نبذة عن حياة الكاتب
المسلمون من هم

عمر بن عبد العزيز
لَقَدْ أرَدْنا أنْ نأتيَ على ذكر الخليفةِ عمرَ بنِ عبدِ العزيز رَضِي الله عَنْهُ لأمورٍ ثلاثةٍ:
أولًا: إنَّ عُمَر بْنَ عبدِ العزيز رضي الله عَنُهُ أتى بَعْدَ ظُلْمَةِ النّزاعِ الذي حَصَلَ بينَ المسلمينَ فأشرَقَ بقولِه وفعلِهِ في قُلُوبهم نورُ المحبَّةِ والأُلْفَةِ. وأعادَ إلى أذهانهِم قولَ وفعلَ الرسول الكريمِ وخصوصًا السيرةَ الطيِّبَةَ التي كانَ يحيا عليها الخُلفاءُ الراشدونَ، ومِنْها المودَّةُ الصّادِقَةُ التي كانت بَيْنَهُمْ وبينَ أهل بيتِ رسولِ الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بحيثُ أعادَ إليهم ما استطَاع مِنْ حقوقهم التي فقدوها.
ثانيًا: أزالَ الحواجزَ الماديَّةَ والمعنويَّةَ بينه وبينَ المسلمين بعدما أَيقَنَ المسلمون أن بني أميّة اتخذوا لهم حقوقًا وامتيازات لا يحقّ لأحد من المسلمين أَنَّ ينازعهم فيها أو أنْ يَرْقى لَها، أو يطمح إليها، ما دامت مخصَّةً لَهُمْ دونَ سواهُمْ. وعلى رأسِ هذه الامتيازاتِ كانَتِ الخلافة. فأزالَ عُمَرُ بنُ عبدِ العزيز جميعَ الفوارقِ التي كانَتْ بينَ بني أميَّةَ وحاشيتِهم مِنْ جهةٍ، وبينَ المسلمينَ مِنْ جهةٍ أُخرى، وَعندما أحسّ بعضُ بني أميَّةَ أَنَّ الأمرَ سَيُفْلِتُ مِنْ أيديهمْ في حال استمرارِ عمرَ بنِ عبدِ العزيزِ في الحكمِ، ذكرتْ كتبُ التاريخِ أنَّ بعضهم كادَ له وقَتَلَهُ بواسطةِ السُّمِّ، فماتَ مسمومًا.
ثالثًا: إنَّ الكثيرَ مِن النّاسِ يقيس الأمورَ جَمِيعَها قياسًا شُمُوليًّا.
والقياسُ الشُّموليُّ يُوقِعُ الإِنسانَ في أخطاءَ جسيمةٍ إن استمرَّ المرء فيها استحالت عليهِ بعدَها العودةُ إلى جادَّةِ الصّوابِ، لأنّ تكرارَ القياسِ الشُّموليِّ يُوجِدُ عندَهُ قاعدةً فكريَّةً يقيسُ عليها جميعَ الأفكارِ التي تُعرضُ عليهِ، فمثلًا عِندَما يذكرُ يزيدَ بنَ معاويّة أو هشامَ بنَ عبدِ الملكِ يردِّدُ الذي يقيسُ القياسَ الشموليَّ من دونِ تفكُّرِ ولا رويَّةٍ اللعنةَ على بني أميَّةَ وينسى عمر بنَ عبدِ العزيز الذي عدّه بعض أئمةِ المسلمينَ خامسَ الخلفاءِ الرّاشدينَ، وينسى أنَّ مِنْ بني أميَّةَ من جاهدَ بالله حقَّ جهادِهِ وأنَّ مِنْهُمْ من اتّقاهُ حقَّ تقاتِهِ، وأذُكرُ على وجهِ الخصوصِ معاويّةَ بنَ يزيد بن معاويّةَ، حيث قالَ: عِنْدَمَا وليَ الخلافةَ بعدَ أبيهِ يزيدَ: «أمّا بعدَ حمدِ الله والثناءِ عليهِ أيها النّاسُ فإنّا بُلينا بكمْ وبليتُمْ بنا، فما نجهل كراهَتَكُمْ لنا وطعَنَكُمْ عَلَيْنَا. ألا وإنَّ جَدِّي معاويّةَ بنَ أبي سفيانَ نازَع الأمرَ مَنْ كانَ أولى بهِ مِنْهُ في القرابةِ برسولِ الله، وأحقّ في الإسلامِ، سابقَ المسلمينَ، وأَوَّلَ المؤمنين وابنَ عمِّ رسولِ الله، وأبا بقيةِ خاتمِ المرسلينَ، فَركبَ منكُمْ ما تعلَمُونَ، وركبتُمْ منهُ ما لا تُنْكُرونَ، حتى أَتَتْهُ مَنِيَّتُهُ وصارَ رَهْنًا بِعَمَلِهِ، ثُمَّ قَلَّدَ أَبي وكانَ غيرَ خليقٍ للخيرٍ، فركبَ هواهُ واستحسن خطأَهُ، وعظمَ رجاؤهُ فأَخلَفَهُ الأملُ، وقَصَّرَ عنهُ الأجلُ، فَقَلَّتْ منعتُهُ، وانقطعتْ مُدَّتُهُ وصارَ في حُفْرَتِهِ رهنًا بذنبهِ وأسيرًا بجرمه». ثم بكى وقال: «إِنَّ أَعْظَمَ الأمورِ عَلَيْنَا عِلْمُنا بسوءِ مَصْرَعِهِ وقبحِ مُنْقَلَبِهِ وَقَدْ قَتَلَ عِتْرَةَ الرَّسُولِ وأباحَ الحُرْمَةَ، وما أنا المتقلدُ أمورَكُمْ ولا المتحملُ تبعاتِكُمْ، فشأنكم أمركم، فوالله لئنْ كانَتِ الدُّنيا مغنمًا لقد نلْنا منها حظًّا وإن كانتْ شَرًّا فحسبُ آلِ سفيانَ ما أصابوا». أبعدَ هذا الموقفِ المشَرِّفِ من فتى لم يبلغ الثالثةَ والعشرين منَ العمر يجوزُ أن يُلْعَنَ ويقاسَ على أبيهِ يزيدَ قياسًا شموليًّا؟
كما أنَّهُ يجبُ على من يقيسُ القياسَ الشّموليَّ ألّا ينسى أن لا حقَّ لَهُ أنْ يُثِنيَ على قبيلةِ قريشٍ كلها وإن كان منها سيدنا محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وبعضُ الصّحابةِ الكرامِ لأنَّ منها أيضًا أبا لَهَبٍ وأبا جهل والقرآن الكريم يقولُ: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} [المسد: 1] أيْ خَسِئَتْ وخَسرَتْ وَهُوَ عَمّ مِنْ أعمامِ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) والرسولُ الكريمُ يقولُ: سلمانُ منّا أهلَ البيتِ وَهُوَ فارسيٍّ مِن بلادِ فارسَ. وهكذا فالقياس الشموليُّ غير جائز في الإِسلام أبدًا.
