نبذة عن حياة الكاتب
سلسلة أعلام التصوف
الطبعة : الطبعة الاولى
المؤلف : سميح عاطف الزين
فئة الكتاب : السير
عدد الصفحات : ٩٢٩
تاريخ النشر : ١٩٨٨

رابعةُ العَدويَّة
سِلسِلة أعلامِ التصوّف


رابعةُ العَدويَّة

دراسة وتحليل

سَميح عَاطِف الزّين


الشركة العالميّة للكتاب
دار الكتاب اللبناني ــ مكتبة المدرَسة





بسْم الله الرَّحمٰن الرَّحيم

العشق الإلٓهي في التصوُّف

تركيب الإنسان العضوي والنفساني


هذا الكائن البشري، الذي هو الإنسان، لقد أوجد الله تعالى
فيه غرائز وحواس، كما أودع فيه ملكات وطاقات لا تحدد
ماهية وجوده فقط، ولا تعطيه ذاتية خاصة فحسب، بل ترتبط
بها علاقاته جميعًا: بخالقه وبنفسه، وبالآخرين من بني جنسه
وبكل ما يحيط به من كائنات حية وغير حية.

العشق الإلٓهي في التصوُّف
تركيب الإنسان العضوي والنفساني
هذا الكائن البشري، الذي هو الإنسان، لقد أوجَدَ الله تعالى فيه غرائز وحواسَّ، كما أودع فيه ملكات وطاقات لا تُحدّد ماهية وجوده فقط، ولا تعطيه ذاتيةً خاصة فبحسب، بل ترتبط بها علاقاته جميعًا: بخالقه، وبنفسه، وبالآخرين من بني جنسه، وبكل ما يحيط به من كائنات حية وغير حية.
ويتبيّن من خلال فحص دقيق لهذا الإنسان أن تركيبه العضوي أو تركيبه النفساني، ليس كمثلهما تركيب في مخلوقات الأرض كافة، لأنه تركيب، في شِقَّيه، منَحَهُ الله تعالى خصائص كثيرة. وهذه الخصائص هي التي مكّنَتْهُ من أن يترقَّى في مسيرة حياته، وأهَّلته لأن يتبوّأ مركز السيادة على سائر كائنات الكوكب الذي يعيش بين أحضانه.
وإنَّ من أبرز خصائص هذا المخلوق المميَّز ـــ من حيث هو إنسان ـــ فِكرهُ الذي يحصل به التمييز أو الإدراك، والذي يمكنه من الحكم على الأشياء، وذلك طبعًا، بعد نقل الواقع إلى الدماغ بوساطة الحواس الخمس، ووجود معلومات سابقة تُعين على تفسير هذا الواقع.
وإلى جانب هذا الفكر، تبرز لدى الإنسان الطاقة الحيوية التي هي، في الأصل، عبارة عن مجموعة الغرائز والحاجات العضوية لديه.
فأما الغرائز فهي ثلاث، ليس إلَّا: غريزة النوع، وغريزة حب البقاء، وغريزة التقديس (التي هي منتهى الاحترام القلبي).
وأما الحاجات العضوية فتبرز أكثر ما تبرز في ما يُقيم أوَدَ الجسم، وينمّي حركته: كالحاجة إلى الطعام والشراب، وإلى النوم والراحة، وإلى الحركة والنشاط، وإلى ما يحتاجه كل عضو من أعضائه كي يقوم بوظيفته، بحيث تصبح تلك الحاجات، بتنوعها وتعددها، لا تقع تحت حصر، وبحيث تختلف هذه الحاجات بتفاعلها بين جسم وآخر.
على أن كل الغرائز والحاجات العضوية إنَّما تتبدّى بمظاهرها التي تعبّر عنها، فلا تظهر الغريزة ولا الحاجة العضوية من حيث هي، بل مظاهرها هي التي تبرز لنا بصورة واضحة فحسب. ومن هنا لم يفرق كثيرٌ من الناس بين الغريزة ومظاهرها، أو بين الحاجة العضوية ومظاهرها؛ في حين أن حقيقة الغريزة شيء ومظهرها شيء آخر، وكذلك الحاجة العضوية فإنَّها شيءٌ غير مظهرها.
فبالنسبة إلى غريزة النوع نجد مثلًا أن الميل إلى المرأة عن حنان، أو الارتياح إلى الصديق، أو النظر إلى الولد بعطف، أو الشعور بالشفقة على المريض، أو الاندفاع في حب مساعدة الغير، فهذه كلها ليست غرائز، بل هي جملة مظاهر لغريزة واحدة، هي غريزة النوع. وفي ممارستها إشباع لهذه الغريزة، وهو الإشباع اللازم لبقاء النوع الإنساني إذا نظرنا إليه في العمق. ولا يختلف الأمر بالنسبة إلى الشعور الجنسي، أي النظر إلى المرأة بشهوة أو الإحساس بالشوق إلى الاجتماع بها، فهما أيضًا أحد مظاهر غريزة النوع. ومن هنا فإنه لا توجد غريزة خاصة تدعى غريزة الجنس لا عند الإنسان، ولا حتى عند الحيوان، بل ذلك الشعور الجنسي إنما هو مجرّد مظهر من مظاهر غريزة النوع. غير أن هذا الشعور له مظاهر لدى الإنسان شبيهة بتلك التي يظهر فيها لدى الحيوان. ففي حياة الإنسان تقيّده مفاهيم أو عادات وتقاليد اجتماعية إذ نجده يقوم على الاحترام، والتهذيب، والاحتشام، في حين أنه يتبدَّى عفويًّا، وعلنيًّا ومباحًا لدى الحيوان، على أن هذا لا يعني أن الحيوان يمارس الجنس بطريقة شاذة، تخرج على الحدود التي رسمت له في وجوده، بل على العكس إن هذه الممارسة تأتي بصورة طبيعية، فلا تكون لأحد الحيوانات علاقات جنسية إلا مع حيوان آخر من جنسه فقط، وفي فترة معينة من السنة لا تتعداها إلى غيرها من الفترات.
وأما غريزة حب البقاء فهي التي دفعت الإنسان لأن يحرص على حماية نفسه منذ أن وجد، فصارع قوى الطبيعة، وقاوم الحيوانات المفترسة، وقهر الصعابَ، وعالج الأمراض، أي إنه بالإجمال قد تصدّى لكل المخاطر التي اعترضت سبيل استمراره وبقائه، لكي يذود عن وجوده ويحمي حياته.
وما من شك بأن سعي الإنسان للتملك والاقتناء، ثم ما ينبعث عنه من مشاعر الخوف، والاندفاع، والشجاعة، والتهوّر، والتروّي، والحب، والبغضاء، وما إلى ذلك من مشاعر تنجم عن انفعالات داخلية، أو عن مؤثرات خارجية، فإنها كلها تصبُّ في غاية واحدة، وهي بقاء الإنسان، وهي عندما تظهر لديه ـــ ككائن يدفع الأذى عن وجوده، ويعمل للحفاظ على حياته ـــ إنما تحرّكها غريزة أصيلة هي غريزة حب البقاء، وما إشباع مظاهر هذه الغريزة كافة إلّا أمثل التعبير عن فكرة استمرار بقاء الإنسان.
وتبقى غريزة التدين، أي «التقديس»، وهذه أيضًا غريزة طبيعية، ثابتة لدى الإنسان، وجدت معه منذ عاش على هذه الأرض، وأحسَّ بأنه محتاج في بقائه، وفي نوعه إلى قوة تفوق كل القوى التي تحيط به، لكي يلجأ إليها في المهمّات والملمات، ويأوي إلى كنفها عند مداهمة الأخطار، وذلك نظرًا إلى ما هو عليه من ضعف حيال القوى الأخرى، وإلى ما لديه من حاجة إلى دفعها، أو إبعاد أذاها عنه، على الرغم مما عنده من قوّة وقدرة. لذا لم يأبه لنوع تلك القوة وشكلها، سواء أكانت مادية محسوسة تتمثل بالنار أو الشمس، أو القمر، أو حتى الشجر أو الحجر، أم كانت قوة غيبية مجرَّدةً عن واقعِه، خَلَعَ عليها اسم الألوهية وأعطاها أسماء مختلفة، مثل إلٓه الحرب، وإلٓه الخير، وإلٓه الشر، وإلٓه الحب، نعم لم يأبه لذلك، لأنَّ همه الأول والأخير كان الاحتماء بقوة ما، فاخترع هذه القوة بخياله أو بتصوّره، ثم خلَعَ عليها صفة القداسة، فآمن بها وعبدها، لكنه ما إن سمت مداركه، ونضج فكرُهُ حتى وَجَدَ أن تلك الكائنات التي عبد لم تُشبع فطرتَهُ الإيمانية، فتطلَّع ببصيرته إلى أبعد مما تخيَّل أو تصوَّر. ثم رأى التغيير يجري على ما عَبَدَ من كائناتٍ، فأيقَنَ بأنَّ هنالك قوةً أقوى منها جميعًا، وهي التي تتحكَّم بوجودها، وبوجوده على حدٍّ سواء، فآمَنَ بتلك القوة على أنها هي التي تخلق كل شيء، وتدبّر كل شيء. لكنه لم يعرف سرَّ هذه القوة، ولم يقدر على إدراك كنهها، حتى جاءت الرسالات السماوية، فعرفها بأنَّها الله، وكان إيمانه به على أنه وحده أحق بالتقديس وبالعبادة.
ومثلما لغريزة النوع، وغريزة البقاء مظاهرهما، كذلك لغريزة التقديس هذه ـــ بصفتها منتهى الاحترام القلبي ـــ مظاهرها أيضًا. وأبرز هذه المظاهر العبادة، والخشوع، والتقرب إلى الله عند المؤمنين، لأنه هو الخالق القوي، المدبّر، القادر. وهي المظاهر نفسها التي نجدها عند الجماعات الأخرى التي لا تدين بالوحدانية، ولكن بأشكال أخرى متعددة بحسب معتقدات كل جماعة، وتقاليدها الموروثة. على أنَّ أهمَّ مظاهر غريزة التديّن كانت العبادات ولا تزال، والإنسان على طول امتداد تاريخ وجوده الأرضي، عَرَفَ أنواعًا عدّة من الشعائر والطقوس في تلك العبادات، بحيث لم يخْلُ عصرٌ من العصور إلَّا وعرف أناسهُ عباداتٍ دينيةً معينة. وقد مرَّت شعوبٌ، وجماعات كثيرة بفتراتٍ صعبة كان يلجأ زعماؤها أو حكامها إلى القوة لإِجبارها على التخلّي عن عباداتها، من أجل اعتناق معتقداتهم الدينية التي يؤمنون بها. ولئن كانت تلك الضغوط قد نجحت في تحويل الكثيرين عن معتقداتهم السابقة، إلَّا إنها لم تنجح قط في إرغام الإنسان على ألَّا يكون متدينًا، بصورة أو بأخرى، كما أن نجاحها في تحويل الإنسان إلى معتقدٍ جديد كان قليلًا ونسبيًّا، لأنَّ الجماعات المتدينة إجمالًا، أبت إلَّا أن تبقى على تديّنها، مهما اشتد الأذى الذي تتعرض له، أو العذاب الذي ينزل بها، وكانت النتيجةُ عجْزَ أيّ قوة، مهما كانت ظالمة أو غاشمة، عن أن تنزع من نفس الإنسان غريزة التدين، أو أن تستأصل من قلبه إيمانه بتقديس خالقِهِ (أو إلٓهِهِ). كما أنَّ تلك القوة لم تستطع أن تمنَعَ المتديّن من القيام بعباداته سّرًا أو جهرًا، لأنها إن كانت قد قدرت على أن تكبت مشاعرَهُ الدينية فلا يصرّح بها، أو أن تمنعه من القيام بعباداته فلا يمارسها، لكنها لم تتمكن قطّ من السيطرة على دخيلته، أو النفاذ إلى أعماقه، وبالتالي فقد فشلت في منعه من تلاوة صلاته في قلبه، وفي حبس شعوره بالخشوع إلى معبوده. كل ذلك لأن التديّن غريزة أصيلة في الإنسان، والعبادة هي مظهرها الطبيعي بل هي أهمُّ مظاهرها كافة. على أنَّ هنالك ظاهرةً جديدة تستوقف المفكّر، وهي ظاهرة الإلحاد التي استشرت في نفوس الكثيرين، إذ لم تبعدهم عن دين الله فحسب، بل دَفعتْ بهم إلى الاستهزاء بعبادات المؤمنين بالوحدانية، ونَعْتِ هذه العبادات بأنها سبب التخلّف والمشاكل التي يعانون منها، وهذه الظاهرة الإلحادية هي في بلاد الغرب ـــ المتقدم تكنولوجيًّا ـــ أكثر منها في بلاد الشرق الذي يوصف بالتخلّف.
هذه الظاهرة لا مسوّغ لها، في نظرنا، بعد أن بلغ الإنسان ما بلغ من النضوج الفكري، الذي أهَّلَهُ لأن يؤمن بالله إيمانًا عقليًّا، ناجمًا عن إدراك ما يحيط به من آيات تدلُّ على حقيقة وجود الخالق، والإقرار بقدسيته وعبادته.
على أنَّ هذه الظاهرة أيضًا، لا تعني أن قلوب أولئك الملحدين قد خلت من الإيمان الديني، بل هي تحويل لمظهر غريزة التديّن عن عبادة الله الخالق، إلى عبادة بعض «المخلوقين»، من خلال مغالطات فكرية، أو شعورية، لا تتوافق وحقيقة فطرة الناس، التي فطَرَهم الله سبحانه وتعالى عليها. كما أنها في الوقت نفسه تفسيرات خاطئة لمفاهيم عبادة الله الواحد الأحد، ومن هنا فإن الإلحاد أو الكفر بعد الإيمان قد يكون صعبًا جدًّا على الإنسان، لأنه تحويلٌ له عن فطرته، ووقوفٌ بوجه هذه الفطرة أن تظهر كما يجب، لذلك نجد أن مثل هذا التحويل غالبًا ما يحتاج إلى جهدٍ كبير يبذلُهُ الإنسانُ، وهو يصارع فيه نفسهُ صِراعًا مريرًا، لأنَّ من أصعب الأمور التي يواجهها الإنسان في قرارة نفسه انصرافه عن تلك الفطرة، وعن خصائص ما طُبع عليه طبعًا. ولمَّا كان الأمر كذلك، فإننا نجد أن الملحدين، عندما ينكشف لهم الحق الذي تاهوا عنه، ويشعرون بوجود الله في أعماقهم، ثم يدركونه بالعقل إدراكًا يقينيًّا ـــ لأنَّ رجوعهم إلى حظيرة الإِيمان لا يكون إلَّا بهذا الإِدراك وذاك الشعور ـــ سرعان ما يملأ الإِيمانُ بالله قلوبهم، فتنبعث مشاعر الطمأنينة في أعماقهم، ويحسُّون براحةٍ لم يعرفوها قبل ذلك، وبأنسٍ لم يألفوه يوم كانوا في الفراغ. ذلك أن الكابوس الذي كان يؤرّقهم قد زال عن نفوسهم، والهاجس الذي كان يقلقهم قد اختفى من داخل كيانهم، فأحَسُّوا بالإلحاد قد ولّى عنهم، وهم لا يتمنون له رجعةً أبدًا، وأيقنوا أن الذي كان قد حصلَ لهم، لم يكن ليحصل إلَّا لأنهم كانوا يحملون أنفسهم على الاقتناع بسلوك مخالفٍ لغريزة التدين، وهو الذي كان يقف حائلًا بينهم وبين اتباع مظاهر هذه الغريزة. أما بعد الاهتداء فغالبًا ما يكون إيمان هؤلاء المهتدين إيمانًا ثابتًا وراسخًا، لأنه ينبع من الإحساس الذي أدَّى إلى اليقين، والمعرفة الحقّة. وما ذلك إلَّا لأن عقلهم قد ارتبط بوجدانهم، فأدركوا وجودَ الله تعالى إدراكًا يقينيًّا، وشعروا بحقيقته شعورًا دقيقًا، والتقت فطرتهم بعقيدتهم، فانبعثت قوة الإِيمان انبعاثًا جديدًا يتجلّى فيه دفء الراحة النفسية التي يُحسُّ بها من يأوي إلى حَرَمِ الأمنِ وكنفِ الأمان.
تلك هي الغرائز الثلاث ومظاهرها، فبات علينا أن نفرق بين غريزة هي في صلب تكوين الإنسان، وما تظهر عليه هذه الغريزة، سواء كان على شكل تصرفٍ يصدر عن الإنسان، أو شعور ينبعث منه، لأنَّ لهذا التفريق أهميته إن من ناحية معرفة تكويننا، أو من ناحية معرفة السلوك الذي علينا أن نسلكه في حياتنا.
وكما ينطبق هذا التفريق على الغرائز ومظاهرها، فقد قلنا بأنه ينطبق أيضًا على الحاجات العضوية ومظاهرها.
ومن الأمثلة على مظاهر الحاجات العضوية إحساسنا بالجوع أو بالعطش عند حاجتنا إلى الطعام أو الشراب، وكذلك شعورنا بالنعاس عند حاجتنا إلى النوم، وبالتعب عندما نحتاج إلى الراحة وما إلى ذلك.
وفي حال البحث العميق عن غرائز الإنسان وحاجاته العضوية، نجد أن تلك الغرائز والحاجات تحتاج إلى الإشباع، بل إنَّ طاقة الإِنسان الحيوية التي ينجم عنها السلوك لا يمكن أن تؤدِّي مهمّاتها، ولا أن تقوم بالوظائف المعدَّة لها، إلَّا من خلال ذلك الإشباع. لذا كان لزامًا أن نحتاج، في كل أمور حياتنا ـــ ولا سيما تلك التي لها تأثير مهم على سلوكنا ـــ إلى نوع معينٍ من الإشباع، سواء كان إشباعًا غريزيًّا أم إشباعًا عضويًّا.
ومن الأمثلة على الإِشباع الغريزي ما يظهر لدى الإِنسان من ميل إلى الاقتناء أو الإِثراء الذي يقوم في أساسه على حب التملك، أو ما ينزع إليه من حرص على الأنس أو الاجتماع الذي يدفعه إلى الزواج وتكوين العائلة، والعيش في بيئة معينة، أو ما يتوق إليه من رجاء لتحقيق الأمان الذاتي، والاستقرار النفساني. وهذان الأخيران ـــ الأمان والاستقرار ـــ هما بالذات اللذان يحثانه على التعلق بالعبادة، والتمسك بالقيم، وممارسة الشعائر الدينية، والتحلّي بالأخلاق الكريمة.
ومن الأمثلة على الإِشباع العضوي الاكتفاء بتناول كمية معينة من الطعام أو الماء بعد جوع أو عطش، أو الانقياد إلى النوم بعد نعاسٍ، أو الركون والاستكانة بعد نصب.
ومما لا شك فيه بأن السعيَ الدائمَ لتحقيق الإِشباع بنوعَيْه (الغريزي والعضوي) وأَخْذ الإنسان بالوسائل كافة المؤدِّية إليه، إنما يؤلف السلوك الذي يسير عليه الإنسان بالقول أو بالفعل، أو ما يمكن أن يأتي به من تصرُّف، أو ما قد ينجم عن تصرُّفه من أثر. ومن هنا، كان هذا السلوك هو الذي يؤدِّي إلى تكوين الشخصية، أو يدلُّ على الشخصية، ذلك أن لدى الإنسان الفكر، وهو يحتاج إلى الإِعمال ومعنى الإِعمال الإِشباع، ولديه الطاقة الحيوية وهي تحتاج إلى الإِشباع أيضًا. فإنْ تحقَّقَ الارتباطُ ما بين الفكر والطاقة الحيوية، وحصلَ التوافقُ ما بين السلوك والأفكار، تتكوَّنُ شخصيةُ الإِنسان التي تتصف بالذاتية، أو الشخصية الخاصة به، والتي تنفرد عن غيرها من الشخصيات الأخرى، أما إذا انعدم ذلك الارتباطُ، ولم يتحقَّق ذلك التوافُق، فإنه ينجم عن ذلك ميولٌ وأفكارٌ فحسب، إلَّا إن هذه الأفكار وتلك الميول، في حال عدم توافقها أو الارتباط في ما بينها، لا يمكن أن تؤدِّيَ إلى وجود سلوك مميّز عند الإِنسان. وبانعدام مثل هذا السلوك، تنعدم معه الذاتية المستقلة، أو الشخصية المميّزة.
وقد يحصل أن تكون ميولُ الإِنسان مخالفةً لأفكاره، فيأتي سلوكه ـــ حتمًا ـــ مخالفًا لفكره، وعندئذٍ يبرز صاحب هذا السلوك ذا شخصية فوضوية. وهذه الشخصية التي توجد عند كثير من الأفراد، هي التي تجعلهم لا يُقيمون للقوانين والنُّظم، ولا للقيم والمُثل، أيَّ وزنٍ أو اعتبار، بل يسلكون طُرقًا ملتويةً غالبًا ما تؤدِّي إلى الإِضرار بهم وبغيرهم، وقد لا تسلم من أذاها مصلحة الجماعة، بصورة عامَّة.
وليست الغاية من التوافق ما بين الفكر والطَّاقة الحيويَّة ـــ وبالتالي تكوين الشخصية المميّزة ـــ إلَّا تحقيق إنسانية الإنسان. فالإنسان يتوق دائمًا إلى إِعمال فكرِه، وإلى بذل أقصى جهوده لإِخراج أفكاره إلى حيّز الوجود، وجعلها واقعًا محسوسًا. وقد يظلّ على تمسّكه ببعض القيم التي آمن بها، من دون أن ينزع من نفسه بعض المثل التي اعتنقها. إلّا إنه وإن كان كذلك، أي هذا الإنسان العقلاني الذي يتطلع دائمًا نحو الأحسن والأكمل، فإنه في الوقت نفسه يجب أن يعيش مشاعرَهُ وأحاسيسَهُ، بحيث لا يكبت عواطفَه، ولا يُهمل انفعالاته. وخصوصاً أن الإنسان يتأثر كثيرًا بما قد يتراءى له من تصورات، وبما تقع عليه حواسه من الأشياء، أو بما قد يتفاعل في داخله من الكوامن الدفينة، فيشدّه هذا التأثر إلى الانطلاق من كبته، وإلى معايشة أحداث الواقع بما يتوافق مع مشاعر النفس وأحاسيسها. وهذه المعايشة هي من واقع حياته، وليست غيبًا فيه، لأنّهُ في الحقيقة هو عبارة عن جوهر من روح ونفس، كما أنه كتلة من لحم ودم، أي إنه لا يمكن أن تستويَ حياتُهُ صحيحة بتغليب بعض عناصر تكوينه على العناصر الأخرى، بل يجب أن يتوافر بينها جميعًا التوافق والانسجام حتى تتحقق له إنسانيته. ومن هنا كانت أهمية العواطف، أو ما ينبعث عن نفس الإِنسان من مشاعر. إلّا إن عليه أن يعرف كيف يكبح جماح تلك العواطف إنْ وَجَدَ أنها ستطغى عليه، وكيف يسيّر مشاعره في الوجهة السليمة إن رأى أنها ستخدعه. وذلك يكون بِنَهْي نفسه عن الهوى والزلل، وقيادتها على طريق الخير والحق، وتجنيبها الزيف والباطل. فإنه بهذا، وبما يكون لديه من وعي، وقدرة في الحكم على الأشياء، يستطيع أن يكون الإِنسانَ الذي يسعى نحو التكامل في إنسانيته.
إذن، فلا يجوز للإِنسان أن يتنكّر لذاته، ولا أن يعمل على تعذيب نفسه، بكل ما من شأنه أن يؤدي إلى هذا التعذيب أو ذاك التنكّر، وإلَّا فإنه يعطّل أجزاء مهمة من كيانه، وهذا ليس من إنسانية الإِنسان في شيء، ولا هو مطلوبٌ منه في وجوده. إذ كان حريًّا به أن يبحث دائمًا عن المعاني والمفاهيم والأشياء التي تنبعث أو تتوافق مع الحقيقة الصادقة، والتي من شأنها أن تُغني ذاته، وتنمّي عَلاقاتِهِ، وتؤمِّن له العقلية السليمة، والسلوك الصحيح.
ولقد عالج الإسلام هذه القضية في حياة الإِنسان معالجةً دقيقة. فالله سبحانه وتعالى، عندما أرادَ هذا الدين القويم لعباده، إنما أراده دين الفطرة عن حقٍّ، يتناولُ تربيةَ الإنسان على أساس هذه الفطرة، ويعمل على تنظيم غرائزه وحاجاته العضوية بما يكفل صقلها وتهذيبها، ويرشده إلى الإِمكانيات التي يُشْبعُ بها هذه الغرائز والحاجات العضوية إشباعًا وافيًا وطبيعيًّا، وهذا كلُّه من أجل أن ينمّيَ لديه المفاهيمَ، والقيمَ، والمشاعرَ الصادقة عن الألوهية والكون والحياة.
ومن خلال هذه المعالجة نجد أن الإسلام لا يفاضل بين الغرائز، أو يميّز غريزةً من أخرى. ولا يقبل بأن يطغى مظهرُ غريزة على مظهر غريزة غيرها. وهو كذلك لا يكبت مظهر غريزة كبتًا شديدًا، ولا يُطلقُ مظهر غريزة إطلاقًا قويًّا. أي إنه لا يريد للإنسان القهرَ والعذاب، كما لا يُريدُ له العِوَجَ والانحراف، وكلَّ ما من شأنِهِ إفسادُهُ بالمبالغة فيه زيادةً أو نقصانًا، بل يُريدهُ إنسانًا مستقيمًا، واعيًا، معتدلًا، متفاعلًا مع المبدأ والمنهج اللذين يشدانه نحو التكامل الإِنساني.
على أن كثيرين من الناس، لم يدركوا هذه المفاهيم الصحيحة، فنراهم يتجاوزون حدود فطرتهم بما يعمدون إليه من كبتٍ أو ما ينجرون وراءه من انحراف، أو بما يعمدون إليه من إطلاق مظاهر غرائزهم، وتكون النتيجةُ تعطيلَ عمل هذه الغرائز الطبيعي، وسيرَهُمْ في الحياة سيرًا مضطربًا. وهذا هو بعض أوجه التباعد عن الدين الإسلامي الذي لا ينفك يخاطبُ الفطرة في الإِنسان، التي قال الله سبحانه عنها في محكم كتابه العزيز: [فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ] (الروم: 30).
الله أكبر، الله أكبر! ما أروع هذا الدين القيّم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه! وما أعظم فطرة الله التي فطر الإنسان عليها حين خلقه، فسوّاه، فعدله، في أي صورةٍ ما شاءَ ركّبه، ثم قدَّر في فطرته الغرائز الثلاث:
ـــ غريزة حب البقاء ليتعامل بها مع نفسه. ولولاها لما كان للإِنسان أن يقوى على الاستمرار طوال سني عمره، فعزّز فيه حب البقاء كي يحتمل ويصبر على البلاء، ويتلافى سرعة الفناء.
ـــ وغريزة النوع ليتعامل بها مع الآخرين من بني جنسه. ولولاها لما كانت له تلك المشاعر النبيلة، ولا تلك الدوافع الشريفة للحفاظ على الوجود الإِنساني وتكاثره، وترقّيه في مسار الحياة.
ـــ وغريزة التدين التي تتجاوب مع الدين القويم من دون سواه ليتعامل بها مع خالقه، وخالق الكون والحياة، ومنزّل أعظم نظام سماوي على الأرض. ولولاها لما كان لحياته من قيمة أو معنى، ولا لوجوده من فلسفة أو مغزَى.
أو ليس في ذلك كله آيات بيّنات لقوم يتفكرون؟ بلى، لكن أكثر الناس لا يعلمون، لأنهم لا يعرفون كيف يربطون بين فطرتهم البشرية الطبيعية، وعقيدتهم الإِيمانية الفضلى، وكلتاهما من صنع الله عز وجلَّ، وكلتاهما تتوافقان مع قوانين الوجود، في الوقت نفسه الذي تتناسق كل واحدة منهما مع الأخرى في الطبيعة والاتجاه.
من هنا فإنَّ الإِنسان عندما يسير وفق فطرته التي فطره الله تعالى عليها، يبقى مطمئن القلب، متفتِّح العقل، صافيَ النفس، وهذا لا يخدمُ فيه الفكر فحسب، بل يفجّر لديه الطاقة الحيوية أيضًا. فبات من الضروري، ومن أهم ما على الإِنسان أن يعيه ويعمل لأجله، إيجاد التوافق اللازم بين فطرته ودينه، وهو التوافق الذي يجعله يؤمن بالله تعالى إيمانًا صادقًا مخلصًا، فيستمدّ منه قوةً فاعلة تنبعث عن اعتقاد جازم بأن مصدر هذه القوة، وكل قوة، هو الله تعالى، وأنه ـــ هو سبحانه ـــ الذي يمدُّه بأسباب قواه. وبهذا الإِيمان يمكنه أن يرى حقيقة العلاقة التي يجب أن يقيمها مع خالقه، أي العلاقة الصادقة ما بين العبد وربّه، وهي العلاقة عينها التي يقدّس من خلالها هذا الربَّ العظيم، كي يمكنه أن يحقق بعد ذلك إنسانيته على أكمل الوجوه.
على أنَّ هذا الإنسان، الذي عرف حقيقة وجوده، وأقام ذلك النظام التوافقيّ ما بين فطرته وتقديسه لربه، يبقى وحده الذي اهتدى إلى جادة الصواب. وبذلك فهو يختلف حتمًا عن أيِّ إنسان آخر، تفرقت به سبل المعرفة فتشتّت فكره، وجنحت طاقته الحيوية إلى مشاعر متناقضة وميول زائفة، حتى بَعُدَ به الطريقُ عن الهداية والاستقامة، وضلَّ الضعف الذي يقود، في مثل هذه الحالة، إلى الاعوجاج في متاهات العقيدة ضلالًا بعيدًا، فسيطر عليه ذلك الضعف الذي يقود، في مثل هذه الحالة، إلى الاعوجاج الفكري والإرهاق النفسي، وطغى عليه ذلك الشعور بالنقص الذي يدفعه للبحث عن ملاذ أو ملجأ يتوهم فيه حمايته وأمانه، في حين أنَّ أيَّ ملاذٍ أوى إليه ليس ـــ في الحقيقة ـــ سوى سراب خادع، كل ما يمكن أن يقدمه له هو أن يدفعه إلى تصوراتٍ مغلوطةٍ عن حقيقة خالقه، وغالبًا ما تؤدي به إلى إنكار هذا الخالق، فيندفع في طريق الشرك أو الإلحاد، مخلوقًا ضالًّا ضائعًا تتقاذفُهُ هواجس نفسهِ الأمارةِ بالسوء، ووساوسُ شياطين الإِنس الذين ينمّقون الكلام، ويحرّكون فيه نوازع الشرّ، فيظهر كصاحب سلوك منحرف، غير متوافق مع فطرتِهِ، وغير قادر ـــ إطلاقًا ـــ على تحقيق إنسانيته. ومن هنا فإنَّ كثيرين ممَّن لديهم تلك التصورات المغلوطة عن خالقهم، وعدم المعرفة الحقيقية بخَلْقهم، ينقادون بفعل تلك التصورات إلى أن يتعاملوا مع خالقهم بغريزة النوع على حساب غريزة التديّن. وهذا يخالف فطرةَ الله ـــ تعالى ـــ التي فطرهم عليها، ويُحسب ـــ بالتأكيد ـــ إفتراءً على الله سبحانه وتجنّيًا.
ومن الذين خالفوا الفطرة، وافتروا على الله أولئك الذين اعتنقوا، ما يسمى عندهم، بمذهب الحب الإلٓهي، أو مذهب العشق الإلٓهي.

