصحابه لاذوا فعلاً بالفرار يختبئون، بينما بقي هو وحده يقاتل المعترضين فيجرح من يجرح، ويقتل من يقتل، حتى ينزل بهم الهزيمة ويهربوا من وجهه. وما إن هدأ القتال واطمأنَّ أصحاب عمرو إلى أن عدوهم قد ترك تلك الناحية حتى خرجوا من مخبأهم يريدون الوصول إلى مكان القتال لأخذ جثة صاحبهم عمرو كي لا تبقى في الفلاة طعاماً للوحوش والغربان، فيفاجأون به يطلع عليهم ظافراً، يزهو بنفسه، وبتفريقه شمل العدو، فيستقبلونه عندئذٍ بالهتاف: «أهلاً بفارس يليل»... ومنذ ذلك الحين وذلك اللقب يغلب عليه، مُدلِّلاً على شجاعته وبطولته...
تلك الشهرة هي التي أجفلت أبطال المسلمين، فلم تطاوع أحداً منهم نفسُه، بالبروز إليه ومقاتلته.
ورأى عمرو بن وِدّ تقاعس المسلمين عن ملاقاته، فازداد اعتداداً بقوته، وراح يختال في الساح على فرسه، ويجول ويصول مُدِلاًّ بعزمه، ومَضَاءِ حُسامِه، وهو لا يفتأ يردد متباهياً: «هل من مبارز، هل من مناجز»؟!... ثم يقول شعراً فينشد:
ولقد بَحَحْتُ من النداء بجمعكم هل من مبارز
إنــي كــذلــــك لــــــــــم أزلْ متسّرعاً نحـــــو الهـــــزاهز
إن الشجاعة في الفتى والجودَ من خير الغرائز
ويراه أصحابه على تلك الحال من الجرأة والشجاعة والتفاخر، فيقول أحدهم، وهو يصف خندق المسلمين بـ«المداد»:
عمرو بن ود كان أول فارس طَفَرَ المدادَ وكان فارسَ يَلْيلِ
ويبقى عمرو بن ود يجول في الميدان وحده، دون أن تنقطع مناداته للمسلمين، أو يتوقف افتخاره بنفسه، بينما يظل أبطال المسلمين على صمتهم، وقد سيطر عليهم الرعب منه.. وقد لا يكون هؤلاء الأبطال ممن تعوزهم الشجاعة والمبارزة، ولكنها الظروف القاسية التي تحيط بهم، والأجواء الصعبة التي تثقل عليهم، هي السبب في ذلك التقاعس، واللياذ بالسكون.. ويطول نداءُ عمرو بن ودٍ لهم، ويطول تقاعسهم عن البروز له.. ولكن إلى متى؟!..
ألا يوجد بين صفوفهم رجل واحد عنده من الشجاعة ما يكفي للتصدّي لهذا المشرك الذي لا ينقطع مذ طفر الخندق، عن التعالي عليهم بنفسه، والتباهي ببأسه واشتداده؟!..
بلى والله..
إنه البطل المغوار، عليٌّ بن أبي طالب الكَرَّار على الأعداء الذي لا تطاوعه نفسه، أن يرى كافراً يتعالى على المسلمين ويتركه وشأنه، فيتقدم من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قائلاً: «أنا له يا نبي الله».. ولكنَّ النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، يردع علياً عن مُرادِه ويقول له: «إنه عمرو يا علي! فاجلس».
وتزداد صراخات عمرو حدَّةً، بل وتتحول إلى صراخات مؤنبة جارحة للمسلمين، تستهدف إيمانهم بالذات، وهو ينادي فيهم: «يا من تزعمون أننا إذا قتلناكم تدخلون الجنة، وأنكم إذا قتلتمونا دخلنا النار، هلمّوا إليّ فأنا بانتظاركم.. وهذه طريق جنتكم مفتوحة أمامكم فانزلوا لمبارزتي وأنا أقودكم إلى تلك الطريق»!...
وغضب رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، لاستهزاء هذا الكافر بهم، فنادى في المقاتلين:
«من يبرز إلى عمرو وأنا كافِلٌ له على الله الجنة»؟
ويظل الجميع قابعين في الصمت، يسيطر عليهم جو الرهبة والخوف، فيعود عليّ (عليه السلام) ويتقدم من رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، قائلاً: أنا له يا رسول الله!.
ويعاود الرسول صلى الله عليه وآله وسلم قوله لعليٍّ: اجلس يا علي، إنه عمرو!..
وينصاعُ عليّ (عليه السلام) لأمر النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، فيعود إلى مكانه، وهو ينظر ناحية الرجل مغضباً، ويشتدُّ غضبه وهو يسمع تردادَ فخاره يتعالى إنشاداً:
ولقد بُحِــحْتُ مــن النِّداءِ بجمعكم هل من مبارز
ووقفت إذ جبنَ المشجِّع مــوقف البطَل المُناجز
إن السماحــة فـي الفتـى والجود من خير الغرائز
ويندفع عليٍّ (عليه السلام) نحو النبي صلى الله عليه وآله وسلم من جديد يطلب مبارزة الرجل، فيقول له، صلى الله عليه وآله وسلم: ولكنه عمرو يا عليّ!..
فيقول عليٍّ للرسول، صلى الله عليه وآله وسلم: وإن يكن عَمْرواً يا رسول الله؟!..
وينظر النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، إلى عليٍّ بعين ملؤها المحبة والعطف وتتجاذبه حياله شتى الأفكار.. إنه عليٌّ: الإنسان الذي يحبه من أعماقه؛ فقد كان أول من آمن به بعد زوجه خديجة (رضي الله عنها) وظلَّ بجانبه منذ ذلك الحين، يعينه على نوائب الأيام وصعابها بقدر ما يستطيع، وهو الذي فداه بنفسه عندما نام في فراشه يوم هجرته، وهو زوج ابنته التي منها نسله، فكيف يسلّمه إلى عمرو بن ود صاحب القوة والبأس، قاتلِ الرجال ومشتِّتِ الفرسان؟!..
ولكن أوَليس الإسلام بحاجة إلى عليّ الآن؟
إذن فنداء الواجب أهم من أي نداء آخر!..
وما على الرسول، صلى الله عليه وآله وسلم، إلاّ أن يأذن لعليّ بالمبارزة..
ويأخذ النبيُّ، صلى الله عليه وآله وسلم، درعه «ذات الفضول» ويعطيها لعليّ فيلبسها، ثم يسلّمه سيفه «ذا الفقار»، ويمدُّ يده إلى رأسه فينزع عمامة السحاب عنه ويشدّها على رأس عليّ في تسعة أكوار، فوق وجهه المقنَّع بالحديد، ثم يشدّه إلى صدره، ويقول له: «تقدم على بركة الله»..