لهذه الأمورِ الثلاثةِ كانَ من الواجبِ أنْ نأتي على ذكر هذه الشَّخصيّةِ الإسلاميّةِ الفذّة التي دَخَلَت التاريخ من الباب العريضِ لجمعِ كلمةِ المسلمينَ وسجَّلَتْ صفحة ناصعة البياضِ في التاريخِ الإسلامي المجيد فإليكمْ نبذةً عنْ حياةِ هذهِ الشّخصيةِ الإسلاميّةِ الكريمة.


عمرُ بنُ عبد العزيز (رضي الله عَنْهُ)

هُوَ عُمَرُ بنْ عبدِ العزيزِ بنِ مروانَ بنِ الحكمِ بنِ أبي العاصِ بن أميّةَ بنِ عبد شمسِ بنِ عبدِ منافٍ القرشيّ الأمويّ، وأمُّهُ أمُ عاصم ليلى بنتُ عاصمِ بِنِ الخطّابِ رضي الله عَنْهُ. وهُوَ التابعيُّ الجليلِّ الّذِي رُويَ عن أَنسِ بنِ مالكٍ وعبدِ اللهِ بنِ أبي طالبٍ وسعيدِ بنِ المسيّبِ وغيرهم من الفقهاءِ الأبرارِ أنه وُلِدَ في حلوانَ المعروفة من قرى مصرَ عام 61 للهجرة. وَليَ الخلافةَ عام 99 للهجرة ودامَت مدّةُ خلافتهِ سنتينِ وخمسةَ أشهر وتوفي عام 101 هجرية، وكانَ قد أنجب منَ الأولادِ تسعة ذكورٍ وثلاثَ أناثٍ.
وقصة خلافتِهِ يرويها رجاءُ بنُ حَيْوَة، يقول:
كانَ عبدُ الملكِ قد عهدَ إلى الوليدِ وسليمانَ أن يَجْعلا أخاهُما يزيدَ بنَ عبدِ الملكِ وليَّ عهدٍ، لكنَّ سليمانَ عهدَ إلى عمرَ بنِ عبدِ العزيز وَمِنْ بَعْدِهِ إلى يزيدَ بنِ عبدِ الملكِ.
وكتبَ سليمانُ كتابًا قبلَ وفاتِهِ جاء فيه: بسمِ الله الرحمنِ الرّحيمِ، هذا كتابٌ مِنْ عبدِ اللهِ سليمانَ أميرِ المؤمنينَ لعمرَ بنِ عبدِ العزيز. إنّي قَدْ وَلَّيْتُكَ الخلافةَ بعدِي وَمِنْ بعدِكَ يزيد بن عبد الملكِ». ثم كتبَ يوصي المسلمين:
»فاسمَعُوا لَهُ وأَطِيعُوا واتَّقُوا الله ولا تختلِفوا فيطمعَ فيكمْ». وبعثَ سليمان كتابه هذا معي قائلًا لي: «اذهبْ بكتابي إلى بني أميّةَ وأخبرْهُمْ وَمُرْهُمْ فيبايعوا مَنْ وَلَّيْتُهُ عَلَيْهِمْ». ففعلت. فدخلوا على سليمانَ وبايعوا عمرَ بنَ عبدِ العزيز رجلًا رجلًا وتَفَرَّقُوا ولم يكن حاضرًا حينذاكَ عمرُ بنُ عبد العزيز... فأتاني عمرُ بنُ عبدِ العزيز فقالَ: أخشى أنْ يكونَ سليمانُ قدْ أسْنَدَ إليَّ شيئًا من هذا الأمر فأنْشِدُكَ اللهَ وَحُرْمَتي وَمَوَدَّتي إلا أَعْلَمْتَني إنْ كانَ ذلكَ حتى استعفِيَهُ قبلَ أنْ تأتي حالٌ لا أَقدِرُ فيها على ذلك... قلت له: ما أنا بمِخْبِركَ حرفًا. فذهبَ عمرُ مُغْضَبًا.
ويتابع رجاء روايته فيقول: ولقيني هشامُ بنُ عبدِ الملكِ فقالَ: إنَّ لي بكَ حرمةً ومودةً قديمةً وعندي شكرٌ لكَ فأعْلِمْني بهذا الأمْرِ فإنْ كانَ إلى غيري تكلمت وللهِ عليّ ألّا أذكرَ شيئًا مِنْ ذلكَ أبدًا. فأبيتُ أن أُخْبِرَهُ حرفًا. فانصرفَ هشامٌ. وَهُوَ يضربُ بإحدى يديهِ على الأخرى، ويقولُ: فإلى مَنْ إذًا نُحَّيَتْ عنّي؟ أتخرجُ من بني عبدِ الملكِ؟ وفي اليومِ الثّاني ماتَ سليمانُ بنُ عبدِ الملكِ فقرأتُ كتابَهُ أمامَ بني أميَّةَ، لما انتهيتُ إلى عمرَ بن عبدِ العزيز قالَ هشامٌ: لا نبايعُه واللهِ أبدًا قلتُ: اضربُ والله عُنُقَكَ قُمْ فبايعْ، فقامَ يجرُّ رجليهِ. وعندها تقدمت فأخذْتُ بيدِ عمرَ بنِ عبدِ العزيز فأَجلستُهُ على المنبر وهُوَ يقولُ: إنَّا للهِ وإنَّا إليه راجعونَ لما وقع فيه، ثُمَّ توجَّهَ إلى النّاسِ فحمدَ اللهَ وأثنى عليهِ وقالَ: أيها النّاسُ مَنْ صَحِبنَا فَلْيَصْحَبْنَا بخمسٍ وإلا فلا يقرَبْنا:
أولًا: يرفع لنا حاجةَ مَنْ لا يستطيعُ رفعها.