العشق الإِلٓهي
بعد أن تعرفنا على بعض ما في تكوين الإِنسان من دقّة صنع الخالق سبحانه، وعرفنا فطرته الحقيقية السليمة التي فطرَهُ الله تعالى عليها، نجد أنَّ من الحريِّ بالإنسان، أن يُحبَّ على أساس هذه المعرفة، خالقَه، وكافلَه، والمنعمَ عليه. وهو قد أحبَّه بلا ريب منذ القدم، وعرف كيف يحب هذا الربَّ الذي خلقَهُ من كل قلبه، لأنَّه أدرك بثاقب بصيرته أن القلب الذي يُحبّ، هو القلب الممتلئ إيمانًا صادقًا بقدسية الخالق، والذي يمارس صاحبُهُ عبوديّةً حقةً لربّه، ومالك ناصيته ونواصي العالمين جميعًا.
وعلى خلاف ذلك، فإنَّ من الحقائق التي لا تقبل الجدلَ، أنَّ الإنسان كلما أفرغ قلبه من مشاعر الحب أو المحبة، كان مجافيًا لإيمانه، ومتنكرًا لإنسانيته. لأن من أولى المقومات التي يرتكز عليها الإِيمان الديني الشعور الصافيَ بحبّ الله سبحانه ومحبّة خلقه، أما إذا استأصل إنسانٌ ما، تلك المشاعر القدسية من قلبه، فإنه يكون قد عمل على تدمير أرقى ما في نفسه، والقضاء على أسمى ما في وجوده، بل ينأى بنفسه عن صدق انتسابه إلى بني جنسه.
إذن، فمن فطرة الإِنسان أن يُحبَّ. ومن مقومات هذا الحب وشرائطه، أن يأتي واعيًا، صادقًا هادفًا، لا أن يكون حبًّا يطغى عليه الجموح والشطط، أو يقوده الشذوذ والزلل، حتى يخرج بذلك على حقيقته، ولا يعود حبًّا في شيء، بل يصبح تهوّرًا في المشاعر ضارًّا، ولجاجًا في الانفعال هدّامًا. ومثل هذه المشاعر التي يتوهمها أصحابها حبًّا أو محبةً ـــ مع ذلك الانحراف والجنوح عن خطها السليم ـــ والتي تظهر بانفعال شديد، فإنها لا تمتُّ إلى المشاعر الصادقة بأيّ صلة، بل إنَّ الحبَّ القلبيَّ الصادق نفسه يمقتها، والمحبة الصحيحة نفسها ترذلها، وهذا الانفعال في المشاعر، سواء تعلق بالحب أو بغيره، يؤدي حتمًا إلى مقت الناس لصاحبه، وقد يدفع الكثيرين لقطع علاقاتهم، لأنه يُعَدُّ في نظرهم مهووسًا، تقوده الرعونة، ويشدُّه الطيش.
وحتى إن المبالغة في المحبة أو في الحب غالبًا ما تؤدي إلى الإضرار بأولئك الذين نحب. ولعلَّ من أبسط مظاهر هذه المبالغة ما نلمسه في إغراق بعض الوالدين أطفالهم بشدة العاطفة التي تحرمهم التربية الصحيحة الرشيدة وتؤدي في النهاية إلى إفسادهم، ومنها أيضًا ما نصادفه عند بعضهم في استسلامه لرغبات من أحبَّ إلى درجة قد تجعل المحبوبَ يستشعر الضعف في ذلك المحبّ؛ وقد يملُّ المحبوبُ هذا الضعف، بعد أن يمجَّ أسلوبَهُ، حتى يفقد الثقةَ التي نشأت في الأصل عن علاقة الحب. هذا ومن البراهين الأكثر دلالة على ذلك: الإفراط في الشهوات التي تنشأ عن الحب كمثل الإِفراط في تناول الطعام والشراب الناجم عن ولع صاحبه أو حبه للأكل والشرب، والذي قد يبتليهُ بأمراض كثيرة، أو تلك الشهوة الجامحة، التي نجدها عند كثيرين، للوصول إلى السلطة، أو لاكتناز الأموال أو جمع الثروات، أو غير ذلك من الشهوات التي لا تقف عند حدٍّ معقول فتقذف بمن استسلم لها في المهالك.
هذا في واقع الإنسان، وفي علاقاته مع أبناء المجتمع الذي يعيش فيه.
أما في علاقة الإِنسان بربه، وفي حبه له، فالأمر يجب أن يختلف تمامًا، لأنَّهُ الربُّ الكبيرُ القديرُ، الودودُ الغفورُ، مصدرُ الرحمةِ والمحبة، الخالق المتعالي الذي يُحبُّ المتّقين، ويحب المحسنين، ويحب المقسطين، ويحب الذين يقاتلون في سبيله صفًّا واحدًا كأنهم البنيان المرصوص، وغيرهم ممَّن عيّنهم القرآن الكريم، وعلى الأُسس التي حدَّدها في حبِّ الله تعالى لهم جميعًا.
إذن، فهذا هو الخالق العظيم، ربُّنا، ومالكنا، وربُّ الإِنس والجن والملائكة أجمعين، ورب الروح، والكون بكل ما فيه من عوالم. هذا الرب، الإِلٓهُ، كيف يجب أن نحبه؟ وما حقيقة الحب التي يجب أن تربطنا به، من غير أن ننسى في حبّنا له أننا مجردُ عبادٍ له مستضعفين، قد خلقنا لا حولَ لنا ولا طاقة إلَّا بما يقدّر ويشاء؟
هذا ما يُجيبُ عنه الإسلام كدينٍ، وكنظامٍ للحياة، من حيث يشكل الإطار الصحيح لمن أرادَ أن يتكامل في إيمانه الديني، ونزعته الإِنسانية، ذلك لأن الإِيمان بالله ـــ كربٍّ وكآلهٍ ـــ في الإِسلام هو قاعدة كل شيء: قاعدة التصوّر، وقاعدة المنهج، وقاعدة الخلق، وقاعدة العبادة. وهذا الإيمان بالله ـــ الذي يقوم على إفراده بالربوبية والألوهية ـــ يقتضي من المخلوقين له الإِقرارَ بقدرته وعظمته وسلطانه وسيادته على الكون والحياة والإِنسان، ومن ثَمَّ الاعتراف بعبوديتهم له وحده، وخضوعهم لمشيئته في كل حركةٍ من حركاتهم، وفي كل أمر من أمور حياتهم. ومن يملأ مثلُ هذا الإِيمان بالله تعالى قلبه، يكون له ملء حرية الاختيار إزاء كل شيء، ما عدا أوامر الله ونواهيه لأنَّ هذه لا شأن له فيها كإنسان وكعبد. أما في ما عداها فهو حر طليق من كل قيد، لا يحدُّ اختياره شيء، ولا يحول دون تطلعاته حائل. ولو تفكَّر الإِنسان قليلًا، لأدرك أنَّ اختيارَهُ أو تطلعه لا يمكن أن يكونا إلَّا في سبيل مرضاة الله عزَّ وجلَّ لأنهما قائمان على الإيمان الحق، لذلك فإنه يكون دائمًا عزيزًا أمام غيره، أيًّا كان هذا الغير، لأنَّ عزَّته مستمدة من الإيمان بالله صاحب العزة.
وهذا الإيمان بالله أيضًا هو الذي يُشبع فِطرةَ الإِنسان وتَوْقَهُ إلى معرفة حقيقة وجود الله، التي لا، ولن تحيط بها حواسُّه، لقوله تعالى: [لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ] (الأنعام: 103)، ولكن تدلُّ عليها آياتُهُ المبثوثة في كل وجود، والتي يهتدي إليها الإِنسان من خلال الفطرة الأصيلة فيه.
فإذا لم يكن لدى الإنسان هذا التوجُّهُ الفطريُّ نحو حقيقة وجود الله، وقدسيته، وجلاله، وعظمته، فهو إمّا أن يستسلم لواقع وجوده بطريقة سطحية لا تعبير فيها عن وجوده الإِنساني، وإما أن يشتطَّ به الفكرُ، وينقاد وراء المتاهات والخرافات التي يظنّ أنها تُشبع معرفَتهُ، فيقع في الانحراف، ويسلك مسلك الضالّين، مما ينجم عنه إصابته، بل إصابة الكيان الإنساني برمَّته، بالاهتزاز والاضطراب. من أجل ذلك لا يمكن للإِنسان المؤمن أن يُحبَّ اللهُ ـــ عزَّ وجلَّ ـــ إلَّا بالفطرة وبالقلب الواعي، والعقل النيّر. وطبعًا ضمن الحدودِ التي رسَمها الله تعالى له، والتي حملها الأنبياء والمرسلون ودلُّوا الناس عليها، وهي الحدود التي تجعل هذا الحبَّ لا يتعدّى حبَّ العبد لربه، أي الحبّ الذي له أصولُهُ الثابتة، التي تمنع على العبد أن يشتطَّ بعواطفه وتخيلاته حتى يتوهم أن حبَّه لربه هو حب له مفهوم خاص لا يعرفه غيرُهُ، وبعيدٌ من مفاهيم الناسِ جميعًا. كما تُحظّر عليه أن يتصوَّرَ هذا الحب وكأنه نوعٌ فريدٌ من المشاعر لم يتذوق حلاوتَها أحَدٌ من البشر غيرُهُ، لأنه فوق سِنخ البشر!
وهل الحب الذي طالعتنا به كتب التصوّف، عند أصحاب مذهب العشق الإلٓهي، إلَّا من هذا القبيل، أي إنه كان حبًّا له مفهومُهُ الخاص عندهم، وكان شعورًا فريدًا عدّوا أنهم اختُصُّوا به من دون غيرهم؟!.
ولِمَ ذلك؟
لأن أصحاب ذلك المذهب، وبما أوجدوا من تحديداتٍ، وتعاريفَ، وترانيمَ وحركاتٍ، وسكناتٍ، كانت كلها مصطنعة في الغالب، جعلوا الحب الإِلٓهي ذا خصائص تتفق وأهواءهم، فتعاملوا مع الله، بذلك الحب على كيفهم، وبالطريقة التي تحلو لهم! بل لم يراعوا في الحب الإِلٓهيّ، وبتلك الطريقة من التعامل، قواعدَ الفطرة التي فطرهم الله تعالى عليها، ولم يأبهوا لسرِّ القدسية، وجلال العظمة الإِلٓهية، ظنًّا منهم، أنهم وحدَهم أحباءُ الله، وأنَّ الله سبحانه هوَ الحبيبُ لهم من دون سائر البشر!.
هذا بالإضافة إلى ما توهموا بأن الله تعالى أودعَ في قلوبهم، هم وحدهم، أسرارَ العشق ومكنوناته، فلم ينعم به أحَدٌ غيرهم، لا من الأنبياء والرسل، ولا من الأولياء والصالحين، ولا من الناس أجمعين.
فهل هذا معقول؟
وهل يستقيم مثل هذا الاعتقاد مع غاية الإِنسان، ورحمة الله بخلائقه أجمعين؟
طبعًا لا، لأن الله سبحانه وتعالى هو الحكيم، الخبير، العليم، العادل وحاشى لله تعالى أن يخرق قواعد عدله، وأن يميز بين عباده، إلَّا إنه قد اختار ثُلة صالحة لحمل رسالاته إلى هؤلاء العباد رأفةً بهم ورحمة. فكل من اهتدى وآمن بالله، وجَبَ عليه حبُّ الله، لذا كان المؤمنون جميعًا أحبّاء لله تعالى. فإن حصرنا هذا الحبَّ بطائفة معينة من دون غيرها، فكأنما اعتبرنا أنَّ هذه الطائفة هي المؤمنة، ومَن سواها ليسوا من المؤمنين. وهذا ما يجعل سائر المسلمين، إن لم يكونوا على التصوف، من غير المؤمنين. فهل نجد شيئًا من ذلك في كتاب الله، أو في سنّة رسوله؟
إن الحب الإِلٓهي، كما اعتقده الصوفية، لا يعدو كونه وجهًا من الوجوه المغلوطة عن حقيقة حب الله، لأنه خرج عن مفهوم التقديس، والخشوع، والذلّ للإِلٰه الواحد الأحد. وهذا ما قادَ أصحابه إلى الزلل والخطأ، وإلى مخالفة أوامر الله ونواهيه، وبالتالي إلى الابتعاد كليةً عن العقيدة الإسلامية. ذلك أن وقوف مخلوق ندًّا لندٍّ مع الخالق، واتخاذه محبوبًا وعشيقًا له، على الأسس نفسها التي يحب ويعشق بها مخلوقًا مثله، إنما هو خلع لطاعة الله، ومخالفة للعقيدة، وخروج على أبسط قواعد المحبة الربانية الصادقة، التي هدانا إليها القرآن الكريم، من خلال تلك الدعوة التي جاءت فيه تقريرًا حاسمًا لحقيقة الإِيمان. لذا كان التركيز في هذا البحث عن الإِيمان، كما يرى القارئ الكريم، وعبرَ ذلك النداء الأزلي الصارخ للرسول الكريم الموجّه إلى الناس جميعًا: أنَّ من أحبَّ الله تعالى وجَبَ عليه اتِّباع رسوله، وبذلك يحبّه الله ويغفر له ذنوبَهُ، وذلك تصديقًا وإقرارًا لقوله تعالى: (قُلْ يا محمد للناس) [إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ] (آل عمران: 31)... أي أحبّوا أيها الناس، ربَّكم الله باعتناق دينه الحقّ من خلال الإيمان بنبوّة محمد، صلى الله عليه وآله وسلم، واتّباعه في حَمْلِهِ للإِسلام وإبلاغِهِ، وهذا لا يجعلكم مسلمين فحسب، بل هو الذي يُحبُّكُمُ الله تعالى به، ويغفر لكم ذنوبكم، ولم يكن في هذه الدعوة، وفي هذا النداء، أيُّ أساس لحب بين عاشق ومعشوق، كما في دنيا الأرض، وتمرّغهما بوحل عشق الجسد وترابه.
نعم هذا هو قوام حب المؤمنين لله تعالى، وحبّ الله لهم، وهذا الحب لا يكون دعوةً باللسان، ولا اعترافًا بالجنان فحسب، بل يجب أن يصاحبهما اتّباعٌ لرسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، في أمره ونهيه، وفي تصرفه ومسلكه، والسير على هداه وسنّته، لتحقيق منهجِهِ في الحياة، وإنَّ حبًّا كهذا لا يمكن أن يكون بكلمات تُقال، ولا بمشاعر تجيش، بل بمعرفة الله تعالى، وبمعرفة رسوله الكريم، معرفةً تترجمُها طاعةٌ لله ورسولِهِ، وعملٌ بمنهج الله الذي أودعَهُ قرآنَهُ، وقلبَ نَبِيِّهِ، فأدّاه هذا النبيُّ خيرَ أداء، وتركه وديعةً للمسلمين كي يؤدوه مثلَهُ إلى أبد الآبدين.
وفي تفسير الآية الكريمة ـــ المذكورة ـــ يقول ابن كثير: «هذه الآية الكريمةُ حاكمةٌ على كل من ادّعى محبة الله وليس هو على الطريقة الإسلامية، فإنه كاذب في الأمر نفسه حتى يتّبع الشرعَ الإلٓهي، والمنهج المحمدي المتمثل في جميع أقوال النبي محمد، صلى الله عليه وآله وسلم، وأفعاله»... وقد ثبت في الصحيح عن رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، أنه قال: «من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو ردٌّ» أي ارتدادٌ عن الدين، ومروقٌ منه وكفر.
وسوف نبيّن ـــ إن شاء الله ـــ كيف كان منهج الرسول العظيم، صلى الله عليه وآله وسلم، في حبه لله، وفي عباداته، ومجمل أمور حياته. لكننا نتساءل الآن عن معنى الحب لغةً واصطلاحًا، وهل هو العشق أم أنه غيره، حتى يمكن أن نميّز هذه المفاهيم العامة من «الحبّ الإلٓهيّ» الذي هو من دعوى الصوفية.
فالحب، وبالمفهوم المتعارف عليه لدى الناس، هو ذلك الشعور الإنساني الشريف، العاطفي، الذي يعبّر عما في النفس، ويكون نابعًا من القلب، لذا يقال: أحبَّ فلانٌ فلانًا أي ودّه، ومن الحب تأتي المحبة وهي تكون على وجوهٍ كثيرة أخصُّها ثلاثة:
ـــ محبة الرجل للمرأة أو محبة المرأة للرجل، وهذه المحبة لا تحتاج إلى دليل، ولا إلى تفصيل، لأنها في صميم حياة الإنسان وواقع وجوده.
ـــ محبة للنفع: كمحبة شيء ينتفع به ومنه، ودليلُها في قوله تعالى: [وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِّنَ اللهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ] (الصف: 13).
ـــ محبة للفضل: كمحبة أهل العلم بعضهم بعضًا لأجل العلم، وهذه أيضًا يعرفها ذوو العِلم والضالعون في شؤونه.
لكنَّ المحبة الخالصة التي تأتي في طليعة كل محبة، إنما هي محبة الله تعالى لعبده، وهي تكون بإحسانه له ورَحمته به، وقد كتبها ـــ جلَّ وعلا ـــ لعبده على نفسه، لطفًا منه وكَرَمًا. أما محبة العبد لربه فهي الرجاء والتمنّي، والخشوع والطاعة، من أجل نَيْلِ رضاه، وشُكرِهِ على هذا الرضى.
وليس في الحبّ والمحبة، بالمعاني التي وردت، ما ينمُّ عن العشق أبدًا، لا بل هما غيرُ العشق تمامًا. لذا يقال في المعنى: عشق به، أي لصق به ولازمه فلا يفارقه، وفي لغة المشاعر: العشق هو الإفراط في الحب أو إعجاب المحب بالمحبوب. لكنَّ هذا الإِفراط قد يلازمه الحرمان من الحبيب فيتصف العشق بالحب العذريّ. وكثيرون في أدب الشرق والغرب عرفوا بهذا الحب الذي وصل بهم أحيانًا إلى درجة الجنون أو الهلاك كما يُحكى في رواياتهم. وقد يكون الإِفراط في الحب ـــ أو العشق ـــ استجابة لشهوة جسدية، أو رغبة مادية، وفي هذه الحالة يصبح بمنزلة هاجسٍ مَرَضِيّ وسواسيّ يغزو النفس عن طريق تسليط الفكر على استحسان بعض صورٍ من الواقع المحسوس، أو تصورٍ لبعض التخيّلات الناجمة عن الرغبة والشهوة.
وهناك فرق بين الحب والعشق. لما سئل أحمد بن يحيى عنهما، وأيهما أحمد؟ أجاب: «الحب، لأن العشق فيه إفراطٌ، وسمّي العاشق عاشقًا لأنه يذبل من شدة الغرام كما تذبل العَشَقَةُ إذا قطعت. والعَشَقَةُ كما قال الزجاج: شجرة تخضرُّ، ثم تدقُّ، ثم تذبُلُ. وقال: إن اشتقاق العاشق منه».
إذن هنالك فارقٌ كبير بين الحب والعشق. ففي حين أن الحب هو شعور من المشاعر الإنسانية السامية، أو إحساس من الأحاسيس النبيلة التي تظهر عند الإنسان بصور شتى: مثل حب المرء لزوجه، وولده، وأهله. ومثل محبة جميع الناس عند من امتلأت قلوبهم بالمحبة الحقة، ومثل حب الخير، والحق، والمثل العليا إلخ. نعم في حين نجد أن هذا هو الحب، نجد في المقابل أنَّ العشق هو تلك الرغبة المشبوبة، أو الإحساس الجيّاش الذي يظهر بإفراطٍ وجنوحٍ عند الإنسان حتى يجعله منجذبًا كليًّا إلى من يعشقه. ومن هنا قال بعض العلماء: إنما ينجم العشق عن مظهر غريزة النوع، لذلك سمّوه «الجذب الطبيعي» أو المحرك لجميع الموجودات. لأنَّ في كل واحد منها عشقًا لكماله، كعشق الأجسام الكيماوية بعضها لبعض، أو كعشق الحيوان لنوعه أو لغذائه، أو كعشق الشبان للحسناوات، وغير ذلك.
أما الصوفية، وبخلاف مفاهيم العشق هذه، فقد قالوا بأن المحبة الخالصة لله هي نفسها العشق الإلٓهي. ووصفوا حالة العاشق ومرتبته بقولهم: «إن الجوهر الإلٓهي في الإنسان، إذا صفا من كَدَرَة المادة اشتاق إلى شبهه، ورأى بعين عقله الخير الأول المحض فأسرع إليه. وحينئذٍ يفيض إليه نورُ ذلك الخير فيتّحدُ به، ويشعر بلذة لا تُشبهها لذة، وهذه المرتبة هي أعلى مراتب الوصول، ولا تقبل الزيادة أو النقصان. فيها ينكر العارف معروفه، والعاشق معشوقه، فلا يبقى هنالك عارف ولا معروف، ولا عاشق ولا معشوق، بل عشق واحد مطلق، هو الذات الحق الذي لا يدخل تحت اسم ولا رسم، ولا نعت، ولا وصف».
هذه هي خلاصة فكرة العشق الإلٓهي، كما قال بها بعض المتصوفين. وهي، كما تبدو لنا، ذلك الخليط من الأفكار والمشاعر، وذلك المزيج من التصورات والانفعالات، التي جاءتهم عن تصوّرٍ خاطئٍ لحقيقة الله ـــ سبحانه وتعالى ـــ في ماهيته، وقدرته، وعظمته، وجبروته، وقدسيته، حتى لَيَظُنّ المتصوفُ العاشقُ بأنه يلتصق بالذات الحق، بل يحلُّ فيها، أو يتّحد بها، حتى يصبح وإياها ذاتًا واحدة، غير قابلة للاختراق أو الانفصال!!!
ومثل هذا الاعتقاد الواهم، لا يخرج من مألوف الواقع والحقيقة فقط، ولا يجافي الفكر الإنساني والطبيعة الإنسانية فحسب، بل يخالف صلب العقيدة التي تقوم في الأصل على التوحيد وألوهية الإلٓهِ من ناحية، وعلى عبودية العبد من حيث كونه مخلوقًا من الله وعبدًا لهذا الخالق من ناحية ثانية.
فالله ـــ سبحانه وتعالى ـــ هو كما قال عن نفسه في محكم كتابه العزيز: [قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ (1) اللهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ] (الإخلاص: 1 ـــ 4). وهو لم يتخذ صاحبة ولا ولدًا، ولم يكن له شريك في الملك، ولم يكن له وليٌّ من الذل وعلينا أن نكبّره تكبيرًا لأنه خالق السموات والأرض، ورب الكون والحياة والوجود والإنسان، وكلّ ما كوَّن، بقدرته يقول للشيء: كن... فيكون. لا إلٰهَ إلَّا هو سبحانه، تفرّد بالوحدة، والعزة، والعظمة، والسلطان، والسيادة والقدرة، والمشيئة، وما إلى ذلك مما يدلُّ على ألوهية الله سبحانه وتعالى.
فهل يجوز ـــ بعدُ ـــ لمخلوق أن ينسى حقيقة هذه الألوهية، وأن يخرج على العقيدة، الأزلية، الثابتة، فيقول أو يدّعي، أو يشعر، بأنه يمكنه أن يصل إلى مرتبة الاتحاد بالله ـــ الذي يجهل كنهه وذاته ـــ حتى يصبح والذات الحق ذاتًا واحدة؟!.
وإننا على يقين بأنَّ من يُداخلُ فكرَه مثلُ هذا الاعتقاد، إنما يخرج على العقيدة الإسلامية، ويكون قد أنكرَ حقيقة صفات الله، فهو من الجاهلين. وهذا من دون ريب، نوع من الشطط والزلل، إن لم يكن نوعًا من الهرطقة والدجل، الذي يُفترض أن يخجل منه صاحبُهُ، لا أن يفاخِرَ به، كما يفعل الصوفية! بل إنَّ الاعتقادَ به جهالة بحقيقة صفات الله تعالى. وهو نوعٌ من التضليل يُصيبُ الذين عبث الشيطان بعقولهم، وتلاعب بمشاعرهم، حتى أوقعهم في الضلال، فكانت النتيجة أن أوقعوا غيرهم ـــ ممن ساروا على دربهم ـــ في هذا الضلال، ورموهم بما لشيطانهم من أحابيل وأضاليل.
وهل أدلُّ على هذا الضلال والتضليل من ادّعاء هؤلاء الصوفية عِشقًا بالله ـــ عزَّ وجلَّ ـــ ثم تلفيق المراتب، وابتداع الأقاويل، واصطناع الحركات من أجل فتنة نفوسهم، ونفوس غيرهم من خلق الله، بعدما انخدعوا بأنهم من المقربين، بينما هم قد اتخذوا في الحقيقة دينهم لغوًا ولعبًا ولهوًا، وغرَّتهم الأمانيّ، وغرَّهم بالله الغرور، فتاهوا عن القصد، وخسروا خسرانًا مبينًا؟
هذا فعلًا ما كان عليه بعض الصوفية الذين اعتنقوا مذهبَ العشق الإلٓهي. وللتدليل على ذلك، تعالَ معي أيها القارئ، واستمع إلى بعض ما قيل عنهم، بمناسبة الحج، حيث يكون الناسُ في حشر يشبه حشر يوم القيامة، يخرجون بأثواب تشبه الأكفان ويتدافعون كالفراش المبثوث، منيبين لله، حاجّين إلى بيته، تائبين، راغبين ملبين. نعم هذا ما يجب أن يكون عليه الحجيج لا يلفتهم إلى الدنيا شيء، ولا إلى مَنْ فيها أمرٌ، لأنَّ التوجه يكون إلى الله وحدَه، حتى يستحق الحاجّ الأجرَ والثوابَ. لكنَّ أبا حازم الصوفي، في ذلك الموسم المبارك، أبى إلَّا أن يلتفت إلى فاتنة حاسرةٍ عن وجهها، كما جاءت الرواية عنه في كشكول البهائي التي تقول: «خرج أبو حازم الصوفي في أيام المواقف، وإذا بامرأة جميلة حاسرة عن وجهها قد فتنتِ الناس بحسنها، فقال لها: يا هذه، إنك بمشعر حرام، وقد شغلت الناس عن مناسكهم، فاتّقي الله واستتري. فقالت: يا أبا حازم، إنني من اللّائي قال فيهن الشاعر:
أماطَتْ كِساءَ الحجّ عَنْ حُرِّ وجهها وأرخَتْ على اَلْمتْنَينِ بُرْدًا مُهَلْهَلَا
مــن الــلّاءِ لم يَحْجُبْنَ يَبــغِينَ حِسْبَةً ولــكن لِيَقتُلْـنَ الـــبريءَ المُغَفَّلَا
قال أبو حازم: تعالوا ندعُ الله لهذه الصورة الحسنة أن لا يعذبها بالنار. فجعل يدعو وأصحابه يؤمّنون (أي يقولون آمين). فبلغ ذلك الشعبيَّ فقال: ما أرقَّكم يا أهل الحجاز. أما لو كان من أهل العراق لقال: اغرُبي، لعنة الله عليك». فربما يكون أبو حازم الشيخ الذي وهن عظمه، لما رأى تلك الحسناء، تحركت مشاعِرُ العشق الإلٓهيّ عنده، فترك الحجَّ وراح يدعو للمرأة كي لا تُعذَّب في النار، فتأمل!
لنعد إلى عقيدة الصوفية في الحب الإِلٓهيّ، وهنا نتساءل: هل يجوز لمخلوق بشريّ أن يجعلَ الله تعالى عشيقَهُ بحيث يصبح صنوًا له؟. قد يكون في هذا الاعتقاد وهمٌ أو سيطرة من الشعور الخياليّ، ولكن ماذا لو لم يكن هنالك شيء من ذلك، بل وعيٌ كاملٌ لدى المخلوق البشريّ، وقناعةٌ تامة بما اعتقد؟! حتى ليستوي في نظر الصوفيّ العاشق كلُّ شيء، فلا يعود يفرق بين خالقٍ ومخلوق، ولا بين معبودٍ وعبد. بل يظن ـــ وهمًا وباطلًا ـــ أنه أصبح قادرًا بذلك العشق على أن يصل إلى مرتبة العرش العظيم، وعلى أنَّ لديه الإمكانية للاتحاد بالذات الحق، أو لحلول الذات الحق فيه. فأين هذا التصوّر من حقيقة خلق الله، الذين لم يخلقوا إلَّا لعبادة الله تعالى بدليل قوله سبحانه: [وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ] (الذاريات: 56)، لا ليعشقوه على طريقتهم البشرية؟ والفارق كبير، وكبير جدًّا بينه وبينهم فهم فقراء إليه، وهو سبحانه وتعالى غني عن العالمين؟! أليسَ كل كائن حيٍّ إلى فناءٍ وزوالٍ، في حين أنه هو سبحانه الحيُّ القيوم الذي تعزّز بالقدرة والبقاء؟
إذن، فكيف يصحُّ في معتقد الصوفية أن يقولوا بالاتحاد بالله، أو الالتصاق به عن طريق العشق الإِلٓهيّ، وفقًا لمفهوم العشق بين كائن قدّر عليه الموت أو الفناء، والحي الذي لا يموت ولا يَفنى؟ بل كيف يمكن للإنسان المحدود أن يتَّحد باللامحدود، وهل يمكن لهذا الإنسان الحادث أن يصبح أزليًّا؟ وأكثر من ذلك هل مَنْ كان جسدًا يحمل القذارة والخبائث يمكن أن يتحد مع مَنْ هو نورُ السماوات والأرض؟ إنهم بمعتقدهم ذاك قد صدق فيهم قولُ الله تعالى: [وَمَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ] (الزمر: 67).
من أجل ذلك يمكن التقرير، بشكل جازم وقاطع، أنّ ادعاء العشق الإلٓهي، كما قال به بعض المتصوفة، وعلى تلك الصورة التي تؤدي إلى أن يستوي فيها «العاشق والمعشوق، والعارف والمعروف، فلا يكون هنالك لا عاشق ولا معشوق، ولا عارف ولا معروف، بل عشق واحد مطلق، هو الذات الحق»، وما يتأتّى عن ذلك من وصول واتحاد. إنَّ مثل هذا الادعاء، أبسط ما فيه اعتداء سافرٌ على حرمة الله تعالى وقدسيته، وعدم إقرار بألوهيته وربوبيته. وهل أكثر شططًا، وأشدُّ فسوقًا، من أن يظن الإنسان أنه قادر على الوصول إلى مرتبة الإلٰه؟ أو لم يقل بعضهم (البسطامي): «سبحاني، سبحاني... ما في الجبة إلَّا الله...»؟ أستغفر الله ربي وأتوب إليه من هذا الخيال الخادع الذي يشتط بصاحبه إلى درجة يتصوّر معها ذلك المستحيل ممكنًا، وأعوذ به سبحانه من ذلك الهذيان الفارغ الذي إن دلَّ فإنما يدلُّ على قلب فارغ من معرفة الله، ومحبة الله!
لا، ليس من المعقول أبدًا، ولا من الإيمان مطلقًا، أن يُجافي الإنسانُ فطرتَه، وأن يخالفَ طبيعتَه البشرية، كما أنه حرامٌ وكفرٌ أن نتطاول على عظمة الله تعالى وقدسيته: إن بالتفكير أو بالخيال أو الشعور. وسواء حصل ذلك عن قصدٍ أو غير قصدٍ؛ فالعقيدة ثابتة، والحقيقة مطلقة، وهي أن الله ـــ سبحانه وتعالى ـــ ليس له نظيرٌ يعادلُه، ولا شبيهٌ يُشاكلُه، ولا ظهيرٌ يُعاضده، قَهَرَ بعزته الأعزّاء، ولعظمته تواضع العظماء، فبلغ بقدرته ما يشاء.
أما نحن بني البشر فنبقى عبيدهُ ومخلوقاتِهِ نستمدُّ منه وجودَنا وكياننا، وننعم بما يَفيءُ علينا من رحمة، وبما يمنحنا من عطاء. وأجلُّ عطاياه السنيَّةُ هذا التكوين الرائع لنا بما فيه من روح ونفس وجسد، وهذا النظام السماوي الذي عنه تنبثق سنن الحياة وقوانين الوجود.
وإنَّ من مقتضيات تكويننا البشري أن تكون لدينا عواطف ومشاعر نُغني بها أنفسنا، ونغدق منها على غيرنا، مما يساهم في تأمين مسار حياتنا الطبيعي، وعلى هذا الأساس يحق لنا أن نحبَّ وأن ننعم بمعاني الحب، كما يمكن لنا أن نعشق، ولكن ضمن حدود العشق الذي يمكن أن يحصل بين إنسان وإنسان آخر مثله، وبالتحديد بين رجل وامرأة، حتى إنَّ هذا العشق يمكن أن يكون لدى الحيوانات وبالتحديد بين حيوان وآخر من جنسه، بل بين الأشياء والأجسام، وفقًا لوحدة الجنس، على أن يحصل ذلك طبقًا للقوانين الطبيعية التي تحكم الأجناس، ومنها قانون «الجذب الطبيعي» الذي قال به بعض العلماء، كما أسلفنا.
كما أنَّ من مقتضيات وجودنا أن نقيس علاقاتنا البشرية بعضنا ببعض، أولًا على القوانين والنظم التي صنَعَها الله تعالى لتسيير حياتنا، على ألَّا ننسى بأنَّ لنا حيالها قدرةً محدودةً لا نستطيع أن نتجاوزها، ونلتفت إلى أننا أضعف من أن نتعداها، لأنها في الأصل من غير صنعنا، وأن نقيس علاقاتنا، ثانيًا، على القوانين والأنظمة التي نضعها نحن لأنفسنا، والتي تدور دائمًا في فلك طاقاتنا، بحيث تأتي تعبيرًا عن تطلعاتنا وأمانينا في دنيا الأرض، وضابطًا لتصرفاتنا من بعض الانحراف والخطأ.
كل ذلك طبيعي، ونجده قائمًا ومعمولًا به، وعلى أساسه كان وجودنا، وتكونت حياتنا أفرادًا وجماعات، أما ما هو غير طبيعي، وما لا يمكن أن يتوافق مع وجودنا، وتكويننا، وحياتنا، فهو أن نفكر أو أن نعمل لجعل المقاييس التي تحكم علاقاتنا البشرية، هي المقاييس نفسها التي تحكم علاقتنا بالله جلَّ وعلا. فإذا كان من الجائز أن نحبَّ، أو أن نعشق إنسانًا على شاكلتنا، فإنه لا يجوز لنا بتاتًا أن ندّعي عشقًا لله، بل جلُّ ما لنا من حقٍّ هو أن نحبَّ الله تعالى، كما أحبّنا هو سبحانه، على أن يبقى حبّنا له تعالى حبًّا يملؤه الإجلال والتقديس، ويقوم على الطاعة والامتثال، وعلى الإذعان والعبودية. أما أن نخالف هذه الحقيقة، وندّعي بأنَّ لدينا القدرة على أن نحبَّ الله حتى يصل بنا هذا الحب إلى درجة العشق والوله، كما فعل الصوفية، وأن تصبح الذات الإِلٓهية معشوقًا، كالمعشوق الأرضي، فهذا، والله، ليس من حبّ الله في شيء، بل إنه انقياد للشيطان الذي أخذ على نفسه أن يغويَ الناسَ، وأن يصرفهم عن العبادة الحقة، حيث يقعد لهم صراطَ الله المستقيم. وهذا ما نبَّهنا إليه سيدُنا وخالقُنا، وحذَّرَنا من إغوائه، حيث قال، عزَّ من قائل: [قَالَ (أي إبليس) فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ] (الأعراف: 16 ـــ 17).