ويندفع عليّ راكضاً نحو عمرو، فيرمقه النبيُّ، صلى الله عليه وآله وسلم، بنظراته، ثم يرفع يديه وناظريه نحو السماء داعياً له الله تعالى: «اللَّهم احفظه من بين يديه ومن خلفه، وعن يمينه وعن شماله، ومن فوقه ومن تحته.. أَلاَ إنَّه قد برز الإيمان كلُّه إلى الكُفر كلِّه. اللَّهم سدِّد عليّاً وأيده وانصره على خصمه، إنك أرحمُ الراحمين».
إن رسول، الله صلى الله عليه وآله وسلم، يقف في هذه اللحظات متوجهاً بكلّيته إلى خالقه، يناجيه بضمير المؤمن الصادق الذي يمتلىء بالخشوع، وبفكر العابد الذي يحفل بآفاق الإنسانية، وبنفس المخلص التي تستوعب مشاعر البشرية... إنَّ الموقف حرج، والوضع دقيق للغاية، فإنْ ناجزَ عليٌّ بطلَ الكافرين وقهره، فالانتصار لا يكون لعليّ، بل إنه انتصارُ الإيمان على الكفر، ودَحْرُ الحقِّ للباطل، وإنه الانتصارُ الذي تتبدّلُ به الأوضاع كلُّها، فتعود للمسلمين الثقةُ بنفوسهم، ويَهزِمون ذلك الضعفَ الذي ينطوي في أفئدتهم، فتكون البدايةُ لتحقيق النصر الأخير بعون الله..
النبيّ، صلى الله عليه وآله وسلم، في اتصاله الإشراقي بربه، وعليّ (عليه السلام) في اندفاعه نحو عمرو بشجاعته وحماسه، لا يأبهان لشهرة هذا الرجل التي تملأ آفاق الجزيرة، ولا يحفلان بغطرسته وتباهيه بقوته.. إن عليّاً في الثامنة والعشرين من عمره، في عزّ الفتوة والرجولة، ينطلق إلى عدوه كالأسد الهَصُور يثِبُ وثباً، حتى يصير قبالته، فيبادره مُهدِّداً متوعداً وهو يقول له:
لا تعجلنَّ فقد أتاك مجيب صوتك غيرُ عاجز
ذو نيةٍ وبصيرةٍ والصدق منجي كلّ فائز
إني لأرجو أن أقيم عليك نائحة الجنائز
من ضربةٍ نجلاءَ يبقى صيتُها بعد الهزاهز
ويعجب عمرو لهذا الرجل، وقد أتاه مبارزاً، راجزاً فيسأله بكبرياء وعجرفة:
«من أنت يا ذا الرجل»؟.
فيسمع عمرو صوتاً يهز مشاعره ويدوّي في أعماقه: «أنا علي بن أبي طالب بن عبدالمطلب بن هاشم بن عبد مناف»..
كفاك تباهياً يا عمرو بنفسك، وآن لك أن تعرف من هم الأسياد!..
ما بالك؟!.. أفي لحظةٍ تخبو جذوة التفاخر في حنجرتك، فلم تعُد تَرجُزُ شعراً!..
هل أطاحَ بصلفك مجرد سماعِ سليلٍ لبني هاشم يُنْبِئُكَ باسمه؟!..
إذن فهيّا وقلْ لمبارزك، وقد عرفت من يكون، ما يروي غليل حقدك وحقد قومك على محمد..
وتمرُّ لحظات وعمرو لا يقول شيئاً.. وتطوف في ذاكرته خلال تلك اللحظات تخيلات وتصورات، ويفتش خلالها عمّا يردُّ عنه إجفالَ نفسه من علي (عليه السلام) وقد سمع أخباره في بدر وأُحُد، فيقول مدعياً الإشفاق عليه:
«ليبرز لي غيرك يا ابن أخي.. ففي أعمامك من هو أسنّ منك وأبوك كان صديقاً لي، وإني لأكره أن أقتل رجلاً كريماً مثلك فارجْع وراءك خير لك».
فقال له عليّ: «إن قريشاً تتحدث عنك أنك تقول: لا يدعوني أحد إلى خِلَّتين إلاّ أجبت إلى واحدة منهما».
قال عمرو: «أجل»...
قال له عليّ (رضي الله عنه): «فإني أدعوك إلى الإسلام، وهذه خِلّةٌ عظيمةٌ من الله تعالى.
قال عمرو: «دع عنك هذه»..
قال له عليّ (رضي الله عنه): «فإني أدعوك أن ترجع بمن معك من قريش إلى مكة. وهذه خِلةٌ فيها نَجاةٌ لك..
قال عمرو: «إذن تتحدث عني نساء مكة أن غلاماً مثلك خدعني؟!
قال له علي (رضي الله عنه): «فإني أدعوك إلى البراز».
فقال عمرو: «إني لا أحب أن أقتلك».
قال له عليّ (رضي الله عنه): «ولكني أحب أن أقتلك».
وثار غضبُ عمرو لهذا التهديد، فأرادَ أن يهجم على عليّ (عليه السلام) بفرسه، إلاّ أنه أحجم عن ذلك وهو راجلٌ قبالته، فقفز عن ظهر الفرس، واندفع نحوه يستلُّ السيف بيده، حتى إذا قارَبُه أهوى عليه بضربة شديدة، فتلقاها عليّ بدُرقته، فإذا هي قد قُدَّت وثبت السيف فيها.
ولم يكن عليّ (رضوان الله عليه) ليقف متلقياً الضربات وحَسْبْ يدفع بها عن نفسه، بل إنه ما كادَ يستقبل عَمْرواً حتى عاجله بضربة مقابلة هوت على أحد فخذيه فقطعته، وجعلته مطروحاً على الأرض، مقلوباً على قفاه، فإذا بعمرو يمتشق رمحه ويطعن به عليّاً فيبتعد عن طعنته، فيرميه به رمياً فيذهب عنه طائشاً في الهواء، عندها يتقدم منه عليّ يريد القضاء عليه، ولكن عمرواً يصمد مقاوماً، فيدور بينهما برازٌ شديد، ويثور النّقع [= الغبار] من حولهما حتى يُغطّي كلّ ما حولهما فلا يعود أحدٌ يراهما..
وما زال عليّ (عليه السلام) يدور حول الرجل، تارة عن يمينه، وتارة عن شماله، وعمرو يقاومه بكل بسالة وقوة، حتى أمكن لعلي (رضي الله عنه) أن ينالَ منه بضربة نجلاء ــــ كان قد وعده بها ــــ فَلَقَتْ هامَهُ، وطرحته على الثرى يمتزج لحمه بدمه في التراب، ثم اعتلى على صدره كالأسد الهَصور وارتفع صوتُه يشق عنان الفضاء مكبّراً بنداء الحق: الله أكبر.. الله أكبر..
وسمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمون تكبيرة علي (ع)، فقال الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بصوتٍ ملؤه الفرح والإيمان: «والذين نفسي بيده قتله عليٌّ»..
ويندفع جمع من المؤمنين إلى مكان القتال، ليقفوا على مشهد للبطولة ما رأوه من قبل قَطُّ.
فهذا عمرو بن ود، البطل الصنديد الذي تخافه الأبطال، مُجندلاً على الثرى، وهذا عليّ بن أبي طالب، رضي الله عنه، بطل الإسلام وبطل دعوة الحق يقف فَوْقَ رأسه، وذو الفقار ما زال مشرعاً في يده، وهو يُنشِد الشعر مفاخراً بنصر الله سبحانه، مشيراً إلى عدو الله عمرو بن ود الذي ألقاه صريعاً وهو يقول:
نصرَ الحجارةَ من سفاهة رأيه ونصرتُ ربّ محمدٍ بصوابي
فضــربته وتـــــركتــــه متــجنـــــدلاً كالجـــــذع بين دكادك وروابــي
وعففـــت عن أثوابه ولو انني كنـــت المقصِّر بزّنـــي أثوابــــي
لا تحســـبُنَّ الله خــــاذلَ دينــــه ونبيِّــــه يــــا معشـــرَ الأحــــــــزاب
وكان أصحاب عمرو الذين عبروا معه الخندق ينتظرون نهاية المبارزة بين الرجلين، وفي ظنهم أنه سيأتي دورهم للقتال بعد أن يكون عمرو قد فرغ من قتل عليّ، فإذا بهم يرون صاحبهم يهوي مجندلاً بدمائه، فيلوون أعنَّة خيولهم في محاولة لاجتياز الخندق لائذين بالفرار، إلاّ نوفل بن عبدالعِزّى قصّر به فرسه فسقط في الخندق. وكان ذلك النفر من المؤمنين الذين جاؤوا على أثر التكبير قد لحقوا بالفارين، فراحوا يقذفون نوفلاً بالحجارة وهو في جوف الخندق، فيصرخ من تحت: «يا معشر المسلمين ألا قِتْلةٌ أكرمُ من هذه»؟ عندها نزل إليه الزبير بن العوام وقتله بسيفه.
انتهت تلك المبارزة وعادَ عليّ (عليه السلام) ليستقبله المؤمنون بهتافات النصر والابتهاج، ويتقدم من رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، فيأخذه بين ساعديه، ثم يقول له: «أبشر يا عليّ، فلو وزن اليوم عملُكَ بعَمَلِ أمّةِ محمد لرجح عملك بعملهم». وتقدم الصحابة من عليّ يهنئونه، وفي طليعتهم أقرب الصحابة أبو بكر وعمر بن الخطاب (رضوان الله عليهم جميعاً) اللذان قبّلاه في رأسه، وشكر الجميع له همته العالية التي أذهبت عنهم كيد مُشرِكٍ عاتٍ، أجفل القلوب، وأوهن النفوس..
وفيما كان المؤمنون يلتّفون حول عليّ (عليه السلام) مسرورين مغتبطين بضربته البِكْرِ التي أطارت أَلْبَابَ الكفار والمشركين هلعاً، جاءهم رسولٌ من المشركين يطلب أخذ القتيلين: عمرو بن ود، ونوفل بن عبدالعِزّى، على أن يدفع عشرة آلاف درهم مقابل كل منهما. فقال رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم: «ليأخذوهما، فهما لهم، ونحن لا نأكل ثمن الموتى»..
وروي أنه لما نُعيَ عمرو بن ود إلى أخته، واسمها عمرة وكنيتها أم كلثوم، قالت: من ذا الذي اجترأ عليه؟.
قالوا: عليّ بن أبي طالب..
قالت: إذن لم يعد قَتْلُه نكداً عليَّ وحرقةً في قلبي، لأرقأتْ دمعتي إن هرقتها عليه ، قتل الأبطال، وبارز الأقران، وكانت ميتته على يد كُفءٍ كريم من قومه، ما سمعت بأفخر من هذا يا بني عامر: ثم أنشأت تقول:
لو كان قاتلُ عمرٍو غير قاتله لكنت أبكـــي عليــــه طيلة الأبد
لكن قاتل عمرو لا يُعابُ بـــه قد كان يُدعى أبوه بيضة البلد
يـــا أم كلثوم إبكيه ولا تدعــــي بكـــاء مُعْــــولةٍ حــــرَّى علــى ولد
وكان أثناء اقتحام جمع الصحابة لمكان المبارزة وقتل نوف بالحجارة، أن رمى المشركون أولئك الصحابة بالنبال فأصاب سهمٌ لحيان بن قيس بن العَرِقَة سعد بن معاذ الصحابي الجليل في الأكحل (وهو عرق في اليد ويقال له عرق الحياة) فقطعه وهو يصرخ من بعيد: خذها مني وأنا ابن العرقة..
ويسقط سعد على الأرض وهو يردُّ على ذلك اللعين بقوله: «عرَّق الله وجهكَ في النار».. فحمله إخوانه وأخذوه إلى خيمة نصبت للجرحى.. فلمّا هدأ الاحتفاء بفوز عليّ (رضي الله عنه) ذلك الفوز العظيم، أمر رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، أن يعود كلٌّ إلى مكانه، ليظلَّ على أهبةِ الاستعداد، حذر غدر العدو بهم، ثم ذهب يعودُ سعداً ليطمئنَّ على حاله، فأقبل عليه يواسيه، ويخفف من آلامه بكلامه اللطيف المعهود، وبحنانه الودود المألوف وهو يرجو له رحمة الله ورضوانه.. ثم لا يلبث الرسول الكريم، صلى الله عليه وآله وسلم، طويلاً عند سعدٍ، بل يعود سريعاً إلى خيمته ليظلَّ مشرفاً على سير الأمور، واقفاً على تحرك المشركين..
وإذا كانت عيادةُ الرسول، صلى الله عليه وآله وسلم، لسعد قد خففت كثيراً من آلامه، فإنَّ فِكْرَ سعدٍ كان مع المؤمنين، يرجو الله سبحانه أن يكتب لهم النصر، وأن يبقيه على قيد الحياة حتى يجاهد قريشاً وحلفاءها، وقد رفع يديه إلى السماء داعياً: «اللَّهم إن كنتَ أبقيتَ من حربِ قريشٍ شيئاً فأبقني لها، فإنه لا قوم أحبّ إليَّ أجاهدهم فيك من قومٍ آذوا رسولك وكذّبوه وقاتلوه، وإن كنت يا رب وضعت الحرب بيننا وبينهم فاجعله لي شهادةً ولا تمتني حتى تقرَّ عيني من بني قريظة»..