ثانيًا: أنْ يُعيننا على الخير بجهدِهِ.
ثالثًا: أَنْ يَدُلَّنا من الخيرِ على ما نهتدِي إليه.
رابعًا: أنْ لا يغتابنَّ أحدًَا.
خامسًا: أَنْ لا يعترض فيما لا يَعْنِيهِ.
وبعد هذا الخطابِ انقشعَ عنهُ الشُّعراءُ والندماءُ وَثَبَتَ عِنْدَهُ الفُقَهَاءُ وقالوا: ما يسعُنا أَن نفارقَ هذا الرَّجُلَ حتّى يخالفَ قولَهُ فِعْلُهُ».
وبعد أن ولي عمرُ بن عبد العزيز أحضرَ قريشًا ووجوهَ النّاسَ فقالَ لَهُمْ: إنَّ فَدَكَ كانتْ بيدِ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فكانَ يضعُها حيثُ أراه اللهُ، ثُمّ وليها أبو بكرٍ كذلكَ وعمر كذلك ثم أقطعها مروان ثُمَّ إنها صارت إليَّ ولم تكنْ مِنْ ما لي أعود منها عليَّ وإني أشهِدُكُمْ أني قَدْ رَدَدْتُها على ما كانت عليهِ في عهدِ رسولِ اللهِ على أهلِ بيتهِ.
وإنَّ فعلَهُ هذا قد جعل المرتزقة يغيبون مِن حوله وينقطعون عنه لأنهم يَئِسوا مِن الظُّلْمِ، ولقد قالَ لمولاه مزاحمٍ في أمر فدك: إنَّ أهلي أَقْطَعُوني ما لم يكنْ إليَّ أنْ آخُذَهُ ولا لَهُمْ أَنْ يُعْطونيهِ وإنّي هَمَمْتُ بِرَدِّهِ على أربابِهِ. فقالَ مزاحمٌ: فكيفَ تصنعُ بولدِكَ؟ فَجَرَتْ دموعُهُ وقالَ (أَكِلُهُمْ إلى اللهِ) وَهُمْ بينَ رَجُلَيْنِ إما صالحٌ فاللهُ يتولى الصّالحينَ وَإما غيرُ صالحٍ فما كنتُ لأُعِينَهُ على فسقِهِ.
ومن مآثره ما قاله لنسائِهِ: «قَدْ شُغِلْتُ بما في عُنُقِي مِنْ مبايعةِ المسلمينَ عَنق النّساءِ» وَخَيَّرَهُنَّ بينَ أَنْ يُقمْنَ عندَهُ أوْ يفارقْنَهُ فبكَيْنَ واخترْنَ المقامَ عندَهُ، والتفت إلى امرأتِهِ فاطمةَ بنتِ عبدِ الملكِ وقالَ: إنْ أردتِ صُحْبَتي فردّي ما مَعَكِ مِنْ مالٍ وَحُليِّ وجواهرَ إلى بيتِ مالِ المسلمينَ فإنّهُ لَهُمْ، فإنَّنِي لا أجتمعُ أنا وأنتِ وهُوَ في بيتٍ واحدًّ، فَرَدَّتْهُ جميعَهُ، فلما تُوفي عمرَ وَوَلي أخوها يزيدُ بنُ عبدِ الملكِ ردَّهُ عَلَيْها، وقالَ: أنا أعْلَمُ أَنَّ عمرَ بنَ عبدِ العزيزِ قدْ ظَلَمَكِ فقالَتْ لهُ: كلا واللهِ، وامتنعَتْ مِنْ أخذِهِ، وقالت: ما كنتُ أطيعُهُ حيًّا وأعصيهِ ميتًا.
وأَخَذَ مِنْ جميعِ أهْلِهِ ما بأيديهم وسمّى ذلكَ مظالمَ. ففزعَ بنو أميَّة واشتكَوا إلى عَمَّتِهِ فاطمة بنتِ مروانَ، فأتَتْهُ، فقالتَ لَهُ، تكَلَّمُ يا أميرَ المؤمنينَ، فقال: إنَّ الله بعثَ محمدًا رحمةً للعالمينَ ولم يبعثْهُ عذابًا إلى النّاسِ كافَّةً ثمَّ اختارَ لَهُ ما عِنْدَهُ وتركَ للنّاسِ نهرًا شُرْبهُمْ مِنْهُ سواءٌ، ثُمَّ استقى منهُ يزيدُ ومروانُ وعبدُ الملكِ ابنُه والوليدُ وسليمانُ ابنا عبدِ الملكِ، حتى أفضى الأمرُ إِليَّ، وَقَدْ جفَّ النّهرُ الأعظمُ ولمْ يَعُدْ يَرْوِي أَصْحابَهُ حتّى يعودَ إلى ما كانَ عليهِ. فقالَتْ: حَسْبُكَ فَهِمْتُ كلامَكَ، لكنَّ بني أميَّةَ يحذرونَكَ يومًا من أيّامِهِمْ، فغضبَ وقالَ: كلُّ يومٍ لا أخافُهُ إلا يومَ القيامةِ. فَرَجَعَتْ إِليهمْ فأخبرَتْهُمْ وقالَتْ: أَنْتُم فَعَلتُمْ هذا بأنفُسِكُمْ فَتَزَوَّجْتُمْ بنتَ عمرَ بنِ الخطابِ، فجاءَ يُسْبِهُ جَدَّهُ. فَسَكَتُوا. وقالتْ فاطمةُ امراتُهُ: دخلت عليهِ يومًا وَهُوَ في مصلاهُ ودموعُهُ تجري على لحيتِهِ، فقلتُ: أَحَدَثَ شيء؟ فقالَ: إنّي تقلّدْتُ أمَر أمَّة محمدٍ (صلى الله عليه وآله وسلم) فتفكرْتُ في الفقير الجائع، والمريضِ الضائعِ، والغازي المجاهدِ في سبيلِ اللهِ، والمظلومِ المقهور، والغريبِ الأسير، والشيخِ الكبير، وذي العيالٍ الكثير مَعَ المالِ القليلِ، وأشباهِهِمْ في أَقطارِ الأرضِ، فَعَلِمْتُ أَنَّ ربّي سيسألُني عَنْهُمْ يومَ القيامةِ، وأَنَّ خَصْمي دُونَهُمْ محمدٌ إلى اللهِ فَخَشِيتُ أنْ لا تَثْبُتَ حُجَّتي عندَ الخصومةَ فرحمتُ نَفْسي فَبَكَيْتُ.