فإبليس قد أخذ على عاتقه العهد بأن يقعُدَ للناس على طريق الهدى من أجل أن يغوِيَهُمْ، ويبعدهم من الصراط المستقيم، أي من الحق والخير. ومما لا ريب فيه، أنَّ ذلك اللعين لن يقعد في طريق إنسان منحرف، أو لن يقطع الدرب على إنسانٍ ضالٍّ (أمثال من يسعى إلى اقتراف جريمة أو إلى ارتكاب معصية، أو غير ذلك من أعمال الشرّ...) لأنّ هؤلاء الناس، وفيما يقدمون عليه أو يأتونه لا يحتاجون إلى شيطان يغويهم أو يضلهم، بل إبليس لا يكلف نفسه القعودَ في طريقهم، إلَّا إذا أرادَ تشجيعهم على الشر والباطل، وتقويتهم على المعاصي والذنوب لأنهم، هم أنفسهم، نسخةٌ طبقُ الأصل عن إبليس اللعين الذي فَسَقَ عن أمر ربه. وإنَّ كلًّا من هؤلاء إبليسٌ إنسيٌّ قائمٌ بذاته. كيف لا وهو يقوم بالمهمة نفسها التي تعهد بها إبليس، أي مهمة الإِغواء التي تمنع على الإنسان طاعة الله تعالى، وهدى أنبيائه، وتحرمه من مجاراة فطرته، وتبعده من تحقيق إنسانيته! فالقائم بتلك الفِعال، لا يحتاج إلى إبليس عاصٍ، ولا إلى شيطانٍ مارق، لأنه أصبح نفسه قرين الشيطان، [وَمَن يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاء قِرِينًا] (النساء: 38). وقد لا نُبالغ إن عدَدْناه من حزب الشيطان وجنوده، وربما يحتاج الشيطان إليه، وإن بدا أمامنا بلباسه الآدمي الذي يخفي حقيقته، في حين أنه اتخذ من نفسه قدوةً للداعين إلى الضلال والتضليل!
وما علينا، نحن معشر المؤمنين، عندما نقع على هذا «النموذج الشيطاني» من بني البشر، الخطير على إنسانية الإنسان وروحانيته، إلَّا أن نستعيذ منه بالله، وأن نتحصَّن منه، بما قاله سبحانه وتعالى: [قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1) مَلِكِ النَّاسِ (2) إِلَهِ النَّاسِ (3) مِن شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ (4) الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (5) مِنَ الْجِنَّةِ وَ النَّاسِ] (الناس: 1 ـــ 6).
فالشيطان الرجيم ـــ على هذا ـــ له مريدوه، وأنصارُهُ، وعمَّالُهُ من الناس، هؤلاء الذين يحبهم، ولا يحتاج إلى غوايتهم. أما أولئك الذين يكرههم، ويحنق عليهم أشدَّ الحنق، فهم المؤمنون، العابدون، التائبون، المجاهدون، الذين عاهدوا الله ورسوله على أن يسيروا على الدين الحنيف، وأن يتبعوا الشرع القويم. فهم أعداؤه الحقيقيون لأنهم اتخذوه عدوًّا مبينًا، وعبدوا الله حقَّ العبادة، وما اشتطوا في غلواء عبادة، ولا قعدوا عن تلبية واجب، بل كانوا خير أمةٍ أخرجت للناس. نعم إنَّ هؤلاء المؤمنين الصادقين هُمُ الذين يكيد لهم الشيطانُ ويلاحقهم بجميع كيده، ومكره، وحبائله، ويوسوس لهم ما استطاع، علَّه يفلح في إغوائهم، ويبعدهم من صراط الله المستقيم، ويأمل بالتالي أن يجعلهم من حزبه وأتباعه، ولكن هيهاتِ للشيطانِ أن ينفُذَ إلى صدر إنسانٍ مؤمن بالله حق الإيمان! فهو في حصنٍ حصين من ربه، وفي مناعة متينة من إيمانه، لذلك لا يفلح كيد الشيطان مع هذا المؤمن، من حيث أتى.
على أنَّ ذلك لا يعني أنَّ من ضلَّ، وسارَ مع الإِغواء، محكوم عليه أن يبقى على ضلالته وغوايته، فهو قد يهتدي ويعود إلى طريق الإيمان، لكن المطلوب منه أن يعيَ واقعه، ـــ وإنْ كان ذلك من أولى واجباته الدنيوية والدينية ـــ وأن يدرك حقيقة ما كان يفعل، وأن يعرف دوافع ذلك في أعماقه، ثم يعمل على مقاومة رغبات نفسه الأمّارة بالسوء، والقضاء على نزعاتها وأهوائها، كي يطرد الشبهات ووسوسة الشيطان منها، وسيرى، عندئذٍ، كيف يحلُّ ـــ بعون الله ـــ الإيمانُ الصادقُ في قلبه، وكيف يقوده هذا الإيمان لأن يصير تائبًا، خاشعًا، منيبًا، لا يرجو إلَّا رحمة ربه ومغفرته، مؤتمرًا بأوامره ونواهيه، تاليًا قرآنه الكريم الذي فيه شفاءٌ للعالمين، وهدًى ونورٌ مبين، كما فيه تبيانُ كلِّ شيء، وبه يخرج الناسُ من الظلمات إلى النور. من هنا دعوتنا إلى أصحاب «العشق الإِلٓهي» أن يعودوا إلى حقيقة القرآن، ويعتبروا بما فيه، حتى لا يظلّوا عرضةً لوسوسة الشيطان، الذي يزيّنُ لهما الباطل باسم الحق، ويحبّبُ لهم الخطأَ تحت ستار الصواب، ويستدرجُهم إلى ذلك العشق في ظل ممارسة العبادة، وباسم القيام بالشعائر الدينية!!!
ومما يدفعنا إلى دعوة الصوفية لرفض غواية الشيطان، وترك دعواهم «العشق الإلٓهي» تلك الحالة التي أوصلهم إليها هذا العشق، والتي يتوهمون فيها أنه يحصل لهم الانكشاف، فيرون الله بأم العين.
فمتى كان الله ـــ عز وجلَّ ـــ يُرى؟
ومن رآه من الأنبياء والرسل والأنبياء والأصفياء؟
وهل الصوفيون كانوا أجلَّ من هؤلاء جميعًا؟
إنَّ نبيَّ الله وكليمَهُ موسى ـــ عليه السلام ـــ قال: [رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِي وَلَـكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ موسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ] (الأعراف: 143).
لقد كان ذلك الطلب من موسى ـــ عليه السلام ـــ بعدما ألحَّ عليه رجالات بني إسرائيل الذين رافقوه إلى جبل الطور، إلحاحًا شديدًا بأنهم يريدون أن يَرَوُا الله حتى تتمَّ لهم البيّنة على صدق رسالته. وبناءً على ذلك الإلحاح، وخوفًا من ارتداد القوم عن الدين، ومن أجل تثبيت العقيدة في نفوس رؤساء القوم، استجاب نبيُّ الله لطلبهم. لكنه رأى، ورأوا بأم العين كيف دُكَّ الجبل دكًّا. فما أعظم رهبة الله ـــ سبحانه ـــ وما أسمى عظمته، وما أعلى مقامه! فهو الذي لا يجوز، بل ولا يمكن، لأحد أن يطاول حضرته القدسية أيًّا كان، ومهما كانت الغاية أو المرتجى.
وإذا كان هذا شأن النبيين في علاقتهم مع ربهم، فكيف يجب أن يكون شأن غيرهم من الناس الآخرين؟! وإذا كانت هذه هي الحقيقة، فكيف فاز أولئك الصوفية بالرؤية؟! وبحبّ الله تعالى، وعشقه، من دون سائر الأنبياء؟ بل كيف قدروا ـــ وهم بشر ـــ على مفارقة هذا الجسم المؤلف من لحم ودم وعظم، وخبائث مختلفة؟ نعم كيف يقدرون على أن يتحلّلوا من طبيعتهم البشرية هذه، حتى يكون لهم ذلك الارتقاء بأنفسهم إلى مراتع عرش الرحمٰن، وهم أعجز عن القفز في العلوّ بضعة أقدام؟!
ثم لماذا يحصل لهم وحدهم الانكشاف، من دون غيرهم من الناس. وهم كسائر الناس في حقيقة النطفة التي منها خرجوا، وطريقة الحياة التي فيها درجوا، من غير أن يتغيَّرَ شيء في الطبيعة التي عليها وجدوا؟ أم كيف يمكن أن يستحيلوا كائنات مختلفة تخترق قوانين الكون، مع العلم بأن واقع الإنسان قد دلَّ منذ وجوده وحتى الآن، أنه هو هو، لم يتغير شيء في جوهره وكيانه.
إذن، فمن يدّعي حصول المشاهدة، أو الانكشاف يكون ادعاؤه زيفًا وبهتانًا، وتعالى الله عمَّا يقولون عليه. كبُرتْ كلمة تخرج من أفواههم، إنْ يقولونَ إلَّا كذبًا، قاتلهم الله أنَّى يؤفكون!!!
ومن أقاويل الصوفية العاشقين، أنَّ ما يحصل لهم من انكشاف أو مشاهدة إنما يحصل لقيامهم على عبادة الله عبادة صارمة، بحيث تتصل نفوسهم في أثنائها بالملأ الأعلى، فتنكشف الحجب حتى يروا مقام الله الأسمى بالعين المجرّدة.
فأيّ عبادة هذه التي يقومون بها حتى تؤدي إلى اقتحام المقام الرفيع؟
لقد قلنا من قبل بأنَّ الله سبحانه وتعالى خلق فينا غريزة التقديس التي هي منتهى الاحترام القلبي. وبوساطتها تكون عبادتنا، وبمظاهرها تتحقق العلاقة بيننا وبين خالقنا، ومدبرنا، وحافظنا. وهي تُبنى على الخشوع والخضوع والطاعة، فإنْ تقرَّبنا إليه فبالأعمال التي يرضى عنها، وإن وقفنا متأدّبين بين يديه فبالشكر والحمد على ما أولانا من نعمه، وإنْ عبدناه طوعًا وتذللًا فعرفانًا بالجميل وتشرّفًا بطاعة الرب الجليل. وذلك هو الخروج من ذلّ عبودية الهوى إلى عزّ طاعة الرحمٰن الرحيم.
هذه هي مقومات العبادة، ومظاهر الطاعة. ومن قام بها كان حقًّا من العابدين الصادقين، الذين أحبُّوا الله تعالى، وخافوا على أنفسهم من سوء المنقلب. أما من استنُّوا لأنفسهم شرعة خاصة في العبادة، ومنهجًا معينًا في المحبة، بحيث لا يدخلان في تلك المقومات والمظاهر، بل يهدفان إلى رؤية الله واقتحام مقامه، فهؤلاء إنما يخالفون حقيقة التنزيل، وصدق الدعوة، غير آبهين لمقام الله العظيم، الذي لا يحقُّ لهم ـــ بل ولا لمخلوق على الإطلاق ـــ التطاول عليه، والتفكير باقتحام حرمته القدسية.
والحقيقة أنَّ من يتجرّأ على التفكير في اقتحام مقام الله العلي القدير لا يكون من المؤمنين الصادقين. لأن الأولى به أن يخاف، وأن ترتعد فرائصه لمجرد ذكر الله عز وجلَّ، وذلك لقوله تعالى: [إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ] (الأنفال: 2). ومثل ذكر الله الخشوعُ في الصلاة الذي يورث الفلاح، لقوله تعالى: [قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ] (المؤمنون: 1 ـــ 2).
وهكذا يبيّن القرآنُ الكريمُ أن المؤمنين هم الذين يخافون الله، ويخشعون في صلاتهم، وهم الذين يخافون مقام ربهم حتى يفوزوا بجنات الخلد، لقوله تعالى: [وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ] (الرحمٰن: 46). ومَنْ أولى من المؤمنين بمعرفة ذلك، أولئك الذين يدركون أنَّ ربَّهم هو العزيز المتعال، ذو العرش المجيد، الفاعل لما يريد، ذو العزّ الشامخ والفضل الباذخ، الذي لا تنقص خزائنه، ولا تزيده كثرة العطاء إلَّا جودًا وكرمًا. وكيف لا يخافون مقام ربّهم وهم يوقنون أنَّ بيده ملكوت كل شيء؟ أليس هو ـــ سبحانه ـــ إذا غَضِبَ أدخل النار، ولا يستطيع أحد أن يشفع إلَّا بإذنه؟ أليس هو ـــ سبحانه ـــ إذا رضيَ أدخل الجنة ولا يجرؤ أحدٌ على اعتراض حكمه؟ فسبحان الله رب العرش العظيم!
وسبحان الله الذي جعل لملائكته مقامًا معلومًا، لقوله تعالى: [وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ] (الصافات: 164) بحيث يكون لكل ملك مقام خاص لا يتعدّاه ولا يتجاوزه إلى مقام ملك آخر. وبهذا المعنى هدانا الرسول الأعظم، حتى يعرف كل منا قدره فلا يتعداه، عندما قال، صلى الله عليه وآله وسلم: «ما هلك امرؤ عرف قدر نفسه». فيكون الملاك في سمائه، والمؤمن في أرضه، حافظين للعهد، لأنَّ كلًّا منهما عرف مقامه، وعرفَ مقام ربّه، فصَدَع بالأمر الجلل خوفًا من العقاب الطويل، وطمعًا في الثواب الجزيل. فإذا كانت هذه حال الملائكة الأبرار، والمؤمنين الأخيار، فهل يحقُّ بعدُ لعبدٍ ضعيفٍ، مسكينٍ، ذليلٍ، عاجزٍ، أنْ يدّعيَ مشاهدتك، والوصول إلى عرشك، حتى يتَّحِدَ بك يا ربّ، ولماذا؟ ألأنه ادعى عشقًا بك، فصارَ صاحب المكرمة التي تؤهله لهذا المقام؟.
لا، ليس هذا الادّعاء من خلائق المؤمنين بشيء، بل هو جهالةٌ رعناء، وعمى بصيرة أحمق! إنه جهالة لأنه يخالف قرآن الله وما أنزل فيه من آيات بيّنات، وعمًى لأنه أبعد ما يكون عن سيرة الرسول العظيم الذي أرسلَهُ الله تعالى كافةً للناس بشيرًا ونذيرًا، وجعله سيِّد العالمين طُرًّا. ونظرًا إلى هذه المنزلة الرفيعة له، صلى الله عليه وآله وسلم، عند ربه، كان له معراجٌ كما في الذكر الحكيم، ولحكمةٍ أرادَها ربُّ العالمين، فصعد به جبرائيل ـــ عليه السلام ـــ حتى بلغ سدرة المنتهى، لكنه بقيَ على قاب قوسين أو أدنى، وهي كناية لطيفة تدلُّ على قربهِ، لكنّها لا تعني أبدًا أنه قَرُبَ من العرش المجيد، بل بقي بعيدًا منه، فلم يَرَهُ، ولم يلمَسْهُ، ولم يدَّعِ هو ـــ عليه وعلى آله أفضل الصلاة والسلام ـــ لَهُ رؤية، ولا وصف له هيئةً، ولا حدَّه بحدٍّ محدود.
وإذا كانت هذه هي الحال مع رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، الذي كان معراجُهُ بأمرٍ من ربه تعالى، عندما انتدبَهُ لهذا المعراج الذي يبقى سرًّا من الأسرار، لا يدرك أحدٌ من البشر كنْهَهُ، فما بال أناسٍ يتخطّون كل مقاييس الزمان والمكان، وينفلتون من جميع القوانين والنظم التي تسيّر الأكوان، ويتمكَّنون بقانون «العشق الإلٓهي» الذي ابتدعوه لأنفسهم، من أن يخترقوا الحجب، وأن يصلوا الحَرَمَ الذي لا يُنالُ، ولا يدرك بالأبصار، ولا حتى بالخيال؟!
وهذا الادّعاء هو عجيب، وغريب حقًّا، لأنه فوق مستوى كل علم. لكن الأعجب منه، والأكثر غرابةً، أن أصحاب ذلك الادعاء، الذين لا يتهيّبون حرمةَ المقام المقدَّس الأعلى، نجدهم في حياتهم الأرضية لا يجرؤون على الاقتراب من شخصٍ مثلهم، من دون استئذان أو إجازة! وهذه حقيقة لا تعنيهم وحدَهم، بل هي تصادفنا جميعًا، وربما كل وقتٍ في شأنٍ من شؤوننا، أو في أمرٍ من أمورنا.
أولًا نرى أنَّ أحدَنا قد يتهيّب الدخول على مسؤولٍ ما في مركزه؟ وهو بالفعل لا يدخل عليه إلَّا إذا سمَحَ له حجّابُهُ. ولئن دخل فإنّه يقف باحترام، لا يتكلّم إلَّا إذا أذِنَ له، وقد تخونه عزيمته، أحيانًا كثيرة، فلا يجرؤ أن يبدي طلبًا أو يسأل حاجة إلَّا ضمن حدود الأدب واللياقة، ووفق القانون والنظام.
بل أولًا نرى أنَّ الشخص لا يُقحم نفسه بأمرٍ قد يراه من شأن الحاكم أو صاحب السلطان، وأنه يخاف، بصورة عامة، أن يخالف القوانين والأنظمة التي تُسنُّ في دنياه هذه، لئلا تقع عليه مسؤولية أو يطاوله عقاب؟
إنَّ كلَّ واحد منّا قد مرَّ بهذه المواقف، أو عرفها على الأقل في واقعه، وإنَّ كلَّ واحد منّا يخشى مَنْ هو أعلى منه رتبةً، أو درجة، أو مقامًا في مختلف المجالات. وهو لا يتوانى عن تقديم فروض الطاعة والولاء لهؤلاء، أو لغيرهم، الذين يرى أنهم قادرون على التأثير في مجريات أموره، إنْ نفعًا أو ضَرَرًا. فإذا كان هذا الإنسان هكذا مع أناسٍ مثلهُ، فكيف تسوّل فئة لنفسها أن ترفع الكلفة بينها وبين الله تعالى، فتخاطبه بلهجة العشق والغرام من دون أي وجلٍ أو خوف؟ بل يصل بها الضلال لأن تقول بأن العشق الإلٓهي الذي تدعيه، ينزع عنها صفة البشرية ويحيلها إلى صفة الألوهية!!! أولًا تفكرت هذه الفئة، ولو لمرة واحدة، أنها لا تملك لنفسها نفعًا ولا ضرًّا ولا حياةً ولا نشورًا، وأنها لا تقدر أن تفعل شيئًا إلَّا أن يشاء الله، مهما كان هذا الشيء صغيرًا أم كبيرًا. بل أبسط من ذلك ألا ترى تلك الفئة، كم يعاني أفرادها، كلٌّ بمفرده، من همٍّ وقلق على المصير، ومن شعور بالارتهان إلى الله العليّ القدير؟!
لا أيها الصوفية العاشقون، ما اعتقادكم هذا إلَّا ضربٌ من المستحيل، فاتّقوا الله سبحانَهُ تقوى الخائف الوجل، تقوى المؤمن الصادق، لأنَّ هذا الخوف هو طريق العبادة الحقة، والإيمان الصادق، وطريق الجنة، كما قال لنا الله تعالى في محكم كتابه المبين.
ونحن عندما نقول بالخوف من الله تعالى، فلأنه سبحانَهُ هو الذي أمَرَنا بأن نخافَهُ ونخاف مقامَهُ. لكنَّ ذلك لا يعني أنه يجب أن تطغى علينا مشاعِرُ الخوف هذه بحيث لا نعود نعرف إلَّا إن الله شديدُ العقاب، لأنَّ من صفاته العظيمة أيضًا أنه الغفور، الودود، الرؤوف، الحنّان، الرحيم، الرحمٰن، وما إلى ذلك من صفات الله تعالى وأسمائه الحُسنى.
ونحن عندما ننبّهُ إلى هذا الأمر، لا نريد أن نقحم أنفسنا في العلاقة ما بين الإنسان وربّه، ولا بالكيفية التي يجب عليه اتباعها من أجل هذه العلاقة. وهي أعظم العلاقات وأروعها على الإطلاق إذا عرف الإنسان كيف يُحسنها. ذلك أن هذه العلاقة هي شأنٌ خاصٌّ بالإنسان، ولا يجوز لغيره أن يتدخَّل فيها، بل لا يقدر أحَدٌ أن يعرف ما في سريرة غيره، إذ لا يعلم ما في السرائر إلَّا الله وَحْدَه.
نحن لا نتوخى شيئًا من ذلك أبدًا، لكننا بهدي الله نريد أن نؤكد على قضية مهمة وأساسية في الإسلام، وهي قضية أدب المخاطبة، وفيها يظهرُ احترامُ الإنسان لنفسه واحترامُهُ للمخاطَب. فالله تعالى يخاطب المؤمنين بقوله تعالى: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (2) إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ اللهِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ] (الحجرات: 2 ـــ 3). فالله سبحانه يعلمنا أدبَ الكلام والمخاطبة بين يدَيْ رسولِ الله ونبيّهِ، ويأمرنا بألّا نرفع أصواتَنا، وألَّا نتكلم أمامه جاهرين بالقول كما نفعل بعضنا مع بعض. وهو يحذّرنا بأننا إن فعلنا فستحبط أعمالنا ونحن لا نشعر. ثم إنَّ من يغضُّ صوتَهُ عند رسول الله، جَعَلَ الله تعالى له منزِلةَ المتقين، وأثابه المغفرة والأجر العظيم.
وإذا كان هذا من آداب المخاطبة للرسولِ، فحريٌّ بنا أن نتَّبع النهج نفسه في تخاطبنا، لأنه المنهج الذي يؤدّب ويرفع من قيمة الإنسان، وهذا ما أرادَه لنا الإسلام، وحثَّنا عليه.
ولا يقف أدب المخاطبة عند هذا الحدِّ، بل الله سبحانه وتعالى يدعونا بألَّا نجهر بصلاتنا بقوله تعالى: [وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً](الإسراء: 110). ثم لنلاحظ هذا التعقيب في الآية التي تلي بقوله تعالى: [وَقُلِ الْحَمْدُ لِلهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَم يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُن لَّهُ وَلِيٌّ مِّنَ الذُّلَّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا] (الإسراء: 111).
الله أكبرُ حقًّا! هذا هو التعليم الربّاني لعبادِهِ، حتى في أثناء الصلاة له سبحانه يعلّمنا أدبَ المخاطبة، وروعَةَ التخاطب، بحيث لا نعلي صوتنا كثيرًا، ولا نخفته كثيرًا، بل نبتغي حدَّ الاعتدال، في الوسط بين الجهر والخفوت.
إذن فالإسلام يحضُّ على أدب المخاطبة، وأولاها مخاطبة الله سبحانه وتعالى في كل شيء. فإن أمَرَنا الله تعالى بأن نكون متأدبين في أداء الصلاة، وهي العلاقة الأساسية والثابتة التي تربطنا به سبحانه، فهذا ما يجعلنا ندرك بأنّ مخاطبته على أساس: عاشق ومعشوق، وحبيبٍ ومحبوب، هي خروج على التأدب، وعلى معاني العبادة التي هي الخشوع والضراعة وطلب العفو والمغفرة والرحمة. ولئن أدرك المسلم ذلك، وقام به، كان من الفائزين، وإن ادّعى خلاف ذلك أو فعَلَ سواه، فإنه يكون قد آثر هوى النفس، وسلك طريق الغواية، وقد يطغى ويجاهر بالعصيان. على أنَّه يعرف بأنَّ لكل من الحالين مصيرًا مختلفًا ومحتومًا، وذلك لقوله تعالى: [فَأَمَّا مَن طَغَى (37) وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (38) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الـْمَأْوَى (39) وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الـْمَأْوَى] (النازعات: 37 ـــ 41).
فما أجدَرَ الإِنسان أن يتأدَّبَ في جناب الله! وما أحراه أن يلتزم حدودَ طبيعته وحدودَ مجالِهِ، فلا يتخبط بالتيه بلا دليل، وهو يتحدث عن الممكن والمستحيل، وهو يضع لمشيئة الله المطلقة إطارًا من تجاربه هو، ومن مقرراته هو، ومن علمه القليل!
هذه هي مفاهيم الإسلام، في بعض الجوانب عن علاقة الإنسان بربّه، وهي العلاقة التي يجب أن يكون قوامها ـــ كما نردِّد ونقول ـــ الطاعة مع الخشوع، والإيمان مع الرهبة، وطلب الرضى مع الرحمة، وإدراك مقام الله العزيز الجبّار، ومن ثَمَّ معرفة حدود المخلوق الذي ينبغي أن يكون خاضعًا لمشيئة الله في قضائه وقدره، وفيما حكمت به مشيئتُهُ السنيَّةُ وقدَّرت.
والإِنسان المسلم يجب أن يعرف ذلك، لأنَّ كتابَهُ القرآنُ، الذي أُنزِلَ على نبيّهِ هدًى ورحمةً للعالمين. ولولاه لكانت الأرضُ في ظلامٍ دامِس، لأنه هو النور الذي أنزلَهُ الله تعالى ليُضيءَ الوجودَ، ويضيءَ النفوسَ والقلوبَ، فكان حريًّا بنا أن نؤمِنَ به كما أمَرَنا الله تعالى: [فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنزَلْنَا] (التغابن: 8) وليس هذا النور إلَّا الإسلام، عقيدةً ودينًا، ومنهجًا متواصلًا في الحياة، ومن خلاله تتكوَّن الشخصية الإسلامية، وعلى أساسه نحكم على صاحب هذه الشخصية بما يكون لديه من ذهنية وعقلية، وما يتكوَّن عنده من نفسية ومشاعر قلبية، ولا نخال صاحب شخصية إسلامية إلَّا ويعمل صالحًا، من غير أن ينسى ما للجسد عليه من حق، أي إنه بمعنًى آخر هو الذي يستطيع أن يفهم الحياة فهمًا عميقًا، فيأخذ نصيبَهُ من الدنيا من دون زيادة أو مبالغة لئلا يُعدَّ متمرّدًا على سنن الحياة وقوام الفطرة، ولا ينسى الآخرة بل يعمل لها لكي يفوز بنعيمها وخلودها. لذلك فهو لا تغلب عليه صفة الذين آثروا الدنيا وفتنوا بها، ولا يأخذُهُ هَوَسٌ دينيٌّ يُغالي فيه حتى يبتعد عن معنى الدين ويترك حقائقه الثابتة.
إذن، فالإسلام أمَرَ بالاعتدال سواءٌ في العبادة أم في النهج والسلوك، بل في كل شيء. فإذا خرجتِ العبادة عن هذا الاعتدال كانت بدعةً، أما إذا كان أساسها الاعتدال فهي العبادة الخالصة كما نجدها في كتاب الله وسنّة رسوله.
وإنّ في تاريخ الإسلام، وخصوصًا في السنّة النبوية الشريفة، شواهِدَ ثابتة على الاعتدال في مختلف شؤون الدين والدنيا. فعن أبي جعفر محمد بن يعقوب الرازي (الذي توفي عام 329هـــ) أن رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، قال: «إنَّ هذا الدين متينٌ فأوغلوا فيه برفق، ولا تكرِّهوا عبادة الله إلى عبادِ الله حتى لا يكون أحدكم كالراكب المنبتّ لا سفرًا قطع ولا ظهرًا أبقى» .
ومن قبيل ذلك أيضًا ما روي عن رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، أنه قال: «لا تكرّهوا إلى أنفسكم العبادة». وقوله، صلى الله عليه وآله وسلم: «إنَّ الله عزَّ وجلَّ إذا أحبَّ عبدًا يعمل عملًا قليلًا جزاه بالقليل الكثير».
وعن جعفر الصادق ـــ عليه السلام ـــ أنه قال: «اجتهدت في العبادة وأنا شاب، فقال لي أبي: يا بنيَّ! دون ما أراك تصنع (أي اختصر في عبادتك) فإنَّ الله عزَّ وجلَّ إذا أحب عبدًا رضيَ منه باليسير».
وعن أنس ـــ رضي الله عنه ـــ عن رسول الله صلى الله، عليه وآله وسلم، كما جاء في الصحيحين: «أنه جاء ثلاثة رهطٍ إلى بيوت أزواج رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، يسألون عن عبادته. فلما أخبروا عنها، وكأنهم تقالّوها (أي وجدوها قليلة)، قالوا: أين نحن من رسول الله، صلّى الله عليه وآله وسلم، وقد غفر له ما تقدَّم من ذَنبهِ وما تأخَّر؟! قال أحدهم: أما أنا فأصلّي الليل أبدًا، وقال الآخر: وأنا أصوم الدهر ولا أفطر. وقال آخر: وأنا أعتزل النساء ولا أتزوج أبدًا. فجاء رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، إليهم، فقال: أنتم قلتم كذا وكذا وكذا. أما والله إنّي لأخشاكُمْ لله، وأَتقاكم لَهُ، وأَعلمُكُمْ به، وإني أصومُ وأفطرُ، وأصلّي وأرقدُ، وأتزوجُ النساءَ، فمن رغب عن سنّتي فليس مني».
من هنا يتبين لنا أن قوام العبادة في الإسلام الاعتدال والتقوى فعلى المسلم أن يؤدي الفرائض الواجبة بالتمام والكمال، فما زادَ على الفريضة فاستحسان: يكون فيه شكر على نعماء الله، أو حمدٌ على ثنائه، أو طلبٌ للمغفرة، أو راحة للنفس والبدن، وما إلى ذلك من الغايات التي يتوخاها المؤمنون، المتّقون.
وأما لماذا هذا التركيز في الاعتدال في العبادة، فلأنَّ على الإنسان واجباتٍ أخرى وكثيرة عليه أداؤها، ومن هذه الواجبات مثلًا: الدعوة إلى الله والعمل في هذا السبيل، أو السعي وراء كسب العيش تأمينًا للعيال، أو العمل لأداء حق الجماعة وما إلى ذلك من واجبات دينية ودنيوية، أي العمل بقول رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم: «اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدًا، واعمل لآخرتك كأنك تموت غدًا». فكل عمل فيه نفع وخير للفرد أو الجماعة يتطلب من الإنسان وقتًا وجهدًا، ولا نحسبُ أنَّ من يقوم بهذا يستوي بالأجر مع آخر عابدٍ، زاهدٍ، لا يرتجي إلَّا خلاص نفسه، بل إنَّ في الدعوة إلى الله، والسعي وراء الكسب الحلال، والعمل من أجل الصالح العام، لأجرًا يفوق كل أجر.
فإذا كانت هذه مفاهيم الإسلام، وذاك ما طبَّقه الرسول الأعظم محمد، صلى الله عليه وآله وسلم، ودعا إليه، فما بال بعض الصوفية يعكفون على عبادات مضنية، أو مجاهدات شديدة، ورياضات قاتلة، وهم ينشدون «حبًّا إلٓهيًّا»، يتوهمون أنه يجرّدهم من كل ما هو ماديٍّ وحسيّ، ويجعلهم يُعرضون عن كل ما في الوجود «ليروا رب الوجود» الذي لا يُرى! وهم ما رأوه كما ادّعَوا، وافترَوا وفندوا! ما بال هؤلاء الذين ينتسبون إلى الإسلام وهم يتنكرون للدنيا، والله تعالى يقول: [وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا] (القصص: 77) بل ما بالهم يجافون طبيعتهم البشرية، وفطرتهم التي فطرهم الله تعالى عليها، ويطلّقون وجودَهم الأرضي، حتى يظنّوا أنهم بالعشق الإِلٓهيّ، الذي ادّعَوه تصنعًا وتزييفًا، قادرون على تخطّي حيّز الإنسان، بل كل المفاهيم التي أرادها الله تعالى للإنسان، للوصول إلى تلك المرتبة التي تزول فيها الفوارق بين «العاشق والمعشوق، فلا يبقى معها لا عاشق ولا معشوق، بل عشق واحد مطلق هو الذات الحق»؟!!!
إنه لـَهُراءٌ، وزورٌ، وبهتان هذا الذي يدّعي الصوفية الوصول إليه وهم طبعًا لن يصلوا إلَّا إلى نهاية محزنة جرَّهم إليها الوسواس الخناس الذي يوسوس في صدور الناس، فتعالى الله، وجلَّ جلاله، عن عبث العابثين، وضلال التائهين، وتصوّر الضالين.
ذلك هو «العشق الإلٓهي» الذي اتخذه الصوفية مذهبًا، يتنادون إليه، ويتباهون به.
ولقد برز من أوائل الصوفية الذين اعتنقوا هذا المذهب، ثلاثة لهم صيتٌ ذائع في عالم التصوف، وهم: رابعة العدوية، وأبو يزيد طيفور البسطامي، وأبو المغيث الحسين بن منصور الحلاج.
على أن رابعة العدوية عُدَّت من بين هؤلاء، رائدة العشق الإلٓهي، ووصفت بأنها «شهيدة العشق الإِلٓهي».
وسوفَ نبحث ببعض التفصيل آراء كل من هؤلاء، مبتدئين برابعة، على ما يتّسع له صدر الموضوع ويتيح المجال للبحث، والله ولي التوفيق.