ألا ما أروع هذا الموقف من الصحابي الجليل!.
إنه سعد بن معاذ، سيّد الأوس، ولكنه لا يطلب من ربه زعامةً ولا سيادةً، ولا يحفِل بأي شأن من شؤون الدنيا، بل قلبه ووجدانه ومداركة كافةً مع هذا الرسول الصادق الذي ما زالت العرب، وفي طليعتها قريش، تعمل جاهدةً للقضاء عليه وعلى دينه، ومع هؤلاء المؤمنين الصابرين الذين نذروا أنفسهم فداءً لهذا الدين ولرسوله..
إنه لا ينتابه شعور بالقلق على مصيره من جرّاء هذا الجرح الذي أصابه، بل رجاؤه كله هو أن يبقى على قيد الحياة حتى يجاهد القومَ المشركينَ الذين آذوا الرسول، صلى الله عليه وآله وسلم، وأن يقتصّ من الماكرين الذين نقضوا العهد، وخانوا الوفاء...
ويسمو سعد بروحانيته، ويُخلِص في إيمانه، فيرجو ربَّه أن يجعل جُرحه سبيلاً للشهادة إن لم تَعُد من حروبٍ بين الكافرين والمؤمنين.
فهل أخلصَ من سعد في حرصه على نصرة الإسلام وعلو شأنه وسلطانه بين الناس؟..
هنيئاً لك يا أخا الإيمان فيما ترجو وتحب، وعسى أن يحقق الله أمانيك السامية...
ولنترك سعداً في خيمته قائماً على صلواته ودعواته، ونعود إلى الجموع المحتشدة من هنا ومن هناك.. فقد رأت الأحزابُ ما حلَّ بأشدّ أبطالهم وأكثرهم قوة عندما أرادوا أن يتحدّوا المؤمنين، فهل كانت لهم عبرة في ذلك؟.
لا!.. لم يتّعظِ المشركون، بل زادَ لجاجهم في طلب الثأر، واشتدت النقمة في قلوبهم وهم في ذلك يعتمدون على كثرة عددهم ويعوّلون على قيام بني قريظة بما يوهِنُ قوة المسلمين التي بدت شديدة متماسكة، وبالفعل كانت جماعة اليهود تلك قد أوشكت على إكمال استعداداتها، وقارب وقت إعلانها الحرب من داخل المدينة، فراح بعض أفرادها يعملون على إثارة حفيظة المسلمين بإخافة نسائهم وأطفالهم، والتحرش بشيوخهم الطاعنين في السن، وبما يجعل هذه الفئات الضعيفة تستصرخ الذَبَّ عنها، فيأتي جمعٌ من المقاتلين لحمايتها وبذلك تتوزع قوى المسلمين وتضعف مقاومتهم...
تلك هي الخطة التي اعتمدها بنو قريظة للبدء في العدوان، ولكنَّهم ما دروا أن في المسلمين نساءً بلغت الشجاعة في قلوبهنّ ما يفوق شجاعة الرجال، وعَلتِ الهمة في نفوسهن بما يجعلهنّ قادرات على القتال.
فمن النساء كانت صفية بنت عبدالمطلب، عمة رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، وأخت حمزة، سيّد الشهداء.. فقد أقامت في حصنٍ مع حسان بن ثابت، ترعى النساء والذراري، وتخدم الشيوخ والعجزة من غير أن تتوانى عن المراقبة ورصد تحركات بني قريظة. فبينما هي مرةً وراء النافذة تحاذر غدر بني قريظة، إذا بها ترى رجلاً منهم يطوف حول الحصن، في محاولة تَعَدٍّ على النسوة، فتنادي حسان بن ثابت أن ينزل إليه ويقتله حتى يخلصوا من شره وهي تقول له: «عجِّلْ يا حسان وانزل إليه، فليس بيننا رجال ذوو قوة غيرك، فرسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، والمؤمنون في نُحور عدوهم ولا يستطيعون أن يصرفوا عنا إن حاقَ بنا غدرٌ، وإني والله ما آمنُ أن يدل هذا اليهودي على عورتنا لمن وراءنا من قومه.. فهيا إليه وعاجله بضربة تذهب به إلى الجحيم».. ولم يكن حسان بن ثابت محارباً، بل هو شاعرٌ يكره كل ما هو قتال أو حرب، ليس في طبعه حَمْل سلاح أو إهراق دم، ولذا فقد آثر البقاء في الحصن، ولم يخرج للمشاركة في المعارك..
ويحاول حسان أن يستمد من قول السيدة صفية قوة تعينه على النزول وقتل الرجل، إلاّ أنه فشل في ذلك فيعتذر إليها قائلاً: «يغفر الله لك يا ابنة عبدالمطلب، فوالله لقد عرفوا ما أنا بصاحب هذا».. فانفلتت بنت عبدالمطلب من وراء النافذة، تشد على وسطها، ثم تأخذ بيديها عموداً ضخماً، وتسرع في النزول من الحصن، ترقب اليهودي في طوافه، حتى إذا قاربته، اندفعت إليه بعمودها تهوي به على رأسه فتفلِقُه وتَذَرُه يتخبط بدمائه مقتولاً.
ثم تسارع السيدة صفية في العودة إلى الحصن، وتأتي حسان بن ثابت قائلة له:
«انزل إليه يا حسان واسلبه، فوالله لم يمنعني من ذلك إلاَّ أنه رجل».
فيقول حسان، بلهجة هادئة:
«ما لي بسلبه من حاجة يا ابنة عبدالمطلب».
فتركته السيدة صفية وشأنه، وهي لا تلومه في شيء، لأنها تعرف طباعه وخصاله..
وفي هذا الوقت الذي كان فيه بنو قريظة، يحاولون إثارة المسلمين، كان رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، قد وضع الخطة التي تقضي على كل عمل يمكن أن يُقدِموا عليه، فألف كتيبتين الأولى بقيادة زيد بن حارثة وعددها ثلاثمائة، ثم أمرهم بالذهاب والتوزّع حول المنازل حماية للنساء والذراري من بني قريظة، الذين بات خطرهم لا يقل عن خطر قريش وغطفان...
