نبذة عن حياة الكاتب
علم النفس: معرفة النفس الإنسانية في الكتاب والسنة - الجزء الأول

البحث الثاني: التقليد والتبعيّة والعَادة
التقليد والتبعية
القَلْد هو الفتل، وقلَّدْتُ الحبل فهو قليد أي مفتول. والقِلادة: المفتولة التي تجعل في العنق من خيط أو فضة أو غير ذلك. وبها شُبّه كل ما يُتَطوَّق به، أو كل ما يحيط بشيء، فيقال: تقلَّدَ سيفَهُ، على نسق: توشَّح سيفه، تشبيهاً بالوشاح.
والتقليد هو اتِّباعُ الغيرِ دونَ تأمُّل. يقالُ: قلَّدَهُ في كذا: تَبِعَهُ من غير تأمُّلِ ولا نَظَرٍ. والتقليدُ شرعاً هو العملُ برأي الغير من غير حجّةٍ مُلْزِمَةٍ.
وأما عن التبعية، فيقال: تبعَه، واتّبعَهُ، أي قَفَا أثرَهُ بالإرادة تارة، وتارة بالائتمار. يقول الله تعالى: {فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} [البَقَرَة: 38]، أي فمن آمَنَ بي وعملَ بطاعتي، فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون في الآخرة، فيدخلون الجنة آمنين مطمئنين، راضين مرضيين بهذا الفوز العظيم.
وأمَّا قول الله تعالى: {يَاقَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ} [يس: 20]. فهو ما قاله حبيب النجار، أحد سكان إنطاكية، على ما يُروى، وكان بيته في المدينة؛ وبحسب النصوص القرآنية فقد أرسلَ الله تعالى إلى أهل تلك المدينة اثنين من الرسل فكذبوهما، فعزَّزَ تعالى موقفهما بثالث وكان الناس كذَّبوا أولئك المرسلين، فجاء ذلك الرجلُ من أقصى المدينة يسعى لاتّباع رسل الهداية وكان قد آمن بدين التوحيد وبالرسل المبعوثين من قبلُ كما جاء في قوله تعالى: {اتَّبِعُوا مَنْ لاَ يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ *} [يس: 21]... فالاتباع، هنا، معناه الدخول في الهداية..
وعلى الرغم من أنَّ الرسالات السماوية كانت تترى على الأرض بصورة دائمة، فيبلغها المرسلون تبياناً لهدى الله تعالى، ودعوةً لاعتناق عقيدة التوحيد، - بديلاً عن الكفر والشرك - إلاَّ أنَّ معظم الناس كانوا لا يؤمنون برسالات ربهم، بل يؤثرون البقاء على عبادة آلهةٍ من تماثيل، أو من تصورات خرقاء لا طائل فيها، متَّبعين في ذلك ما ألْفَوْا عليه آباؤَهم من تلك العبادات..
وأهمية البيان القرآني أنه يثير في الإنسان مكامن التفكير ليوقن ثلاثة أمورٍ:
الأول : أنَّ ما عبَدَ الناسُ من الأوثان والتماثيل كان فعلاً آلهةً مزعومة، لأنه لا إله إلاَّ الله ..
والثاني : أن تلك المعبودات التي زعموا أنَّها آلهةٌ، سوف يُنطقها الله تعالى - على الرغم من أنها جمادات - لتشهد يوم القيامة على أنَّها براء من كل الذين اتبعوا عبادتها..
والثالث : أنَّ أهل البدع والضلال سوف يتبرَّأون كذلك، يوم القيامة، من الذين اتبعوهم.. {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ *إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ *وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّأُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ *} [البَقَرَة: 165-167].
في هذه الآيات الكريمة نجد التقليد، أو الاتِّباع بأجلى مظاهرهما..
ذلك أنَّ الإنسانَ يمكن أنْ يكتسب كثيراً من المعلومات التي تقع عليها حواسُّهُ، في المرحلة المبكرة من حياته، عن طريق تقليد والديه وإخوته، ومعلميه، ورفاقه، وكل من يحيط به في البيئة التي يعيش فيها.. فهو، مثلاً، يبدأ تعلُّم اللغةَ بمحاولة محاكاة والديه وإخوته في النطق ببعض المقاطع الصوتية التي يكررونها أمامه عدة مرات، كما يبدأ تعلمه المشي بمحاولة تقليد والديه وإخوته فيما يقومون به من حركات وأعمال. وهكذا يتعلم الإنسان كثيراً عن طريق تقليد أفراد أسرته، ثم ينتقل إلى المدرسة، فالجامعة، فالمجتمع وجميعها يؤثر في تكوين عقليته، وشخصيته، وسلوكه...
ولما كان الإنسان يميل بطبيعته إلى التقليد، ويكتسب كثيراً من سلوكه عن طريق اتباع ما يألفُهُ، كان للقدوة الحسنة أهمية كبيرة في التربية والتعليم والتوجيه والإرشاد. وقد كان النبي (صلى اللّه عليه وآله وسلم) قدوة حسنة للصحابة (عليهم السلام) ، يقتدون به ويتعلمون منه، ليس شعائر العبادات فحسب، وإنما كانوا يتعلمون منه كذلك حسن السلوك، وآداب التعامل مع الناس. وقد أوصانا القرآن الكريم بالاقتداء برسول الله (صلى اللّه عليه وآله وسلم) بقوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا *} [الأحزَاب: 21].
