نبذة عن حياة الكاتب
سلسلة أعلام التصوف
الطبعة : الطبعة الاولى
المؤلف : سميح عاطف الزين
فئة الكتاب : السير
عدد الصفحات : ٩٢٩
تاريخ النشر : ١٩٨٨

الإمَامُ الغَزَالي
سلْسِلة أعْلامِ التصوُّف

الإمَامُ الغَزَالي

دِراسَةٌ وتحليل
سَميح عَاطِف الزّين




الشركة العالميّة للكتاب
دَار الكتاب اللبناني ـــ مَكتبة المدرَسَة




بسْم الله الرَّحمن الرَّحيم

أبو حامد محمّد الغزالي
لا بد قبل الكلام عن أبي حامد الغزالي من معرفة ملامح العصر الذي عاش فيه، والحالة المجتمعية التي كانت سائدة إبّان تلك الحقبة من التاريخ حيث عاش شيخ الصوفية الكبير أبو حامد الغزالي.
وتبدأ تلك الحقبة مع نهاية القرن الرابع وبداية القرن الخامس الهجريين، حين كانت مجموعات من القبائل التركية قد استقرَّت في إقليم ما وراء النهر، بعد أن دخلت في الإسلام.
ولقد عرفت تلك القبائل باسم السلاجقة؛ عاشت بضعَ سنواتٍ في إقليمها ثم انتقلت إلى خراسان، حيثُ راحت تعمل على توحيد قواها إلى أن تحوَّلت إلى جيشٍ لجب قوي، وتمكنت من دخول مدينة نيسابور في عام 429 هـــ (1037 م) بقيادة زعيمها طغرل الذي أعلن في هذه المدينة قيام الدولة السلجوقية، ونادى بنفسه سلطانًا عليها، لكن قيام الدولة السلجوقية لم يحصل بصورة رسمية إلَّا في عام 432 هـــ أي بعد مرور ثلاث سنوات على إنشائها، وبعد اعتراف الخليفة العباسي بها (الذي كان اعترافه بالدولة يشكل الأساس لشرعيتها) على أثر الرسالة التي وجهها إليه السلطان طغرل وفيها يطلب الاعتراف الرسمي بدولته. ولم يطل الأمر بالسلاجقة بعد إنشاء دولتهم حتى تمكنوا من السيطرة التامة على بلاد إيران والعراق معًا، وصاروا أكبر قوة في العالم الإسلامي وأبعدها أثرًا في مختلف الشؤون، في الوقت الذي كانت فيه الخلافة العباسية عبارة عن قوة روحية لا غير، ليس لها حول أو طول لا في الحروب ولا في السياسة، ولا في أي شأنٍ مهم إن لم تدعمها القوة الحاكمة بصورة فعلية.
على أنَّ كل ما حققه الحكم السلجوقي من قوة ونفوذ خلال تلك الفترة السريعة، لم يقم على أسس ثابتة ومتينة كما ظهر ذلك في تنازع أفراد البيت السلجوقي على الحكم، إذ سرعان ما دارت بينهم الحروب التي كانت تؤدي إلى تنصيب الظافر منهم على العرش، وخضوع الآخرين له ولكن مع تحيّن الفرص للانقضاض عليه وعزله بغية الاستيلاء على السلطة مكانه.
ولقد بدأ ذلك التفكك بصورة فعلية على أثر وفاة السلطان ملكشاه ابن السلطان ألب أرسلان في عام 485 هـــ، أي بعد نحو خمسين سنة على قيام الدولة، فتسلَّم الحكم ابنُه بركيارق الذي تحولت البلاد في عهده إلى مسرحٍ للفتن والحروب الداخلية، يذكي أورَاها طمع أبناء العائلة السلجوقية من جهة، وكذلك طمع كبار رجال الدولة، في الوصول إلى منصب الوزارة من جهة أخرى، حتى كانت النتيجة انحدار الدولة السلجوقية من قمة التماسك والقوة إلى أسفل حالات الضعف والانقسام، ومن ثَمَّ تمزقت وسقطت في النهاية بسرعة مدهشة.
