نبذة عن حياة الكاتب
قصص الانبياء في القرآن الكريم
الطبعة : الطبعة السابعة
المؤلف : سميح عاطف الزين
فئة الكتاب : سيرة
عدد الصفحات : ٦٩٢
تاريخ النشر : ٢٠٠٥
الفهرس (اضغط على الرابط للقراءة)

المقدمة
القصص
القصّة
خرق النواميس
المنـامات والـرُّؤَى
القصص الديني والتاريخ
التكوين
نظام الزوجية
هل يوجد آدم واحد أو أكثر؟
آدم عليه السلام
السور القرآنية وموضوعاتها
إدريس (عليه السلام)
نوح (عليه السلام)
الأسلوب القرآني المعجز بوضوحه وقوته وجماله
هود (عليه السلام)
القرآن هو المثاني وفاتحة الكتاب هي السبع المثاني
صالح (عليه السلام)
قصة ثمود والإيجاز في القرآن الكريم
1 - ولادة إبراهيم عليه السلام
2 - إبراهيم وأبـوه آزر(+)
3 - إبراهيم والنبوَّة
4 - إبراهيم عليه السلام وقومه المشركون
5 - تحطيم الأوثان والأصنام
6 - معجـزة الله العظمى
7 - الهجرة إلى فلسطين من بلاد الشام
8 - الارتحال إلى مصر
9 - إبراهيم وولده إسماعيل (عليهما السلام)
10 - البلاء المبين
11 - إبراهيم (عليه السلام) والبُشـرى
12 - بناء الكعبة الشريفة
الأحرف وأهميتها في فهم قصص القرآن الكريم
لوط (عليه السلام)
إسحـق (عليه السلام)
يعقـوب (عليه السلام)
يوسف (عليه السلام)
أيوب (عليه السلام)
شعيب (عليه السلام)
مـوسى وهارون (عليهما السلام)
ذو الكفل (عليه السلام)
داود (عليه السلام)
سليمان (عليه السلام)
الأنبياء بشر يتكاملون
إلياس (عليه السلام)
إليسع (عليه السلام)
يونس (عليه السلام)
زكريا (عليه السلام)
يحيى (عليه السلام)
مريم بنت عمران عليها السلام
عيسى (عليه السلام)
عيسى والروح الأمين (عليهما السلام)
المسيح بين كونه إنساناً أم إلهاً من أهداف قصص الأنبياء في القرآن الكريم
المـراجع
هوامش

المسيح بين كونه إنساناً أم إلهاً من أهداف قصص الأنبياء في القرآن الكريم
الشمسُ تُعطي النورَ، وفي البحر يوجدُ الماءُ.. حقيقتان لا تقبلان الجدلَ. وهكذا كانت الحقيقة الأولى التي أُعطيتْ للأرض عندما خلقَ الله الإنسان، وجعلهُ خليفةً فيها. إذ لا يمكنُ لأحدٍ أن يُنكِرَ أن الإنسان مخلوقٌ قد ميَّزهُ خالقُهُ، عن سائر الكائنات، بما حباهُ من ملَكاتٍ وطاقاتٍ ومزايا، واختصَّهُ بها وحده، كي يتمكَّنَ من القيام بأعباء الخلافة، ويقدِرَ على تحملّ مسؤولياتها، ويؤكِّدَ بالتالي أهليَّته للاستخلاف.
وإذا كان كلّ ما في الكون، مما تدركه الأبصارُ والبصائرُ، يُنبىءُ عن وجود خالقٍ لهذا الكون، يدبّره وينظمه بكل دقَّة وإحكام... فإنَّ بعثَ الأنبياء والمرسَلين، لم يكنْ في حقيقته إلاَّ دعوةً لبني البشر للإيمان بأن هذا الخالقَ الحقَّ هو الله الواحد الأحد الفرد الصمد، مع ما يستتبعُ ذلك من تفتُّحٍ للعقول والقلوب، لكي تكونَ قادرةً على تلقي الإيمان بحقيقة وجود الله تعالى، وتستطيعَ بالتالي وضعَ المبادىء والقواعد التي تحكم تصرفات الإنسان في علاقاته مع نفسه، ومع غيره من بني جنسه، لأن علاقته بخالقه يحكمها في الأصل مبدأ الدين الحق، الذي أراده الله تعالى لبني البشر. ولا شكَّ بأنَّ ذلك كله يشكلُ عقيدةً واحدة، ذاتَ جوهرٍ واحدٍ، عمل جميع الأنبياء والمرسلين، منذ آدم (عليه السلام) وحتى النبيّ محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) على إيصالها إلى بني البشر، وإن اختلفت الأساليب، أو تنوَّعت السبلُ التي اعتمدوها، بما يتلاءم مع تطور الظروف والأزمنة.
وإذا كانت قضيَّةُ الإيمان بالله الواحد، قد استنكفت عنها الجماعات البشرية، ولا سيما في عهودها الأولى، فإنَّ مهمة رسُل الله إنما كانت تستهدف التصدِّيَ للجهالة في العقول، ونزعَ بواعث الشرّ من النفوس، لتستقرَّ تلك القضية على حقيقتها في الأذهان، ولترفرفَ ألوية الحق والصلاح في المجتمعات على تعددها واختلافها.. من هنا كانت سِيَرُ المبعوثين من الله - عزّ وجلّ - تكاد تكون متشابهة، أو تبدو وكأنها سلسلةٌ مترامية الأطراف، تتوثَّقُ حلقاتها ببعضها البعض كي توجّه الإنسانَ وفقاً لما يجب أن يكون عليه في مسيرته على هذه الأرض، بل وفي حياته الآخرة.