وكما يكون التقليدُ نعمةً في بعض الأحيان، إلاّ أنه في كثير منها يُعَدُّ نقمةً، خصوصاً عندما يكون فيه تعطيل لنعمة العقل، وأسْرٌ لموهبة الإِدراك. ولذلك فإنَّ المقلّدين غالباً ما يعطلون أفهامهم ومداركهم، فيقودهم ذلك إلى عدم التفكّر في خلق السماوات والأرض، وعدم البحث والاستقراء ليتوصلوا إلى الاعتقاد الجازم، والإيمان المكين. أي إنَّ تعطيل خصائص الإنسان النفسية والذهنية يميت فيهم التكوين المتأثّر والمؤثّر في المجالات الحيوية للإنسان، وفي طليعتها مجال الإيمان والعقيدة الدينية.. وفي هذا الصدد تجدهم قد صمّوا آذانهم عن سماع دعوة الحق سماع تدبّر وتبصّر وتفهّم، وسُلبوا النعمة التي خصَّ الله تعالى بها الإنسان (التمييز والاختيار)، ولم يتجاوبوا مع دعوة الداعي بل قالوا: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ} [الزّخرُف: 22]... فلن نحيد عن معتقداتهم، ولن نخرج على عاداتهم وتقاليدهم.. فالمقلِّدون الذين قالوا - أو يقولون - إنّا ألفَيْنا آباءَنا على دينٍ، ونحن على آثارهم مقتدون، لم يحاولوا أنْ يعرفوا الإسلام، أو أنْ يطَّلعوا عليه، ليدركوا حقيقة هذا الدين، فيشعَّ - مِنْ ثَمَّ - نورُهُ في قلوبهم، لقد اكتفوا بظاهر إيمانهم، فابعدوا أنفسهم عن الدين الذي ارتضاه الله تعالى لعباده.. ولذلك فإنَّ الاقتناع باعتناق دين الآباء، دون البحث عن الدين الحق، إنما يعدُّ تبعية لا يقبلها الله تعالى من الإنسان، الذي وهبَهُ ميزة العقل وخاصية الإدراك، ثم أمره بالتكاليف التي توجب عليه تقصّي الحقيقة في كل شيءٍ حتى تكون أعماله مقبولةً عند ربه..وفضلاً عن هبة العقل، الذي به الاختيار والتمييز لمعرفة الحقائق، ولكي لا يكون للناس على الله حجةٌ، فقد بعث تعالى الرسل والنبيين بالتعاليم التي تخاطب الإنسان بلغة العقل، وتدعوه لعبادة الله الواحد الأحد، وترك عبادة الأنداد التي تقوم على الشرك والكفر، بحيث لا تكون العقيدة الدينية مبنية على التقليد الأعمى، والجهالة الحمقاء.. ولذلك ضرب الله تعالى، للمقلدين والأتباع في قرآنه المبين أمثالاً تبيّن صفاتهم وأحوالهم، يراها الناس - في كل زمان ومكان - مجسَّدةً بأولئك الذين يتخذون من دون الله - جلّ وعلا - أصناماً أو أشخاصاً أو كائنات معينة أو أهواء يعبدونها، فيقعون في الشرك والضلال، لأنَّ كلَّ تلك الأنداد إنّما هي شِركٌ ظاهرٌ أو خفيٌ، إذا ذكرت إلى جانب اسم الله تبارك وتعالى، أو إذا أشركها المرء في قلبه مع حب الله - والعياذ بالله من ذلك - .. فكيف إذا نزع المرءُ حبَّ الله - تعالى - من قلبه، وأفرَدَ تلك الأنداد بالحبِّ الذي لا ينبغي أن يكون إلاَّ للخالق العظيم؟! وتلك هي حال المشركين ومن تبعهم..
أما المؤمنون فلا يغيضُ في قلوبهم حبٌّ على حب الله تعالى، لأنَّ حبَّهم لمولاهم أشدُّ من حبِّهم لأنفسهم، وأهليهم، وأصدقائهم، وأيّ شيءٍ قد يحبونه مهما عظم شأنهم، وسما نفوذهم، ولا يقيمون وزناً أو يعطون قيمة لما يجري وراءه الناس إزاء حبّهم لله تعالى {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} [البَقَرَة: 165] خالقهم، وهاديهم، والمنعم عليهم. وحبهم له سبحانه يكون خالصاً، مطلقاً من كل قيد، ومتجهاً إليه تعالى دون سواه، لأنهم أدركوا عن طريق تفكيرهم حقيقة وجود الله، وسناء عظمته، وجلال شأنه، وعظيم فضله عليهم، فعبدوه حبّاً، وطاعةً وقناعةً، وشكراً، وامتناناً وثناءً...