على أنَّ التناحُرَ على الحكم لم يكن وحده سببًا في انهيار الحكم السلجوقي، بل كان ثَمَّةَ أسبابٌ أخرى، وعوامل عدّة ساعدت على ذلك وأسهمت فيه، وهي تبرز في تلك المظهر التي عاشَها المجتمع السلجوقي بانقسامه طبقاتٍ مختلفة، لا تجمعها وحدة الهدف والمصير المشترك، بل تعمل كل منها بحسب اتجاهاتها الخاصة، ومآربها المتباينة. وكانت الصوفية إحدى تلك الطبقات التي احتلت مكانةً خاصة في ذلك المجتمع المتفكك.
ويظهر أن تلك الطبقات توزعت على شكلٍ هرميٍّ يأتي على رأسه السلطان وحاشيته وبطانته من الأقرباء والوزراء والموظفين، ثم يليه حكام الأقاليم بما لهم من نفوذ، ومن بعدهم القادة العسكريون وأمراء الجند، وأخيرًا الشعب بكثرته الساحقة.
وما تجدر الإشارة إليه هو أن الموظفين كانوا يشكلون طبقةً مهمّة تضمُّ إلى جانب الوزراء وبطانتهم، الكتبة والحجّاب، وكلَّ من يعمل معهم أو يدخل في خدمة السلطان، أما أهمية هذه الطبقة فتأتي من الحاجة إلى أفرادها. ذلك أن سلاطين السلاجقة كانوا، إجمالًا، غير مثقفين، لا يعرفون القراءة ولا يحسنون الكتابة، بل كان يغلب عليهم الطابع البدوي، ومن هنا كان شعورهم شديدًا بالحاجة إلى كثيرٍ من الموظفين كي يستعينوا بهم على تسيير شؤون الدولة. وبالفعل فقد برز أولئك الموظفون وكأنهم هم أصحاب النفوذ في الدولة السلجوقية، لكنه نفوذ كان يختلف باختلاف المنصب الذي يتولاه أحدهم ومدى صلات صاحبه بالسلطان وقربه منه. لذلك أمكن لبعضهم أن يوجِّه سير الأحداث السياسية وغير السياسية، بفعل ما كان له من تأثيرقوي على السلاطين أنفسهم، كما كانت الحال مع الوزير نظام الملك، الذي ولي الوزارة من عام 455هـــ إلى عام 485 هـــ بصورة متواصلة. وقد ظهرت قوته بعد مصرع السلطان ألب أرسلان ووقوفه إلى جانب ابنه الأكبر ملكشاه، في الصراع على السلطة، ومن ثَمَّ مساعدته له على اعتلاء عرش السلاجقة، كخليفةٍ لأبيه، وهكذا أمكن للوزير نظام الملك الاحتفاظ بالوزارة ومواصلة السياسة التي ساهم في رسمها على عهد السلطان ألب أرسلان.
ومن طبقات المجتمع السلجوقي أيضًا ما عرف بطبقة أبناء القبائل السلجوقية، التي كان السلاطين يعاملونها معاملة متميِّزة اضطرَّتهم إلى أن يدفعوا لأفرادها مرتباتٍ مثلما كانوا يدفعون للجنود. وكثيرًا ما كان أفراد تلك القبائل يشكلون مصدر قلق في المجتمع إذا ما تمنَّع السلاطين عن دفع مرتباتهم.
هذا، إلى جانب النصارى واليهود الذين كانوا يعيشون في العراق وإيران، والذين كانوا يتمتعون بالمواطنية الكاملة، نظرًا إلى تسامح السلاطين والحكَّام معهم، ومنحهم حقوق إقامة الشعائر الدينية بكل حريَّة وأمان، حتى المجوس الذين عاشوا في ذلك العصر فقد عدَّهم السلاجقة أهلَ ذمة، واعترفوا لهم بحرية العيش، والحفاظ على أمنهم وسلامتهم. وبالطبع كان ذلك من وحي الإسلام، وتعاليم الشريعة السمحاء، التي ما أظلَّت مجتمعًا من المجتمعات، إلَّا كان التسامح رائدَها، ونشرُ المحبة والسلام ديدنَها. وبخلاف ما نشهده اليوم، وفي أواخر القرن العشرين، في المجتمعات الأخرى التي تنادي بحقوق الإنسان، وبالمساواة والسلام، وهي تعمل على عكس ذلك تمامًا، إذ ليس من غاية لها، إلَّا تأمين مصالحها الحيوية، واستلاب خيرات الآخرين، ومصادرة حقهم في تقرير المصير، والعمل على سلب إرادتهم، حتى لا يكون لهم أي قرار ذاتيّ، وحتى يظلوا يشعرون بالحاجة إلى أولئك السادة الذين يدَّعون «العدالة والمساواة» وغيرها من الشعارات التي رفعوها، وقد أثبتت التجارب زيفها وبطلانها. إذن، فالإسلام كان ولا يزال الشعلة التي تضيء الطريق إلى الحق، والمساواة، وإلى خير الإنسان أينما وُجد. إلَّا إن المسلمين في كثيرٍ من أنحاء الكرة الأرضية قد بعدوا من تلك القيم السامية التي يقوم عليها دينهم المتين، فحلّ بهم الضعف على الشكل الذي نراه الآن، وكما حصل تمامًا أيام السلاجقة.