رابعة العَدَوية

رابعة العدوية، المرأة التي ملأ صيتها دنيا التصوف،
وشغل أسماع أتباعه، هل هي شخصية أسطورية من نسيج
مخيلات الباحثين، أَمْ أنها على العكس من ذلك
كانت إنسانة مثل سائر الناس، وعاشت مثلهم أيضًا
في عالم الواقع والحقيقة؟

رابعَة العدويّة
رابعة العدوية، المرأة التي ملأ صيتُها دنيا التصوف، وشغلَ أسماعَ أتباعه، هل هي شخصية أسطورية من نسيج مخيلات الباحثين؟ أم أنها على العكس من ذلك كانت إنسانة مثل سائر الناس، وعاشت مثلَهم أيضًا في عالم الواقع والحقيقة؟
هذا ما اختلَفَ فيه الباحثون، حتى إنَّ الذين اتفقوا على وجودها اختلفوا في تحديد هويتها وفي سيرة حياتها. لذلك انصرفت عنايتُهم إلى الجانب الصوفي من حياتها، وهو الجانب الذي قامت عليه شهرتُها حتى كان لها ذلك الصيتُ الذائعُ وما حفل به من مكرمات فتنت عالَم الصوفية، وألقت بظلالِها عليه حتى يومنا هذا.
وفي اعتقادنا أنه لا دخلَ للأسطورة في حياة رابعة، لأنها كانت إنسانةً، وذات وجود فعليّ، آثرتْ، بعد أن قطعت مرحلةً مهمة من سِني الشباب، الانزواء عن الناس، والقيام على نوعٍ معيَّن من العبادة، إلى أن برزت صاحبةَ شخصية صوفية مؤثّرة، فأعجب بها الكثيرون من أتباع المذهب، وحفظ لها التاريخُ تلك الشهرة الواسعة التي تقومُ على كونها واحدة من كبار المتصوّفين الأوائل الذين تركوا بصماتٍ دامغةً على عالم التصوّف، وعُدّوا من روّاده ومؤسّسِيهِ.
ومن هنا فإنَّ دراستنا لرابعة سوف تنصبُّ بصورة أساسية على مذهبها الصوفي المعروف بمذهب الحبّ الإلٓهي، وما تخلَّلهُ من أفكارٍ طغتْ على رابعةَ وجعلتها تتوهَّمُ أنَّها الطريق التي توصلها إلى الله سبحانه وتعالى.
فمن رابعة العدوية وإلى من تنتمي في نَسَبِهَا؟
قلنا إن الآراء لم تتفق على تحديد هوية رابعة. فبعضهم يرى أنها مولاة لآل عتيك، وآل عتيك بطن من بطون قيس، وأنَّ أباها اسمه إسماعيل. وبعضهم الآخر يرى أنها من آلِ عتيكٍ بني عدوة ولذا تُسمى العدوية. أما كنيتها فأم الخير. وهكذا ففي حين تذكر بعض المصادر اسم أبيها أنه إسماعيل فإنَّ مصادر أخرى تغفل اسم هذا الأب. ومن هنا اختلط الأمر على بعضهم فمزج بين رابعة العدوية البصرية، وهي الصوفية المعروفة، وامرأة أخرى اسمها رابعة بنت إسماعيل (أو رايعة)، وقد عاشت في بلاد الشام وتزوجت من أحمد بن أبي الحَواري، وكانت وفاتها في عام 229 هــ برأس زيتا من بيت المقدس.
وقد قيل إن اسم «رابعة» يعود إلى أنها ولدت بعد ثلاث بنات لأبيها، وإذ كانت هي الرابعة فقد حملت هذا الاسم، ومهما كان الاختلاف بين المؤرخين والباحثين، فهنالك إجماعٌ على أن امرأةً تُدعى رابعة العدوية، عاشت في البصرة خلال القرن الثاني الهجري، وقد عمَّرت نحو ثمانين عامًا، وتوفيت عام 135 هــ (على حد قول بعضهم)، أو عام 185 هــ (على حد قول بعضهم الآخر). وفي نظرنا أنَّ وفاتَها كانت عام 185 هــ الموافقة لعام 752 م، بدليل عدة شواهد تؤكّد هذا الاتجاه، ومنها:
ـــ صداقة رياح بن عمرو القيسي لها، الذي توفي عام 180 هــ، وقد كان صوفيًّا كبيرًا عَزَفَ عن الدنيا وأهلها، فهامَ بين المقابر، وقضى الليالي بالسهر، دائب النوح والبكاء والتضرّع.
ـــ رفقة سفيان الثوري لها، وقد جاء البصرة بعد عام 155 هــ.
ـــ خطبة محمد بن سليمان لها، وقد كان واليَ العباسيين على البصرة، وتوفي عام 172هــ. وأما عن اجتماعها بالحسن البصري وما قيل في ذلك، فهو محض اختلاق ولا أساس له من الصحة، ذلك أن الحسن البصري ولد نحو عام 21 هــ وتوفي عام 110 هــ. أي إن وفاته كانت بعد ولادة رابعة بخمس سنوات تقريبًا، فكيف يعقل أن تجتمع إليه، وأن تتأثر بمنهجيته وهي في تلك السن المبكرة؟
ونكتفي بهذا القدر من التعريف برابعة العدوية كي لا يُشغلنا عمَّا هو أهم، ألا وهو ما اشتهرتْ به تلك المرأة من آراء صوفية، وما أُثِرَ عنها أو نُسب إليها في هذا المجال، بحيث كان لها تأثيرها الكبير في جمع من المسلمين اندفع وراءَ تلك الآراء التي شكَّلت مذهبها في العشق الإلٓهي، وهو المذهب الذي ظهر فسادُهُ لعدم توافقه مع العقيدة الإسلامية، فألقى بمريديه في غياهب الضلال والتضليل، وكان خطرُهُ على حياة المسلمين كمسلمين، لأنَّ مفاهيم دينهم عن حبّ الله ـــ سبحانه ـــ تختلف كثيرًا عما جاءَ به ذلك المذهبُ وحَمَلَهُ أتباعُهُ. بل يمكن القول إنَّ مذهب رابعة هذا كان باكورةً لمذاهب التصوّف الأخرى التي عرفَها العالم الإسلامي، لأنه لم يكن قبل رابعة وجودٌ لمتصوفين بالمعنى الذي نفهمه اليوم، بل كان هناك جماعةٌ من المتقدّمين غلب عليهم طابع التقشف والنُّسْكِ فقط، من غير أن يعيشوا حياةً صوفية بحتة. حتى إن الحسن البصري نفسه، الذي أرادَ المتصوفون أن يحتجّوا به، لم يكن أكَثَر من فقيه وَرعٍ بليغٍ، يعظ الناس ويحذّرهم من عقاب الآخرة وجحيم نارها، ويُرغّبهم في ثواب الله وجنة خُلده. فلما جاءت رابعة وابتدعتْ فكرةَ الحب الإلٓهيّ، الذي أقامته على نهج الشوق والأنس والوجد في علاقتها مع ربّها، أخذت الصوفية تتركّز في بعض الأذهان كفكرة، لتبرز بعد ذلك ظاهرةً جديدة لم يعرفها المسلمون من قبلُ.
وإذا كان قد نشأ للصوفيين، من بعد رابعة، فرق عدّة متنوعة في الأفكار والطرائق، فإنَّ أيًّا من المتقدمين أو المتأخرين منهم لم يبلغ ما بلغته رابعة في العشق الإلٓهي، حتى إنّ ابن الفارض (المتوفى عام 632هـــ). الملقب بشيخ العُشَّاق وإمامِ المحبين في عالم الأشواق والمواجيد لم يزد في الحب الإلٓهي شيئًا عمّا قالته رابعة العدوية. ومن قبله ببضعة قرون ذو النون المصري (المتوفى عام 245هـــ) أستاذ من تحدّث عن الحب والمعرفة في التصوف، بل كان يردد ما ادَّعته رابعة في مواجيدها. وبهذا تقول عنه دائرة المعارف الإسلامية: «والمتأمل في ما أثر عن ذي النون من أقوال منثورة وقصائد منظومة، يلاحظ أنه يصطنع لفظتي الحب والمحبة اصطناعًا صريحًا، سواء في تعبيره عن إقبال الله على العبد، أو إقبال العبد على الله، وأنه باستعماله لفظة الحب بنوع خاص إنما يشارك رابعة العدوية التي تُعَدُّ أول من استعمل هذه اللفظة استعمالًا صريحًا في ما كانت تناجي به ربَّها، أو كانت تتحدّث به عن علاقتها به، وإقبالها عليه، وإيثارها له».
من هنا يتبين أن رابعة العدوية هي رائدة العشق الإلٓهي عند صوفية المسلمين، بالحقيقة والأساس، والمؤرخون لا يؤكِّدون المصدر الذي أخذت عنه رابعةُ فكرةَ الحب الإلٓهي، وهل إنَّ هذا المصدر كان محضَ شعورٍ نَبَعَ من ذاتها لما عانته في حياتها من فقرٍ وأَسْرٍ وحَيْرةٍ، أو هو عائد إلى كونها من أصلٍ مسيحي. وهم يعزونَ ذلك إلى أنَّ أهلها كانوا من المسيحيين الذين عاشوا في تلك الأنحاء من بلاد العراق ثم أقبلوا على الإسلام واعتنقوه.
والحقيقة أنه لا شيء ثابت حول ذلك المصدر، وقد يكون مجرَّدَ تكهنات إلَّا إنها لا تخلو من الصحة. ذلك أن فكرة الحب الإلٓهيّ موجودةٌ فعلًا في الدين المسيحيّ، ولا شيء يمنع أن تكون رابعة قد تأثرت بها من خلال معرفتها بهذا الدين، كما لا شيء يمنع أن تكون تلك الحياة التي عاشتها، وما تخَلَّلهَا من أحداث شخصية قد جعلت تلك الفكرة تتعمَّقُ لديها بحيث جاءَ تصوفُها المبنيُّ على الحب الإلٓهي من ذينك المصدرين معًا. لكنَّ رابعة أعطت لفكرة الحب الإلٓهي طابعًا خاصًّا لم يعرفه أحد من المسلمين قبلها. وهذا مع الانتباه إلى شيء مهم والتأكيد عليه، وهو أن فكرة الحب الإلٓهي غريبة تمامًا عن الإسلام، ولا وجودَ لها أصلًا بمفاهيمها المعروفة، في هذا الدِّين القويم.
ويبدو أن رابعة أحيطت بهالةٍ من الإعجاب والتقدير جعلت حياتَها مقرونةً بالمكرمات منذ ولادتها، وهذا ما ذهب إليه المؤرخ الصوفي فريد الدين العطار في «تذكرة الأولياء» عندما يذكر بأنَّ رابعة «ولدت في بيتٍ فقير جدًّا، بل معدومٍ من كل ما يَسُدُّ الحاجةَ والرمق حتى إنَّ أبويها لم يكن عندهما نقطة من السمن للخلاص، ولا قطعة من القماش لتُلَفَّ بها الوليدة الجديدة، وقد بكت الأم ساعة ولادتها طويلًا، وألحَّت على الأب كي يخرج طلبًا للمساعدة، إلَّا إنه لم يستمع إليها لأنه كان قد أخذ على نفسه عهدًا بألَّا يطلب شيئًا من أحدٍ. لكنه عادَ ورضخَ تحت وطأة ذلك الظرف، وذهب يدقُّ أبواب جيرانه إلَّاإأنَّ أحدًا لم يفتح له أو يسعفه بشيء، فعادَ إلى بيته مهمومًا باكيًا، وانكبَّ على الصلاة يُفَرِّجُ بها عن كربه حتى أخذه النعاس، فنام، وفي تلك الإغفاءة رأى في المنام النبيَّ، صلى الله عليه وآله وسلم، يقول له «لا تحزن يا هذا! إنَّ وليدتك سيدة جليلة القدر، وإنَّ سبعين ألفًا من أمتي ليرجون شفاعتها». ثم أمره بالذهاب في الصباح إلى عيسى زاذان أمير البصرة لكي يخبره بزيارة النبيّ، صلى الله عليه وآله وسلم، له في المنام، ويذكر له على رقعة يقدمها إليه عن لسانه، صلى الله عليه وآله وسلم، وفيها يقول له: «إنك كنت تصلّي كل ليلة مئة ركعة، وفي ليلة الجمعة أربعمئة، لكنك في الجمعة الأخيرة نسيت، ألا فلتدفع إلى صاحب هذه الرقعة أربعمئة دينار كفارة عن هذا النسيان»!!!
وذهب والد رابعة في الصباح وأودع رقعته أحدَ حرس الأمير ليقدّمها إليه، فلما قرأها أمر على الفور بإعطائه أربعمئة دينار، وطلب أن يأتوه به ليراه، ثم راجع نفسه في الحال وقال: لا بل أنا أذهب إليه بنفسي، وأتمسَّحُ بلحيتي على أعتابه، وأسعى لأحصل على كل ما تشتهيه هذه البنت الجليلة».
إن رواية العطار هذه، التي يعتمد عليها الصوفية للدلالة على كرامة رابعة منذ ولادتها، لا نراها إلَّا بداية لظهور الوضع والتزوير والاختراع حول تلك المرأة. كما أنَّها أبعدُ ما تكون من الحقيقة، لأنها محض خيال. وذلك للأسباب التالية:
1 ـــ لأنها جاءت متعارضةً مع واقع المجتمع الإسلامي في ذلك العصر. ولا يمكن التسليم بتصوير ذلك المجتمع على النحو الذي أورده العطار، بصورة كليّة. فلو قبلنا معه بأن والد رابعة كان فقيرًا جدًّا إلى ذلك الحد الذي لم يجد معه قطعة قماش في بيته يلف بها المولودة الجديدة، فهل يمكن أن نُسلّمَ بأنَّ جيرانَهُ كانوا كلهم على درجةٍ من البخل أو القساوة (تصل إلى حد الجحود بالمبادئ الإنسانية والكفران بالعقيدة) بحيث لم يفتح له أحدهم بابًا، ولم يقدّم له عونًا، والمسلمون يعرفون أن رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، يقول: «والله ما آمن، والله ما أمنَ، والله ما آمنَ»، قالوا: مَن يا رسولَ الله؟ قال، صلى الله عليه وآله وسلم: «مَن باتَ شبعانًا وجارُهُ جائعٌ وهو يعلم» فكيف إذا كان هذا الجار في حاجة إلى معونةٍ بسيطةٍ لخلاص نفسٍ إنسانية؟ هذا فضلًا عن أنَّ سيرة الرسول العظيم، صلى الله عليه وآله وسلم، المعروفة تبيّن أهمية الجار حتى ولو كان من غير الجماعة الإسلامية. وقصة جاره اليهودي مشهورة. فإنه كان يضَعُ القذارة والنفايات في طريقه، فلما لم يجدها الرسول، صلى الله عليه وآله وسلم، في المكان الذي كان يضَعُها ذلك اليهودي فيه، تصوَّر أنه قد يكون ألمَّ به مرضٌ أو أصابَهُ سوءٌ، فجاءه يعودُهُ. وقد صَدَقَ تصورُهُ إذ وجَدَه مريضًا.
2 ـــ لأنها تتناقض مع ما أخذ أمير البصرة على نفسِهِ من عهدٍ بأن يسعى لأن يقدم للوليدة الجديدة ما تشتهيه. والتناقض عند العطار يأتي من روايته بأنَّ رابعةَ عاشت في ما بعد حياةً ملؤها الفقر. فلو كانت روايته عن رؤيا والد رابعة صحيحة لبقي اهتمام الأمير بها قائمًا طوال حياته، فلا تقع في فقرٍ، ولا في أسرٍ، ولذكر التاريخُ تلك الرعاية وسطَّرها بأحرفٍ من نورٍ. بل نذهب إلى أبعدَ من ذلك، فلو أن المسلمين تأكدوا من حصول تلك الرؤيا، لكانوا تقاطروا على بيت رابعةَ يتلمَّسون فيها البركة، في حين أن العطار يروي بخلاف ذلك تمامًا إذ يقول: «إن أباها توفِّي وهي تدرج من الطفولة إلى الشباب. ولحقت به أمها فذاقت رابعة مرارة اليتم الكامل أمًّا وأبًا، ومرارة الحاجة القاسية. فلم يكن لها أخٌ من الذكور ولم يترك أبواها مالًا. وبذلك أطبق الشقاء على رابعة وحرمت من دفء الحنان ورقّة العطف والحب الأبويّ، وهي تتفتح للحياة وتمشي إلى شبابها». فكيف تقع في تلك الحاجة القاسية، ويطبق عليها الشقاء، وقد كانت ولادتُها برعاية النبيّ، صلى الله عليه وآله وسلم، وهي رعاية معجزة تفرّدت بها من دون سائر مواليد المسلمين؟
3 ـــ لأنَّها جاءت متعارضة مع معنى الشفاعة في القرآن الكريم الذي بيّن لنا أنْ ليس لأحدٍ شفاعةٌ، حتى الأنبياء والمرسلين، إلَّا بإذن الله تعالى، مصداقًا لقوله عزَّ وعلا: [مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ] (البقرة: 255) فكيف يجوز إذن، أن يرويَ العطار عن لسان النبيِّ، صلى الله عليه وآله وسلم، ولو في المنام، بأنَّه سوف تكون لرابعة شفاعةٌ، وأن سبعين ألفًا من أمة محمد، صلى الله عليه وآله وسلم، ليرجون شفاعتها؟ إلَّا أن يكون النبيُّ، صلى الله عليه وآله وسلم، قد أخذ عهدًا من ربهِ على شفاعة رابعة، وهذا غير معقول لأنه نظرةٌ جديدةٌ في الإسلام، بل نظرةٌ دخيلةٌ تخالفُ الإسلام نصًّا وروحًا.
مما تقدم يتبيّن لنا أن رواية العطار حول رؤيا المنام لا تستند إلى أي أساسٍ تقوم عليه. لذلك نعدّها من خيال المؤلف الذي يريد أن يحيط رابعة بهالةٍ من القداسة تبدأ مع ولادتها وترافقها حتى مماتها!!!
ولا يُعيّن العطارُ المدةَ التي عاشتها رابعة مع أخواتها بعد وفاة أبويها إلى أن أخذ البصرةَ جفافٌ وقحطٌ فوصلت إلى حد المجاعة، فغادرت رابعةُ مع تلك الأخوات كوخهنّ، ورحن يضربن في أزقة البصرة يلتمسن القوت، ثُمَّ فرَّق الدهر بين الشقيقات فغدت رابعة وحيدة متشردة، لا معيل لها ولا نصير، تبحث عن مأوًى فلا تجده، إلى أن أوقعها حظُّها العاثر بين يديْ تاجر رقيق، فباعها بستة دراهم إلى رجلٍ فظٍّ، غليظ القلب، أخذَها إلى بيته.
ويبدو أن رابعة، كانت في هذه الفترة، قد خَطَتْ إلى سنِّ الصبا، وأصبحت قادرة على القيام بالأعباء التي يطلبها منها سيّدُها، الذي كان يثقلُ عليها العمل، ويسومُها ألوانًا من القهر والعذاب، إلَّا إنها كانت تحتمل صابرة، فلا تشكو بلواها إلَّا إلى ربها.
وفي أحد الأيام، وبينما كانت في السوق تقضي حاجةً لسيدها، رآها رجلٌ غريبٌ ظلَّ يرمقُها بنظره مضمرًا لها الشرَّ، فخافت منه وهربت. إلَّا إنها تعثرت وهي تركضُ من أمامه، فسقطت على الأرض. وقد كُسِرَتْ ذراعها، وغشي عليها. فلما استعادت وعيَها، لم تأبه لآلامها، بل رفعت رأسها نحو السماء، تناجي ربَّها قائلة: «إلٓهي، أنا غريبة يتيمة، أرسف في قيود الرقّ.ولكنَّ غمّيَ الكبير هو أن أعرف: أراضٍ أنت عني أم غير راضٍ؟»... عندها سمعت صوتًا يقول لها: «لا تحزني! ففي يوم الحساب يتطلّع المقربون في السماء إليكِ، ويحسدونكِ على ما ستكونين فيه».
ويطمئن قلبُ رابعة إلى ذلك الصوت الغيبيّ، فتنهض من رقادها على التراب، وتعود إلى بيت سيدها، لتقوم منذ ذلك اليوم على خدمتِهِ بكل تفانٍ وإخلاص، راضية بذلك ما دامت لها تلك الساعات من الليل التي تقضيها وحدها، تصلّي وتتهجّد، وتأنس بالطاعة والعبادة.
ونتوقف هنا أيضًا عند ما يسوقُهُ العطار حول حادثة السوق وما سمعتْ رابعة من صوتٍ يناديها ويبشرها بأنَّها ستكون من المقربين. فكأنما يريد أن يظهر لنا مرافقة الخوارق لرابعة في كل مرحلةٍ من مراحل حياتها، وأنَّ هنالك عنايةً إلٓهية خاصة تحطيها في حياتها، وترمي إلى تثبيت الإيمان الدفين في قلبها، وهو الإيمان الذي لم تكن معانيه قد توضّحت لديها بَعْدُ. ولكنْ نَسِي العطار أنه وقَعَ في خطأٍ فادحٍ، مهما كانت الغاية التي يرمي إليها. فالصوتُ الغيبي الذي سمِعَتْهُ رابعة ويُعدّ نوعًا من الوحي يُقرّر غيبًا لا يعلمه إلَّا الله سبحانه وتعالى، مع أنَّ الوحيَ، أيًّا كانت أنواعُهُ وأشكالُهُ، قد قُطِعَ عن الأرض بعد وفاة سيدنا محمد، صلى الله عليه وآله وسلم، فتأمل!!!
طبعًا لم يكن في وسع العطار، وهو من أشدّ المعجبين برابعة، إلَّا أن يستلهم الخيالَ، ويخترع القصص، ليبيّن لنا كيف أن تلك الإنسانة، وهي تعيش في أحضان الظلم والألم والشقاء في دنيا الناس، كانت، في الوقت عينه، تعدّها العناية الإلٓهية لولوج أعتاب دنيا أخرى تختلف عن عالم الناس من حولها، بحيث تصير غير عابئةٍ بشيءٍ من أمور هؤلاء الناس، لأنَّ همَّها واهتمامها يكونان منصبّين على الاستغراق في العبادة والمناجاة والتهجّد، وهذا ما سيقودها ـــ في ما بعد ـــ إلى ذلك الحبّ العظيم الذي تنشده. ولكن حتى تصل إلى هذه المرتبة، كان لا بد من أن تبرز في نظر المعجبين إنسانةً حزينةً، مهمومةً، يلفُّها الكربُ من جميع جوانبه، وفي مقابل ذلك، تستقر في نفسها جذوةُ الإيمان. وهذا هو الذي كان يشدُّ عزائمها، ويمكّنها في خلوتها من الإفلاتِ من عالم الحسّ، لتعيش في عالم المناجاة حيث ترتشف من رحيق «الحب الإلٓهي» أو تسمو في مراتب «العشق الإلٓهي»!
هذا في رأي المعجبين.
ولكن بخلاف هؤلاء، هنالك فريقٌ من الباحثين يرى بأنَّ رابعة، وإنْ كانت قد ذاقت مرارة الفقر والحرمان، وعانت كثيرًا منذ طفولتها، إلَّا إنها لم تعش تلك الأحوال الإيمانية التي قادتها إلى حياة صوفية كاملة، لأنَّها بعد أن أصبحت في سن الشباب ـــ بحسب رأيهم ـــ ولجت في دنيا الملذات، واندفعت في طريق الهوى، وهي تطلب العيش، يُعينها على ذلك جمالٌ باهِرٌ، وفتنةٌ ساحرة، حتى إنَّها ـــ في نظر بعضهم ـــ راحت تغرفُ، عندما أقبلت عليها الدنيا، من بحر المتعة ما طابَ لها، وتقتاتُ بقوتِ الحواس ما وَسِعَها ذلك.