إذًا فأين هُمُ الذين اتَّخذوا أنداداً أو أرباباً من دون الله، يحبونهم مثل حب الله، ويخلصون لهم الودَّ والطاعة؟، بل أينَ أولئك من المؤمنين الذين صدقوا في حبهم لله تعالى، وأخلصوا له الإيمان والطاعة؟ إنَّ حب المؤمنين لله - عزَّ وجلَّ - أشدُّ من حب غيرهم، من وجهين:
الأول : إخلاصهم في العبادة والتعظيم لله الواحد الأحد، والثناء عليه، وتسبيحه وإجلاله، وتنزيهه عن الإشراك به..
والثاني : إيمانهم الصادق بأنَّ الله رَبَّهم هو المنعمُ ابتداءً، وأنَّ فضله العظيم إنّما يكون بما هو أصلح لهم في التدبير، فكان حقّاً عليهم أنْ يعبدوهُ عبادةَ الشاكرين، ويرجوا رحمته رجاء المتَّقين، ومن كانت هذه صفاتهم فلا بدَّ أنْ يكون حبهم له أخلصَ وأشدَّ.
{وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ} [البَقَرَة: 165]. ومن هم الذين ظلموا؟ هم الذين اتخذوا أنداداً من دون الله، فظلموا بذلك أنفسهم، وظلموا معهم غيرهم من الذين ساروا وراءهم، واقتدوا بهم.. لو يرى هؤلاء الظالمون عذاب الله الذي سينزل بهم، لأدركوا أنَّ القوة والبأس، والشدة والجبروت، والعظمة، كلها - على حقيقتها - لله تعالى الواحد القهَّار. ولو رأوا ذلك لرأوا مضرَّة فعلهم وسوء عاقبتهم، ولَعَلِموا عندئذٍ أن الله شديد العقاب.. إذًا فتقدير المعنى: أنَّهم لو علموا في الدنيا - ويا ليتهم يرون ويعلمون - شدَّة عذاب الله، وأنَّ القدرة له تعالى وحده، فلا يملك أحدٌ غيره أسبابَ القوة، لما اتخذوا من دونه أنداداً، ولا أشركوا به شيئاً، ولتركوا تقليد آبائهم، ولرفضوا عباداتهم، بل وأية عبادة لا تقوم على الإيمان بعقيدة التوحيد، المبنية على الدين الحق.
{إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا} [البَقَرَة: 166] وهذا يكون يوم الحساب.. حيث يتبرأ الآباء وعلماءُ الدين، والمرشدون، والدعاة - والآلهةُ والأربابُ المزعومون - وسائرُ المتبوعين من الذين اتَّبعوهم في معتقداتهم، وفي دعواتهم وإرشاداتهم وتعاليمهم التي كانوا يلقّنونهم إياها.. ولا يكتفون بالبراءة منهم، بل وينكرون عليهم ضلالهم باتّباعهم، ويكون ذلك حين {وَرَأَوُا الْعَذَابَ} [البَقَرَة: 166]، أي التابعون والمتبوعون جميعاً، حين حلَّ بهم العذابُ الأليم، بعد أنْ تقطَّعت بينهم كل أسباب القرابة والأرحام والمودة، أو الحلف أو العهد، وكل الصلات التي كانت تربطهم في الدنيا... بحيث لم تعد تنفعهم بشيء في الآخرة، لأنَّ مدار النفع والثواب والأجر لن يكون إلاَّ عمل الإنسان وحده، وما كسبت نفسه في دنياه...
أجل، هذا الذي يحصل يوم الدين، يومَ يقومُ الناسُ لربِّ العالمين.. يوم يحصل التبرؤ، وتنقطع الأسباب والصلات، ويقعون جميعاً في العذاب: تابعين ومتبوعين. ولكن هل من شيء بعد؟ أجل، بعد ذلك يأتي دور مُلْفِتٌ للتابعين: {وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّأُوا مِنَّا} [البَقَرَة: 167]، أي لو أنَّ لنا عودةً إلى دار الدنيا، وبكل التكاليف التي فرضها الله على عباده، فإننا سوف نتبرَّأ هناك من الذين اتبعناهم من قبل، كما تبَّرأوا هم منا هنا اليوم، ولن نقتدي بهم، ولن نعود إلى اتباعهم أبداً.. فيا له من مشهد مؤثر: مشهد التبرّؤ، والتعادي، والتخاصم بين التابعين والمتبوعين، فكلٌّ يريد أن يتنصَّلَ من تَحمُّل وزر الآخر، ومن إضلاله له.. ولكن هيهاتِ أنْ تكون لهم عودة، فقد أُحضروا إلى الآخرة التي لا رجوع منها إلى دار الدنيا..
وكما بدت للتابعين سيّئاتُ أعمالهم باتّباع الضالين المضلّلين، وكما بدت للمتبوعين خبثُ نياتهم، وأفاعيلُ إضلالهم فكذلك يريهم - جميعاً - الله تعالى أعمالهم حسراتٍ، وندامات تختنق بها أنفسهم: فهم يتحسرون على أعمالهم التي ارتكبوا فيها الشرك والمعصية، وتركوا التوحيد والطاعة، ويتحسَّرون بشدّةٍ ولوعةٍ أكثر وهم يرون مقدار الثواب الذي كان ينتظرهم لو قاموا بالطاعات في الدنيا، وقد تكون حسرةُ قلوبهم على فوات ذلك الثواب العظيم، أشدُّ من حسرة نفوسهم على الوقوع في العذاب الأليم وإن كانت حسراتُهم بذاتها هي من جنس ذلك العذاب الذي منه يعانون. ولكنها حسرة لا تفيدهم بشيء، لأن مصيرهم النار يخلدون فيها وبئس المصير.