وكانَ يجلسُ طويلًا للنَّظَر في أمورِ المسلمينَ، ويقولُ لأصحابِهِ: إنَّ المشوَرَةَ والمناظَرةَ بابُ رحمة، ومفتاحُ بركة، لا يضلُّ معهما رأيٌّ ولا يقعدُ معهما حزمٌ ولكلِّ شيءٍ معدنٌ، ومعدنُ التقوى قلوبُ العاقلينَ، لأنّهمْ عَقَلُوا عَنِ الله فاتَّقَوْهُ في أمره ونَهْيِهِ.
ولما سُئِلَ رأيَهُ في الخلافِ الّذي وقعَ بينَ عليّ ومعاويةَ قالَ: تلكَ فتنةٌ عصمَ الله منها سيوفَنَا، أفلا نَعْصِمُ منها أَلْسنتَنا؟
وروى عمرُ بن عبدِ العزيزِ بنفسِهِ تعلّقَهُ بأهلِ بيتِ رسولِ الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وحبَّهُ لعليِّ بنِ أبي طالبٍ، فقالَ:
كنتُ بالمدينةِ أتَعَلَّمُ عندَ عبيدِ الله بنِ عبدِ الله بنِ عُتْبَةَ بنِ مسعودٍ فَبَلَغَهُ عَنّي شيءٌ مِنْ ذلكَ، فأتيتُهُ يومًا وَهُوَ يُصَلي فأَطالَ الصّلاةَ فقعدْتُ انتظرُ فراغَهُ، فلما فرغَ مِنْ صلاتِهِ الْتَفَتَ إليَّ، فقالَ لي: متى عَلِمْتَ يا عمُر أنَّ اللهَ غضبَ على أهلِ بَدْرٍ وبيعةِ الرّضوانِ بَعْدَ أنْ رَضِي عَنْهُمْ.
قلتُ لَهُ: لَمْ أَسْمَعْ ذلكَ. قالَ: فَما الّذِي بلغني عَنْكَ في عَليِّ بنِ أبي طالبٍ؟ فَقُلْتُ: معذرةً إلى اللهِ وإليكَ. وتركتُ ما كنتُ عليهِ مِنْ شَتْمِ عَلي، وكانَ أبي إذا خطبَ فنالَ مِن عَلي رضي الله عنه تَلَجْلَجَ، فَقُلْتُ: يا أبي إنَّكَ تمضِي في خُطْبَتِكَ، فإذا أتَيْتَ على ذكرِ عليٍّ عَرَفْتُ مِنْكَ تقصيرًا قالَ: أَوَ فَطِنْتَ لذلكَ يا بنيَّ؟ قلتُ: نعم: قال: يا بنيَّ! إنَّ الذينَ حَوْلَنَا لَوْ يعلمونَ مِنْ علَيٍّ ما نعلمُ تفرّقُوا عَنَّا إلى أولادِهِ».
ولما ولي عمر الخلافةَ لَم يَكُنْ عندَهُ من الرّغبةِ في الدّنيا إلا أنْ كَتَبَ إلى عمالِهِ في الآفاقِ أنْ يستبدِلوا بشَتْمَ عليِّ بن أبي طالبٍ على المنابر آيةً مِنْ كتابِ الله: {إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النحل: 90].
فحلَّ هذا الفعلُ عند النّاسِ محلًا حَسَنًا وأكثروا مَدْحَهُ بسبَبِه فمنْ ذلكَ قولُ كُثَير عَزَّة:
وُليــــتَ فلمْ تَشْتُم عــــــليًّــــــــا ولمْ تخِـــــــفْ بــــــــــريًّا ولـــــم تَتْبَـــــع مقــــالة مُجـــــــــــرمِ
تـــــــــــكلَّـــمـــتَ بالحـــــــــقِّ المـــــــــــــــبينِ وإنّمــــــا تُبيِّنُ آيـــــاتِ الهـــــــدى بالتكــــــــــــــلُّمِ
وصدَّقْتَ معروفَ الّذي قلت بالذي فعلتَ فأضحى راضيًا كلُّ مُسْلِمِ
فقالَ عمرُ حينَ أنشدَهُ هذهِ الأبياتِ مِنَ الشّعْرِ: أفْلَحْنا إذًا والحمدُ للهِ.