وهنالك من يقف موقفًا وَسَطًا فيما يرى من حياة رابعة، فيعدّ ظروف الحياة أنها كانت ظروفًا قاسية عليها، إذ إنَّها وهي في الرقّ اشتراها تاجر ثري واتخذها جاريةً له، وراح يُغدق عليها من الحب والمال ما أوقَعَها في حبه، بل التفاني في هذا الحبّ، حتى باتَ هذا الرجل مُرتجى أحلامِها، وكلَّ شيءٍ في حياتها، ثم يشاء القدر أن يُقتل، فتُحِسُّ رابعةُ بفراغ نفسي كبير، ويحصل عندها نوعٌ من ردِّ الفعل، فتندفِعُ وراء اللذَّة تعبُّ منها ما تشاء، عند تاجرٍ آخَرَ، آثَرَ هواها، واتخذها خليلةً له.
وبينما كانت رابعةُ تعيش تلك الحياة المادية بدافع اليأس الذي خلَّفَهُ في نفسها موت حبيبها الأول، إذا بأحد الصوفيين الكبار، قيل إنه رياح بن عمرو القيسي، يلتقيها ويُدخل في ذهنها بأنَّ ما تركض وراءَهُ من حبٍّ للدنيا ومتعها لن يدوم طويلًا، لأنه سرعان ما يذهب مخلّفًا في نفسها الحسرة والألم. أما الحبُّ الصافي، الحبُّ الحقيقي فيجب أن يكون لله تعالى. وهذا الحبُّ وحدَه هو طريق الخلاص من الإِثم، وفيه التوبةُ والرجوعُ إلى الله رجاءَ عفوه وغفرانِهِ، وكان لنُصْحِ ذلك الشيخ تأثيرٌ مهم فيها، فكأنَّه كان بمنزلة النذير الذي أعادَ إليها رشدها، إذ سرعان ما وَلَجَ إلى أعماقها، وبدَّل مشاعرها، فجعلها تتحوّل عن مجرى حياتها، وتزهد في هذه الدنيا، لتُقبل على العبادة والمناجاة، مخلِّفةً وراءَها، بلا أسفٍ، كلَّ متعِ الحياة وملاذها.
ولاحظ سيدُها هذا التحوّل الكبيرَ الذي طرأ على حياتها، وجعلَها تنصرف عنه، ولا تُلبّي رغباتِهِ ونزعاتِهِ، فراحَ يحاولُ أن يُعيدَها إلى ما كانت عليه، فلما لم تستجبْ له، انقلب إلى رجلٍ فظّ، غليظ القلب، ينزلُ بها ما شاءَ من القهرِ والعذاب علَّها تخاف وترتدع وتستسلم إلى مشيئته، إلَّا إنَّ ذلك كله لم يجدِه نفعًا، لأنَّ رابعةَ كانت تتقوّى على ظلمه بمشاعرها الجديدة، فلم تُرهِبْها فِعالُهُ تلك، مهما كانت قاسيةً في نهارِها، ما دام الليل ينتظرُها وفيه الراحةُ والطمأنينة لقلبها، إذ كانت ما إن يُسدل الليلُ ستارَهُ حتى تأوي إلى زاويةٍ لها، ثم تُقبل على الصلاة، وتنصرفُ للدعاء، مبتهلة إلى الله تعالى أن يعتقها من أسر ذلك السيد لكي تتفرّغ لعبادتِهِ وطاعته، ولكن كيف تتخلّص من هذا الرقّ حتى تنصرف بكليتها إلى الغاية التي تنشدها؟
وهنا يلجأ العطار مرةً أخرى إلى الخيال القصصي الذي يبتدع المعجزات ويجترح العجائب، فيزعم أنَّ سيدها استيقظ ذاتَ ليلة، ونظر من خوخةٍ أو خَصاصٍ في الباب، فرأى رابعة تصلّي، وتناجي ربَّها وهي تقول: «إلٓهي! أنت تعلم أنَّ قلبي يتمنَّى طاعتك، ونور عيني في خدمتك، ولو كان الأمر بيدي يا سيدي لما انقطعت لحظةً عن مناجاتك، لكنك تركتني تحت رحمة هذا المخلوق القاسي من عبادك». وفتَحَ سيدُها البابَ فشاهد قنديلًا يتدلّى فوق رأسها، وهو مربوط بسلسلة غير معلقة، وله ضياء يملأ البيت كلَّهُ، وراعَهُ ذلك المشهد، فقفل راجعًا ليقضيَ الليل ساهرًا مفكرًا حتى طلع النهار. هنالك دعا رابعة إليه وقال لها: «أي رابعة! وهبتك الحرية، فإنْ شئتِ بقيتِ هنا ونحن جميعًا في خدمتك، وإن شئتِ رحلتِ أنَّى رغبتِ».
وآثرتْ رابعةُ الرحيلَ عن هذا الرجل فارتحلت، لكنها كانت تحتاج إلى لقمة العيش، فماذا تفعل؟ يقولُ العطار إنها اتخذت مهنة العزف على الناي، ولكن لزمنٍ ما، ثم تابت من بعد ذلك وأصلحت، فابتنتْ لنفسها خلوةً انقطعت فيها للعبادة، وهذه توبةٌ ثانية!!!
ومن مختلف الروايات التي أرَّخت لرابعة، يتبيّن أنها لم تتزوج ولم تُولِدْ، وإن كانت قد خُطِبَتْ عدة مراتٍ، ومن قِبَل عدة أشخاص، ورفضتهم جميعًا كما فعلت مع عبد الواحد بن زيد الذي ردَّتْ خطبته مع علوّ شأنه، وهجرته لأيامٍ، فلم تستقبله إلَّا بعد أن شفع له إخوانٌ عندها؛ فلما دخل عليها قالت له: «يا شهواني! اطلب شهوانية مثلك! أي شيء رأيت فيَّ من آلة الشهوة؟». ويُذكر أيضًا أن محمد بن سليمان الهاشمي كتب إلى كبراء البصرة، وهو أميرها، في امرأة صالحة يتزوجها، فأجمعوا على رابعة، فكتب إليها يخطبها، فردَّت عليه قائلة: «أما بعد، فإن الزهدَ في الدنيا راحة البدن، والرغبة فيها تورث الهم والحزن، فهيّئ زادَك وقدّم لمعادِك، وكنْ وصيَّ نفسِك، ولا تجعل الرجالَ أوصياءك فيقتسموا تركتك. وصُمِ الدهرَ واجعلْ فِطرَك الموتَ. وأما أنا فلو خوَّلني الله أمثالَ ما حُزْتَ وأضعافَهُ لم يسرّني أن أُشْغَلَ عن الله طرفة عينٍ. والسلام».
تلك هي صورة عن الحياة التي صوّروا أن رابعةَ عاشتها، بلا بيتٍ، بلا مال، بلا زواج. وقد يكون العزف على الناي هو آخِرُ اهتماماتها بشؤون هذه الدنيا، قبل أن تتعرّف إلى حلقات المساجد، وتقيم الصلاتِ مع الرعيل الأول من رجال التصوّف في البصرة، أمثال إبراهيم بن أدهم معاصرها الأكبر، ومالك بن دينار، وسفيان الثوري، وشقيق البلخي.
وبخصوص حلقات المساجد والأوراد والأذكار، نشير إلى أنها كانت نوعًا من الهروب آثَرَهُ أصحابُها على الخوض في مُعترك شؤون الحياة وشجونها، بعد أن اعتقد الصوفية أنَّ دنيا الأرض ليس فيها إلّا الزيف، ومخادعة الأنفس، وإبعاد الإنسان عن ربّه وعن السعادة التي ينشدها. وهذه لن تكن برأيهم إلَّا في عيش حياةٍ ملؤها التقشّف، ومغالبة أهواء النفس، والتخلّي عن طيبات الرزق. من أجل ذلك اتخذوا تلك الحلقات للذكر والوعظ والإرشاد، وعقدوا الخلوات للتسبيح بترانيم المواجيد والأشواق، وكانوا في ظاهر تصرفاتهم هذه يشدّون السُذَّج، ويستهوون أصحاب القلوب الطيبة من البسطاء.
ورأت رابعة في تلك المظاهر ما يبعث الطمأنينة في قلبها، والراحةَ في نفسها، فأقبلت عليها، مشدودةً بمواجيدها وترانيمها، وهي تجدُ فيها منهلًا عذبًا حتى شعرت بشيء من الإِشباع لما يعتلج في نفسها، لكنه لم يكن الإِشباعَ الذي يكفي، لا، ولا الإِشباع الذي تبغي، لذلك آثرت الابتعادَ عن تلك الحلقات واتخذت لنفسها خلوة خاصّةً بها، انقطعت فيها للعبادة، والإِقبال على ربّها بكلّيةٍ تامة، حتى صارت تشعر بأن ليس «إلَّاهُ» من يشغلها في آناء الليل وأطراف النهار، وكان هذا الانشغال هو الطريق الذي قادها إلى «العشق الإلٓهي»، فنذرت أن تعيش لله ما بقي من حياتها.
وراحت رابعةُ تَنهَلُ من معنى «الحب الإلٓهي» بقوةٍ وشغف، وتبدِعُ من آثار هذا الحبّ فِكرًا وقولًا حتى وصلت إلى ما وصلت من أستاذية وريادة، فيما عرف، بعد، بمذهب الحب الإلٓهيّ، وأنها بالفعل، بعد أن اتخذت تلك الخلوة، قد اصطبغت حياتُها بألوان ذلك الحب الذي أرادته، من وَجْدٍ وأُنس وعشق، وأملُها في ذلك تحقيق الوصل ـــ كما زعمت ـــ بالمحبوب الأعلى.
وعن تلك الفترة من حياتها، روى الشيخ الحُـرَيْفيش صاحب (الروض الفائق في المواعظ والرقائق) فقال: «حكي عن رابعة رحمها الله تعالى أنها كانت إذا صلّتِ العشاء، قامت على سطح لها، وشدَّت عليها درعها وخمارها ـــ ثم قالت: إلٓهي! أنارتِ النجومُ، ونامتِ العيونُ، وغلَّقتِ الملوكُ أبوابَهَا، وخلا كل حبيب بحبيبه، وهذا مقامي بين يديك. ثم تقبل على صلاتها، فإذا كان وقت الفجر قالت: إلٓهي! هذا الليل قد أدبَر، وهذا النهارُ قد أسفرَ، فليت شعري، أَقَبِلتَ منّي فأهنأ، أم رددتَها عليَّ فأُعزَّى؟ فوعزّتك هذا دأبي ما أحييتني وأعنتَني. وعزَّتك لو طردتني عن بابك ما برحتُ عنه لما وقع في قلبي من محبتك». وهذا ما يبيّن بأنَّ رابعةَ عاشتْ طوالَ حياتها الصوفية وهي قائمة على العبادة والمناجاة والتهجّد، غير راغبة في الدنيا وما فيها، ولا شيء يملأ كيانها إلا حبها لله. وقد ظل هذا الحب يتفاعل في ذاتها حتى بلغتِ الثمانين من عمرها، ووافاها الأجل.
تلك بعض الروايات التي حكيت أو أثرت عن رابعة، حول بعض مراحل حياتها، وحول مماتها، ومنها نستدلُّ على أن بعضهم عدَّ رابعة تلك الإنسانة المؤمنة التي رافقتها المكرمات منذ مولدها، والتي غلب عليها إيمانٌ دفين في أعماقها قادها إلى حياة التصوف التي أقامتها على الحب الإلٓهي، في حين أن بعضهم الآخر عدَّها شابة فاتنة الجمال، ذات سحر وهيام، دفعها الفقر والتشرد والرقّ لأن تتبع طريق الهوى، وترتشف من ملذات الدنيا ومتعها ما وسعها أن ترتشف، حتى كانت لها توبة نصوح أدت بها إلى الاعتكاف في زاويةٍ خاوية إلّا من قليل الأشياء، لتقوم على العبادة ومناجاة ربها بحرقة وشوق، وهي تنشد ذلك الحب الذي ملأ كيانها، وحقّقَ لها كشف الحجب ومخاطبة الحضرة الإلٓهية!!!
وفي نظرنا، أيًّا كان الاتجاه الذي اعتمده الرواة أو الباحثون، وأيًّا كانت دوافعهم فيما رَوَوْا أو كتبوا، فإنَّ التاريخ يحفظ لنا، ولا شك، ذكرى امرأة صوفية، أوجدت في تصوفها مذهبًا خاصًّا، كانت له آثاره التي راحت تتفاعل مع الزمن حتى بقي إلى وقتنا الحاضر، وهو المذهب القائم على العشق الإلٓهي الذي يتنافى مع عقيدتنا الإسلامية ويخالف مخالفة صريحة الكتاب والسنّة.
ومع ذلك، وإكمالًا للبحث، نرى لزامًا علينا أن نتصدَّى لأفكار رابعة الصوفية، من خلال ما قالت أو ما نُسب إليها من أقوال، ومن خلال ما نظمت أو ما عُزِيَ إليها من أشعار، حتى تظهر لنا معالمُ ذلك المذهب بصورة أوضح، وتنجلي الحقيقةُ التي هي هدف كل مؤمن صادق.
ولعلَّ أهمّ شيءٍ في صوفيّة رابعة ما قام على العبادة، والمناجاة والتهجّد.
وفي الحقيقة أن الدعاء والتهجد في الليل يتوافقان تمامًا مع الدِّين الإسلامي، وقد سار عليهما الرسولُ الكريم، صلى الله عليه وآله وسلم، والصحابة والتابعون، وذلك امتثالًا لأمره تعالى في آياتٍ بيّناتٍ تحث على قيام اللَّيل. ومن هذه الآيات: [وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا] (الفرقان: 64)، [تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ] (السجدة: 16)، [أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاء اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ] (الزمر: 9)، [يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً (2) نِصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً] (المزمل: 1 ـــ 4)، [إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِن ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِّنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ] (المزمل: 20)، [وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً] (الدهر: 26)، [وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا] (الإسراء: 79).
إذن، فالرسول الكريم كان يُقيمُ صلاة الليل تلبيةً لأوامر ربه كما بيّنها القرآن الكريم. وكانت العبادة المخلصة الصادقة بارزةً في حياته الشريفة، كما ظهرت في أفعاله وأقواله. ومن قول رسول الله صلى الله، عليه وآله وسلم، الحديثُ الشريف: «عليكم بقيام اللَّيل فإنه مرضاة لربِّكم، وهو دَأْبُ الصالحين قبلَكُم، وَمَنْهَاةٌ عن الإثم، وَمَلْغَاةٌ لِلْوِزْر، ومُذْهِبٌ كيدَ الشيطان، ومَطْرَدَةٌ للداء عن الجسد».
فيكون التهجُّدُ في اللَّيل شِرعةً سماويةً علويَّةً، وسُنَّةً نبويَّةً شريفة. وإنَّ الإنسان مهما تعبَّدَ في صلاة أو صوم، لا يمكن أن يصل إلى حالة من التطرف، إذا ما جاءت صلاته، أو كان صومه، متوافقَين مع الكتاب والسنَّة. ومن هنا فإننا نبارك لرابعة العدوية ما قامَت به آناءَ اللَّيل من دعاءٍ وتهجُّد، كما هو مأثور عنها، بإجماع الباحثين، ولكنْ ما يمكن عدّه تطرفًا عند رابعة، هو ما ادَّعت من عشق لله تعالى، ثمّ مخاطبتها للعزَّة الإِلٓهية، كأنَّه، جلَّ وعلا، إنسانٌ يجوز لنا أن نتعامل معه وفقًا لتصوُّراتنا ومشاعرنا. فهنا خطأ رابعة الذي أوْقعتْ فيه نفسها، وقادَها لأن ترى في الله، سبحانه وتعالى، معشوقًا ـــ وفق المفهوم البشري ـــ تناجيه بغرام العاشق المشبوب، وتتحدَّث إليه بلهجة الواله الملهوف! ونحن فيما نقول، لا نَفْتَئِتُ على رابعة بشيء، وبين أيدينا كثير من الشعر الذي يؤكد ما ادَّعت من ذلك الحب لذات الله، ومن عشقٍ للحضرة الإِلٓهية، حتى قادها ذلك الادِّعاء الواهم إلى ما قادها إليه، وشدَّتها تلك المشاعر الخاطئة إلى ما شدَّتها إليه من ضلالٍ وانحرافٍ عن عقيدة المؤمن الصادق الممعِنِ في إيمانه ـــ فهَا هي ذي تُنشد من الأعماق ـــ كما ورد في (الروض الفائق):
يــا سُــروري ومُنْيَتي وعمـادي وأَنيســـي وعُـــــــدَّتـــــــــي ومُــــــرادي
أنت روحُ الفؤادِ، أنت رجائي أنت لي مُؤنِسٌ وشوقُك زادي
أنتَ لولاكَ يا حياتي وأُنْسي! مـــــــــا تَشَتَّتُّ فـــــــي فَسِيحِ البلادِ
كم بَدَتْ مِنَّةٌ، وكم لك عندي مِـــــــــنْ عَــــــــــطَاءٍ ونِعْمَةٍ وأيادي
حُـــــبُّكَ الآنَ بُــــــــغْيَتي ونَعيمي وجــــلاءٌ لعينِ قلــــــبي الصــادي
إنْ تــــكُنْ راضــــــيًا علــيَّ فإني يا مُنى القلب! قد بدا إسعادي
وليس أصدق في توضيح معاني هذه الأبيات، والدوافع إليها، مما قاله الأستاذ عبد الرحمن البدوي في كتابه (رابعة العدوية، شهيدة العشق الإلٓهي) وهو يفسِّر الحالة النفسيةَ، والاختلاطَ الذهنيَّ عند رابعة، في تلك الفترة من حياتها التي كانت تنتقل فيها من شؤون الدنيا إلى التوبة، إذ يقول: «والطابع الحسِّي ظاهر بكل جلاء في هذه الأبيات، ويلوح منها أن الأمر كان لا يزال مختلطًا عليها لأنَّ الخطاب هنا يلح أن يتجه إلى شخصٍ حيٍّ كما يصلح ـــ بصعوبة ـــ أن يتجه إلى الله. ماذا أقول؟ بل هي في هذا الشعر قد تناست أو نسيت أنها تخاطب الله. فتحدثت عن حبيبٍ لها يلوح أنه كان متنقلًا فاضطرت هي ـــ تحت ستار الترحل لكسب العيش بالعزف، كما هي الحال بالنسبة إلى الموسيقيين بعامة في تجوالهم لإحياء حفلاتٍ في مختلف البلدان ـــ أن تلاحقه في الأماكن التي كان يتنقل بينها، لهذا اضطرت إلى التشتُّت في فسيح البلاد. فلعل ذكرى هذا الحبيب ـــ الذي يمكن افتراض أنه كان العلة في إحداث خيبة الأمل عندها في الحب والناس ـــ قد اختلطت في ذهنها آنذاك، فعبرت بهذه الكلمات المشبوبة الحسِّية عن تجربتها معه، وإن كان الخطاب موجهًا إلى الله. ذلك أنها لن تستطيع أن تتحدث عن حبها لله إلا إذا صدر ذلك عن تجربة حسِّية عانتها. وتلك كانت تجربتها العنيفة الحية».
ونحن نرى أيضًا أن مثل تلك المشاعر، التي ظهرت في أبيات رابعة، إنما تدلُّ، وهي تصدر عن إنسانة قد أحبَّت، على أنها كانت وفيةً لهذا الحبّ، مأخوذة فيه، لكنَّ الفرق هنا أنَّ مثل هذا الحب يكون عادة من الإنسان للإنسان ـــ وبالتحديد من الرجل للمرأة، أو من المرأة للرجل ـــ ويكون قد عاش معه تجربة الحب والشوق. ولعلَّ هذا ما يُنبئ بأقرب الأدلة عن حب رابعة لذلك التاجر الذي أقامت عنده ردحًا من الزمن، والذي كان بحكم تجارته، مضطرًا لترك البصرة والسفر أو التنقل في البلدان. حتى إذا نُمي إليها مقتَلُ ذاك التاجر الحبيب، حصلت عندها خيبة الأمل، بل الألم والمرارة لفقدانه، وهي لتعلقها به، أو لشدة حبِّها له، راحت تَسيح في البلاد بحالة من اللاشعور تدفعها للبحث عن الحبيب الذي فقدتْه، وهي بالطبع لم تعثر عليه، ممَّا أدَّى إلى دفن حبه في قلبها. وعندما توجهت إلى حياة التوبة والعبادة، وفي حالة من التنفيس عن ذلك الكبت في نفسها، اختلطت عليها المشاعر بحيث لم تقدر أنْ تفرِّق بين حبٍّ دُنيوي لإِنسان أحبَّته، وحبٍّ خالصٍ لله تعالى تريده وتمارسه على غير الطريقة التي يتَّبعها المؤمنون العارفون بعظمة الله سبحانه. وكانت منها تلك المخاطبة لله تعالى على أنه هو الحبيب المرتجى، الذي لولاه لما تشتَّتتْ في فسيح البلاد، تُقرُّ بما له من نِعَمٍ وأيادٍ بيضاء عليها، حتى صار بغيتها ونعيمها، وجلاءً لقلبها الصادي، لذلك فهي تطلب رضاه الدائم عليها، لكي تحظى من جرَّاء هذا الرضى بما تحنُّ إليه من شعورٍ بالأنس والسعادة.
والحبُّ الإِلٓهي عند رابعة، ليس مقتصرًا على حالةٍ واحدة، بل هو تعبيرٌ عن مختلف حالاتها العاطفية والنفسانية. وهذا ما ظهر في أناشيد أخرى لها، ومنها قولها:
حَــبيبـــي لــيس يَعـــدلهُ حــــبيبُ ولا لِسِواهُ في قلْبي نَصيبُ
حَبيبي غابَ عن بَصري وشخصي ولكن في فؤادي ما يغيـب
فبنظرها ليس من حبيبٍ يعدل حبيبَها المعلوم لديها والذي غاب عن بصَرها ـــ بالقتل والموت ـــ ولكن بقيتْ صورتُه المعلومة عندها محفوظةً في قلبها كما كانت معروفةً لديها قبل غيابه.
ويبرز الجانب العاطفي عند رابعة، أكثر ما يبرز، في هذه الرباعية:
أحبـك حبين: حــبَّ الهــوى وحـــبًّا لأنـــك أهـــل لذاكـــا
فأمـــا الــذي هو حب الهوى فشغلي بذكـــرك عمَّن سواكـا
وأمـــا الـــذي أنــتَ أهــلٌ له فكشفُك للحجب حتى أراكا
فلا الحــمدُ في ذا ولا ذاك، لي ولــكن لك الحمد في ذا وذاكا
ولقد اختلفت الروايات حول هذه الرباعية المشهورة، ما إذا كانت رابعة هي التي قالتها، أو أنها نسبت إليها؟ ولكن يظهر جليًّا أنها تتوافق مع ما ذهبت إليه رابعة في الحب الإلٓهي. لذلك يمكن أن نعدَّها لها فعلًا.
وفي هذه الأبيات تقول رابعة إن هنالك نوعَين من الحب: حبّ الهوى، وهو الحبّ المتعارف عليه بين الناس وما قد ينجم عنه من العشق أو الهيام الذي يُطاعُ فيه هوى النفسِ وميلُها، وحبٌّ لله ـــ سبحانه جلَّ وعلا ـــ الذي هو وحدَه أهلٌ له، وهي تأخذ بالحبَّين معًا. فحب الهوى تأخذ به لأنه يشغلها بذكر الله عن أشجانها التي يحملها قلبُها عمَّن سواه. والحبُّ الثاني هو الذي يملأ كيانها، وهو منتهى مبتغاها، لأنه الحب الذي به يكشف الله تعالى لها الحُجُبَ حتى تراه. وفي كلا الحبين نعمةٌ وحمدٌ لا دخل لها بهما، بل الفضل فيهما إليه تعالى، لأنه هو الذي أفاضَ على قلبها هذَين الحبَّين.
إذن، فذاك هو الحبُّ الذي عرفتْه، أو قالت به، رابعة العدوية، حبٌّ يختلط عليها معناه في البداية بحيث لا تدري إن كانت تعبِّر عن حبِّها لشخصٍ من نوعها، أم أنها تريده حبًّا خالصًا لله تعالى، لكنَّ هذا الحبَّ تطور في نفس رابعة، حتى باتَ عشقًا لذات الله. ومن خلاله صار في إمكانها ـــ كما أخبرت عن نفسها ـــ أن ترى الله، وأن تجتمع بالحضرة الإلٓهية، أي إن ذلك الحب هو الذي يجعل الحجب تتكشَّفُ لها، وعندها يستوي ـــ بنظرها ـــ المغيَّبُ مع الحاضر، والمجهولُ مع المعلوم، والخالقُ مع المخلوق، فتحصل الرؤية ويحدث الجمع.