وعن الركون إلى التقليد، دون إعمال العقل واستعمال الحواس لمعرفة الحق واتباعه، يضرب الله تعالى مَثَلَ الذين كفروا، بعدم الاستجابة لداعي الإيمان، وبلاغ المرسلين فيشبههم بالبهائم التي يصرخ فيها الراعي فلا تفقه منه شيئاً، بل تسمع صراخه أو نَعيقه أو دويَّ صوته،، ولكن من غير أي إدراكٍ لما تسمع..
يقول المولى تبارك وتعالى: {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ *} [البَقَرَة: 171]. أجل، إنَّ الكفار الذين اتبعوا دين آبائهم، وقلَّدوهم في عقائدهم وعباداتهم، يمثلهم القرآن الكريم بالسوائم أو البهائم التي يقودها صراخ الراعي الحاد، فتنقاد إلى حيث يوجهها، لأنها لا تملك إلاَّ سماع الأصوات والنداءات التي تستجيب إليها بحكم الغريزة، فتتحرك إلى هذه الناحية أو تلك وفقاً لما يريدُ راعيها.. وهكذا هم التابعون، يسيرون على منهج التقليد الذي ألفوا سماعَ دعواته ونداءاتِهِ حتى لكأنهم في اتباع ما أَلِفُوا: صمٌّ عن الاستماع لنداء الإيمان، بُكمٌ عن النطق بكلمة الحق، عميٌ عن التبصُّر بآيات الله تعالى المبثوثة في كلِّ شيء... أي إنَّهم عطَّلوا كل خصائص الإنسان في نفوسهم، فلا يعقلون الحقيقة التي يجب أن يدركوها، ولا يهتدون إلى الطريق السويَّ الذي يجب أن يسيروا عليه، فتاهوا في مجاهل الكفر والضلال. وكان مصيرهم إلى النار وما هم بخارجين منها..
العادات
العَوْدُ: الرجوعُ إلى الشيء بعد الانصراف عنه، إما انصرافاً بالذات، أو بالقوة، أو بالعزيمة. ومنه قول الله تعالى: {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ *} [المؤمنون: 107].
إنَّ هذا الطلب الرجائي هو من الذين زادت السيئات التي عملوها في الدنيا على حسناتهم، فأدخلوا في النار خالدين فيها، حتى إذا حاق بهم عذابُها، لم يكن لديهم أية حيلة إلاَّ أنْ يَرْجوا الله ربهم أن يخرجهم منها، ملتمسين بذلك ذريعة وهي توكيدهم على أنَّهم لو ردّوا إلى الحياة الدنيا لما عادوا إلى ما كانوا عليه من الكفر، وتكذيب النبيين والمرسلين، وإنكار آيات الله تعالى.. بل ولكانوا من المؤمنين الصادقين في إيمانهم!..والنكتة في هذا الرجاء أنَّهُ لا يمكن العودُ، بعد الموت، إلى الحياة الدنيا، فكيف إذا جرى الحشر والحساب، وتفرّق الناس جميعاً إلى مصيرهم في الحياة الآخرة؟! ولكنَّ شدة العذاب في جهنم هي التي تدفع الذين دخلوها لأنْ يسألوا ربَّهم إخراجهم منها، وإعادتهم إلى حياتهم السابقة، لينهجوا نهج الإيمان.. وإلاَّ ، فإنْ عادوا سيرتهم الأولى في اجتراح السيئات فإنهم لظالمون، ويستحقون النار من جديد!. ذلك رجاؤهم.. ولكنَّ الله تعالى يعلم أسرار نفوسهم، وما تكنُّ صدورهم من البغي والطغيان والظلم، ولذلك يقول رب العزة والجلال: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [الأنعَام: 28]. نعم {وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [الأنعَام: 28]... ولكنَّ الموقف المرعب على النار، هو الذي أنطقَ ألسنتهم بذلك الوعد الكاذب، بل والوعد الموهوم لأنهم كانوا يدركون تمام الإدراك، وهم في الحياة الدنيا، أنَّ ما من أحدٍ ماتَ، وعادَ بعدَ موته إلى الحياة!!...
ويقال: إعادة الشيء، مثل إعادة الحديث، أي قوله مرة ثانية.. وإعادة الفعل عندما يكرر مرتين أو أكثر، كما في قول الله تعالى: {سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الأُوْلَى} [طه: 21].
والعادة: اسم لتكرار الفعل والانفعال حتى يصير تعاطي ذلك سهلاً كما لو أنه من داخل الطبع، ولذلك قيل: العادة طبيعة ثانية، ويماثلها في التكرار العرف، إلاَّ أنَّ العادة هي العمل المكرر من الفرد، والعرف هو العمل المكرر من الجماعة.