وتؤكِّدُ هذا التشابهَ الكتبُ السماويةُ، كما يؤكِّدهُ التاريخُ البشريّ.. وعلى هذا الأساس كان كلُّ نبيّ أو رسول، ما إن يكاد يبدأ دعوته، حتى يجدَ أن العالمَ كلَّهُ قد انقلب ضدَّهُ، وقامت في وجهه الصعوبات والمشقَّات، تلاحقُهُ في حياته الخاصة، كما تجابهُهُ في حياته العامة..
وهكذا عانى إبراهيم (عليه السلام) من أبيه، ونوحٌ (عليه السلام) من ابنه، ولوط (عليه السلام) من زوجته، معاناةً شديدةً.
أما على صعيد الحياة العامَّة، فإنَّه ما من نبيّ أو مبعوث إلاَّ وثارَ عليه بنو قومِهِ، يعرّضونه للهزء والسخرية حيناً، أو لخطر الموت حيناً آخر. ومثاله قتلُ بني إسرائيل النبيين بدون حق، حتى ليمكن القول، بأن أي مبعوث من رب العالمين إنما كان يعيشُ حياةً حافلةً بالعداء، تهاجمه مختلفُ الفئات التي يعيش بين ظهرانَيْها، ويظلُّ المبعوث ثابتاً على دينه، حتى يُمكِّنَ الله له في النهاية، ويؤيّدهُ بالنصر على القوم الكافرين.
وإذا قمنا بمحاولات لتقصّي حياة رُسُل الله إلى الأرض، لوجدنا أنهم قَبْلَ البعثةِ، كانوا يعيشون في أمانٍ وسلام... فظاهرُ حياتهم يدلُّ على أنهم يمتازون عن سائر أبناء قومهم، بالصفاتِ الفاضلة، والأخلاق القويمة، وبما توفِّرهُ تلك المزايا من محبَّة الناس واحترامهم لهم، وتقديرهم إيّاهم.
وبعيداً عن المظاهر، وفي صميم النفس، كان كلٌّ منهم يعيشُ حالاتٍ من المشاعر الخاصَّة.. يُحِسُّ منذ تفتَّحت مداركه على الوعي بأن قلقاً يلازمُهُ، ويشعُرُ بأن أمراً معيَّناً ينتظرُهُ، ولكنه لا يدرك كنهَهُ.. ويظلُّ على هذا النحو حتى يأتيه الوحيُ ويُنتَدَبُ للتكليف، وإذ ذاك ترتفِعُ الحَيْرةُ من نفسه، ويذهبُ عنه القلقُ، ويعرفُ السرَّ الذي كان يُعاني منه.. في هذا الوقت بالذات، وعندما تنعمُ روحُ مبعوث الله تعالى بالسلام الداخليّ، يبدأ الاضطراب في أمنِه الخارجيّ، حتى يُصبحَ هذا الأمنُ وكأنه شراعٌ تتقاذفه أنواءُ الأهواء والنزعات، وتتجاذبه أمواجُ الأحقاد والانفعالات من الناس الذين جاء لهدايتهم!..
نعم، يكونُ أحدهُم مكرماً في بني قومِهِ، يَرون فيه الحليم، الرشيدَ، الصادقَ، الأمينَ، المستقيمَ، حتى يُعلنَ دعوَتَهُ.. عندها تبدأ العواصف، وينقلبُ كلُّ شيء ضدَّهُ، وفجأةً يتحوَّلُ في أعين الناس، من تلك الصفات التي كان عليها، إلى مجدّفٍ على المعتقدات، مسفّهٍ للآراء، مزدرٍ للعادات والتقاليد. ويصبحُ أيضاً وبصورة فجائية، ذلك المجنونَ، أو الساحرَ، أو المارقَ من عقائدهم السخيفة..
إنّ النبيَّ أو الرسولَ، والحقُّ طريقُهُ، لا بدَّ أن يكون النصرُ حليفَهُ في النهاية، مهما تألَّبتْ عليه قوى الشرّ، أو تضافرتْ ضدَّه جيوش الباطل. ولكن قبل أن يصلَ إلى مرحلة النهاية، وفي سعيه المتواصل من أجل إفهام الناس وإقناعهم بأحقية ما يدعوهم إليه، تَفرضُ عليه مُستلزماتُ الدعوةِ أن يأتيَ بأعمال، يظنُّها الناس معجزاتٍ أو خوارق، بينما هي في الحقيقة - وكما نفضل أن نسمّيها - آياتٌ بينات، وشواهدُ حيَّة على أن الله العليّ القدير يمنحُها لمبعوثه، أو يأذن له بإتيانها، حتى يتمكَّن من أداء الرسالة على الوجه الأكمل..
لقد اعتبر الناسُ أن تلك الأعمال أو الأحداث التي عايشوها على يد المرسلين هي خوارقُ أو معجزات.. وهذا أمرٌ طبيعيّ، لأن القانونَ الذي يحكُمنا نحن بني البشر، والذي يُقيِّد عقولَنا بما نقدِرُ عليه، ويكبّل إدراكنا بما يمكننا الوصول إليه، لا نستطيع تخطِّيَه أو تجاوزه. والأمثلة على ذلك لا يمكن أن تقع تحت حصر.. مثال أن النارَ لها خاصية الإحراق، وأن العصا اليابسة لا تأكل لعدم وجود حاجة عضوية فيها لطلب الطعام.