فالتاريخ يروي أن السلاطين السلاجقة، وعلى الرغم من حرصهم على الدفاع عن الإسلام ونصرته، واصطباغ حرُوبهم بصبغة الجهاد. وعلى الرغم من إظهارهم الولاء للخلافة العباسية، وعدِّهم أنفسهم جنودًا مخلصين لها، نعم على الرغم من ذلك، فإنهم تعلَّقوا بمظاهر الحياة المادية، هم وكبار رجال دولتهم، حتى انغمسوا في الترَف، وانصرفوا إلى البذخ والأبهة، فأسفوا وغالَوا، حتى كان السقوط.
وممَّا يذكر عن أولئك السلاطين، ومَن تبعهم من الوزراء والحكام، شدَّة الشغَف بسكنى القصور الفاخرة، خصوصًا بعد قيام الدولة واستقرارهم في المدن، وكأنَّ ذلك ردّ فعل على حياة البداوة التي كانوا يعيشونها من قبل. فأقبلوا على بناء تلك القصور، والبذل في نقشها وتزيينها حتى غدت مضرب المثل رونقًا وجمالًا، أما المجالس فيها فكانت تحفل بالطرب والغناء والشراب. ولا تقلُّ عنها الموائدُ بما يزدحم عليها من أصناف الطعام التي لا تحصى، وأنواع الورود والرياحين والزينة التي لا تُعد، بل إن الولَع في تنويع ألوان الطعام وإعداده، والإسراف في تناوله، صارا من عادات أصحاب تلك القصور. وقد أدَّى ذلك إلى إصابة بعضهم بالأمراض التي قضت عليهم، وهم ما زالوا في ريعان الشباب.
وممَّا زاد تلك الحياة في المجتمع السلجوقي سوءًا، انتشارُ الرقيق بشكل واسع، فكانت سمرقند أكبر أسواقه، إذ أصبحت تشكّل البيئة الصالحة لتربية الرقيق المجلوب من بلاد ما وراء النهر، واتّخذ أهلها ذلك صناعةً لهم، يعيشون منها.
ولم ينظر الخلفاء العباسيون إلى انتشار الرقيق نظرة ازدراء قط، لأن أمهات كثيرين منهم كن من الرقيق، بل على العكس فقد أُولع بعضُ الخلفاء، ومثلهم كثيرٌ من رجال الدولة، باتِّخاذ الإماء من غير العرب، حتى وصلت بهم الحال إلى أن صاروا يفضلونهنَّ، أحيانًا، على العربيَّات الحرائر. وكان من جراء ذلك أن وصل بعض أولئك الرقيق إلى الإمارة، بل لقد كوَّنوا دولًا.
ولا نظن أن تلك المظاهر وأمثالها ممَّا انتشر في أوساط المجتمعات الإسلامية القديمة، إلَّا كان بفعل أعداء الإسلام الذين جهدوا في حبك المؤامرات على شعوبه من أجل إضعافها وإنهاك قواها، كي يتمكنوا في النهاية من توجيه الضربة القاصمة لهذا الدين المتين على الرغم من معرفتهم بأنه دين الله الحق، وأنَّ الله سبحانه أرادَهُ لأهل الأرض حتى يكون نهاية المطاف لظلم الناس وجهلهم. ولكن مانفع المعرفة، وأصحاب النفاق، والمطامع، وذوو النفوس الماكرة قد أصرُّوا ويُصرُّون على الغيِّ والضلال، وأَمعنوا ويُمعنون في وضع المخططات، واستخدام الوسائل والأساليب التي تخدم هدفهم الاستراتيجي البعيد في محاربة الإسلام والقضاء عليه؟!... لقد خسئوا؟... وسيرتدُّ كيدهم إلى نحورهم بإذن الله تعالى، لأنه سبحانه أرادَ لهذا الدين القويم أن يعمَّ العالم أجمع لقوله تعالى في محكم كتابه العزيز [هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ] (التوبة: 33).