والعادة تتأتّى عن النفس، ولذلك يقال عنها بأنها ظاهرة نفسية. وقد قسم بعض الباحثين العادات إلى أنواع ثلاثة: العادات الحيوية، والعادات الحركية، والعادات النفسية المحضة.
1 - العادات الحيوية
العادة الحيوية هي التي تزيل الشعور بالمؤثرات الخارجية أو تخفِّفُهُ، كما يتعود الإنسان قساوة الحر أو البرد، أو كما تتعود العين الظلام. وذهبوا إلى أبعد من ذلك فقالوا: إنَّ المناعة عادةٌ حيويةٌ، بمعنى أن الكرويات البيضاء في الدم تتعود قتل الجراثيم والتغلب عليها وعلى سمومها. ومنهم من يعلِّل هذه المناعة بنوع من تطبيع (الكرويات البيض)، ومنهم من يعللها بالتوازن الفيزيائي الكيماوي، وهم يسمون هذه العادة «العادة الحيوية»، ويجعلونَ نطاقَ دراستها «علم الحياة».
2 - العادات الحركية
العادة الحركية تنتج من استعدادٍ يكتسبه الإنسان من تكرار بعض الحركات، والقيام ببعض الأفعال. ومن هذه الأفعال ما يكون بسيطاً مثل الحركات الطبيعية التقليدية التي تصدر عن الإنسان كالتثاؤب، أو الإشارات التي يقوم بها كالإيماء. ومنها ما يكون مركباً كالحركات التي نقوم بها وقت الأكل أو عند ارتداء الملابس. ومنها ما يتطلب التدريب كركوب الخيل أو الدراجة أو قيادة السيارة أو الطيارة، أو العزف على آلة موسيقية أو حفظ الكلام نثراً أو شعراً.. وهي تتولد من التكرار والتعلم الإرادي، إلا أنها بعد مضي مدة من الزمن تصبح غير محتاجة إلى شحذِ الإرادة أو تعمق في التفكير، ولذلك يمكن أن تقود السيارة وأنت تفكر بشيءٍ آخر، أو أنْ تردِّد ما حفظتَ من آيات القرآن دونما جهد في قراءتها..
3 - العادات النفسية المحضة
وهذه العادات هي أيضاً استعدادات مكتسبة تحمل الإنسان على الإحساس بالصورة نفسها التي رآها من قبل، أو إعادة التفكير بشيءٍ عرفه الإنسانُ من قبل، أو القيام بعمل أدَّاهُ سابقاً. ومن عادات التفكير: تنسيق الأفكار، التأني أو السرعة في الحكم، حصر الانتباه، الاستدلال إلخ... ومن عادات الإحساس: ضبط النفس، كظم الغيظ، محاربة الهوى، الرضا، العفة، المروءة، وغيرها من العادات السامية. ويعتبر البعض أن هذه العادات هي عادات انفعالة أو إرادية، تنبثق من كوامن النفس، ومن تربية الإرادة أو إهمالها.
والسؤال: كيف تكتسب العادات، أو ما هي العوامل المؤثرة في اكتسابها؟
يذهب كثيرون إلى أنَّ العادة تنشأ عن التكرار. ولذلك قيل: «العادة بنت التكرار». فالتكرار، بنظرهم، عامل أساسي في تكوين العادة، لأنه لا يمكن أنْ تتكون العادة لمجرد القيام بعمل مرة واحدة. فالعادات الحيوية، والعادات الحركية تحتاج كلها إلى التكرار. ولكنه في العادات الحيوية ليس تكراراً حقيقياً، بل هو تمديد للمؤثر.
على أنَّ البعض يقول بأنَّ العادة لا تحتاج إلى التكرار عدة مرات، إذ قد يتم اكتسابها من أول مرة، وعلى ذلك فالتكرار ليس ضرورياً لاكتساب العادة، بل هو ضروري لتقويتها وضبطها، وتسهيل الحركة. ويقولون: إنَّ كل فعل هو بداية عادة، فإن لم يبق للفعل الأول أثر في النفس، فلا يمكن أنْ تتكون العادة حتى ولو تكرر الفعل مئة مرة. ويُبنى هذا الرأي على أنًّ الأثر الذي يبقى في النفس هو في الحقيقة تغير يطرأ على هذه النفس، فإذا كان هذا التغير عميقاً، أدَّى إلى ترسيخ العادة، لأنَّ التغيُّرَ الذي تتقبلُهُ النفس باهتمامٍ وانتباه، أو بلذةٍ قويةٍ من أول مرة، قد يكفي لتكوين عادة تبقى ما بقيت حياة صاحبها.
وقد ذهب بعض العلماء إلى أنَّ للعقل والإرادة والانتباه تأثيراً هاماً على اكتساب العادات، ولا سيما الحركية منها، لأنَّ هذه العادات خاصة بالإنسان، في حين أنَّ العادات الحيوية مثلاً، لا يكون في كثير منها أثر للفاعلية الذهنية في اكتسابها، وهي موجودة لدى الإنسان كما لدى الحيوان. وقد ردَّ البعض الآخر على ذلك بالقول إن التأثير قد يكون خارجياً، ولا دخل للعقل أو الإرادة في حصوله حتى يؤدي إلى تكوين عادة.
