نبذة عن حياة الكاتب
السياسة والسياسة الدولية

وَاقع السيَاسَة الفرنسيّة
إن سياسةَ فرنسَا الأساسيةَ هي سياسةَ العظمة. وهذا هو الأساسُ لسياسة فرنسا فكلّ ما تقوم به من أعمالٍ سياسيّةٍ إنما ينبني على هذا الأساس فهي حين اندفعت في الاستعمار والاستيلاء على الشعوب إنما كانت تسيرُ في سياسة العظمة وحين أخذت تتلكأُ في التخلي عن المستعمرات وتعاند في ترك المستعمرات إنما تندفع إلى ذلك للمحافظة على هذه السياسة، وعلى الرغم من احتلال ألمانيا لها، وخروجها من الاحتلال منهوكةَ القوى، وفي وضع متهافتٍ، فإنها ظلّت تحاولُ أن تبنيَ كيانها من جديد وتتطلع لأن تعودَ من جديد دولةً عظمى وهي حين كانت تحاولُ الاستعانة بإنكلترا وأميركا لإعادة بناء كيانها، وحين بدأت تزاحمُ إنكلترا وتناوئ أميركا فإنها في الحالتين كانت تسيرُ وفقَ ما تتطلبه سياستها ألا وهي سياسةُ العظمةِ لأنها سياستُها الأساسيّةُ. وفرنسا قبل الحرب العالمية الثانية وبعدها يشغلُها أمران: أحدهما وضعها في أوروبا، والثاني وضعها الأمبراطوري، أي وضعها بالمحافظة على وجودِ مستعمراتٍ لها.
أما وضعُها الجغرافيّ، فإنها بحكم موقعها الجغرافيّ في أوروبا تخشى دائمًا ألمانيا وتحسب حسابًا لإنكلترا، لذلك كان هاجسُها هو هاتين الدولتين. فهي تخشى ألمانيا من أن تكتسحَ حدودَ فرنسا، وتخشى إنكلترا من أن تسيطرَ على أوروبا. لذلك تركّزُ كلّ أمورها وترسمُ جميع سياساتها على أساس المحافظةِ على حدودها، وعلى أساسِ توازنِ القوى في أوروبا. وعلى هذين الأساسين: المحافظةِ على حدودها وكونها يجب أن تكونَ هي قائدةَ أوروبا قامت سياستها في أوروبا. أما وضعها الأمبراطوري فإن فرنسا قد اندفعت في العالم منذ القديم تستهدفُ التوسع والاستعمارَ فوجدت لها مستعمرات في آسيا كسورية ولبنان، وفي أفريقيا كشمال أفريقيا وعدة بلدان أخرى كالسنغال والصومال وغينيا وغيرها، وفي الشرق الأقصى كالهند الصينية، ولما وقعت الحربُ العالميّةُ الثانيةُ وخرجت فرنسا محطمةَ الأضلاع صارت تحاولُ الاستعانةَ بكل من إنكلترا وأميركا للمحافظة على الاستعمار وعلى الرغم من انتشارِ فكرةِ التحرّرِ من الاستعمار ومن جعلِ سياسةِ هيئةِ الأمم تحريرَ البلادِ المستعمَرة فإن فرنسا ظلّت تتشبثُ بالبقاء في المستعمرات حتى أخرجت منها بالقوة تارة وبالضغط الدولي تارة أخرى، وعلى الرغم من ذلك فإن سياستها لا تزال مبنيةً على العاملين الأساسيين وهما وضعُ الدوليّ أي وضعها في أوروبا ووضعُها الأمبراطوريّ أي وضعُ مستعمراتها بالنسبةِ إليها حتى تبقى دولةً عظمى.