ومن البديهيّ أن يكون هذا القانون صحيحاً بالنسبة لنا نحن بني البشر، نظراً لتركيبنا الفيزيولوجيّ والعصبيّ والإدراكيّ والنفسانيّ، وكلها تعجز عن إعطاء كلٍّ من النار أو العصا، خصائصَ تختلف عن خصائصها الطبيعية التي وجدت فيها. ولكنَّ هذا القانون لا يطبَّق على الله سبحانه، لأنَّ جميع القوانين تخضعُ في الأصل له - عزّ وجلّ - إذ إنه هو خالق كل شيء، وهو الذي يضع الخصائص لكل شيء. ومن كان قادراً على خلق شيء، فهو قادر على التحكُّم فيه، وتبديل خصائصه وفق ما يشاء أو يريد.. هكذا وبمثل هذا المنطق يكون الله العزيز قادراً على أن يسلبَ النارَ خاصيةَ الإحراق، إذا أراد أن ينجيَ نبيَّه إبراهيم (عليه السلام) من كيد أعدائه، ويكون سبحانه قادراً على أن يعطيَ عصا موسى (عليه السلام) خاصيةَ الحياة حتى يُصبح بإمكانها أن تسعى بنفسها وتلقفَ كل ما يأتي به سحرة فرعون، أو أن يجعل في تلك العصا قوَّةً تفلقُ البحرَ حتى يُغرِقَ فيه أعداءَه وأعداء الإنسانية.
إذن ليس مستغرباً أن يقفَ الناسُ أمامَ أحداثٍ كهذه، مشدوهين، مأخوذين، ويندفعوا إلى وصف الحادثة بأنها معجزةٌ أو خارقة.. وليس علينا جميعاً حرجٌ، إذا أطلقنا عليها ذلك الوصف، ما دمنا نرى بأم العين واقعاً وحادثاً، يفوقُ طاقتنا وقدرتنا، ويبعدُ كثيراً عن إدراكنا إذا حاولنا محاكاتَهُ مع ضعفنا وعجزنا عن الإتيان بمثله...
ومن هنا كان علينا أن نؤمن، بأن الأنبياء والمرسلين لا يجترحون المعجزات، وإنما يأتون بإذن الله، في مناسبات معيَّنة، وفي أحوال خاصَّة، أفعالاً لا تتَّسم بالطابع العاديّ مما يعرفه بنو البشر..
وقد يسألُ سائلٌ: ولماذا لا يكون في أيامنا هذه مثلُ تلك الخوارق والمعجزات، ونحن في أمسّ الحاجة إليها، كي تعيدنا إلى طريق الإيمان الصحيح؟..
والجواب سهل وبسيط جداً، فالرسالات المنزلة إلى أهل الأرض اختار الله تعالى لحملها ثلةً من عباده الصالحين يحملون للناس الهداية، ويدلُّونهم على الطريق المستقيم. فإذا كانت تلك الثلَّةُ المختارةُ قد أُعطِيَتْ وحدها الامتيازَ كي تتحققَ على يديها تلك الأفعالُ التي يعجز الناسُ عن الإتيان بمثلها، فإنَّه من الطبيعيّ أن لا نرى في وقتنا الحاضر، مثل تلك الأحداث، تؤتى أو تتحقق وبنفس الطريقة التي جرت وحصلت فيها على أيدي أصحابها من مبعوثي الله - العليّ القدير.
ثم إن هنالك سبباً آخرَ جوهرياً، وهو أن الإنسان قد بلغَ من النضوج الفكريّ، والعمق العقليّ، ووصل إلى مدى من المعرفة والعلم، يمكنه معها الوقوف على حقائق كثيرة في هذا الكون، وذلك بعدما أرشدتْه الكتبُ السماوية إلى السبل التي يستطيع بواسطتها إدراك المعاني والمفاهيم الروحانية، والوصول إلى معرفة تركيب الكون. ولعلَّ في ما حقَّقه العقل البشريّ، وما هو قادرٌ على تحقيقه في المستقبل أكبرَ دليلٍ على ما أعطاه الله للإنسانَ من معرفةٍ باتت تصنعُ أحداثاً لو جاءت في وقتٍ مضى لاعتُبِرت بمثابةِ خوارقَ أو معجزات. فلو كان عقل الإنسان قادراً على أن يستوعب أمور اختراق الفضاء والوصول إلى الكواكب الأخرى، وأعطى الله لأحد أنبيائه قدرةً على أن يوفِدَ إلى القمر إنساناً ثم يعيده إلى الأرض، والله قادرٌ على ذلك - كما قلنا - لأنه خالق كل شيء، وقادرٌ على كل شيء، فإن ذلك كان يُعَدُّ معجزةً أو خارقةً في ذلك الوقت. وهذا ما حصل بالفعل مع سيدنا محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) في حادث الإسراء والمعراج ولكنَّ المشركين والكفار لم يصدقوه، بينما يعدُّ ذلك الحدث، في جوهره وحقيقته، اختراقاً للفضاء، وصعوداً إلى السماوات العلى. وربما غير المؤمنين الصادقين لا يقرون، حتى اليوم، بحصول الإسراء والمعراج، لأنه فعلاً معجزة بالنسبة لعقل الإنسان، بينما هو آية من آيات الله العظمى التي يؤتيها سبحانه من يشاء، وكيفما يشاء.. بل وحتى في عصرنا الحاضر، ما زالت هنالك فئاتٌ واسعةٌ في البلاد المتخلِّفة لا تصدّق بأن الإنسان قد وطأ بقدميه سطحَ القمر، وتعتبرُ ذلك تجديفاً على الخالق، لأن في ظنها أن ذلك نوعٌ من الخارقة أو المعجزة التي لا يستطيعها الإنسان.