ويبقى الرأيُ الغالب القائل بأنَّ العادة تنشأ عن التكرار، واكتسابها يكون بالتمرين، لأنَّ تكرار التمرين، والحصول على شيء من النجاح فيه، يقوّي بعض الأفعال، مما يشكل آليةً لاكتساب العادة.
وتصل العادة، من خلال التمرين، إلى حالة من النضج يسمى النضج الحيوي أو العضوي، وذلك عند استقرارها، وانتظام عناصرها، واتساقها. وقد دلت التجارب التي أجراها بعض العلماء على أنَّ العادة يمكن أنْ تصل بنفسها إلى حالة من التقدم أو النضج، وذلك بعد الانقطاع عن التمرين. فقد يحب الإنسان ممارسة لعبة رياضية، وقد يتمرن على ذلك فترة من الزمن، دون أنْ يتعلم هذه اللعبة، كما لو تمرن أحدهم مثلاً على السباحة دون أن يتعلم كيف يسبح، فيترك ذلك مدة من الزمن، قد تصل إلى شهور، وربما سنوات، ثم ما أن يستأنف تلك اللعبة، أو يحاول السباحة من جديد، حتى يجد نفسه قادراً على ذلك، فـ«قانون نضج العادة هو الذي يوضح كيفية تولد العادة من الفعل الأول».
ولا بد في اكتساب العادة من تقسيم الفعل على مراحل متعددة، بحيث يتعلم الإنسان في كل مرحلة جزءاً من الفعل، ومن ثم وفي المرحلة الأخيرة تجمع الأجزاء إلى بعضها بعضاً، وتستقر العادة. والمثال على ذلك تعلم الكتابة، إذ يرسم الطفل أجزاء الحروف على شكل خطوط، ثم ينتقل إلى مرحلة تكوين الحروف، ومنها إلى جمع الحروف لتأليف الكلمات. ومثل ذلك ممارسة لعبة كرة القدم، أو الكرة الطائرة وما إلى ذلك..
وإذا كان القيام بالفعل يصطدم ببعض الصعوبات، فيجب لاكتساب العادة ألا يتكرر الفعل كله دفعة واحدة، بل تكتسب حركاته بالتدريج من السهل إلى الصعب، فالعادة الحيوية تحتاج إلى هذا التدريج، كما لو أراد الإنسان أنَّ يعتاد التسلّق في الجبال العالية، فلا يكون له ذلك إلاّ إذا تدرج في الارتفاع شيئاً فشيئاً. وكذلك العادة الحركية تحتاج أيضاً إلى تدريج التمارين بعد تقسيم الفعل إلى حركات بسيطة، لأنَّ العادة لا تتولد من تكرار الفعل على نمط واحد، بل يجب في كل مرحلة من مراحل التدريب أنْ يُبدَّلَ تركيبُ الحركات، بضمِّ الحركات التي تلي إلى الحركات التي تسبق. وعلى ذلك فإن تعلم الكتابة مثلاً ليس تكراراً للحركات الأولى على نمط واحد، وتعلم السباحة ليس تكراراً من غير تصحيح وتنظيم وتنسيق.
ومما يسهل اكتساب العادات عند الإنسان العوامل النفسية المحضة: كالاهتمام، والجهد، والإرادة، والانتباه. وتركيز الانتباه ضروري كل الضرورة في بداية الفعل، لأنه يوفر كثيراً من الجهد، ويغني عن كثير من الحركات الزائدة على الحاجة. وكلما كان الانتباه أقوى كان الاكتساب أسهل، لذلك كان التكرار الذهني أصلح للاستظهار من القراءة العلنية عدة مرات.
نتائج العادة
تؤثر العادة تأثيراً كبيراً في حياة الفرد لأنها تؤلف جزءاً هاماً من سلوكه، وتجسد مشاعره، وأفكاره، وتحفظ أفعاله. كما تؤثر في المجتمع لناحية تنظيمه، وحفظ أوضاعه على أنماط معينة بدلاً من التغيرات المفاجئة. ويمكن أن تنحصر نتائج العادة في الأمرين التاليين:
أ - العادة تؤدي إلى آلية الفعل حيث يتضاءل فيها شعور المرء، ويقل إحساسه وانتباهه، وتخف أحواله الانفعالية شيئاً فشيئاً. إذ كلما تمكن المرء من العمل، وحذق به، خف اهتمامه وانتباهه له، كما لو اعتاد الإنسان شم رائحة معينة من العطور أو اعتاد على المشي أو الكتابة، أو ركوب الدراجة... ففي جميع هذه الأمور ينصرف الجهد الإرادي، والانتباه عن الحركات الجزئية ليستقر الفعل في المراكز العصبية السفلية، وتتوقف المراكز العصبية العالية عن الاشتغال به. وهذا ما يؤدي إلى حالةٍ من تخفيف الشعور. قال أحد العلماء: «إنَّ العادة تخفف من شدة الحساسية، وتمنع تدخل الشعور في الأعمال العادية الآلية، لأنَّ تدخله فيها يعرقلها، ويشوش نظام آليتها».. وهذا ما ينطبق على جميع الإحساسات كإحساس اللمس، والشم، والذوق. فالعادة تقلل من إحساسنا بالحرارة أو الرطوبة، أو بالملوحة والحلاوة، أو بالرائحة التي نتطيب بها.