فبالله عليك أيها القارئ الكريم، ألا ترى في هذا التصور تجديفًا ما بعده تجديف؟
بل وأيُّ تجديفٍ هو أكبرُ من أن يتوهَّمَ عبدُ لله، أنه قادر على أن يقيم علاقةً وثيقةً بينه وبين الحضرة الإلٓهية على أساس حب الهوى؟ وأنه ـــ وهو غارق في حب الهوى هذا إلى أذنيه ـــ يثب إلى اختراق الحجب والوصول إلى الذات القدسية؟! ولِـمَ ذلك كله؟ ألأنَّ لهذا الحبّ قوةً خارقةً لا تتأتّى إلَّا للصوفيّ «الحبيب» إلى الله سبحانه وتعالى؟!
وإذا كان هذا هو منحى الحب الذي اتخذته رابعة العدوية، فإنَّ ما نُسبَ إليها في زيارتها للبيت الحرام، في أثناء حجّها، لا يقل تجديفًا على العزة الإِلٓهية من ذلك المنحى الوهمي، أو على الأقل، من تلك المشاعر الخاطئة التي شغلتها.
فماذا في هذا المقام؟
من المعروف أن المسلم يتوق إلى حجّ بيت الله الحرام. وهذا الشوق ينبع إمّا من ناحية إيمانية صرفة تدفعه للقيام بهذه الفريضة التي فرضَها الله على عباده المسلمين، وأداء الواجب الشرعي، وإمّا أن ينبع، بالإضافة إلى الناحية الإيمانية، من معرفته بمعاني الحج السامية، ومقاصده النبيلة التي فيها نفع كثير للفرد وللجماعة المسلمة على حدٍّ سواء.
وإن رابعة العدوية وهي المسلمة العابدة، التائبة، لا بدَّ من أن تكون قد حجَّتْ إلى بيت الله الحرام، إن لم يكن لمرةٍ واحدة، فلمراتٍ عدّة كما يروي المؤرخون. ولكن هل كان حجها مثل حجِّ الآخرين، أم أنه كان حجًّا له طابعه الخاص نظرًا إلى ما رافقه من خوارق لم تحدث لأحدٍ غير رابعة؟!
نبادر إلى القول بأن حجَّ رابعة لم يكن حجًّا عاديًّا، بل حجٌّ مليءٌ بالأحداث الخارقة. وهذا ليس بجديد على رابعة، فحياتُها كلها كانت مليئة بالخوارق، كما رأينا، في ليلة ولادتها، وفي الصوت الذي ناداها في السوق، وفي القنديل الذي كان يتدلى فوق رأسها من دون رباط ويملأ البيت نورًا، وإذا كان الأمر كذلك، فما خوارقها الجديدة في أيام حجّها؟
من هذه الخوارق ما رواه العطار أيضًا، وهو أن رابعة ارتحلت ذات مرة إلى الكعبة ومعها حمارٌ يحمل متاعها، لكنَّ ذلك الحمار نفق في الطريق، فتقدّم رفاقها في القافلة يريدون حمل متاعها لكنّها رفضت ذلك، وقالت لهم: «ما كان اتِّكالي عليكم لمَّا أنْ رحلْتُ، بل ثقتي بالله تعالى» وذهبت القافلة في طريقها، وبقيت رابعة وحدها، فنظرت إلى السماء تدعو الله تعالى وهي تقول: «إلٓهي، أكذا يفعل الملوك بعبيدهم الضعفاء. لقد دعوتني إلى زيارة بيتك، وها أنت تَدَعُ حماري ينفق في الطريق، وتَدَعُني في الفيافي وحيدة؟» فما أتمَّتْ كلامَها حتى عادت الحياة إلى حمارها، وانتصَبَ أحسنَ مما كانَ، فوضعت عليه أمتعتها وتابعت سفرها، وحيدةً في الطريق إلى مكة المكرّمة حيث الكعبة الشريفة. وبينما هي تُغِذُّ السير شعرت بالوحشة، فصاحت من أعماقها: «إلٓهي، إن قلبي يضطرب في هذه الوحشة، أنا لَبِنَةٌ والكعبةُ حجرٌ، وما أريده هو أن أشاهِدَ وجهَكَ الكريم» وعلى الفور ناداها صوتٌ من السماء يقول: «يا رابعة! أتطلبين وحدك ما يقتضي الدنيا بأسرها؟ إنَّ موسى حين رام أن يشاهد وجهنا لم نُلقِ إلَّا ذرة من نورنا على جبل فخرَّ صَعِقًا».
إنَّ هذا والله لكثير! فها هي ذي رابعة في طريقها إلى الحج لا تكاد تناجي ربَّها وتطلب منه أن يُحييَ حمارَها الميتَ حتى يتحقق رجاؤها وتقع المعجزة التي لم يكن يحققها الله، سبحانه وتعالى، إلَّا على يديْ بعض أنبيائه ومرسليه من أجل شيء واحدٍ وأساسيّ: هو إقامة الدليل على أحقيّةِ البعث، وصدق المبعوثين. فهل كانت لرابعةَ درجةٌ أسمى من درجات أولئك النبيين؟! وأين منها إذن عيسى بن مريم (عليهما السلام) ولم يمنحه الله تعالى القدرة على إعادة الحياة، وإحياء الموتى لقوله عزَّ وجلَّ: [وَإِذْ تُخْرِجُ الـْمَوتَى بِإِذْنِي] (المائدة: 110) إلا لتثبيت فكرة بعثه رسولًا، ولنفي صفةِ الألوهية التي ألصقوها به زورًا وبهتانًا فكانت تلك القدرة بإذن الله تعالى، بل أين منها ذلك الرجل الذي مرَّ على قرية وهي خاويةٌ على عروشِها، فقال: أنَّى يُحيي هذه الله بعدَ موتها؟ وأرادَ الله، سبحانه وتعالى، أن يبيّن له ـــ كي يكون عبرةً للأولين والآخرين ـــ كيف أنه قادرٌ على الإِحياء بعد الممات [فَأَمَاتَهُ اللهُ مِئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَل لَّبِثْتَ مِئَةَ عَامٍ فَانظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِّلنَّاسِ وَانظُرْ إِلَى العِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْماً فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ] (البقرة: 259).
إذن، فالغاياتُ من هذه الأحداث الربّانية بعيدةٌ وسامية، وهي تصبُّ كلها في تأكيد ألوهية الله تعالى، وأنَّهُ وحدَه على كل شيء قدير، ولكن: ما الغاية من خارقةٍ تحدث لرابعة بعد نزول القرآن بزمن طويل، وهي لم تكن تريد إلَّا نفسها وتأمين مصلحتها؟ اللّهمَ إلَّا أن تكون رابعة قد فاقت الأولين والآخرين، وأنافت على مراتب الأنبياء والمرسلين، بل قفزت قفزةً واحدةً إلى الدلال على رب العالمين. نستغفر الله تعالى ونتوبُ إليه أجمعين.
ثمَّ إنَّ رابعة لا تنشدُ من الذهاب إلى بيت الله الحرام، ومن زيارة الكعبة الشريفة، إقامة الشعائر التي فرضها الله تعالى على عباده المؤمنين، وهي تصرّح بذلك وتقول بأنها لا ترغب من ذلك إلَّا شيئًا واحدًا، وهو مشاهدة وجهِ الله تعالى، لأنها ترى نفسها أنها جديرة بهذه المشاهدة، والعجيب هنا: لماذا أتعبت نفسها في السفر والانتقال، ولماذا تجشّمت كل تلك المشقات والأتعاب وقد كان بإمكانها أن تسأل الله ــــ سبحانه ـــ ذلك وهي قابعة في كوخ تنسّكها، ما دام رجاؤها مستجابًا إلى ذلك الحدِّ من جانب الله تعالى؟! ثُمَّ لماذا تريدُ رؤية الكعبة، والعطار يروي عنها أنها، وهي في طريقها إلى الحج، رأت الكعبة قادمةً نحوها عبْر الصحراء، فقالت: «لا أريد الكعبة بل رب الكعبة، أما الكعبة فماذا أفعل بها»، ولم تشأ أن تنظر إليها، كما يقول العطار.
ويتابعُ هذا المؤرخُ الصوفيّ تلك الرواية، في محاولة يائسة، لإِظهار ما لرابعة من فضلٍ عظيم في المكرمات فيروي أن إبراهيم بن أدهم أمضى أربعين سنة في حجةٍ واحدة ليبلغ الكعبة، لأنه كان يصلّي في كل خطوةٍ ركعتين، وكان يقول في أثناء ذلك: «غيري يسلك هذا الطريق على قدميه أمّا أنا فأسلكه على رأسي» ولمّا بلغ إبراهيم الكعبة لم يجدها في مكانها، فقال يشكو: «واأسفاه! أَأَظْلَمَ بصري حتى لم أعد أرى الكعبة؟» لكنه يسمع صوتًا يناديه ويقول له: «يا إبراهيم! لستَ أعمى لكنَّ الكعبة ذهبت للقاء رابعة» ويتأثَّر إبراهيم أشدَّ التأثر لما يسمع، إلَّا إنه لم يلبث أن يرى الكعبة وقد عادت إلى مكانها، وفي الوقت عينه يشاهد رابعةَ تتقدّم مستندة إلى عصاها، فيقول لها: «أي رابعة! يا لجلال أعمالك، ثُمَّ وما تلك الضّجة التي تُحدثينها في الدنيا، فالكل يقولون: ذهبت الكعبة للقاء رابعة؟!» فتجيب رابعة: «يا إبراهيم، وما تلك الضجة التي تثيرها أنت في الدنيا بقضائك أربعين عامًا حتى تبلغَ هذا المكان، فالكل يقولون: إن إبراهيم يتوقف في كل خطوة ليصلّي ركعتين؟!» فقال إبراهيم: «نعم أمضيتُ أربعين عامًا أجتاز هذه الصحراء»، هنا قالت رابعة: «يا إبراهيم! لقد جئت أنت بالصلاة أما أنا فقد جئت بالفقر». ثم ذرفت مُرَّ العبرات.
طبعًا إنَّ هذا الحوار مبتدعٌ، وأكبر دليل على ابتداعه أنَّ إبراهيم بن أدهم لم يقضِ في الطريق إلى الحج لا سنة، ولا سنتين، بل أربعين سنةً أي أربعة عشر ألفًا وبضع مئات من الأيام، وهو لا بدَّ من أنه كان يحتاج في أثنائها إلى طعام وماءٍ على الأقل، فمن أين؟ لا تعجب! فهؤلاء الصوفية من غير نوعيتنا نحن البشر، لأننا نحن مأمورون بطاعة الله سبحانه وتعالى، وهم يَأمُرون فيؤتى لهم ما يأمرون به!!!
إنَّ هذه الخوارق التي يرويها العطار ما هي إلَّا محضُ اختلاق من مُعْجب سخَّر نفسه وضميره، وباعَ دينَهُ، من أجل هوًى طغى عليه. على أنَّها وإن كانت مجرد رواية فإنَّها تدلُّ في مرماها على ما وصلت إليه أفكار بعض الصوفية، وما بلغته رابعة في نفوس هؤلاء حتى جعلوها في مصفٍّ يعلو على مصف النساء اللواتي فضّلهنَّ الله تعالى على نساء العالمين: أمثال السيدة مريم العذراء (عليها السلام) وفاطمة الزهراء (عليها السلام) بنت رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، بل جعلوها في مصفٍّ تعلو فيه على سائر البشر، أو لمْ يقولوا: إن رابعة لا تريد رؤية الكعبة، وأنها لا ترى فيها إلَّا وسيلة لمشاهدة وجه الله تعالى؟ حتى إنَّ هذه الوسيلة لم تعد رابعة تشعر أنها في حاجةٍ إليها، ما دامت لم تميّز بين: أنها هي التي تنتقل إلى الكعبة أم أنَّ الكعبة تنتقل إليها. ثم ما الكعبة في نظرها (وهنا الخطورة البالغة) «إنها ليست سوى صنمٍ معبودٍ في الأرض»، كما يروي العطار على لسانها. وما دام الأمر كذلك في نظرها فسيّان إن حجت أو لم تحجَّ إلى هذا الصنم!!!
ألا ترى معي أيها القارئ الكريم أنَّ ذلك كله لا يمكن أن يصدر إلَّا عن أناس خطيرين ومغترين؟ وهل أشدُّ خطورةً، وأكثر افتراءً من أن تتصوّر رابعة أن الكعبة ليست سوى مجرد صنم؟ وأنها تعزُفُ عن الكعبة لأنها ليست في حاجة إليها؟! وهل من شيء أكثر من هذا مخالفة للعقيدة الإسلامية، وإنكارًا لكعبة المسلمين، التي جعلها الله تعالى قيامًا لهم؟ وهل من شيء أكثر من هذا تنكرًا للقرآن الكريم، وفيه يشير رب العالمين إلى البيت الحرام بقوله: [جَعَلَ اللهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِّلنَّاسِ] (المائدة: 97).
على أن بعضهم رأى أن ذلك المفهوم للحج، وفق التصوّر الذي قالت به رابعة، قد تطور إلى تلك الدرجة التي لم يعد له فيها من معنًى حسّيٍّ لديها، بل بات نوعًا من التجريد الذي تتمثل فيه الحضرة الإلٓهية. وإنَّ غايتها كانت دائمًا الوصول إلى الحضرة السنيّة،ولذلك اعتقدت بأنها حققت ذلك الوصول عندما حوّلتِ الكعبة إلى ذلك المعنى التجريدي الخالي من كل أنواع الماديات والمحسوسات. كما أنَّ أولئك فسَّروا تلك المواقف لرابعة من الحج بأنها كانت على وجه «الخُلَّة» بينها وبين الله سبحانه، بحيث تأتي هذه الخُلُة متوافقةً مع مذهبها في الحب الإلٓهي.
ويبدو أن لفظ «الخُلَّة» استخدم على عهد رابعة من قبل صديقها رياح بن عمرو القيسي. ويفسّر صاحب (جامع الأصول) الخُلّة بقوله: «أما الخلة فهي مشتقة من تخلل الشيء في الشيء. وسُمّي الخليلُ خليلًا لتخلُّلِ خليلِهِ في قلبِهِ، فوجودُهُ مستهلكٌ في وجودِهِ، فإذا تكلَّمَ تكلَّمَ فيه، وإذا سكتَ فهو نُصْبَ عينيه في أيّ حال، لذا يقال: تمازج روحانا، وأنشدوا في ذلك:
قد تَخَلَّلْتَ مَسْلكَ الروح منّي وبه سمّيَ الخليل خليلا
أنـتَ همّــي وهمَّتي وحــديثي ورقادي إذا أردتُ مقيلا
وبالفعل فإنَّ الخُلَّةَ هي المودَّة، إما لأنها تتخلَّلُ النفسَ أي تتوسَّطُها، وإما لأنها تُخِلُّ بالنفس فتؤثّر فيها تأثير السهم في الرَّمِيَّة، وإما لفرط الحاجة إليها. ومن هنا يقال: خالَلْتُهُ مُخالَّةً وخِلالًا فهو خليلٌ. والله تعالى يقول: [وَاتَّخَذَ اللهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً] (النساء: 125)، لافتقارِهِ إلى ربه الافتقارَ المعْنِيَّ بقوله تعالى على لسان موسى عليه السلام: [رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ] (القصص: 24). وعلى هذا الوجه قيل: اللّهمَّ أَغْنِني بالافتقار إليك ولا تُفْقِرني بالاستغناء عنك.
قال أبو القاسم البلخيُّ: «إنَّ الله يجوزُ أن يحبَّ عبدَهُ فإنَّ المحبةَ منه الثناءُ، والمحبة إذا استعملت في الله فالمراد بها مجرّد الإحسان من الله إلى العبد، وكذا الخُلَّة، فإِنْ جاز في أحد اللفظين جاز في الآخر. فأما أن يُرادَ بالحُبّ حبَّة القلب، وبالخُـلّةِ التخلّل، فحاشا لله سبحانَهُ أن يُرادَ فيه ذلك».
لكنَّ رابعة تعاملت مع الله سبحانه وتعالى الخالق، كما تتعامل مع المخلوقين، لا لشيء إلَّا لأنَّ التصوف تخلَّلَ نفسَها. و«الصوفيُّ إذا بلغ مرتبة الخلةِ بينه وبين الله سبحانه، سقطت عنه التكاليفُ، واستباحَ لنفسه ما لا يُبيحُهُ الله تعالى لغيره من الناس، ذلك لأنَّ كل ما في الدنيا هو ملكٌ لله وهذا حقٌّ، وبالنسبة إليه تعالى تنتفي أيضًا معاني الحلال والحرام، فكلٌّ حِلٌّ له. وفي حال الخُلَّة يكون العبدُ الخليل بنظرِ الصوفيين بمنزلة الله، أو على الأقل إنه يستحلُّ لنفسه من أموره ما لا يمكن لغيره أن يستحلَّهُ، فإذا كان كل شيء في الدنيا ملكًا لله، فلخليلِهِ الصوفي هذا أن يستحِلَّ ما يشاءُ من هذا الملك»!!!
نعم إلى هذا الحدّ تصل بها الخلّة، وذلك بأن تستحلَّ لنفسها ـــ ما دامت هي خليلة الله ـــ ما لا يمكن لغيرها أن يستحلَّهُ لنفسه. أي بمعنى استهلاك وجودها في وجود الله ـــ سبحانه وتعالى ـــ وليس بمعنى افتقارها إليه أو ثنائه هو، سبحانه وتعالى، عليها.
وإِنَّ رابعة لتعبّر عن خلتها تلك بالبيتين اللذين ذُكِرا سابقًا، ومطلعهما: «قد تخللتَ مسلكَ الروح مني» كما يقول عن ذلك أبو طالب المكي الذي ينسبهما إليها. وهو الذي يقول أيضًا بأن رابعة «كانت تذكر الأنس في وجدها وترتفع إلى وصف معنى الخلّة في قولها السائر:
إني جـعلْتُكَ في الفــؤادِ محدِّثي وأَبَحْتُ جسمي من أرادَ جلوسي
فالجسمُ مني للجليس مؤانِسٌ وحــبيبُ قلــبي في الفـــؤاد أنيسي
ونحن رضينا الخلّة التي تحدّث عنها قرآننا الكريم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، في قوله تعالى: [وَاتَّخَذَ اللهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً]. فهذه الخلّة حق لا ريب فيه، وهي ناشئة عن مشيئة الله تعالى الذي له وحدَه أن يصطفي من يشاء، ويختار من يشاء، فيتخذه خليلًا. أما العبد، فإِنْ كان له حقُّ اتخاذ خليل من بني جنسه، فإِنَّ هذا الحقَّ يجب ألّا يتجاوزَ نطاقَهُ أو حيّزَهُ الكائن في ذلك الجنس. فإن حصلَ التجاوز وقعت عليه المسؤولية، فكيف إذا تعدى كل حدودٍ حتى يصل إلى الحضرة الإلٓهية»؟
ومن خلال تلك الخُلَّة نجد أن رابعة قد جعلت الله تعالى في فؤادها، وهو الذي لا يحتويه ـــ سبحانه ـــ مكانٌ ولا يحدُّه حدٌّ. في حين أنها أباحت جسمَها لمن أرادَ من معاشرها بني البشر!!! فأيُّ تناقضٍ هذا، وأين الخجل والحياء، بل أين الخوف ممَّن هو أقرب إلى المرء من حبل الوريد ويعلم ما توسوس به نفسه؟
على أنَّه، ومهما ادَّعت رابعة من خلّةٍ لله تعالى، فإننا نراها مشدودةً إلى دنيا الأرض، ذلك أنَّ من يقدر أن يرتقي في نفسه إلى ملكوت السماء، فإنه لا يعودُ أبدًا يعبأ بما في هذه الدنيا، بعد أن تخلص من موبقاتها وأدرانها، ووصل إلى ذلك السموِّ العظيم. اللّهُمَّ إلَّا إذا تصوّر بخياله أنه بلَغَ هذا الارتقاء، مع أنه مستحيل البلوغ، في حين أنه هو في الحقيقة لا يزال على طبيعته البشرية، وفي مواصفاتها الناسوتية، تمامًا كما كانت حالُ رابعة وهي تطغى عليها فكرة الجسد، وإن كانت تدّعي أنها لا تعبأ به، لذلك تُبيحه لمن أرادَ الجلوس معها، من أترابٍ أو أصدقاء أو خلّان!
ولا بُدَّ هنا من أن نكرّر فنقول: أليس الجسم هو مبعث الشهوة عندنا نحن الآدميين، وإنَّ استباحتَهُ غير مسموح بها على الإطلاق، لأنَّ لهذا الجسم حرمته المقدَّسة، وكيانه المحفوظ، عند كل صاحب كرامة، وخصوصًا لدى المؤمن الذي عليه أن يصون جسمه كما يصون نفسه من كل سوء؟
إذن فاستباحةُ الجسد ـــ فضلًا عن أنها تتنافى تمامًا مع فكرة الخلّة التي تدعيها رابعة ـــ غيرُ مسموحٍ بها عند بني البشر، بل لا يمكن للمرأة أن تسلّم جسَدَها إلَّا لزوجها ـــ والعكس بالعكس ـــ الذي تربطها به أواصر الشرع والمشاركة والألفة والمحبة، وما إلى ذلك من العوامل التي تربط بين الزوجين. ومن هنا فإنَّ المرأة العفيفة المخلصة تكون أكثر الناس حرصًا على جسدها ومشاعرها، وهي ترفض رفضًا قاطعًا وباتًّا كل شيءٍ يمكن أن يؤذيَها في ذلك، بل إنَّ كثيرات يؤثرن الموت على المساس بهنَّ جسدًا ونَفْسًا.
وإذا كان هذا قائمًا في علاقاتنا نحن بني البشر، فما بالُ رابعة تنسى أنَّها تتغنَّى بحبها لله تعالى، وبخلّتها له، ثُمَّ تُبيحُ جسدَها لمن أرادَ مجالستها، بحيث يتأتَّى عن تلك الاستباحة أن يصبحَ ذلك الجسد مؤانسًا للجليس، في حين أنها هي تتربَّعُ على عرش الأنس الرباني الذي تزعمه؟!
من هنا نقول إن حيّز الوجود الأرضي هو الذي كان يطغى على رابعة، وإنْ كانت تظنُّ أنها عَرَجَتْ إلى مرتبة الخلّةِ والإنسِ التي ادّعتها. كما أنها لم يكن في مقدورها الإفلات من مشاعرها الإنسانية. بل على العكس كانت تلك المشاعر هي المسيطرة إلَّا إنَّ الأمر اختلط عليها، فلم تعد تُميّز بين ما يشدها إلى الأرض، وما تنشده في السماء.
وليس وحده تصوّر رابعة لحالة الأنس، أو لحالة الخلّة هو ما يوقعها في التناقض، لأننا نجد هذا التناقض في كثيرٍ من أفكارها الصوفية، ومنها على سبيل المثال حَيْرتها بين الخوف من الله تعالى ومن ناره المحرقة، أو طرحها هذا الخوف وعبادة الله حبًّا وشوقًا إليه.
فمشاعر الخوف عند رابعة تظهر بصورة جلية حين تقول:
وزادي قليلٌ ما أراه مُبَلّغِي أللّزادِ أبكي، أم لطول مسافتي؟
أتحرقني بالنار يا غايةَ المُنى فأينَ رجائي فيك؟ أينَ مخَافتي؟
إلَّا إنَّ هذا الخوف من نار الآخرة وإحراقِها نجدهُ يتبدَّدُ ولا يعودُ له من أثرٍ فيها إطلاقًا عندما تدّعي أن إيمانها بالله تعالى لا يقوم على عبادته خوفًا من ناره، ولا طمعًا في جنته، بل إنّها تعبدُ الله سبحانه حبًّا وشوقًا إليه. وهذا ما يثبته جوابُها لسفيان الثوري، حين سَأَلَها مرةً: «ما حقيقة إيمانكِ يا رابعة؟».