وعندما انتقلَ زينُ العابدين عليُّ بنُ الحسينِ سلامُ الله عليهِ إلى الرّفيقِ الأعلى قالَ عمرُ بنُ عَبْدِ العزيزِ رَضِيَ الله عنهُ: ذهبَ سراجُ الدّنيا وجمالُ الإِسلامِ وزينُ العابدينَ، وردَّدَ قولًا لزين العابدين: «كُلُّكم سيصيرُ حديثًا فمن استطاع أن يكون حديثًا حَسَنًا فليفعلْ» ثم تابع قائلًا: اللّهُمَّ قَدِّرْنا أنْ نكونَ بَعْدَ وفاتِنا حديثًا حَسَنًا. ولقد كتب عمر إلى محمد الباقر ابن زين العابدين يخْبَره. فردَّ عليه محمدٌ الباقرُ بكتابٍ يعظُهُ ويخوِّفُهُ. فقالَ عمرُ بنُ عبدِ العزيزِ: لَقَدْ كَتَبَ إلى سليمانَ بنِ عبدِ الملكِ مِنْ قَبْلُ أخْرِجُوهُ لي حَتَّى أَنْظُرَ ماذا كتَبَ لَهُ. فَوَجَدَ في الكتابِ كلامًا غيرَ الذي كتبَ لَهُ فأُنْفَذَ إلى عاملِ المدينةِ وقالَ لَهُ اذهبْ إلى محمدٍ الباقرِ وَقُلْ لَهُ: هذا كتابُكَ إلى سليمانَ. وَهذا كتابُكَ إلى عُمَرَ بنِ عبدِ العزيزِ يختلفُ كل منهما عنِ الآخرِ فلمَ هذا التبايُنُ؟. فنقلَ عاملُ المدينةِ إلى محمدٍ الباقرٍ ما كتَبَهُ عُمَر بنُ عبدِ العزيز، فقالَ محمدٌ الباقرُ: إنَّ سليمانَ بنَ عبدِ الملكِ كانَ جَبّارًا في الأرض فكتبتُ إليه بما يُكْتَبُ إلى الجبّارينَ، وإنّ صاحِبَكَ أظهرَ الصّلاحَ والإِصلاحَ فكتبتُ إليهِ بما شاكَلَهُ فكتبَ عاملُ المدينة إلى عمرَ بذلكَ فقالَ عمرُ: إنَّ أهلَ هذا البيتِ لا يُخْلِيهِمُ اللهُ مِنْ فَضْلٍ.
وكانت فاطمةُ بنتُ الحسين (ع) بنِ عليّ تُثْنِي عَلَيْهِ وتقولُ: لَوْ بَقِيَ لَنَا عمرُ بنُ عبدِ العزيزِ ما احتجنا بعهدهِ إلى أحدٍ.
وفي عهدهِ عاشَ النّاسُ في رخاءٍ وبحبوحةٍ مِنَ العَيْشِ لَمْ يَشْهَدْهُ التاريخْ القديمُ ولا الحديثُ بحيثُ ذُكِرَ أنَّهُ أرسلَ الجباةَ إلى شمالِ أفريقيا وأوصاهُمْ أنْ يَجْبُوا الزّكاةَ مِنَ الأَغْنِياءِ ويوزِّعوها على فقرائهم، فكتبَ إليه الجباةُ: لَقَدْ جبينا الزّكاةَ مِنَ الأَغنياءِ لكنَّنا لم نجدِ الفقراءَ فكتبَ لَهُمْ: ضَعوا الأموالَ في بيوتِ الله وعلى الطّرقاتِ لعل الإِسلامَ أوجدَ عندَ النّاسِ حياءً على الاستعطاء.
وفي السّنةِ المئة والواحدة هجرية أي في أواخر حياتهِ خرجَ شوذبٌ الخارجيُّ واسمُهُ بسطامٌ من بني يشكر وكانَ في ثمانينَ رجلًا، فكتبَ عمرُ بنَ عبدِ العزيزِ إلى عبد الحميدِ عامِلِهِ في الكوفةِ ألّا يجابهَهُمْ حتى يسفكوا الدماءَ أو يُفْسدوا في الأرض فإنْ فَعَلُوا وَجَّه إليهم رجلًا شديدًا حازمًا في جندٍ، فَبَعَثَ عبدُ الحميد محمدَ بنَ جريرٍ في ألفَيْنِ مِنَ الجندِ وأمَرَهُ بما كتبَ بهِ عُمَرُ. وأرسلَ عُمَرُ بنُ عبدِ العزيزِ إلى بسطامٍ الخارجيِّ يسألُهُ عن سبب خروجهِ ويقولُ له: بلغني أَنَّكَ خَرَجْتَ غضبًا لله ولرسوله ولستَ أولى بذلكَ مني فهلم إليَّ أناظركَ فإنْ كانَ الحقُّ بأيدينا دخلتَ فيما دخلَ الناسُ، وإنْ كانَ في يدِكَ نَظَرْنا في أمركَ.
فكتبَ بسطامٌ إلى عمرَ: قَدْ أنصفتَ وَقَدْ بَعَثْتُ إليكَ رجلينِ يُدارِسانِكَ ويناظرانِكَ وهما مولّى لبني شيبانَ كان حَبَشِيًّا واسمُهُ عاصمٌ ورجلًا من بين يشكرَ أيْ مِنْ قبيلتِهِ، فقدِما على عمرَ حتى أتياه، فقالَ لهما: ما أخْرَجكُما هذا المخرجَ وما إلي نَقِمْتُم؟ فقالَ عاصمٌ: ما نَقِمْنا سيرتَكَ، إنَّكَ لَتَتَحَرّى العدْلَ والإِحَسانَ فأخبْرنا عن قيامِكَ بهذا الأمرِ (أيْ بأمرِ الخلافةِ) أن رضًى من النّاس ومشورةٍ أمْ ابتَززْتُمْ أمرَهُمْ؟ فقالَ عمر: ما سألتُهُم الولاية َ عَلَيْهِمْ ولا غَلَبْتُهُمْ عَلَيْهَا وعهدَ إليَّ رجلٌ كانَ قبلي قَقُمْتُ وَلَمْ يُنْكِرْهُ عليَّ أحدٌ ولم يكرهْهُ غيرُكم وأنتمْ تَرَوْنَ الرضَا بكلِّ مَنْ عدلَ وأنصفَ أيًّا كانَ منَ النّاسِ فإنْ خالفتُ الحقَّ ورغبتُ عَنْهُ فلا طاعةَ لي عَلَيْكُمْ.