إن فرنسا، وإن كانت دولةً استعماريّة، فإنها تختلفُ عن إنكلترا وأميركا، فإنكلترا تحكمها الفئة الأستقراطيّةُ حكمًا حقيقيًّا وإن كان يُغلّف بالشعبية والرأيّ العام تغليفًا يحفظُ بقاءَ الحكم الحقيقيّ في يد الأرستقراطيّةُ حكمًا حقيقيًّا وإن كان يُغلّفُ بالشعبية والرأي العام تغليفًا يحفظُ بقاءَ الحكم الحقيقيّ في يد الأرستقراطية، والناحيةُ الاستعمارية فيها ناحيةُ استغلال ماديّ لا للعظمة فحسب، بل لامتصاصِ دماءِ الشعوب واستغلالِ ثرواتِ البلاد المستعمَرة وعلى الرغم من اشتغالها بالناحيةِ الفكريّةِ والناحيّةِ العلميّة فإنها تشتغلُ فيها كأداة للاستعمار أي لفرضِ السيطرة وخصوصًا السيطرة الاقتصادية التي تنتجُ حتمًا السيطرةَ السياسيّة. أما أميركا فإنّها تحكمُها طبقةُ الرأسماليين وأصحاب الأموال الضخمة من شركاتٍ وأفرادٍ، والحكام أيًّا كانوا ومن أيّ حزبٍ أتَوْا إنما يقومون بهذه المهمة، وتغليفُ هذا الحكم بالشعبية والتوسل إليه بالرأي العام إنما هو ناتج عن تكوين أميركا نفسها من أنها مكونةٌ من شعوب قررت مصيرها ولا تزال حريصةً على تقرير مصيرها، لكنّ مهارةَ الرأسماليين وكونَ المبدأ الرأسماليّ هو مبدأَ الشعب الأميركي جعلا هذا الرأي العام لا يُوجدُ إلا حكّامًا يكونون وكلاءَ عن الرأسماليين لذلك فإن استعمارَها تتجلّى فيه الناحيةُ الاستغلاليّةُ أي الناحيةُ الاستعماريّةُ وهي فرضُ السيّطرة ولا سيما السيطرة الاقتصادية التي تُنْتجُ حتمًا السيطرةَ السياسيّةَ، وهي وإن كانت تشتغلُ كبريطانيا تمامًا بالناحيةِ الفكريّةِ والعلميّةِ لكنها تشتغلُ فيها أيضًا كأداةً للاستغلالِ، وهي وإن كانت تعملُ على إيجادِ المجدِ الأميركيّ والعظمةِ الأميركيّةِ فإنها تسخّر ذلك من أجلِ الاستغلالِ المادي أي من أجل مص دماء الشعوب واستغلال ثروتها.
أما فرنسا فإن سياستها وإن كانت لا تُوجَدُ إلا بالقوى الماديّة والثروةِ الاقتصادية فإن النّاحية الاستعماريّةَ فيها غيرُ مقتصرةٍ على فرض السيطرة العسكريّة والاقتصادية والسياسيّةِ بل تضمّ إليها السيطرة الثقافية. وهي تتشبّتُ بالسيطرةِ الثقافيةِ والفكريّةِ أكثرَ من تشبثّها بالسيطرةِ العسكريّةِ والسياسيّةِ والاقتصاديّةِ. لذلك فإنها حين اضطُرّتْ تحت القوة وتحت الضغط للتخلي عن السيطرة العسكريّة، حاولت أن تتشبّثَ بالسيطرةِ الاقتصاديّة والسياسيّةِ وحين أُخْرِجَتْ من مستعمراتها بالقوة والضغط الدوليّ ظلت تتشبّثُ بالسيطرةِ الثقافيّةِ والفكريّةِ إلى أبعد حدودِ التشبث. لذلك لا تزالُ تحاولُ الإبقاءُ على العلاقاتِ الثقافيّةِ مع البلدان التي كانت مستعمراتٍ لها.