فقالت: «ما عبدتُهُ خوفًا من ناره، ولا حُبًّا في جنته، فأكون كالأجير السوء، بل عبدتُهُ حبًّا وشوقًا إليه».
كما يروي العطار أن رابعة كانت تناجي ربَّها وتقول: «إلٓهي! إنْ كنتُ عبدتُك من خوفِ النار فأَحْرِقْني في النار، أو طمعًا في الجنَّة فحَرّمْها عليَّ، وإنْ كنت لا أعبدك إِلَّا من أجلكَ فلا تَحرِمْني مشاهدة وجهك».
ومن هذا القبيل، وأعظم منه، تلك القصة التي رواها الأفلاكي في (مناقب العارفين) بالفارسية، وقد جاءت ترجمتها على الشكل التالي: «ذاتَ يومٍ، رأى جماعةٌ من الأصحاب رابعةَ في إحدى يديها نارٌ، وفي الأخرى ماءٌ، وهي تعدو مسرعةً. فسألوها: أيتها السيدة! إلى أينَ أنتِ ذاهبة، وما تبتغين؟ فقالت: أنا ذاهبة إلى السماء كي أُلقِيَ بالنارِ في الجنة، وأصبَّ الماءَ على الجحيم، فلا تبقى هذه ولا تلك، ويظهر المقصود، فينظر العبادُ إلى الله من دون رجاءٍ، ومن غير خوفٍ، ويعبدونَهُ على هذا النحو: بلا طمع في جزاء أو خوف من عقاب، ذلك أنه لو لم يكن ثَمَّةَ رجاءٌ في الجنة وخوفٌ من الجحيم، أفكانوا يعبدون الحق ويطيعونه؟».
إن هذه الرواية، وإنْ كانت بالدليل القطعي محض خرافة لا تمتُّ إلى الواقع بشيء، إلَّا إنها تعبّر تعبيرًا دقيقًا عن تلك التخيلات والأوهام التي ملأت عقلَ رابعةَ وقلبَها حتى تمثّلتْ في نفسها القدرة على التصرّف في الجنة والنار كما تريد، مع أنَّ هذا التصرُّف صفةٌ من صفات الألوهية وحدَها. وحتى خيِّلَ إليها أنها تملك حق إزالة الجنة والنار فتكون هي المتصرفة بمصائر الناس جميعًا، ولا تعود عبادةُ الله تعالى قائمةً على طمعٍ في جزاء، ولا على خوفٍ من عقاب، بل على حبه والشوق إليه!!! فتعْسًا للوهم، وقُبْحًا للافتراءِ على نحوِ تلك الرواية، وما يقابلها من اعتقاد!!!
إذن، فهنا تبرز نقطة الفصل في إيمان رابعة، وذلك بما اعتقدت عن البعث والحساب، وهو إيمان يخالفُ شريعةَ الله وسنّةَ رسوله، اللّتين هما وحَدَهما عمادُ الدّين والدنيا، وقوام الوجود والحياة.
نعم، ليس في الإسلام ما يخوّل المؤمِنَ أن يعبُدَ الله تعالى على هواه، أي بلا خوفٍ من نارِهِ، ولا طمع في جنته، لأنَّ ذلك يؤدّي إلى إفراغِ العبادة من محتواها الذي تقوم عليه. وجوهرُ هذا المحتوى أن يُقرَّ العبدُ بعبوديته لربّهِ وما ينجم عن هذا الإِقرار من امتثال لأوامرِهِ ونواهيهِ، واعتقادٍ جازمٍ بما أنزَلَ من أحكام، ومنها حكمُ العبادة على أساس الخوف من النار، والطمع في الجنةِ، حتى يتلافَى النارَ المحرقة وسعيرَ جحيمها، وينالَ الجنةَ ونعيمَ خلودِها.
وإنَّ عبادةً لا تقومُ على الخوف من نار الله، ولا على الطمعِ في جنتّه، لهي عبادةٌ جوفاءُ، لأنه ينتفي معها الثوابُ والعقابُ، ويتساوى الناسُ جميعًا في مصيرٍ واحد ـــ في دار الآخرة ـــ بحيث يكون الكافِرُ والمؤمن، والجاني والمجنيُّ عليه، والعاصي والتائبُ، كلهم على الدرجة نفسها والمستوى نفسه. فأي مخادعة أفدحُ من ذلك وأي ضلال أكبر؟
ألا ترى أيها الإِنسانُ أن العبدَ إذا أحبَّ سيِّده كانَ له نعم المطيع؟
نحن لا ننكر أن الإِنسانَ المخلص هو الذي يحرص على إرضاءِ سيّده أكثر من حرصه على نيل مكافأته. لكنَّ ذلك لا يعني أنه لا يخشى عقابَهُ ولا يرجو ثوابَهُ، بل إنه يطمع دائمًا أن يكون عند حسن ظنِّ هذا السيد به، يخاف منه بقدر ما يريد أن يُرضيَهُ، ويخشى غضبَهُ بقدر ما يتمنَّى أن ينال إحسانَهُ. هذا في تعامل الناس بعضِهم مع بعض، وفي علاقاتهم الدنيوية حيث مبدأ الثواب والعقاب مطبق قانونًا وعدالةً وعرفًا منذ أقدم العهود وحتى يومنا هذا، حتى لنجد هذا المبدأ بين الأب وأبنائه، بحيث يكافئُ هذا الابن على حسن صنيعه ويحرم الابن الآخر على سوء صنعه، نعم هذه هي الحقيقة والواقع، والله تعالى عندما خلقنا بشرًا سَوِيًّا أنزل على رسله قانون الثواب والعقاب، ودلّتنا عليه آياتُهُ البيّناتُ بوضوح تامٍّ، على أساس أنه الخالق العظيم والرب القدير، الذي أنشأ الإِنسان والكون والحياة، وجعلَ لها القوانين، ومنها قانون الثواب والعقاب، فحريٌّ بالإِنسان وهو يتعامل مع إنسانٍ مثله على أساس هذا القانون، أن يعرف قوانينَ الله وسنّته في خلقِهِ، وفي طليعتها قانون العدالة والحق القائم على الثواب والعقاب.
إنَّ من شأن المؤمن بالله تعالى، الذي أرهفَ الإِيمانُ إحساسَهُ، أن يعمل دائمًا على مبادلة إحسان ربّهِ، ـــ وهو إحسانٌ عميم ولا ريب ـــ بالكثير من الشكر والاستغفار والطاعة [هَلْ جَزَاء الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ] (الرحمٰن: 60).
وإن من شأن المؤمن بالله تعالى أن تكون طاعته مقرونةً دائمًا بالخوف من عقاب الله وعذابه، ذلك وعدٌ عليه حقٌّ لا خيرةَ له فيه ما دامتِ الملائكة في السماء تُسبّح من خشية الله وخيفته لقوله تعالى: [وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْـمَلاَئِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ] (الرعد: 13) وهو كذلك عليه فرضٌ دائبٌ لا مَفَرَّ منه، لأنَّ الله سبحانه وتعالى هو القائل لرسوله الكريم محمد، صلى الله عليه وآله وسلم، أن يُعلن للناس جميعًا: [إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ] والرسولُ العظيم يقرّرُ حقيقةً ثابتةً فيقول: «إن المؤمن يعيش في هذه الدنيا بين مخافتين: أجلٍ قد مضى ولا يدري ما لله صانعٌ به، وأجل قد بقيَ ولا يدري ما الله قاضٍ فيه» وهؤلاء أهلُ بيت رسول الله: علي وفاطمة الزهراء والحسن والحسين ـــ عليهم السلام ـــ يقول الله تبارك وتعالى بلسانهم في سورة الدهر: [وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (8) إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلَا شُكُورًا (9) إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْماً عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا (10) فَوَقَاهُمُ اللهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا] (الدهر أو الإنسان: 8 ـــ 11).
إذن، فرسولُ الله ذاته، وأهل بيته يخافونَ الله، وإنْ أتَوا الحسَنةَ لا يرومون عليها جزاءً ولا شكورًا من الناس، بل يأتونَها خالصةً لوجه الله تعالى لأنهم يخافون من ربّهم، شرَّ ذلك اليوم الذي هو آتٍ لا ريب فيه، ولا مفرَّ منه، وهو اليوم الذي تذهَلُ فيه كل مرضعة عمَّا أرضعت، وتضع كل ذات حَمْلٍ حملها، وترى الناسَ سكارى وما هم بسكارى، لكنَّ عذاب الله شديد، فهل يمكن بعد هذا ألَّا نخافَ الله، ولا نخشى عقابَهُ، أو لا نطمع في ثوابهِ، ونحن جميعًا معرضون للخطأ في كل وقت؟!
وما دام هذا دأب النبيِّ الحبيبِ إلى الله، وأهلِ بيته، والمؤمنين الصادقين، والعابدين القانتين، فما بالُ تلك المرأة المتصوفة، رابعة، تزعم أنها لا تعبُدُ الله خوفًا من عقابِهِ ولا طمعًا في ثوابه، فتخاطبه بكل جرأة وصلافة: «أنا ما عبدتك خوفًا من عقابك، ولا طمعًا في ثوابك، بل وجدتُك أهلًا للحب والشوق فعبدتُك حبًّا وشوقًا إليك»!!!
أليسَ في مثل هذه المخاطبة أبسطُ مظاهر التنكّر للطبيعة البشرية التي من مظاهر إحدى غرائزها الخوف من العقاب والطمعُ في الثواب؟
أليس في مثل ذلك الاعتقاد لتلك المرأة المتصوّفة ما يخالفُ كتابَ الله المبينَ الذي يحثُّنا أبدًا على الخوف من ربّنا، ويحضُّنا على الخشية من غضبِهِ، ما دامَ يُنبئ ـــ وهو لا يحمل إلا أصدق الأنباء ـــ أنَّ كل ما في السموات والأرض من دابّةٍ ـــ ونحن مِمَّن يدبون على هذه الأرض ـــ والملائكة أجمعين، إنما يخافون ربَّهـُم من فوقهم. وهذا الخوفُ يتكرَّرُ ويتكرَّرُ في آياتٍ كثيرة، مثل قوله تعالى: [وَلِله يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مِن دَآبَّةٍ وَالْـمَلآئِكَةُ وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ (49) يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ] (النحل: 49 ـــ 50).
وقوله عزَّ وجلَّ: [إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّمَنْ خَافَ عَذَابَ الآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَّشْهُودٌ] (هود: 103).
وقوله سبحانه: [وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّـةَ هِيَ الْـمَأْوَى] (النازعات: 40 ـــ 41).
وقوله سبحانه: [وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَن يُحْشَرُواْ إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُم مِّن دُونِهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ] (الأنعام: 51). وقوله عزَّ وعلا: [وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّـكُم مِّنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (13) وَلَنُسْكِنَنَّـكُمُ الأَرْضَ مِن بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ] (إبراهيم: 13 ـــ 14).
نعم هذا بعضٌ مما أنزَل الله تعالى في قرآنه المجيد، الذي يَدُلُّ على أنَّهُ فاعلٌ لما يريدُ، وحدَه فقط يتصرَّفُ في شؤونِ خلائقِه، لأنه هو على كل شيءٍ قدير، في حين أن هذه الخلائق يجبُ أن ترتعِد فرائِصُها خوفًا من غضبه، أو تطمئن لذكره طمعًا في ثوابه. ألا فليتفكّر المؤمنون، وَلْيَعِ العابثون!...
وعلى نهجِ القرآنِ الكريم سارَ الرسولُ الأمينُ، فبيّن لنا حقيقةً أخرى من الحقائق الإسلامية التي لا تقبل الجدَلَ أو النقاش فقال، صلى الله عليه وآله وسلم: «مَنْ نَقَلَهُ الله من ذُلِّ المعاصي إلى عِزِّ الطاعة أغناه بلا مالٍ، وأعزَّهُ بلا عشيرة، وآنَسَهُ بلا أنيسٍ. ومن خافَ الله أخافَ الله منه كلَّ شيء، ومنْ لم يَخَفِ الله أَخافَهُ الله من كل شيء».
وها إنَّ رابعة العدوية لا تُريد الجنَّة، والرسول الأعظم يدعو ربَّهُ بتوسّلٍ وضراعة: «اللّهُمَّ ارزُقْنا من خشيتك ما تَحولُ به بيننا وبين معصيتك، ومِنَ اليقين ما يُهوّنُ علينا مصاعِبَ الدنيا، ومِنْ طاعتِك ما تُبلّغنا بِهِ جنَّتك».
أجل، الرسولُ حبيبُ الله، وسيّدُ المرسلين، يرجو طاعةَ الله من أجل بلوغِ الجنَّة، لأنها هدفُ كلّ مؤمنٍ أرضَى الله تعالى، ورضيَ عنه سبحانَهُ، ولا شيء في حياة المؤمن إِلَّا ويرجو به بلوغ الجنّة، وهل يُدخل سبحانَهُ وتعالى جنَّتَهُ أحدًا إِلَّا إذا كانَ عنه راضيًا؟
وهذا قَبَسٌ نورانيٌّ آخرُ نستَقِيهِ من سيرةِ رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، عندما حصلتْ بيعةُ العقبة الثانية، وفيه أبلغُ دليل على أنَّ منتهى الأمل والرجاء، وخالص الثوابِ والرضى من الله إنما هو ببلوغ الجنة. فكيف ذلك؟
لقد أراد رسولُ الله، صلى الله عليه وآله وسلم، أن يُبيّنَ إلى المجتمعين به ليلًا في بيعة العقبة الثانية الأسسَ التي تقومُ عليها المبايعة فقال لهم: «تُبايعونني على السَّمْعِ والطاعة في المنشط والمكره، وعلى النَفَقَةِ في العُسْرِ واليسر، وعلى الأمرِ بالمعروف والنَهْي عَنِ المنكر. وأن تَقُولوا في الله ولا تَخافوا لومةَ لائمٍ. وعلى أنْ تَنصُروني فَتَمنعوني إذا قدِمتُ عليكم مما تمنعون بِهِ أنفُسَكُمْ وأزواجَكُمْ وأبناءَكم».
ووافق غالبية المجتمعين من الأوس والخزرج على تلك الشروط التي وضَعها رسولُ الله، صلى الله عليه وآله وسلم، بعد أن استوضَحَ عَدَدٌ منهم عن بعض مدلولاتها، وهمّوا بالمبايعة لولا أنِ اعترَضَهُم العباسُ بن عبادة بن فضلة يحذّرهم من العواقب والنتائج الخطيرة التي سوف تترتّب على ما يفعلون، فقال يُبَصِّرهم: «يا قوم! أتدرون على ما تُبايعون هذا الرجلَ؟ إنكم تُبايعونه على حرب الأحمر والأسودِ من الناس. فإِنْ كنتم تَرَوْنَ أنَّكم إذا نُهِكَتْ أموالكم بمصيبة، وأصيب شرفُكم بقتل أَسْلَمْتُموهُ فمِنَ الآنِ فدعُوهُ، فوالله إن فعلتم، لهو خزي الدنيا والآخرة. وإن كُنتُم تَرَوْنَ أنكم وافُونَ له بما دعوتموهُ إليه على نُهْكَةِ الأموالِ وَقَتْلِ الأشراف، فخذوه، فهو والله، خيرُ الدنيا والآخرة».
إنَّ أهمَّ ما في حياة الإنسان، في هذه الدنيا، بعد رضوان الله، المالُ والبنونَ، والأهلُ، والشَرفُ، والسلامةُ، وما إلى ذلك من القِيَم والمعاني، المادية والمعنوية، التي يحرص عليها الإِنسانُ ويتمنّاها، فهذه كلها جابَهَ بها العباسُ بن عبادةَ بن فضلة القومَ، وذكَّرهم بأنَّها معرضة للخطر والزوال، وكأنَّما استفاقَ القومُ، وأدركوا هولَ ما يُقْدِمون عليه، فسألوا رسولَ الله، صلى الله عليه وآله وسلم: عمَّا يكسبون أو بما يفوزونَ إِنْ هُمْ بايَعوا ووفَوْا؟ فكان جوابُه لهم، كلمةً واحدةً، لكنها كلمةٌ تعدِلُ كلَّ شيء، إذ قال لهم: «الجنَّة».
ورضيَ القومُ بهذا العطاء الإلٓهي، فبايَعَ الأوسُ والخزرج، وشهدَ التاريخُ ما كانَ لهم من باعٍ طويلٍ في تثبيت الإسلام، ونصرةٍ لله في نشر دينه.
فهذا هو القرآنُ الكريم، وهذه هي السّنةُ النبويةُ الشريفةُ، وفيهما نجد أن الإسلام يقوم، فيما يقومُ عليه، على الخوف من الله سبحانَهُ وتعالى. لكنَّ هذا الخوف يقترنُ دائمًا: إِما بالإِيمان، أو بالتقوى، أو بالامتثال لأوامر الله، أو بعذاب الآخرة، أو بيوم الحشر، أو بالطاعة، أو بالجهاد في سبيل الله، أو بمعرفة مقام العزّةِ الإِلٓهية والخشية من هذا المقام العالي، وليس في الإسلام ما يقرِنُ العبادةَ بالحبّ، والشوق، والهيام الغراميّ إنما على طريقة المتصوّفين!!!
ومَنْ يتتبَّعْ سيرةَ رابعة العدوية يجد أنها ذهبت إلى أبعدَ من ذلك بكثير، عندما عدّت أن شوقَها إلى الجنة إنما يشكل خطيئةً تقترفُها، كما يروي عنها المناوي فيقول: «دخل جماعةٌ على رابعة يعودونها من مرضٍ ألمَّ بها، فسألوها: ما حالُكِ؟ قالت: والله ما أعرفُ لعلَّتي سببًا، عُرِضتْ عليَّ الجنةُ فَمِلتُ بقلبي لها، فأحسستُ أنَّ مولايَ غارَ عليَّ فعاتبني، فلَهُ العُتبى». وهذا يعني أنَّها صارت تعُدُّ الميلَ بقلبها إلى الجنة بمنزلة إثمٍ اقترفَتْهُ، لأنَّ الله تعالى ـــ مولاها وحبيبَها ـــ يَغارُ مِنْ هذا الميل، وقد عاتَبَها عليه، فتابتْ عنه، وقررت ألَّا تعودَ إليه أبدًا!!!
ذلكَ ما وصلتْ إليه رابعة في خيالِها وتصوّرها. وليتَ هذا التصوّر وقفَ عند هذا الحد، لكان ـــ ربما ـــ لم يشطَّ بها إلى شطحٍ أكبر. أما أن تتجرَّأ على الله سبحانه وتعالى، وتُعاتبُهُ على خلقِهِ النارَ لتأديب العاصين، فهذا، والله، منتهى الشطط والزلل. لنستمع إليها كما يروي المناوي عن لسان مالك بن دينار بأنه أتَى رابعةَ مرةً فسمِعَها تقول: كم من شهوةٍ ذهبتْ لذَّتُها وبقيتْ تَبِعَتُها. يا ربِّ! أما كانَ لك عقوبةٌ ولا أدبٌ غير النار؟
هذه بعضُ نماذج مما حَفظَ الرواةُ أو أخبروا عن تفكيرِ رابعة وتصوّرها في تصوّفها. ومَنْ يستقرئْ هذا التفكيرَ يجد أنها كانتِ امرأةً لا تستقرُّ على رأيٍ معيّن، أو تغلّب حالًا على حال من أحوالها، بل تتقلَّبُ في مختلف الأحوال، وربما يكون ذلك نتيجة لما طرأ على حياتها من تغيُّر أو لما أصابَ نفسَها من ضياع في فتراتٍ طويلة، كما أكَّدت ذلك خادمتُها التي لازمتها طوال حياتها، عبدة بنت أبي شوّال، إذ قالت: «كانت لرابعة أحوالٌ شتَّى: فمرَّةً يغلب عليها الحبُّ، ومرة يغلب عليها الأنس، ومرةً يغلبُ عليها البسط، ومرَّة يغلب عليها الخوف» لكنَّ العشقَ الإِلٓهي ـــ كما رأينا ـــ يبقى طابعَها المميّز، ورائدها في تصوّفها.
فمن إنشادها في العشق الإِلٓهي هذه الأبياتُ:
فــليتَكَ تحــلو والحيــاةُ مريرةٌ وليتَكَ تَرضى والأنامُ غِضابُ
وليتَ الذي بيني وبينَكَ عامِرٌ وبينــي وبين العـــالمين خـرابُ
إذا صَحَّ منك الوُدُّ فالكلُّ هيّنٌ وكلُّ الذي فوق التراب تُرابُ
وحين تبلغُ بها نشوةُ الحب حدًّا كبيرًا، تجعلها تقول:
كــــأسي وخَمري والنديمُ ثلاثــةٌ وأنـــا المشوقة في المحبة: رابعـة
كــأسُ المسرَّةِ والنعـــيم يُديرُهـا ساقي المدام على المدى متتابعـة
فــإذا نـــظرت فـــلا أُرى إِلَّا لَــهُ وإذا حضرتُ فلا أُرى إِلَّا معـه
يــــا عـــاذلي! إني أحـــبُ جمالَــهُ تـــــالله مــا أُذْني لِعَذْلِكَ سامِعَة
كم بِتُّ مِنْ حُرَقي وفرطِ تعلُّقي أُجري عيونًا مِن عيوني الدامِعة
لا عـــبرتي ترْقـــا ولا وَصْــلي له يبقى ولا عيني القريحة هاجعة
وأخيرًا تهجر الدنيا، وتخلو إلى نفسها. وعندما تُسأَل عن وحشتها في خلوتها، تقولُ:
راحــتي يــا إخــوتي في خلوتي وحـــبيبي دائــــمًا في حــــضرَتي
لم أجِـــدْ لي عــن هــواهُ عِوَضًا وهــــواهُ فـــي البــرايـــا مِحْنَتــي
حــيثُما كنـــتُ أشــاهِدْ حُسْـنَهُ فهــــو محـــرابـي، إِلـــيهِ قِبـــلتـي
إنْ أمُــتْ وَجْدًا وما ثَمَّ رضــا وَاعَنائي في الـورى! وَاشقُــوَتي!
يـــا طبيبَ القلــبِ يا كُلَّ المنى جُدْ بِوَصْلٍ منكَ يشفي مُهجتي
يــا ســروري وحــياتي دائـــمًا نَشــــأْتي مِنــك وأيضًــا نشــوتي
قد هجَرتُ الخلْقَ جَمْعًا أرتجي منــك وَصْلًا، فَهوَ أقْصَى مُـنيَتي
وهكذا يتبيّن مما تقدم، أي من أقوالِ رابعة وأناشيدها، ومما رويَ عنها أو نُسب أليها، أنَّها سارت على طريق التصوّف حتى كانت رائدةً فيه، وقد برزت ريادتها في مذهب العشق الإلٓهي، المذهب الذي حاول أتباعُهُ، في ما بَعْدُ، أن ينسبوه إلى الإسلام زورًا وبهتانًا، وأنْ يُفسِدوا به وبغيره من الأباطيل علينا ديِنَنا، ولكن أنَّى لهُمْ ذلك، وهذا الدين متينٌ، محفوظٌ ومَصُونٌ، حفظَهُ الله تعالى، وصانَهُ في كتابِهِ المقدَّسِ، الذي قالَ فيه عزَّ من قائلٍ: [إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ] (الحجر: 9).
صَدَق اللهُ العَظيمْ





