ورأى بنو قريظة أن الأمر أصبح أصعب وأدقّ بالنسبة إليهم، فبعثوا إلى الأحزاب أن يقوموا بعمل يتيح لهم فرصة التحرك، ثم يباشرون بالهجوم جميعهم.. فعمدت الأحزاب إلى تأليف كتائب عديدة، توزعت حول المدينة من جميع الجهات والجوانب، واستعدت خلف الحصون والخندق، في تظاهرة تنذر بالشر المستطير. ورأى المسلمون ما يقوم به الأعداء، فإذا بالأمر يختلط عليهم!.. ولم يعودوا يدركون أين يركزون جهودهم ولا أين يجب أن تكون مقاومتهم، ولا من أية ناحية سوف يكون دخول الأعداء إلى المدينة.. لقد عادَ الظرف شديداً على المسلمين حقاً، وعادَ الخوف يسيطر عليهم من جديد، حتى أوشكَ إن يتحول إلى يأسٍ وقنوط..
ويرى رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، ما يعصف بنفوس المسلمين، فيلجأ إلى ربه مستجيراً، داعياً مُنيباً، وهو يقول: «اللَّهم إني أنشدك عهدك ووعندك، اللَّهم ادفع عنا شرّهم، وانصرنا عليهم، لا يغلبهم غيرك».
إنه دعاء رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، ودعاء نبيّ الإسلام محمد بن عبدالله.. وهو الدعاء الذي يحمل في طياته الإيمان الخالص بعهد الله سبحانه بنصر المؤمنين بقدرته وغلبته، ولا غالب غيره. «إن ينصركُمُ الله فلا غالِبَ لكم». وهو الدعاء الذي يؤمن الاتصال بين الأرض والسماء، فلا أحد فيهما، ولا أحد بينهما، يعرف مكنون هذا الدعاء إلاّ من يصدر عنه..
وقد جاء المسلمون إلى رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، يشكون سوء الحال، ونفاد الصبر، فإذا بالرسول الأعظم يدعوهم إلى شيء واحد، ولكنه الشيء الذي يحفل بكل الأمور والأشياء، فيقول لهم: «ادعوا الله قائلين: اللهم استُرْ عوراتنا وآمن روعاتنا».
وتنتصب وجوه المؤمنين نحو السماء، فتلهج الألسن بالدعاء، وتعمر القلوبُ بالإيمان.. فتختل الموازين في العوالم، وأهلوها ينصتون إلى هؤلاء المؤمنين من أهل الأرض، فيتساءلون مستغربين: «إلى هذا الحد بلغ الباطل من القوة والشدّة، حتى استطار شرّه مستعراً على الحق؟!.. ما هذا الذي يخالف كل منطق ومعقول»؟!.. ولكنَّ سكان العوالم لا يلبثون أن يعودوا مستدركين: «ولكنْ أياً كانت الأمور فالنتائج بديهية ومعروفة: قد يكون للباطل جولات وصولات، ولكنَّ جولة الحق واحدة، وفيها دائماً النصرُ الأخير».
ولكن إذا كان للإيمان فعله، وللدعاء فعله، فإنَّ للعمل أيضاً أثره وأهميته.. ففي هذه الأثناء التي كان يبدو فيها الضعف في صفوف المسلمين قد أخذ مداه، كان الرسول الأعظم قد تدبّر الخطة التي ينفذ منها إلى وحدة الأعراب، ليفكك أوصالها، ويوهن تماسكها، فيبعث إلى قادة غطفان ومن معها من قبائل نجد، يطلب مصالحتهم على أن يأخذوا ثلث ثمار المدينة ويجتمع مبعوث النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالحارث بن عوف، وعيينة بن حصن، وهما الأرفع مكانةً في تلك القبائل ويعرض عليها مطلب المصالحة، فيتشاور هذان الرجلان في الأمر، ويتساءلان: ما الفائدة التي تجني أقوامهما إن قاتلوا محمداً وأصحابه وهزموهم، ثم عادت قريش إلى مكة صاحبة السيادة في العرب، وعادَ اليهود إلى ديارهم في المدينة ينعمون بخيراتها، ولا يصيبون هم شيئاً لا من هذا ولا من ذاك؟.. فلِمَ لا يوافقون على طلب محمد، وفيه ربحٌ لهم لم يكونوا يتوقعونه؟!..
وهكذا اقتنع زعماء غطفان وقبائل نجد بالتصالح مع محمد، صلى الله عليه وآله وسلم، ولكنهم أرادوا أن يكون بينهم وبينه ميثاق، فكتبوه وبعثوه إليه ليوقّعه. وما إن وصل الكتاب حتى بعث الرسول، صلى الله عليه وآله وسلم، بطلب سعد بن عبادة وبطلب سعد بن معاذ رغم جرحه، يستشيرهما في أمر الكتاب، لأنهما صاحبا الحق، قبل غيرهما في الموافقة أو الرفض، ما دامت لهما زعامة الناس في المدينة، والأمر يتعلق بثمارها وخيراتها..
وجاء سيدا الأوس والخزرج، فعرض عليهما رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، أمر الكتاب، فقالا له:
«أمراً تحبه يا رسول الله فتصنعه أم شيئاً أمرك به الله»؟
قال النبي، صلى الله عليه وآله وسلم: «بل شيء أصنعه لكم، وإني ما أصنع ذلك إلاّ لأنني رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحدة، وكالبوكم من كل جانب، فأردت أن أكسر عنكم شوكتهم إلى أمر ما...».
وفكّر الصحابيان بما قاله رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، وتوقفا عند كلمة «أمر ما».
فما هذا الأمر الذي يريده رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم؟!...
إنه أمر الرسول وهو حق، وإنه إن لم يُبْدِه لهما فهذا من شأنه وهو قادر على معرفة ما يريد وما يقرر، ولكنَّ الأمر الذي يشاورهما فيه، يتعلق بالدين، ويتعلق بكرامة المؤمنين، وعليهما اتخاذ الموقف الذي يمليه عليهما الحق والواجب..
وبعد تفكير وتأنٍ، قال سعد بن معاذ: «يا رسول الله! قد كنا نحن وهؤلاء على الشرك بالله وعبادة الأوثان لا نعبده ولا نحفل بأمور دينه وهم لا يطمعون أن يأكلوا منا ثمرة واحدة إلاّ قِرىً أو بيعاً، فحين أكرمنا الله تعالى بالإسلام وهدانا إليه، وأعزّنا به وبك نعطيهم أموالنا؟ والله ما لنا بهذا من حاجة. والله ما نعطيهم إلاّ حدَّ هذا السيف حتى يحكم الله بيننا وبينهم»..
والتفت رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، إلى سعد بن عبادة يسأله رأيه فقال:
«والله ما قال أخي سعد إلاّ حقاً يا رسول الله».