قالا: بَيْنَنا وبينكَ أمرٌ واحدٌ. قالَ: ما هُوَ؟
قالا: رأينا، خالفتَ أعمالَ أهلِ بيتِكَ، وسمَّيْتَها مظالمَ، فإنْ كُنْتَ على هُدىً وهمْ على الضّلالةِ فالعَنْهُمْ وأبرأْ منهم.
فقالَ عمرُ: قد علمتُ أنّكُمْ لم تخرجوا طلبًا للدّنيا ولكنّكُمْ أَرَدْتُمْ الآخرة فأخطأتُمْ طريقَها، إنَّ اللهَ عَزَّ وجلَّ لم يبعثْ رسولَهُ لعانًا، وقالَ النبيُّ إبراهيم سلامُ الله عليه {فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [إبراهيم: 36] وقال اللهُ عزَّ وجلَّ {أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام: 90] وَقَدْ سَمَّيْتُ أعمالَ أهلِ بيتي ظلمًا وكفى بذلكَ ذمًّا ونقصًا، وليسَ لعنُ أهلِ الذّنوبِ فريضةً لا بدَّ منها، فإنْ قُلْتُمْ إنها فريضةٌ فاخبرْني يا عاصمُ متى لَعَنْتَ فِرْعَوْنَ؟
قال عاصمٌ: ما أذكرُ متى لَعَنْتُهُ.
قالَ عمرُ: أَفَيَسَعُكَ أنْ لا تلعنَ فرعونَ وَهُوَ أخْبَثُ الخلقِ وشرُّهُمْ ولا يسعُنِي أنْ لا ألْعَنَ أهْلَ بيتي وَهُمْ مصلَّونَ صائمون؟
قالَ عاصمٌ: أليسَ أهْلُ بيتكَ كفارًا بظلمِهِم الّذِي ظَلَمُوهُ؟
قالَ عمرُ: لا، لأن رسولَ اللهِ (صلى الله عليه وآله وسلم) دعا النّاسَ إلى الإِيمان فكانَ من أقرَّ بِهِ وبِشرائِعِهِ قُبِلَ مِنْهُ فإنْ أحْدَثَ حَدَثًا أقيمَ عليهِ الحدُّ: فقالَ الخارجيُّ: إنَّ رسولَ اللهِ (صلى الله عليه وآله وسلم) دعا النّاس إلى توحيد اللهِ والإِقرارِ بما نزل من عندِهِ.
قالَ عمرُ: فليسَ أحدٌ مِنْهُمْ يقولُ لا أعملُ بسنَّة رسولِ اللهِ ولكنَّ القومَ أسْرَفُوا على أنْفُسِهِمْ على علمٍ منْهُمْ أَنَّهُ مُحَرَّمٌ عَلَيْهِمْ وَغَلَبَ عَلَيْهِمْ السَّفَهُ.
قالَ عاصمٌ: فابدأ مما خالفَ عَمَلَكَ وَرُدَّ أحْكامَهُمْ.
قال عمرُ: أخبراني عن أبي بكرٍ وعمرَ أليسا على حقٍّ؟
قالا: بلى.
قال: أتعلمانِ أنَّ أبا بكرٍ حينَ قاتلَ أهلَ الرّدَّةِ سفكَ دماءَهُمْ وسبى الذراري وأخذَ الأموال؟
قالا: بلى.
قال: أتعلمانِ أنَّ عمرَ ردَّ السّبايا بعدَهُ إلى عشائرِهم بفدْيَةٍ.
قالا: نعم.
قال: فهلْ برئ عمرُ منْ أبي بكرٍ؟
قالا: لا.
قال: أفتبرؤونَ أنْتُمْ مِنْ واحدٍ منهُما؟
قالا: لا.
قال اليشكريُّ: يا عمرُ أرأيتَ رجلًا وليَ قومًا وَأمْوالَهُمْ فعدلَ فيها ثمَّ صَيَّرَها بعدَهُ إلى رجلٍ غيرِ مُؤَمَّنِ، أتراه أدّى الحقَّ الذي يلزمُهُ للهِ عَزَّ وجَلَّ، أو أتراه قد سَلِم؟
قالَ عمرُ: لا.
قالا: فَتُسَلِّمُ هذا الأمرَ إلى يزيدَ بنِ عبدِ الملكِ من بعدكَ وأنْتَ تعرِفُ أنَّهُ لا يقومُ فيهِ بالحقِّ؟
قالَ عمرُ: إنَّما ولاه غيري يعني بهِ (سليمانَ بنَ عبدِ الملكِ) والمسلمونَ أولى بما يكونُ مِنْهُمْ فيهِ بعدِي.
قالَ اليشكريُّ: أفترى ذلكَ مِن صُنْعِ مَنْ ولاه حقًّا؟
فبكى عمرُ وقالَ أَنظِراني ثلاثًا، فخرجا مِنْ عِنْدِهِ ثم عادا إليه فقالَ عاصمٌ: أشهدُ أنَّك عَلى حقٍّ.
فقالَ عمرُ لليشكري: ما تقولُ أَنْتَ؟
قالَ: ما أحسنَ ما وَصَفَت ولكنِّي سأعرِضُ الأمرَ على المسلمينَ وأعْلَمُ ما حُجَّتُهُمْ.
فكانَ عُمَرُ بنُ عبدِ العزيزِ رضي اللهُ عَنْهُ بعد هذا الحوارِ الذي دارَ بَيْنَهُ وبينَ الخوارجِ يقولُ: أَهْلَكَنِي أمرُ يزيد بن عبدِ الملك وخُصِمْتُ فيهِ فأستغفِرُ اللهَ. فخافَ بنو أميّةَ بعدَ أنْ سَمِعُوا مِنهْ مثلَ هذا القولِ أنْ يخرجَ لأمر مِنْ أيديهم وَأَنْ يخلعَ عمرُ بن عبد العزيز يزيدَ بنَ عبدِ الملكِ مِنْ ولاية العهدِ فتضيعَ عليهم جميعُ امتيازاتِهِم الّتي فقدُوها في عهدِ عمرَ، فقيلَ إنّهم ائتمروا في ما بَيْنَهُمْ وَوَضَعُوا على عمرَ بنِ عبدِ العزيزِ مَنْ سقاهُ سمًّا فلم يلبثْ بَعْدَ ذلكَ إلا ثلاثًا حتى مرضَ وماتَ رَحمَهُ اللهُ.