فالسيطرةُ الثقافيّةُ هي أساسُ الاستعمارِ الفرنسيّ وذلك أنّ فرنسا تُعدّ نفسَها هي أساس الثقافة في العالم، فهي ترى أن فرنسا كانت في القرن التاسعَ عَشَرَ حين كان العالمُ يُقبِلُ على الثقافة كانت فرنسا دارَ العالم الثقافيّة، وإن الفكرَ الفرنسيّ قد اتسع في كل مكان من خلال السياسة والفنّ والأدب والتربية، وإن الثورةَ الفرنسيّةَ هي التي صاغت فكرةَ الحريّة في العالم وحملتها جيوشُ نابليون لأنحاء أوروبا كافة وإلى مصر وغيرها، وإن أمم أوروبا وأميركا اللاتينية استفادت من قانون نابليون، وأن اللّغة الفرنسيّةَ قد سادتِ المؤتمراتِ الدوليّة وأصبحت اللّغةُ الفرنسيّةُ اللّغةَ الثّانيّةَ لكلّ متعلم، وأن فلاسفةَ فرنسا ومفكريها وعلماءَها وأدباءَها قد برزوا في العالم بصفتهم روّادَ المعرفة الإنسانية والعلمية. لذلك فإن النّاحيةَ الثقافيةَ هي من أغلى تراثِ فرنسا ومن أجل ذلك فإن علاقاتِ فرنسا الثقافيّةَ بالعالم هي أهمّ العلاقات، وهي لا تقلّ أهميةً في قوتها وغزوها عن الأساطيل والجيوش والأموال. فهي رأسُ مالٍ مهم في الثروة الفرنسية وفي الغزو الفرنسي وفي الاستعمار الفرنسي. ومع أن هذه العلاقةَ الثقافيّةَ لفرنسا قد طرأ في العالم ما يكفي لمحوها فإن فرنسا لا تزال تتشبّثُ بها أيّمَا تشبّث. فعلى الرغم من أن فرنسا قد ضعفت اقتصاديًّا وسياسيًّا عما كانت عليه قبل الحرب العالمية الثانية، وعلى الرغم من أنّ اللغاتِ الأخرى كاللّغةِ الإنكليزيّة مثلًا قد نازعت اللّغةِ الفرنسيّةَ في المؤتمرات والمخابرات الدولية، وعلى الرغم من بروز التناقض بين الأفكار الفرنسية والسلوك الفرنسي في المستعمرات فإن فكرة سيادة الثقافة الفرنسية في العالم لا تزال متمركزة في فرنسا ذاتها وصارت مركّبًا نفسيًّا لدى فرنسا يتحكم في تصرفاتها السياسية، ومن هنا نجد أن الاستعمارَ الفرنسيّ يزيدُ على كل استعمار بالسيطرة الثقافية. وإنه وإن كانت السيطرةُ الثقافيّةُ موجودةً في كلّ استعمارٍ، لأن الاستعمارَ هو فرضُ السيّطرةِ العسكريّةِ والاقتصاديّةِ والسياسيّةِ والثقافيّةِ على البلاد المستضعفَة، وإنه إذا أُكْرِهَ على رفع السيطرة في واحدةٍ من هذه السيطرات فإنه يتشبّثُ بالسيطراتِ الأخرى حتى آخرِ سيطرة، لكن الاستعمارَ الفرنسيّ يجعل التخلّيَ عن السيطرة الثقافية غير قابل للبحث وغيرَ قابل للتسليم. لذلك فإن الاستعمارَ الفرنسيّ أفظعُ تأثيرًا من كلّ استعمارٍ. وإنّ الاستعمارَ الفرنسيّ كأيّ استعمارِ يعتمدُ في تركيز استعماره وفي تركيز نفوذه على القوة العسكرية والأعمال السياسيّة والعوامل الاقتصاديّة والتّضليل السياسيّ والفكريّ، لكنّ الاستعمارَ الفرنسيّ يزيد على كل استعمار بأنه يجعل الناحيّةَ الثقافيّة والفكريّةَ ركيزةً أساسيّةَ لاستعماره أيْ ركيزةً لفرض سيطرته على كلّ بلدٍ ولا سيما البلاد التي كانت مستعمرات له. ونظرًا إلى ضعف فرنسا وسقوطها عن مستوى الدول الكبرى فإنه يصعب وضعُ خطوطٍ عريضةٍ لسياستها تجاه آسيا وأفريقيا. وإنه وإن كان من الممكن وضعُ خطوطٍ عريضةٍ للسياسةِ الفرنسيّةِ في العالم ولكن نظرًا إلى عدمِ وجودِ قدرةٍ لفرنسا على التأثير في السياسةِ العالميّة فإنه ليس مهمًّا وضعُ خطوطٍ عريضَةٍ لهذه السيّاسة. ويكفي أن يُعْلَمَ أن سياسةَ فرنسا الأساسيّة هي سياسةُ العظمةِ لِيُفْهَمَ كلّ تصرفٍ من تصرفاتِها السياسيّة.

مقدمة الكتاب
القسمُ الأوّل
القِسم الثاني
القِسم الثالِث
القسم الرابع
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