هذا هو الحق الساطع، ينضح من قلوب وألسنة المؤمنين الصادقين.
الأمر يتأرجح بين حدين:
إما عيش مع الذل والهوان أو موتٌ مع العزة والكرامة..
والسّعدانِ، وهما مسلمان، لا يبغيان طبعاً إلاّ العزة والكرامة..
نعم لأنهما مسلمان يستهينان بالموت، إذ ليس في طبع المسلم محلٌ للذل، ولا في نفسه مكانٌ للهوان..
وسُرَّ رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، من السعدين، وما أبدياه من حرص على نصرة الدين وعزة المؤمنين، فأعطاهما الكتاب قائلاً: أنتما وذاك..
فتناوله سعد بن معاذ، ومحا ما فيه من كتابة.. ثم قاما يريدان الانصراف، إلاّ أنّ سعداً توقف وقد بدا أنَّ أمراً يشغل باله، فسأله رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، عما به، فقال سعد:
هل تأذن يا رسول الله في سؤال يحيرني؟.
وأذن له الرسول الكريم، فقال سعد بن معاذ:
«وما ذاك الأمر يا رسول الله الذي عزمت عليه في نفسك».
وانشرحت أسارير الرسول، صلى الله عليه وآله وسلم، وقال لسعد: «بارك الله فيك وبالمؤمنين يا سعد»... ثم أبان له ولصاحبه، بأنه أراد أن يطمئن على أن في المسلمين من يقدر على اتخاذ القرار الصواب، مؤثراً الدين على كل المصالح والأهواء، حتى يكون أمثال هؤلاء المسلمين من بعده ذخراً لأمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم في مسيرتها بطريق الحق...
واطمأنَّ رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، على أن المؤمنين، ورغم كل الظروف الحرجة التي تواجههم، ورغم كل العذاب والقهر الذي يحيط بهم، ما زالوا صابرين، معاهدين الله، صادقين فيما عاهدوا عليه.. وبما أن الله سبحانه، يَكْلأُ المؤمنين بعين الرعاية، والعطف، ويصفهم دائماً بالصادقين.. فها هي العناية الربّانية تتدخل حقّاً لتحوّل مجرى الأحداث إلى نحو لم يكن لأحد من الناس أن يدركه، وتجعله يتطور في صالح المسلمين بما لم يكن لأحد أن يتوقعه.. ففي غفلةٍ من الأحزاب، وفي سُباتٍ من إدراكها، يدلف إلى داخل المدينة أحد رجال غطفان، نعيم بن مسعود الأشجعي، ويقصد رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، مبدياً ما عنده، بقوله: «يا رسول الله، إن الله سبحانه قد شرح صدري للإسلام وأنا أشهد أنَّ لا إله إلاَّ الله وأنَّ محمداً رسولُ الله. ولم يعلم أحد من قومي بإسلامي. وإني والله رأيت شدة القوم على أبناء ديني فما طاوعتني نفسي أن أبقى ساكناً، فعزمت أن أرى رسول الله علّني أكون ذا نفعٍ في هذا الظرف. فمُرني يا رسول الله بما شئت».
وفرح رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، بقدوم هذا المؤمن إليه، وأيقن أنَّ الله سبحانه قد بعثه له، فقال:
«يا نعيم إنما أنت فينا رجل واحد فخذّلْ عنا ما استطعت فإنَّ الحرب خدعة».
ويخرج نعيم بن مسعود، فَرِحاً بما أوكل إليه النبيّ، صلى الله عليه وآله وسلم، من مهمة قد يكون فيها ما يخفف عن إخوانه المسلمين شدة الكَرْب، أو ما يوهن حدة الحصار عليهم.
ويذهب نعيم من توه إلى بني قريظة، مستغلاً فرصة وجوده داخل المدينة، فيستقبله اليهود بالترحاب ــــ لأنه كان ينادمهم في الجاهلية ــــ ويسألونه عما جاء به إليهم، فيقول لهم:
«يا بني قريظة! قد عرفتم ودّي لكم»!..
أجابوه: «قُلْ، فلست عندنا بمُتّهم»..
قال نعيم: «إن قريشاً وغطفان ــــ بني قومي ــــ ليسوا كأنتم.. البلد بلدكم، وفيه أبناؤكم ونساؤكم وأموالكم، وإن أولئك الجموع قد جاؤوا لحرب محمد، صلى الله عليه وآله وسلم، وأصحابه وتركوا أبناءهم ونساءهم وأموالهم في بلدهم آمنين، فإن قُدِّر لهم أن يصيبوا محمداً وأصحابه فذاك ما يريدون، وإن عجزوا رجعوا إلى بلادهم وخلّوا بينكم وبينه، ولا طاقة لكم به إن خلا بكم...».
وسكت نعيم، وراح ينظر إلى وجوه القوم، ليرى أثر قوله عليهم. فلما استبطأوه بالحديث، راحوا يلحّون عليه بالمتابعة، فعاد يقول لهم: «أرى ألاّ تقاتلوا مع القوم إلاّ أن تأخذوا منهم رُهُناً من أشرافهم ويكونوا بأيديكم وعندها يضطرون أن لا يتخلوا عنكم ويرجعوا إلى بلادهم».
وتطّلع بنو قريظة بعضُهم إلى بعض، ومِلْءُ نظراتهم التلاوم على عدم التنبّه لهذا الأمر، واتخاذ الحيطة من قريش، فقالوا: «إنّ ما قاله نعيم لصواب، فما بال قريش إن رحلت ودخلنا مع محمد وحدنا».
وقام نعيم يريد الخروج، فتمسكوا به للبقاء عندهم، إلاّ أنه أقنعهم بضرورة الذهاب عنهم، حتى لا يكشف أمره، وأنه يريد اللحاق ببني قومه من غطفان حتى لا يفتقدوا غيابه، فتركهم وقصد أحد المنافذ خارجاً من المدينة، حتى أتى قريشاً ودخل إلى خيمة أبي سفيان وهو في جَمْعٍ من بني قومه، فجلس يستمع لأحاديثهم حول هذا الغزو وما يرافقه من أحداث ما لأحدٍ منهم أن يتوقعها، وكانوا يلومون في ذلك بني النضير الذين أوقعوهم في هذا المأزق الذي لا يجدون سبيلاً للخلاص منه. وهنا وجد نعيمٌ السبيل لينفذ منه إلى مآربه في تخذيل القوم، فقال لهم: «يا معشر قريش! قد عرفتم ودي معكم وفراقي محمداً، وقد بلغني أمرٌ أرى عليَّ أن أُبلغْكُمُوه نُصحاً لكم، فاكتموا عليَّ»..