إذن ليس من ضرورة بعدُ على الأرض لبعث الأنبياء والمرسلين، ولا جدالَ في أن الإنسان قد بلَغ من العلم والمعرفة ما يستطيع به أن يستوعب قضيةَ الإيمان بالله الواحد، وأن يسعى لاكتشاف مكنونات الكون، بما يؤمّن مصالحه، وفق ما يراه!..
على أنه بالغاً ما بلغ الإنسان علماً ومعرفةً ونضوجاً فإنه ما زال وسيظلُّ عاجزاً، عن معرفة شيء واحد، هو سرّ الحياة. ومن جملة ما استهدفت قصص الأنبياء، التأكيدُ على أن ذلك السرّ هو من خصائص الخالق التي اخْتُصَّ بها سبحانه وتعالى وحده، تماماً كما هو علم الغيب من تلك الخصائص. وقد يكون سر الحياة هو من علم الغيب، ولذلك لم يُعطَهُ الإنسانُ.. ولكن ما أمكننا معرفته، نحن بني البشر، وما دلَّتنا عليه قصص الأنبياء، كما وردت في القرآن الكريم، هو أن الله يخلق الإنسان، بالطريقة التي يريدها، ووفق ما يشاء سبحانه ويقدّر. فقد خلق آدمَ من تراب، ونفخ فيه من روحه فكان بشراً سويّاً.. ثم جعل للخلق قاعدة تقوم على التقاء الذكر والأنثى، وعلى اجتماع بويضة الأنثى بخليَّة التذكير، فمتى حصل ذلك تمَّ الإنسان ونشأت الحياةُ التي تظهر للوجود بعد مدة محددة.. هذه سنَّةُ الله في خلقه.
وعندما شاء الله القادر أن يخرق تلك القاعدة، اختارَ انثى بمفردها، هي مريم بنت عمران سلام الله عليها، ونفخَ فيها من روحه - تماماً كما نفخ من روحه عندما خلق آدم (عليه السلام) - ومن تلك النفخة التي تلقتها مريم من روح الله سبحانه، نشأت الحياة في أحشائها، وولدت ابنها عيسى، عليه وعليها السلام.
إذن لقد حقَّت كلمةُ الله الذي يقول للشيء: «كن فيكون» فكان عيسى ابن مريم (عليه السلام) مخلوقاً من الله تعالى الذي ينشىء الحياة على أي سبيل يشاء: من تراب، من التقاء الذكر والأنثى، من أنثى وحدها.. كلُّ شيء عنده هيّنٌ، وما ذلك على الله بعسير..
وسواء سمَّينا ولادة عيسى ابن مريم (عليه السلام) خارقةً أو استثناءً أو معجزةً، أليست تعود إلى الاعتقاد اليقينيّ بأنها من صنع الله تعالى الذي لا ينازعه فيها كائنٌ؟ أي أن الله هو وحده القادر على إتيان الخارقة أو الاستثناء كما هو قادر على رسم القاعدة، وليس غيرُهُ بقادرٍ على ذلك.. وما أجملَ وأروعَ أن يقرأ الإنسانُ، بعد التفكير والتأمُّل، «سورة الإخلاص» في القرآن الكريم: {...بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَانِ الرَّحِيمِ * قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ *اللَّهُ الصَمَدُ *لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ *وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ *} [النَّمل: 30]، [الإخلاص: 1-4].
نحن ندرك إذن أن الله تعالى قادرٌ على أن ينشىء الحياة على غير مثال، وليس بضارٍّ أن نجهل ماهية هذه الحياة. كذلك ليس يُعيقُ هذا الأمر قدرتَنا على الاضطلاع بوظيفة الخلافة في الأرض، ما دام إنشاءُ الحياة لا يدخل في تكليف الاستخلاف.. لذلك فإننا نقولُ لك أيها القارىء العزيز، وبكل تواضع وبساطةٍ، إنه يجب ألاَّ يشتبه عليك الأمر، أو أن تأخُذَكَ الشكوك بعيداً، إذا ما وجدتَ في ولادة عيسى ابن مريم (عليه السلام) ما هو غير مألوف، ما دام أن ذلك قد تمَّ بأمرِ الله تعالى...
ولعل في قول الله عزّ وجلّ، ما يُدخِل الإيمانَ إلى القلب، وما يُنبىءُ عن قدرة الله وعظمته، وهو يرسلُ النبيين إلى بني البشر، ومنهم رسولُه إلى بني إسرائيل المسيحُ عيسى ابن مريم (عليه السلام) فلنستمع إذن إلى قول الله تعالى في عيسى وأمّه الصديقة مريم، ولْنَتَتَبَّعْ بعده بإيجاز، ما حدث لذلك الرسول الكريم بعد أن رفعهُ الله عزّ وجلّ إليه.
يقولُ الله سبحانه في محكم كتابه العزيز، وفي «سورة المائدة»:
{مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلاَنِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ *} [المَائدة: 75]
{وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَاعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ *مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ *} [المَائدة: 116-117].