والحقيقة أن أنظمة الحكم كافة، في العالم اليوم، قد أفلست: في رأسماليتها واشتراكيتها، وفي مذاهبها الحرَّة والنيوليبرالية، وفي ديموقراطيتها وبرلمانيتها ورئاسيتها، ناهيك بأنظمة الملكية قديمها وحديثها، وما إلى ذلك من أشكال المبادئ والمذاهب والنظم، ولم يبقَ إلَّا الإسلام، وحده، الملاذ الأخير للإنسان، وغايته القصوى فيما يُبْحَثُ عنه ويُفَتَّش، إنه ضالَّته المنشودة، وهدفُه الأخير. ومَن عرف الإسلام على حقيقته وذاق طعمه، عرف ما فيه من قِيَمٍ ومُثُل، وما فيه من راحةٍ وغنًى للعقل البشري، وللنفس البشرية، وللقلب الإنساني. وها هو الإسلام يفتح ذراعيه وأحضانه للناس كافة، لأنه هو دين جميع الناس، ولأنَّ رسولَهُ، صلى الله عليه وآله وسلم، بعث به للناس كافة لقوله تعالى: [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ] (سبأ: 28). فهل يقنع إنسان اليوم ويعود إلى الصراط المستقيم؟ وإنَّها لَدعوةٌ، والله صادقةٌ للبشرية بأسرها إذا ما أرادت الخلاص من كل ما تتخبَّط فيه، وما تُعاني منه من أزمات وحروب، وفوضى ومشاكل، وقلق على المصير!.
لقد تنوَّعت فعلًا مظاهر الحياة في المجتمع السلجوقي الذي كان ظاهره إسلاميًّا، في حين أنه، في حقيقته، أبعد ما يكون من الإسلام من حيث إساءة التطبيق، ومن طبيعة الإسلام وتعاليمه من حيث الالتزام. فكان أن سادت الفوضى، وانتشر الاضطراب، وعمت الفتن والحروب الداخلية بين أبناء البيت الحاكم، والفرق المذهبية.
ولم تكن الحياة الفكرية أحسن حالًا من نواحي الحياة الأخرى إبَّان ذلك العصر. فهي، وإن ظهرت ناشطة في بعض النواحي، إلَّا إن الخلل كان يتآكلُها في نواحٍ أخرى، وأول ما يظهر من تلك الحياة تأثرها بحركة الترجمة التي اشتهرت في الدولة العباسية قبل قيام السلاجقة بأكثر من قرنين. فحافظت تلك الحركة على نشاطها، وراج إلى جانبها سوق الثقافة فكثرت فئات العلماء والأدباء، وقد شجع السلاجقة بناء المدارس، فكانت تعد المدارس النظامية ـــ التي أنشأها الوزير نظام الملك في عهدهم ـــ أول نوع من المؤسسات التعليمية والعلمية في ظل الخلفاء. وقد هيأت تلك المدارس لطلابها أسباب العيش والتعليم، فصارت مثالًا لما قام بعدها من دور للعلم ومراكز للثقافة العالية. كما كثر الطلاب الذين يجوبون البلاد سعيًا وراء العلم والمعرفة، مما يسَّرَ للدارسين الأخذَ بقسطٍ وافرٍ من العلوم النقليَّة (علم التفسير، وعلم الحديث والفقه، وعلم الكلام، وعلم النحو واللغة والبيان، والأدب) والعلوم العقلية (الفلسفة، والهندسة، والطب، والكيمياء، والرياضيات، والفلك، والتاريخ والجغرافية). لكن الظاهرة السلبية في ذلك كله، هي أن هدف تلك العلوم لم يكن البحث عن حقائق الأشياء ـــ كما هي العادة في البحث العلميّ ـــ بل استُخدِمَ العلمُ والفلسفة، وما تفرع منهما، أدوات للمجادلات المذهبية، ولا سيما إبَّان القرن الخامس الهجري، إذ كثرت الفرق المذهبيَّة، وراجت الفتن، ووقع الاقتتالُ، بين أهل تلك الفرق.