وعلى عكس ذلك فقد اعتبر كثيرون أنَّ العادة كثيراً ما تقوي الشعور بالشيء بدلاً من أن تنقصه، فهي مثلاً تزيد في قوة الذوق لدى الطباخ، وفي قوة تمييز الألحان عند الموسيقار، والألوان عند المصور، والروائح عند الكيميائي. فهي إذًا لا تنقص الإحساس، بل تقلل الانتباه. وهكذا فإن الطفل عندما يتعلم الكتابة، أو السباحة مثلاً، فإنه يقوم بجميع الحركات اللازمة للفعل بكل ما أوتي من انتباه، ويبذل كل جهد يملكه، ولكنه بعد اكتساب العادة يقوم بالفعل من غير جهد، ويقل انتباهه له، وتزيد سرعته فيه، وتقل أخطاؤه، حتى تصبح حركاته في النهاية آلية تماماً. وهذه الآلية هي نتيجة تؤدي إليها أنواع العادات جميعها من حيوية، وحركية، ونفسية.
ب - العادة تؤدي إلى التكيّف. ولكنَّ هذا التكيف في العادات الحيوية لا يتم إلا بجملة من ردود الفعل الداخلية، وفي العادات الحركية يظهر في التكامل التدريجي الذي يتصف به الفعل حتى يصبح أسهل من ذي قبل. ويكفي أن تحدث الحركة الأولى بإرادة حتى تجري الحركات الأخرى من ورائها بصورة آلية. وكثيراً ما تحدث الحركة الأولى بدون إرادة كما هي الحال لدى المدخِّن، الذي يقوم بفتح علبة السجائر لمجرد إحساسه بالحاجة إلى التدخين، ثم يتناول سيجارة منها ويشعلها من غير أن يكون لإرادته في ذلك أثر يذكر. وهذه الآلية في العادة هي التي تسهل القيام بالفعل، وتزيد في سرعته، وتقلل الخطأ، والتعب، وتجعل العادة متقنة ومحكمة. حتى لقد قيل إنَّ العادة تتقدم بالتهديم، كما تتكامل بالإنشاء، فهي تحذف من الفعل كثيراً من الحركات الزائدة، وتصحح القديم بما تضمه إليه من الحديث. مثال ذلك: إنَّ الطفل الذي يتعلم الكتابة تصدر عنه في البداية حركات لا علاقة لها بإنجاز الفعل كإخراج اللسان، وتقطيب الحاجبين، وإمالة الرأس. ولكنه بعد اكتساب ملكة الكتابة تتوزع حركاته على الأعضاء التي تقوم بتلك الحركات. وهكذا، فإنَّ العادة تحرر فاعليتنا من القيود الزائدة، لأنها تعهد في القسم الأكبر منها إلى الآلية، وتجعلنا نوجه انتباهنا إلى أمور أعلى منها.
والعادات النفسية تولد أيضاً النتائج نفسها التي تولدها العادات الحركية، بل والحيوية، لأنها تؤلف آليات فكرية. فعادة التفكير تؤدي إلى سرعة الفهم، وسهولة استعمال البراهين، وتجعل المفكر يختار الحجة الأحسن، والنتيجة الأدق، بعيداً في ذلك عن العمليات الفكرية الزائدة. ولذلك اعتبرت عادة التفكير من عوامل التقدم، لأنها تحرر الفكر من ربقة الاتباع، وتوجهه إلى الغاية الصحيحة.
قيمة العادة وفوائدها
للعادة أثر كبير في حياة الإنسان، فهي التي تحفظ الماضي وتهيِّئ للمستقبل، سواء في حياة الأفراد، أو في حياة المجتمعات. فالعادات القديمة قد تشكِّل تراثاً للأمة إذا كانت تعبر عن مآثرها، ومفاهيمها، وتطلعاتها نحو المثل والأهداف السامية، وتكون دافعاً للحفاظ على هذا التراث وتعزيزه بمآثر جديدة.
أما في حياة الفرد فإن العادة توفر عليه كثيراً من الجهد الفكري، فلا يحتاج في بعض الأفعال إلى شدة الانتباه، لأنه يأتيها آلياً، فيصرف انتباهه واهتمامَهُ إلى غيرها، بحيث يمكنه القيام بعملين في وقت واحد: الأول يكون عادة راسخة، ينجزه بصورة آلية، بينما يوجه نفسه للعمل الآخر، وهذا ما يوفر عليه جزءاً من الوقت، ويخفف من تعبه، ويثبت سلوكه، ويكسبه المهارة، والسرعة في الإنجاز وفي اتخاذ القرار.