فأوَّلُ ما تؤكِّد عليه هذه الآيات هو إنسانية المسيح عيسى ابن مريم (عليه السلام)، وأنَّهُ كانَ هو وأمُّه بشرين يأكلان الطعام، مثل باقي بني البشر. أما الغاية الجوهرية من إيراد هذه الميزة «يأكلان الطعام» فهي للتدليل على أن الإنسان عندما يتناولُ الطعامَ إنما يستتْبِعُهُ إخراجُ الفضلات، وحاشَ لله سبحانه وتعالى أن تكون له تلك الصفة، لأنه ليس معقولاً أن يكون الأكل وإخراج فضلات الطعام من صفاته عزّ وجلّ.
ولقد جاء التأكيدُ بعدما طالَ الجدَلُ، وكثُرَ النقاشُ حول طبيعة المسيح: هل هو إله أم إنسان. فكان لا بدَّ من دحض ما قيل بأن المسيحَ هو إله، ولا بد من بيان صفته بأنه إنسانٌ مثل كل الناس في طبيعته، ولكنه رسول الله إلى بني إسرائيل، وللرسول عادة عند الله خصائصُ ومزايا يخصُّهُ بها، ويميّزه بموجبها عن سائر مخلوقاته، لأنه واحدٌ من تلك الثلَّة التي يختارُها الله لقيادة الناس وتوجيههم إلى ما تحمله الرسالات السماويّة..
ولقد جاء هذا التأكيد في آخر كتابٍ سماويّ لآخر رسالةٍ سماويَّة تُبعثُ إلى الأرض. وهو كتابٌ يحتوي كلام الله سبحانه الذي أنزل بلسان عربيّ. وما دام هذا الكتابُ، ونعني به القرآن الكريم، قد قطعَ بصورةٍ لا جدالَ فيها، أن المسيح عيسى ابن مريم (عليه السلام) هو إنسانٌ، وهو رسولٌ من الله إلى بني إسرائيل: {وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَم يابَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ} [الصَّف: 6]. ما دام القرآن الكريم قد قطع كل غموض حول طبيعة السيد المسيح بصورةٍ جازمةٍ، فلا يجوزُ لنا بعدُ، إلاَّ أن نوقِنَ بما يقولُهُ، لأن القرآن كما أثبتنا أكثر من مرَّة، وكما تأكَّدَ للملأ كلِّه، منذ 1425 سنة ونيّف، كان ولا يزال معجزةً بذاته، ولا يمكنُ لأيّ بشرٍ أن يأتيَ بمثلِه، لأنه قولُ الله سبحانه، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
هذا هو إيماننا بالمسيح عيسى ابن مريم (عليه السلام) : إنه إنسانٌ بعَثهُ الله نبيّاً لبني إسرائيل. وهذا ما تثبته حياتهُ التي عاشها في بيت لحم من قرى فلسطين. فقد عاش على مرأى جميع بني عصره، يأكلُ ويشربُ، ينامُ ويقومُ، يروحُ ويجيءُ، مثلَ كل الناس، حتى جاءَهُ التكليفُ الذي أُعِدَّ له منذ البداية، وحمَلَ الرسالَةَ التي نُدِبَ لها في الأصل..
وهذا إيمانُ عليّ بن أبي طالب (كرم الله وجهه) بالمسيح عيسى ابن مريم (عليه السلام)، فهو يقول فيه: «وإن شئتُ قلتُ في عيسى ابن مريم (عليه السلام)، فقد كان يتوسّدُ الحجَرَ، ويلبسُ الخشِنَ، ويأكلُ الجَشِبَ. وكان إدامُهُ الجوعَ، وسِراجُهُ بالليل القمر، وظلالُه في الشتاء مشارق الأرض ومغاربها. وفاكهتُهُ وريحانُهُ ما تنبتُ الأرض للبهائم. ولم تكن له زوجةٌ تَفْتِنُهُ، ولا ولدٌ يُحزِنُهُ، ولا مالٌ يَلفِتُهُ، ولا طَمَعٌ يُذِلُّهُ. دابَّتُهُ رِجلاه، وخادمهُ يداه».
وفي سبيل إثبات الحقيقة، وحتى لا تظلَّ لأحد حجَّةٌ في ما يدَّعي، فلنعد إلى الحوار الذي يوردهُ القرآنُ الكريمُ بين الله - سبحانه وتعالى -. والمسيح (عليه السلام) على شكل عتابٍ يراد منه إقناعُ أتباع السيد المسيح بحقيقته التي خلقه الله تعالى عليها، فيقول له عزّ من قائل: {أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [المَائدة: 116].
فماذا يكون جواب المسيح (عليه السلام) ؟
إنَّه من الطبيعي، وهو رسولٌ كريمٌ ألاَّ يُجيبَ خالقه إلاَّ بما قاله للناس حقّاً، وبما قام عليهم فيه شهيداً طوال قيامه بالرسالة. فكان جوابُهُ سلامُ الله عليه: {سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ} [المَائدة: 116] {مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ *} [المَائدة: 117]. سلامُ الله عليك يا سيّدي يا عيسى ابن مريم وأنت تناجي ربّك بتلك الآيات البيّنات التي تؤكِّد بها أنه هو الله الخالقُ الرازقُ المدبِّرُ لا إله إلا هو، وأنه ربُّك وربُّ العالمين أجمعين، والتي تؤكد بها امتثالك لأوامر ربك عز وجل {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ} [المَائدة: 117] والعبادة لله هي دليل عبودية الإنسان له سبحانه وتعالى، لأنه الواحد الأحد الفرد الصمد.. وسلامٌ عليك يا سيدي يا رسول الله وأنت تبدي للخالق أنك قد دعوتَ بني إسرائيل لعبادة الإله الواحد الأحد، الذي لا شريك له ولا ولد، وأثبتَّ لهم ما أمرَك الله به، تصديقاً لما جاء في توراة موسى (عليه السلام)، وشهدتَ عليهم أنَّكَ بلَّغتهم وأجزلْتَ في البلاغ، وبقيتَ الشهيدَ الرقيبَ، حتى توفّاك ربّك ورفعك إليه، يا صاحبَ المقام الرفيع..