على أنَّ كل ما أصاب المسلمين في ذلك التاريخ كان بدافع الجهل والعصبيَّة المذمومَين، وخلافًا لما يقرُّه الإسلام، أو ما يدعو إليه الكتاب والسنّة اللذان إن عمل بهما الإنسان أصابَ واتَّقى، وإلَّا فقد ضلَّ وأضلَّ. ولا نحسبنَّ أهل تلك الفرق المذهبية إلَّا قد أصابها النفاق والشقاق حتى اندفعت وراء التعصب المذهبي، وتركت حقيقة الدين الذي يجمع ولا يفرِّق، فجرَّت على نفسها وعلى المسلمين تلك الويلات من الحروب التي أدت بهم إلى الضعف والانحلال، ورمتهم بآفاتٍ لا يزالون يعانون من آثارها حتى يومنا هذا.
إذن، ففي العصر السلجوقي كانت الحياة المجتمعية ينخرها التهافت على الملاذِّ والشهوات، والحياة الفكريَّة يحكمها الجُنوح والجهل، مما أدى إلى انتشار المعسكرات المتنابذة المتباينة، فتفرَّق الناس إلى سبلٍ شتى وامتلأت حياتهم بالاضطراب، وساد أفكارَهم التشتتُ والضَّياع.
في وسط هذه الأجواء المكفهرّة التي تمتلئ فيها سماء الناس بغيوم المساوئ والشرور، والتي تملأ حياتهم بالقلق والتنابذ، ونفوسهم بالحيرة واليأس، سيطر على الجميع شعور بالميل إلى الاعتكاف والوحدة، ورأوا في ذلك صلاحًا للنفوس وإصلاحًا للمجتمع.
ووجد الناس، عند ذلك، في الصوفية تعبيرًا عن هذا الشعور، وتصوروا أنها هي الملجأ والملاذ، والموئل والرجاء من أجل ذلك الخلاص، وساعد على هذا التصور احتضان السلاجقة أنفسهم للصوفية ـــ وفي طليعتهم السلاطين ـــ إلى جانب حبهم لفرقها، وما كانت تُظهر تلك الفرق من ميلٍ إلى التنسُّك والاعتكاف، أو ما تقوم به من حلقات الذكر، وما تنشر من مواعظ، أو ما تتغنّى به من زهدٍ في الدنيا، وحبٍّ لله، ودعوةٍ إلى الالتفاف حولها من أجل خلاص الناس.
على أن الصوفية، وإن لم تستطع تحقيق ذلك الخلاص الذي كانت تَعِدُ به، إلَّا إنها أفلحت كثيرًا في كسب تعاطف الناس معها، وفرضت احترامها على الحكام، وخصوصًا السلاطين بالذات الذين وصل بعضهم في احترامه لمشايخ الصوفية أن يطلب من أحدهم المشورة والنصح. كما فعل طغرل الأول، مؤسس الدولة السلجوقية، حين دخل مدينة همذان، على ما يذكر الراوندي في (راحة الصدور)، إذ دعا إليه بابا طاهر العريان ـــ أحد مشايخ الصوفية وشعرائها في هذه المدينة ـــ وطلب منه أن يسدي إليه النصح فيما يجب عليه فعله لاستقراء الأوضاع وتثبيت دعائم الحكم.
هذا، وبعد أن التف حولها الناس وصار لها أنصار في كل مكان ظهرت الصوفية كقوة فاعلة، في ذلك الوقت، وخصوصًا في تلك الفرقة التي وجدت في الثغور وأطلقت على نفسها اسم «الأخيَّة الفتيان»، فقد دعا هؤلاء الأخيَّة إلى الإصلاح، ولو بالقوة إذا لزم الأمر، كالضرب على أيدي الظالمين، وقتل الشرطة ومن لحق بهم من أهل المفاسد، وتقديم المساعدة للمحتاجين، والوقوف في وجه الحكام والأمراء، وبالتالي محاربة كل من يُظن أنه سبب في عثار الناس، باستثناء السلطان، لأن السلطان هو الحاكم الأعلى، وعليهم وجوب الطاعة له والولاء، فضلًا عن أنه يحترمهم ويقدم لهم كل عونٍ ومساعدة.