قالوا: «نفعل».
قال: «أتعلمون يا قوم أن معشر يهود قد ندموا على خذلانهم محمداً»؟!..
وكأنما لم يصدقوا ما يقول الرجل، فطلبوا إليه أن يعجل في الكلام، فقال:
«بلى يا معشر قريش فصدّقوا، وقد أرسلوا إليه: إنّا قد ندمنا على ما فعلنا فهل يرضيك أن نأخذ من قريش وغطفان رجالاً، نسَلِّمُهُم إليك تضرب أعناقهم، ثم نكون معك على من بقي حتى نستأصلهم؟!..
قالت قريش: «ويحَ بني يهود، أهل الغدر والنفاق، لقد فعلوها وما كنا عالمين»!..
قال نعيم: «أنا نديم لكم يا معشر قريش، وقد وعدتموني أن تكتموا عليَّ».
قالوا: «اطمئن لن نفشي سرك لأحد، ولكن ماذا يرى قومك، بنو غطفان، في هذا الأمر»؟
قال: سأذهب وأبلغهم بالأمر حتى ينظروا في أمر بني قريظة».
وقام نعيم ليذهب إلى بني غطفان، فيومىء إليهم بمثل ما أومأ لقريش من غدر بني قريظة وعودتهم إلى جانب محمد.. وما زال بهم حتى جعلهم يثورون ويذهبون إلى قريش يتشاورون معها في ما يفعلون..
وفي مساء تلك الليلة، وكانت ليلة سبت، بعثت قريش وغطفان بعض رجالهما مع عكرمة بن أبي جهل، إلى بني قريظة ليسألوهم الإقدام على قتال محمد ومن معه، وبذلك يتبيَّنون صدق نيّاتهم أو كذبهم..
ودخل عكرمة ومن معه حصن بني قريظة، واجتمعوا معهم في دار كعب بن أسد، قائلين:
«يا معشر الحلفاء، إنا لسنا بدار مَقام، قد هلك الخُفُّ والحافِر (الإِبل والخيل). وقد واعدتمونا أن تقاتلوا محمداً وأصحابه في بضعة أيام، وقد انقضت المدة، فأرسلنا قومنا كي تُعدّوا أنفسكم صبيحة الغداة فنناجز محمداً ونقضي عليه».
فقال بنو قريظة: «إن غداً السبت، وهو يوم لا نعمل فيه شيئاً. وقد علمتم ما نال من تعدّى منّا في السبت وأحدث فيه فأصابه ما لم يَخْفَ عليكم. ولكن إن أردتم أن نقاتل معكم، فإنّا غير فاعلين حتى تعطونا رهائن من رجالكم يكونون بأيدينا ثقة لنا، فإنا نخشى إن ضرّستكم الحرب واشتدَّ عليكم القتال أن تشمِّروا إلى بلادكم، وتتركونا والرجل في بلدنا، ولا طاقة لنا بذلك عليه».
وأدرك رسلُ قريش أن غدر بني قريظة قد اتضح، فقالوا: «لا نعطيكم رهناً أبداً، فاخرجوا معنا إن شئتم وإلا فلا عهد بيننا وبينكم».
ورفض بنو قريظة، فخرج عنهم الرسلُ، فقالوا لبعضهم: «صدقنا والله نعيم بن مسعود».
ولما أتى ورفاقه القوم قالوا لهم: «إنَّ بني قريظة قد خانوا عهدهم وانضموا إلى محمد نادمين».
فقالت قريش وغطفان: «صدقنا ــــ والله ــــ نعيم بن مسعود».
وهكذا استطاع نعيمٌ، هذا المسلم الذكي، البارع في أسلوبه، الجريء في إقدامه، أن يقوم بمهمة من أدقّ المهمات وأصعبها، وأن يلعب أكبر دور في إيقاع الخلاف بين المشركين، وتفريق وحدتهم، في سبيل نصرة وإعانة إخوانه في هذا الدين..
لقد أمكن أن يخذّل المشركين حقاً، ولكن لو لم تكن القدرة الإلهية لتريد مثل هذا التخذيل لما حصل، ولكان انكشف أمره.. ولكن إرادة الله هي الغالبة، وإنه سبحانه يرقب مجرى الأحداث، وقد شاء أن يُذهب كيد المعتدين، وأن يخفف البلاء عن المؤمنين، فأرسل نعيماً، الرجل الغطفاني الذي لم يرهُ رسول الله من قبل، حتى يقوم بتلك المهمة الدقيقة التي أرادها، وينفّذ الخطة الحكيمة التي رسمها، لتكون السبيل إلى انعدام الثقة بين الأحزاب، فتضطرب نفوسهم، وتتشنّج أعصابهم، فلا يعودون قادرين على إنزال الضرر بالمسلمين..
وبلغ رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، ما قام به نعيمٌ، وما آل إليه مصير الأحزاب من تفككٍ وتخاذل، فشكر الله سبحانه على فضله، ودعاه تعالى مستعجلاً النصر قائلاً: «اللَّهم مُنزِّل الكتاب، سريع الحساب، اهزم الأحزاب، اللَّهم اهزمهم وزَلْزِلْهم وانصُرنا عليهم».
والدعاء في الأصل عبادة، غايته استدرار الرحمة والعطف من الخالق، وتحقيق الأماني الخيّرة الصادقة.. وأية عبادة أطهر وأنقى وأخلص من عبادة رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم!.. إنه يدرك بأنَّ الله سبحانه ناصِرُ دينه، مبدِّد قوى عدوه، وإنه ليعمد إلى الدعاء توكيداً لعبادته، وخضوعاً لإرادته وحكمته.
وإذا كان دعاءُ الرسول الأعظم على مثل ذلك الطُّهر والإخلاص فإنَّ ما من أحد في العالم أحق بالاستجابة له ــــ إن يشأ الله تعالى ويُرِدْ ــــ من هذا الرسول الأمين الصادق.
وهذه إرادة الله السنيّة تحلُّ، فتأتي على الأحزاب ريحٌ صَرْصَرٌ عاتية، في ليلة ظلامها داجٍ، ومطرها وابلٌ، تعصف بهم عصفاً شديداً، وتزلزل بهم الأرض زلزالاً كبيراً، وهي تُكفِىءُ قدورَهم، وتقتلع خيامهم وتطرح أوانيهم، وتطفىء نيرانهم، حتى وكأنها تقوّض أركان وجودهم..
ويدبُّ الهيجان في صفوف الأحزاب، فيزيدهم رعباً في القلوب، ووهناً في النفوس.. فيحاولون أن يدرأوا عنهم أخطار الطبيعة، ولكن لا يجدون سبيلاً لذلك.. إنها قوى عاتية تهبّ عليهم، فتَذَرْهُم على طريق البلاء يتخطبون، وفي خضم النكبة يقعون..