هذا هو المسيح عيسى ابن مريم (عليه السلام)، كما دلَّ عليه القرآن الكريم بالحجَّة الواضحة والبرهان القاطع بأنه كلمةٌ من الله بشَّرت بها الملائكةُ أمَّهُ مريم ليكونَ وجيهاً في الدنيا والآخرة ومن المقرَّبين إلى الله: {إِذْ قَالَتِ الْمَلاَئِكَةُ يَامَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ *} [آل عِمرَان: 45]. والكلمةُ كما قلنا هي: «كن فيكون». وقد رادفتِ الكلمةُ النفخةَ من روح الله، فكان المسيح عيسى ابن مريم (عليهما السلام).
أمّا الروح، لفظاً، وكما وردت في القرآن الكريم، فقد حملت معانيَ متعددة: فأريد بها جبرائيل (عليه السلام)، بدليل قوله تعالى: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ *} [الشُّعَرَاء: 193] أي نزل بالوحي. وأريد بها الشريعة الإسلامية: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا} [الشّورى: 52].وأريد بها أمر الله ومشيئته: {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي} [الحِجر: 29]. وأريدَ بها سرّ الحياة: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً *} [الإسرَاء: 85]. وفي ذلك تأكيدٌ جديدٌ على أن سرّ الحياة لا يعرفُهُ إلا الله تعالى.
هذه المعاني للروح، توحي يقيناً بأن المسيح (عليه السلام) هو من روح الله، أي أن الله - جلت عظمته - قد خلقه بأمره، ووفقاً لما يشاء من خلْقه، وقد اختار الله أمَّهُ مريم واصطفاها على نساء العالمين كي ينفُخَ فيها من روحه، ويُنشىءَ حياةً من تلك النفخة المباركة. أمّا ذلك الاختيارُ لمريم فقد كانت له مقوّماته بلا شك. فقد نُذِرَتْ، وهي في بطن أمها لتكون عابدةً، قائمةً على خدمة بيت الله. وقد رُبّيتْ في كنف زكريا (عليه السلام)، على الإيمان والتقوى الخالصة لوجه الله، فلم تركعْ لصنم، ولم تعبدْ مادةً كما كان يفعلُ بنو إسرائيل، حيث وصل عندهم حبّ المال إلى درجة العبادة، بل وأصبح المال وحده مقياسَ الفضائل في نظرهم. وعاشت في ذلك الصفاء، وفي ذلك الطهر، دون أن يمسّها بشرٌ، أو يُدنِّسها اتِّصالٌ، فكانت الفتاةَ العذراءَ البتولَ، وكانت المرأةَ التي حَبلَتْ بلا دنسٍ، وكانت الأمَّ التي ولَدَتْ وهي عذراء..
أَوَلَيْسَ في تلك المزايا ما يجعلها الأمَّ المختارةَ لرسولٍ خَلَتْ من قبله الرسُلُ؟ وذلك الرسُولُ ابنُها، المسيحُ عيسى ابن مريم (عليه السلام)، ألم يكن رسولاً فريداً في زمانه، فأَعطيَ ما لم يُعطَهُ رسولٌ قبلَهُ؟ أليس هو، من نفخَ في الطين فصارَ طيراً، وشفى الأبرصَ (المصاب بمرض جلديّ) والأكمه (الأعمى) وأحيا الموتى، وكلّ ذلك بإذنه تعالى.
ألا لو أمعنَ الإنسانُ النظرَ بتلك العطايا الساميات، التي وُهِبَتْ للمسيح (عليه السلام)، لأيْقَنَ فوراً، وبلا ترددٍ، أنها لا يمكن أن تكونَ إلاّ لذي منزلةٍ رفيعةٍ عند الله.
وبالفعل، فقد كان للمسيح عيسى ابن مريم (عليه السلام) تلك المنزلةُ السامية عند ربِّهِ، بحيث شكَّلتْ حياتُهُ منذ ولادته وإلى حينِ رفعَهُ الله إليه، وحدةً من نسيج فريدٍ، فكانت ولادته بنفخةٍ من روح الله، وكانت أفعالُهُ بمثابة خوارقَ أو معجزات، تدليلاً على عظمتها وقوَّتها، وكانت وفاتُهُ رفعاً إلى الله، حتى يكون في ذلك كلِّه وجيهاً في الدنيا والآخرة، وعند الله من المقرَّبين.
هذا هو المسيحُ عيسى ابنُ مريم (عليه السلام)، ذلك الإنسان الرسولُ الذي امتاز بخصائصَ من ربه، كانت له وحده دون غيره، فجاءَ الناسُ من بعده يختلفون فيه، ويمعنون في الاختلاف بطبيعته، وفي تعاليمه التي ضمَّها الإنجيل، وعلَّمها لتلاميذه ولبني إسرائيل، وفي قيامه بالدعوة والتكليف، وفي ناحية موته أم بقائه حيّاً.