وحينَ سَمِعَ مُحَمَّدٌ الباقرُ سَلامُ اللهِ عليهِ، بخبرِ وفاتِهِ قالَ: إنَّ لكلِّ قومٍ نجيبةً وإنَّ نجيبةَ بني أميَّةَ عمرُ بنُ عبدِ العزيزِ، وإنَّهُ يُبْعَثُ يومَ القيامةِ أُمَّةً وحدَهُ وقالَ سفيانُ الثَّوْرِيُّ رضي الله عنه: الخلفاءُ خمسةٌ:
أبو بكرٍ وعمرُ وعثمانُ وعليٌّ وعمرُ بنُ عبدِ العزيزِ وما كانَ سواهُمْ فهم منتزون وبهذا قال الإمام الشافعيُّ رضي اللهُ عنهُ.
وبَهذهِ السّيرة العَطِرَةِ لِعُمَر بنِ عبدِ العزيز رضيَ الله عَنْهُ أَحْبَبْنا أنْ نختمَ كتابَنا هذا مع أنَّه كانَ متقدّمًا في خِلافتهِ عَنْ هشامِ بنِ عبدِ الملكِ، كي نجعلَ خاتمةَ هذا الكتابِ خاتمةَ وفاقٍ وصلاح وإصلاحٍ إنْ شاءَ اللهُ، وكي نُذَكِّرَ القادةَ والموجهين بالرعايةِ الطَّــيِّـــبَةِ لشؤونِ المسلمينَ، وندعوَهُمْ للاقتداءِ بهذهِ الشَّخْصِيَّةِ الكريمةِ التي عملت مخلصةً لوجهِ الله فجمعتْ وَلَمْ تُفَرِّقْ وقالتْ كلمةَ الحقِّ على نفسِها وعلى أقربِ الناسِ إليها، وأزالت الفوارقَ في المجتمع الإسلامي فأحَبَّها المسلمون جَمِيعًا. والمسلمونَ اليوم عليهمْ ألّا ييأسوا من رحمةِ اللهِ ومنْ قادَتِهمْ وموجهيهمْ لأنَّ في المسلمينَ خيرًا كثيرًا، وصَدَقَ رسولُ اللهِ (صلى الله عليه وآله وسلم) حيث يقول: الخيرُ فيَّ وفي أمتي إلى يومِ الدين.
وهكذا نرى الخلفاء الراشدين ومن سار سيرهم يرجع بعضهم إلى بعض في جميعِ الأمورِ التي تهم المسلمينَ، وكانُوا جميعًا يحبونَ أهلَ بيت رسولِ اللهِ ويحبُّهُمْ أهلُ بيتِ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، إلى أَنْ وصل إلى الحكمِ معاوية وابنُهُ يزيد وهشام بْنُ عبدِ الملكِ، فبدأَتِ الفتنُ تعصفُ بوحدةِ المسلمينَ. وانتشرتْ روحُ الخصومةِ في الدّينِ، وقاسى ما قاساهُ أَهلُ بيتِ رسولِ اللهِ وَمَنْ شايعهُمْ.
لكنَّ الَّذينَ ينسِبُونَ الخصومةَ في الدّينِ منذُ تولى الخلافة أبُو بكرٍ وعمرُ بنُ الخطَّابِ وعثمانُ أَخْطَأُوا وانساقُوا وراءَ أَصحابِ النياتِ الخبيثة الَّذينَ ما أَرادُوا خيرًا لهذهِ الأُمّةِ يومًا مِنَ الأَيامِ.
فهذا عليٌّ سلامُ اللهِ عليهِ يسمِّي أولادَهُ وفلذاتِ كبدِهِ بأسماءِ الَّذينَ أَحبَّهُمْ وصاهرهُمْ وتعاونَ معهُمْ. فسمَّى ولدًا أَبا بكرٍ وولدًا عُمرَ وولدًا عثمانَ. هذا ما ذكرهُ العلامةُ السّيدُ محسن الأَمين رحمهُ الله في كتابهِ «أَعيان الشّيعة». كما أَنَّه أَتَى على ذكرِ أسمائِهِمْ مَعَ أسماءِ الذينَ استشهدوا مَعَ أَخيهمْ الإمامِ الحسينِ سلامُ اللهِ عليهم أَجمعينَ.
وهذا العلامةُ الكبير السيد عبد الحسين شرف الدين رحمه اللهُ وأكرمَ مثواه وهو يُعدّ من أكابر مجتهدي المسلمين الشيعة في زمنه، ألقى خطبةً في المسجدِ العمري الكبير في بيروت عقدها على آياتٍ بيناتٍ من الذكرِ الحكيم وجرى فيها على نصوصٍ مأثورةٍ من الحديثِ الشريف وذلك في 19 ربيع الأول عام 1340هـ الموافق 19 تشرين الثاني عام 1921م إبَّان الاستعمار الفرنسي للبنان فقال:
بسم الله الرحمن الرحيم
والحمد للهِ على هدايتهِ لدينه، والتوفيق لما دعا إليه من سبيله وصلى اللهُ على سيد الخلق، والصادعِ بالحقّ. البشيرِ النذير. السراجِ المنير. الطُّهرِ الطاهر. العلَمِ الظاهر. الرسول المؤيَّد أبي القاسم محمد. وعلى أئمة الهدى، ومصابيح الدجى، والعروة الوثقى. وعلى من تبعهم بإحسانٍ ورحمة الله وبركاته.