ولكن بمقابل هذه الفوائد فإنَّ هنالك مساوئ عديدة قد ترافق العادة، إذا ما أصبحت سبباً للركود والجمود، بحيث يصعب تغييرها أو استبدالها. وإذا ما حاول المرء مثل هذا التغيير فقد يعجز عن ذلك لأنَّ العادة تستبدّ به حتى يصير عبداً لها، وتجعل حياته تسير على نمط واحد تغلب عليه الآلية بدلاً من الحيوية. ولذلك قيل: «خير عادات الإنسان أنْ لا يتعود شيئاً».
والعاداتُ الخُلُقية إمّا أَنْ تغلِّب الفضيلة في حياة المرء، أو أنْ تجعل الرذيلة نَمَطاً لحياته؛ لأنَّ المرء يمكنه أنْ يتعوَّدَ أيَّ شيء.. ولكنْ يجدر بالإنسان أنْ يوطِّنَ نفسَهُ على الابتعاد، أو ترك الأمور التي تقف حائلاً دون تقدمه، وتحقيق نجاحه. وهذا ما يدفع إلى اكتساب العادات الصالحة، التي تشكل قوة دافعة للإنسان نحو التكامل، وتحول بينه وبين التباعد عن إنسانيته. ولعل أفضل السبل لذلك هو اكتساب العادات الفاضلة والتخلي أو الابتعاد عن العادات السيئة. وقد قيل: «يجب على المرء لاكتساب عادة جديدة، أو للتخلص من عادة قديمة، أن يغتسل كل يوم بماء جديد، وأن يُشعِرَ نفسه بالإقدام والقوة والعزم، وأن يجمع الأسباب الباعثة على العمل، ويربط نفسه بوعود علنية».
ويجب على الإنسان أنْ لا يتراجع إلى الوراء أمام داعي الإرادة، إذ خير له أنْ يقطع صلته بالعادات السيئة دفعة واحدة، وأنْ يتخلى عنها بصورة نهائية بدلاً من التمنّي أو العمل على تركها تدريجياً، لأنَّ نيران الشهوة، كما يقولون، سرعان ما تخمد لعدم إضرامها. والتخلص من العادات السيئة يقتضي قتلها سريعاً، لاكتساب عادة فاضلة مضادّة لها، والتمرن على العادة الحسنة الجديدة تمرناً متتابعاً. وقد قيل: «لو عرف الشباب أنهم سيصبحون يوماً من الأيام كتلةً متحركةً من العادات لانتبهوا لسلوكهم وهم في نضارة الحياة.فالمرء ينسج أقداره بيديه، وسواء أكان ذلك خيراً أم شراً، فإنَّ خيطه المنسوج لن يحل». وقد قال العلماء: «إنَّ آثار أفعالنا لا تمحى، فينبغي للشاب أنْ يدأب في الحياة من غير أنْ يفكر في النجاح، وأنْ يتعود العمل المستمر، لأنَّ النجاح ليس صفة ذاتية مقومة للعمل، وإنما هو نتيجة خارجية تنضم إليه كما تنضم اللذة إلى الفعل».
نصائح تربوية حول العادة
على المربي أنْ يعلمَ ما للعادة من تأثير هام في حياة المرء. وعليه أنْ يكافح العادات السيئة منذ ظهورها، فمثلاً ترويضُ الطفل على العادات الطَّيبة يجب أنْ يبدأ منذ سني حداثته الاولى، لكي تنطبع في ذهنه، ويستمرَّ على ممارستها خلال مراحل حياته كلها؛ ففي سني الطفولة يمكن ترسيخ العادات أو التخلص منها بسهولة أيسر من أيام الكبر. فالشيخ يحبُّ أَنْ يحافظ دائماً على الأنماط القديمة في حياته، ويتمسك بقوة بعاداته، ومن العسير إقناعه بتغيير ما تعوَّده، لهذا كان الشباب عماد التقدم، وكان الشيوخ عماد الاحتفاظ بهذا التقدم.
والطفل يكتسب أكثر عاداته بالتقليد، والتلقين، والإيحاء، والتدريب، فكانت تبعةُ الآباء والمربين من جراء ذلك عظيمةً جداً. وبقدر ما تكون العناية بتربية الأطفال جيدة، بقدر ما تؤدي إلى حثّ مشاعرهم على الاعتياد بتحمل المسؤولية، وفي ذلك إنماء لمواهب الطفل، وتكوين شخصيته تكويناً سليماً من شأنه أنْ يرتدَّ بالنفع على المجتمع الذي يعيش فيه؛ لذلك وجب أن ينصبَّ اهتمام المعنيين، ولا سيما المرشدون والموجهون على غرس العادات الطيبة في النفوس - ولاسيما الأطفال والتلامذة - أكثر من اهتمامهم بحشو عقولهم بالمعلومات، ولا سيما العلوم، لأنَّ قسماً كبيراً من هذه العلوم ينساه التلميذ بعد مغادرة المدرسة، بينما تبقى العادات الطيبة ظاهرة في تفكيره، وسلوكه، لأنها تلازم الإنسان مدى حياته.

مقدمة الكتاب
القسمُ الأوّل
القِسم الثاني
القِسم الثالِث
القسم الرابع
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