وفي القرآن الكريم ورد قولُهُ تعالى على قضية وفاة السيد المسيح وحياته في «سورة آل عمران»: {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَاعِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} [آل عِمرَان: 55] وكان اختلافٌ في التفسير عندما قالوا بأن الله قد توفَّى المسيح (عليه السلام) كما يتوفى سائرَ الناس، أي أماته، ثم رَفَعَهُ إليه، أو عندما قالوا بأن وفاته حصلتْ جسداً ثم رفعه الله إليه روحاً... ونحن نرى أن الله سبحانه وتعالى قد رفع المسيح عيسى ابن مريم إليه جسداً وروحاً، لأنَّ الوفاةَ تحمل في القرآن الكريم معنى اللقاء في النوم، بدليل قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَتَوفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمّىً} [الأنعَام: 60] وبدليل قوله تعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً} [الزُّمَر: 42]. وهذا يعني أن الوفاة هي اللقاء، وهي غير الموت، لأن الوفاة تحصل للإنسان كلما غاب بوعيه عن وجوده، بينما الموتُ هو الذي يُغيِّبه بصورة نهائية عن حياته الدنيا، والفارق كبير بين الحالتين: حالة وفاة الأنفس حين موتها، وحالة وفاة الأنفس في منامها، والتي ليس فيها موت.
من هنا نرى أن المسيح ما زال حياً، ولم يُصِبْهُ الموتُ لا جسداً ولا روحاً، وهذا معنى الرفع.
وصدق الله العلي العظيم حيث يقول: {وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً *} [النِّسَاء: 157].
أما في ما يتعلق برسالته وكما بيّنا من قبل، فقد بعث الله عيسى ابن مريم (عليه السلام) إلى بني إسرائيل، بعدما بَعُدوا عن التوراة التي أنزلها الله على موسى هدىً ونوراً، وعقيدةً وشريعةً، وكان الانحراف في حياة بني إسرائيل، عندما زهدوا في الدين وانصرفوا إلى الدنيا، تطغى على سلوكهم المادة، ويسود في علاقاتهم الربا والفحشاء، ناهيك عن الظلم والعدوان، واستباحة المحرمات.
ولما كان الله رؤوفاً بعباده، حليماً، رحيماً، فقد أرسل لبني إسرائيل المسيحَ (عليه السلام)، ليُعيدَهُم إلى جادَّةِ الحق والصواب، التي ناضل في سبيلها أنبياؤهم المختارون: إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب (إسرائيل) ويوسف، وموسى (عليهم السلام) ... فبعثُ عيسى يجعلُهُ آخرَ رسولٍ لبني إسرائيل، ليصدّق ما وردَ في التوراة، وليرسّخ أصول العقيدة الواحدة، التي نادى بها جميع الأنبياء والمرسلين..
«لا تظنّوا أني جئت لأنقض الناموسَ والأنبياء، ما جئتُ لأنقض بل لأكمِّل» (إنجيل متَّى 6:17)، {مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ} [الصَّف: 6].
جاء (عليه السلام) ليعيد اليهود إلى حظيرة الإيمان، فلاقى منهم الجهلَ والعنتَ، بمقدار ما لاقى الظلم والاضطهاد. ورغم ذلك ظلَّ وفياً للعهد، وبلَّغَ ما أُنزلَ إليه من ربه تبارك وتعالى، حتى استقرَّت العقيدة في القلوب والأذهان، عقيدةً دينيةً، منزَّلةً من عند الله تعالى، بما يتوافقُ مع ما جاءَ قبلَها، ومع ما سيأتي بعدها..
ولكن، وكما فعلَ اليهودُ بانحرافهم عن التوراة، هكذا دخلتْ على النصرانيّة النظرياتُ التي سادت بعدها، حتى طمسَتْ معالمها الأصلية، وجعلتْها أبعدَ ما تكونُ عن رسالة عيسى ابن مريم (عليه السلام)، كما نادى بها، ونشرَها على الدنيا. وهذا ما دفع المؤرخ أرنولد توينبي ليقول عن المسيحية - والمقصود فيها النصرانية - في كتابه (المسيحية بين أديان العالم): بأنها «تركيب يجمع بين اللاهوت اليهوديّ والفلسفة الإغريقية». ولما كان الإغريق وثنيين، فإن تداخل نظرياتهم الفلسفية بالعقيدة النصرانية، جعل هذه الأخيرة غيرَ قادرةٍ على المحافظة على ما جاءت به في الأصل. وكان ذلك مدعاةً للانقسام في الفكر المسيحيّ حول طبيعة السيد المسيح: فقال مؤتمر نيقية المنعقد سنة 325 ميلادية بألوهية المسيح، في حين أن الآريوسيين أنكروا تلك الألوهيّة، واعتبروا المسيح إنساناً مثل كل الناس، ولكنه رسولُ الله إلى بني إسرائيل.
وانعقدت بعد ذلك مجامعُ أخرى كثيرة، ومنها المجمع القسطنطينيّ الأول سنة 381 ميلاديَّة الذي أضاف إلى ألوهية المسيح روحَ القدس، تأثُّراً بالأفلاطونية الحديثة التي قالتْ بأن أولَ شيء صَدَرَ عن المنشىء الأول للكون هو العقلُ. وقد صَدَرَ عنه لأنَّهُ متولدٌ منه، ولهذا العقل قوَّة الإنتاج، ولكن ليس كمثل من تولد عنه.. ومن العقل انبثقت الروح التي هي وحدةُ الأرواح، وعن هذا الثالوث يصدرُ كل شيء، ومنه يكون التدبيرُ والخلق..