أما بعد فإنه لا حياة لهذه الأمة، إلا باجتماع آرائها وتوحيد أهوائها، بجميع مذاهبها، ومختلف مشاربها، على إعلاء كلمتها: بإعلان وحدتها، في بنيان مرصوص، يشدُّ بعضُه أزرَ بعض. وجسم واحدٍ، إذا شكا منه عضوٌ أنَّت سائرُ الأعضاءِ. حتى ليكونَ المسلمُ في المشرقِ هو نفسُهُ في المغرب: عينُه ومرآتُهُ. دليلهُ ومشكاتُه. لا يخونهُ، ولا يخدعُه، ولا يظلمه، ولا يُسلمه.
بذلك يكون المسلمون أمةً واحدةً. وبه تكون خيرَ أُمةٍ أُخْرجت للناس، تأمرُ بالمعروف، وتنهى عن المنكرِ، وتعتصمُ بحبل اللهِ ولا تتفرق، كالذين فرقوا دينهم وكانوا شيعًا. واختلفوا بعدما جاءتهم البينات. وتنازعوا ففشلوا وذهبت ريحهم. فهم ليسوا من رسول اللهِ في شيء، وليس رسول اللهِ منهم في شيء.
وكيف يكونُ الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) منهم وقد تركوا حبل اللهِ. وحبل اللهِ دينُهُ القويم، وصراطه المستقيم، وفرقانه العظيم.
فالحذر، من هذا الخطرِ. وأي خطر أدهى من أن تبقى الفرقة فرقًا، والوحدةُ مزقًا والألفة أشتاتًا، والنفوسُ أمواتًا. وقد صحَّ عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: «الدينُ النصيحة». قالوا: «لمن يا رسول اللهِ» قال: «للهِ، ولرسوله، ولكتابه، ولأئمةِ المسلمين، ولعامتهم فوالذي نفسي بيده، لا يؤمنُ امرؤ حتى يحِبَّ لأخيهِ ما يحبه لنفسه، ويكره له ما يكرهُ لها».
وصحَّ عنه صلوات اللهِ وسلامه عليه أنه قال: ذمَّةُ المسلمين واحدة. فمن أخفَر مسلمًا، فعليه لعنة اللهِ والملائكةِ لا يُقْبَلُ منه يوم القيامة صرف ولا عدل».
وإن من النصحِ للهِ ولرسوله ولكتابه ولأئمة المسلمين وعامتهم: إفشاء السلام، وإحلال الوئام. والإسلام جعلَ التحية المتبادلة: السلام عليك، وعليكم السلام.
وصح عنه صلوات اللهِ وسلامه عليه أنه قال: «واللهِ لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا. ولا تؤمنونَ حتى تحابّوا. ألا أدلكم على شيء إن فعلتموه تحابَبْتُم؟ أفشوا السلامَ بينكم».
ومن النصح: توحيد كلمة المسلمين. «وإن أمتكم هذه أمة واحدة» فلا تقولوا: «نحن سنّة وشيعة» بل قولوا: «نحن مسلمون» فالشيعة والسنّة فرقتهما السياسة، وتجمعهما السياسة، أما الإسلامُ فلم يفَرِّقْ ولم يمزِّقْ، الإسلامُ يجمعُ ويوحِّدُ. وحَّدهما: بأشهد ألا إله إلا اللهَ، وأن محمدًا رسول اللهِ، وإن القرآن كتاب اللهِ. وجمعهما بإقامة الصلاة، وإيتاءِ الزكاة. وبصوم رمضان، وحج البيت الحرام. بإحياء ما أحياه الكتاب والسنّة وإماتة ما أماتاه، بتحقيق ما حققاه، وإبطال ما أبطلاه، ولا فرق بين السنّة والشيعة. إلا كالفرق بين مذهب ومذهب من المذاهب الأربعة. ولكل مذهب من هذه المذاهب. مفاهيم مستقاه من كتاب الله وسنّة رسوله. «ومن اجتهد فأخطأ فله أجر واحد، ومن اجتهد فأصاب فله أجران».
ذلك هو الإسلام السمح، فس محجته البيضاء، وشريعته السهلة السمحاء. فليكن المسلمون مسلمين، كما أراد الإسلام، سيرًا على محجته، والتزامًا بكتابه وسنّته.
أيها المؤمنون: إنكم مدعوون بحكم الإسلام وحكم القرآن، إلى وحدة لا تنفصم عروتها، وألفة لا يستباح ذمارها. فإلى الوئام، إلى الوحدة، تتسلقون بها معارج الشرف، وتطأون أعراف المجد، وتستجيبون إلى نداء اللهِ سبحانه: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 92].
{رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُواْ بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأبْرَارِ} [آل عمران: 193]. صدق الله العظيم.
وأخيرًا، بَعْدَ أنِ أطَّلَعْنا على أهم الأَسبابِ التي عصفت بهذه الأُمةِ نختمُ هذا الكتابَ بقولنا: إنّ من الواجب علينا كمسلمين، وخصوصًا في عصرنا هذا، أَنْ نردَّ زيغ الَّذين اتخذوا المذاهبَ الإسلاميةَ سبيلًا للتّضليلِ والعبثِ بالعقول وزيادة الشك.
وعلينا أن ننشرَ روحَ التَّسامحِ الإسلامي بين أهلِهِ، وبَيْنَ غيرِهِمْ مِنَ النَّاس.
وعلينا أنْ نَمْحُوَ روحَ الطائفيّةِ البغيضة، وأَنْ نقطع السّبيلَ على الَّذين يُروجونَ الخصومةَ في الدّين حتَّى يعودَ المسلمونَ كما كانُوا جماعةً واحدةً متعاونةً متحابّةً لا جماعاتٍ متعدّدةً متنابذةً متباغضةً، إذا اختلفوا يختلفون في الرأْيِ - إن وجد المجال - كآحادٍ لا كطوائفَ. وعليهم أنْ يتشبّهُوا بتسامحِ وتعاونِ الخلفاءِ الرّاشدينَ. وأَن يكونُوا كالذين قال اللهُ تعالى فيهِمْ: {وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّــلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} [الحشر: 10].
انتهى بعون الله


المصادر
10 منتزون: متسارعون إلى الشر.
مقدمة الكتاب
القسمُ الأوّل
القِسم الثاني
القِسم الثالِث
القسم الرابع
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