نعم!.. لا أدهى ولا أشدَّ ممّا هُم فيه إلاّ الموت الزؤام.. وها هم يجدون في هذه الرياح والأمطار والعواصف، شفرات سيوفٍ للموت تتسلّط على أعناقهم وتكاد تخطف منهم الأرواح، وتنتزع من أعماقهم النفوس.
وأمام هذه النكبة العاتية، لم يعد لهم أمل في النجاة إلاّ الهروب إلى حيث لا مَطرَ ولا عواصفَ ولا ظلامَ..
ويصرخ أبو سفيان في بني قومه: «يا معشر قريش!.. لينظر امرؤ مَنْ جليسُه، إنكم والله ما اجتمعتم بدار مقام. لقد هلك الكُراع والخُفّ. أخلفتنا بنو قريظة وبلغنا عنهم ما نكره، وقد لقينا من شدة الريح والمطر ما ترون، فارتحلوا، فإني راحل الساعة».
وولَّت قريش الأدبار لا تلوي على شيء، ونظرت غطفان وبقية الأحزاب إلى ما فعلت قريش، فقاموا وراءها يسرعون بالفرار، تاركين وراءهم كل متاع، لا يعبأون إلاّ بما يمكّنهم من اللحاق بديارهمْ ومضاربهم..
وكان المؤمنون في تلك الليلة ثابتين في مواقعهم، يتناهى إلى مسامعهم اللغط والضجيج، ولكنهم لا يعرفون سببه ولا غايته، وربما تراءى لهم أن الأعداء قد عمدوا إلى شن هجوم عليهم بعد طول انتظار، فبقوا على أهبة الاستعداد، لمواجهة الأحزاب في أعنف قتال وأَمَرِّ لقاء. ولكن ها هو الليل ينقضي والصباح يطلع، وما من هجوم أو اقتحام، بل الأمر على خلاف ذلك كله.. فها هي الرياح قد هدأت وهذه أنوار الشمس قد سطعت، وبات الجو صافياً رائقاً.. إنه صباح مشرق في كل شيء.. لا قرقعةَ سلاحٍ، ولا ضجيجَ كتائب في الخارج، بل هدوء يعمُّ الأرجاء، وسكون يخيم في الأجواء.. ويعتلي البعض منهم فوق الحصون، ينظرون إلى ما حولهم، فإذا معسكرات الأحزاب قد تزحزحت، وأمتعتهم قد تناثرت وخيامهم قد تبدّدت، ولا يظهر أحد من جموعهم التي كانت تملأ الفضاء والضواحي.
وأيقن المؤمنون في تلك الساعة أن الرياح قد زلزلت الأحزاب فشتتت جموعهم، وبددت قواهم، حتى جعلتهم ينهزمون بلا قتال ولا مواجهة، فتنادوا يلتفون حول رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، يستبشرون ببركاته فرحاً، وبنصر الله خيراً، وهم يتعانقون مبتهجين مسرورين، فيملأ الرسول، صلى الله عليه وآله وسلم، ناظريه منهم وهم على تلك الحالة فيقول لهم: «الآن نغزوهم ولا يغزوننا». ويدعوهم للدعاء لله شكراً وامتناناً فيهتف الرسول الأعظم، ويهتف وراءه المؤمنون: «لا إله إلاّ الله وحْدَه، صدقَ وعده، ونصرَ عَبْده، وأعزَّ جُنده، وهزم الأحزابَ وحده، لا شيء قبله ولا شيء بعده».
لقد تحقق النصر بقدرة الله تعالى، وكفى الله المؤمنين شر القتال، بقوله سبحانه:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً} .
وقوله تعالى:
{وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُواْ خَيْراً وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيّاً عَزِيزاً} .
نعم لقد جاءت الأحزاب غازيةً، تدّعي النصر والظفر، فإذا بها تصطدم بصمود المؤمنين، وتلبث في قرقعة سلاحها، ومظاهرها الخادعة، مدّةً لا تصل إلى شيء. وفي ليلة وضحاها، لا يبقى لها حَوْلٌ ولا طَوْلٌ، فتذهب مُدبِرةً، خاسرةً لا تبتغي إلاّ النجاة والخلاص..
لقد جاءت تلك الأحزاب وهي تريدها معركة دامية شديدة، فإذا هي معركة أقسى مما تصوّرت، ولكن ليس في الميدان، ولا في القتال المادي، بل في النفوس، وفي امتحان للأعصاب والعزائم، واختبار للقلوب والأفئدة.. لم يحصل كرٌّ ولا فرٌّ في تلك المعركة، ولا تطايرت هاماتٌ ولا ضُرِبتْ أعناق، بل كل ما حصل أن النفوس والقلوب هي التي كانت يترصّد بعضُها بعضاً، فأما التي توهجت بنور الإيمان والصبر والاحتساب فقد كانت هي الرابحة..
لقد كانت تلك المعركة صداماً بين قوى الضلال والباطل من جهة، وبين قوى الهداية والحق من جهة ثانية، فكان لا بد أن تنتهي إلى تلك النتيجة الحاسمة، لأن من هم جنود الله هم أولى بالنصر وأحق بالعزّة.. وما كانت إرادة الله العزيز القوي إلاّ لتردع الظالمين وتردهم على أعقابهم خاسرين، ومتى حلّت إرادة الله فلا رادَّ لها، وكفى بالله وليّاً ونصيراً..
* * *




المصادر
1 سورة النساء، الآيتان: 51، 52.
1 سورة النور، الآية: 63.
2 سورة النور، الآية: 62.
1 بلغ طول الخندق حوالي خمسة آلاف ذراع، وعمقه من سبعة إلى عشرة أذرع، والعرض من تسعة إلى ما فوقها.
1 رومة أرض بالمدينة فيها بئر رومة التي اشتراها عثمان بن عفان ثم تصدق بها.
2 ذنب نقمي: موضع قرب أُحُد كان لآل أبي طالب.
3 الجهام: السحاب.
1 سورة الأحزاب، الآية: 10.
1 سورة الأحزاب، الآيات: 12 ــ 16.
1 يعني أنها آلت على نفسها أن تحبس دمعتها عليه كلَّما هاجت بها ذكرى قتله، لأن قاتله كفءٌ كريم.
1 سورة الأحزاب، الآية: 9.
2 سورة الأحزاب، الآية: 25.
مقدمة الكتاب
القسمُ الأوّل
القِسم الثاني
القِسم الثالِث
القسم الرابع
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