هذا ويرى بعض المفكِّرين أن النصرانية قد بَعُدَتْ عن جذورها الأولى بفعل تعاليم بولس وتفسيراته، وأن تلك التعاليمَ والتفسيراتِ هي التي وصلتْ إلى أوروبا و«تمسَّحت» على أساسها، وليس على أساس العقيدة الأصلية كما نادى بها المسيح (عليه السلام).
وإذا كان كثيرٌ من الباحثين والمؤرخين الغربيين أمثال العلامة دراير، وتوينبي، وجيبون، وغيرهم، يعتبرون أن التفسيرات التي طرأت على المسيحية (كما يسمونها) قد انحرفت بها عن أصولها كرسالة سماوية، فإننا نرى أن اختلاف النظر إلى القضايا الهامَّة التي تتعلَّق بالتفسير والاستنباط إنما هو سبيلٌ لبلوغ الأحسن والأكمل، بما يتلاءمُ مع التقدّم الحضاريّ المستمر، إلاَّ ما كان متعلِّقاً بجوهر الرسالة السماوية، أي العقيدة، فإنه لا يجوز أن يطرأ عليها تعديلٌ أو أن تخضعَ لتأويلٍ يبعدها عن حقيقتها.. ويبقى أن الإنسان، إذا سعى من أجل الصالح العام، فإنَّه خيراً يفعل، فإن أخطأ فلهُ أجرٌ، وإنْ أصابَ فله أجران، إلاَّ إذا تعمَّد أن يُدخل في العقيدة ما ليس منها، فإنه حينئذٍ يبتعد عن الحقائق التي يريدها الله الواحد الأحد، الذي لم يتخذ صاحبةً ولا ولداً.
وخلاصة البحث، أن الجدَلَ والنقاش، واختلافَ الآراء كان قد بَلَغَ حدّاً كبيراً في القرنين الخامس والسادس الميلاديين، مما جعل النفوسَ قلقةً، لا تستقرُّ على فكرٍ معيَّنٍ يبعثُ على الاطمئنان الكامل. فإذا أضفنا إلى ذلك أنَّ الرسالاتِ السماويَّة قد جاءتْ من أجل خير الإنسان، وفي سبيل صالحه العام، وأنه كان قد ظَهَرَ منها ما اصطلح الناس عليه باليهودية والمسيحية، فإنَّ مثل تلك الأجواء كانت تهيىء لمجيء رسالةٍ سماويةٍ أخرى، لا تنقُضُ ما جاء قبلها، بل لتكمّل وتُوفِي، وتضعَ الأمور كافة في نصابها الحقيقي.. وأوّل تلك الأمور التأكيد على أن الله واحدٌ أحد، وهو خالق الكون ومن فيه، وأن جميع الأنبياء والرُّسلُ، هم بشرٌ اختارَهُم الله لإيصال رسالاته إلى الأرض، وأنهم وإن اختلفت بهم العصور، وباعدت بينهم الأمكنة، فإن العقيدة الإسلامية التي نُدبوا من أجلها هي واحدةٌ لا يمكن أن تتجزأ. ولذلك كانت الرسالاتُ السماوية السامية مكملةً بعضَها البعض..
أما لماذا كان الإسلام في نهاية المطاف، فلأن المفاهيم التي جاءت بها الرسالات السابقة قد اختلطت على الناس، فكان لا بدَّ من رسالةٍ جديدةٍ تصحح تلك المفاهيم ومن بينها التأكيد على الفوارق العميقة بين الألوهية والنبوَّة، وبين الخالق - سبحانه وتعالى - وبين مخلوقاته، وعلاقاته - عز وجل - بالعالم والكون والبشر..
وهكذا كان لا بدَّ من الاختتام. فكان الإسلامُ هو آخرَ رسالةٍ سماويةٍ إلى الأرض، وكان النبيّ محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) هو خاتمَ الأنبياء والمرسلين.
وممّا تميَّز به المسيحُ عيسى ابن مريم (عليه السلام) عن غيره من مبعوثي الله تعالى، أنَّه هو الذي بشَّر بالنبيّ الذي يأتي من بعده في مصداق قوله تعالى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ} [الأعرَاف: 157]. وفي التأكيد على مَنْ سيكون هذا النبيّ: {وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَم يابَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} [الصَّف: 6].
البشارة بالنبيّ محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)
وكانت البشارةُ حقاً.. للإنسانية جمعاء، وعلى لسان نبيٍّ من أنبياء الله العظام. ومن أحقّ بهذه البشارة التي أضاءت الأكوان من سيدنا المسيح عيسى ابن مريم (عليه السلام) ؟
وتحققت البشارةُ، وبعثَ الله محمداً نبياً ورسولاً.. بعثه بالهدى ودين الحق ليخرجَ الناسَ من الظلمات إلى النور، وليشفيَ عباد الله من أمراضهم النفسية والعقلية، ويزيلَ عنهم ما عَلِقَ بهم من أدران الوثنية.
{ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ *مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ *} [مَريَم: 34-35]..
إنَّ هذه البشارةَ بمحمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وما كان من أمر إرساله إلى الناس كافة، وما انطوت عليه سيرةُ هذا الرسول الأعظم محمد بن عبد الله (صلى الله عليه وآله وسلم) هو ما تجدونه في «كتاب خاتم النبيين» محمد (صلى الله عليه وآله وسلم).

مقدمة الكتاب
القسمُ الأوّل
القِسم الثاني
القِسم الثالِث
القسم الرابع
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