المصادر
1 سنخ: أصل.
2 يقال: انبتَّ الرجلَ انبتاتًا، إذا انقطع ماء ظهره. البات: المهزول الذي لا يقدر أن يقوم.
والرسول الحكيم يكون قد أرادَ بهذا المثل أن يبيّن بأن الإسلام دين قوي متين بذاته وفقًا لما أنزله الله تعالى، فلا تؤثر في متانته زيادة في عبادة أو نقصان. بل في جوهر هذا الدين أن تكون العبادة معتدلة، كما حدَّدها القرآن الكريم والسنّة النبوية. فالنقصان عن ذلك معصية لأنه يؤدي إلى ترك العبادة، والزيادة مستحبَّة على ألَّا تُضنيّ صاحبَها أو تنفّر الآخرين. فإن بالغ المسلم في عباداته إلى حد القهر النفسيّ، والتعب الجسديّ، حتى يصل به حدُّ المبالغة إلى أن يكرِّه عبادة الله إلى العباد، فإنَّ مثله يصبح كمثل المسافر الذي أُعطب ظهر راحلته فتوقفت به عن السير، وبالتالي انقطع سفره، بحيث لم يستطع أن يصل إلى مقصده، أو كأنما ألحَّ في السفر ولجَّ فيه حتى أنهكه التعب فقعد عاجزًا عن متابعة طريقه.
3 هذه الأبيات منسوبةٌ إلى رابعة العدوية، وهي في الوقت نفسه معروفة في تاريخ الأدب العربي على أنها من نظم الشاعر أبي فراس الحمداني. ولكن مع بعض الاختلاف في تركيب البيت الثالث منها، إذ ورد في بعض المصادر على النحو التالي:
إذا صَحَّ منك الوَصْلُ فالــكلُّ هَـيّنٌ فكلُّ الذي فوق الترابِ تُراب
كما ورد في بعض المصادر الأخرى على النحو التالي:
إذا صَحَّ منك الرضا يا غايةَ المنى فــكل ما فــوق التراب تُراب
مع أن هذا النًصَّ الأخير يُبين أن البيت مكسورُ الوزن، غير مستقيم، كما ترى.

مقدمة الكتاب
القسمُ الأوّل
القِسم الثاني
القِسم الثالِث
القسم الرابع
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