وإذا كانت تلك الفرقة التي ظهرت في الثغور، قد اتخذت محاربة الفساد والظلم طريقًا لها، إلا إنها لم تستطع أن تحقق الكثير من الإصلاح، وبالتالي لم تقدر أن تفعل شيئًا لمنع تقويض دعائم الدولة، لأنَّ الصوفية الآخرين كانوا ميَّالين إلى العزلة، والانكفاء على الذات فلم يؤازروها، بل كانوا يعملون وفق طرائق وأساليبَ ابتدعوها من أجل التأثير على الناس فقط، ومن أجل تثبيت دعائم التصوف ليس إلَّا.
وهكذا، بفعل تلك الظروف التي حكمت العهد السلجوقيّ، ظفرت فِرَقُ الصوفية بنشر آرائها، وانقياد بسطاء الناس لها، لأن هؤلاء البسطاء لم يكن لهم من همٍّ سوى التخلص من الاضطراب والقلق اللذين كانا يسودان المجتمع بوجه عام.
وكان مشايخ الصوفية الذين عاشوا إبَّان القرن الرابع الهجري، أمثال أبي بكر دلف المعروف بالشبلي (الذي توفي عام 334هـــ)، وأبي العباس أحمد بن محمد الدينوري (الذي توفي عام 340هـــ)، وأبي عثمان سعيد بن سلام القيرواني (الذي توفي عام 373هـــ)، وأبي نصر عبد الله بن علي السراج الطوسي (الذي توفي عام 378هـــ)، وأبي طالب محمد بن علي المكي الحارثي (الذي توفي عام 386هـــ) وغيرهم، كان مشايخ الصوفية هؤلاء، المتقدمون على حكم السلاجقة، هم الذين أخذت عنهم الفرق الصوفية في العصر السلجوقي آراءها ومعتقداتها، فسارت على الدروب التي رسموها، واتَّبعت الطُّرق التي ابتدعوها، في كل ما أخذوه عن أسلافهم، أو ما ابتدعوه هم وأضافوه إلى التصوف.
وهذا بعض ما جاء على لسان أولئك المشايخ تعبيرًا عن معتقداتهم الصوفية:
فقد قيل يومًا للشبلي: نراك جسيمًا بدينًا والمحبة تُضني؟ فأنشد:
أحَبَّ قلبي وما دَرَى بَدَني ولو دَرَى ما أَقامَ في السِّمَنِ
ونقل عنه أنه قال: «قلوب أهل الحق طائرة إليه بأجنحة المعرفة، ومستبشرة إليه بموالاة المحبة».
ومن أقواله: «رفع الله قدْرَ الوسائط بعلو همهم، فلو أجرى على الأولياء ذرة مما انكشف للأنبياء لبطلوا وتقطعوا».
ـــ ورُوي عن الدينوري أنه كان يقول: «مكاشفات الأعيان بالأبصار، ومكاشفات القلوب بالاتصال». وقال: «إن أدنى الذّكر أن ينسى ما دونه، ونهاية الذكر أن يغيب الذاكر في الذكر عن الذكر، ويستغرق بمذكوره عن الرجوع إلى مقام الذكر» وهذه حال فناء الفناء.
وروي أنه أراد ترك نيسابور والخروج إلى سمرقند، فلما سئل عن سبب ذلك مع ميل أهل نيسابور إليه ومحبتهم له، قال:
إذا عَقَدَ القضاءُ عليك عَقْدًا فليس يَـحُلُّه غيرُ القضاءِ
فما لَــكَ قد أقمــتَ بدارِ ذُلٍّ ودارُ العزِّ واسعة الفضاءِ
ـــ ويُذكر أنَّ سعيد بن سلام القيرواني أقام بالحرم مدةً، وصحب أبا علي بن الكاتب، وحبيبًا المغري، وأبا عمر الرجاجي، ولقي أبا يعقوب النهرجوري، وأبا الحسن بن الصائغ الدينوري، وغيرهم من مشايخ الصوفية، وهذا شيء من أقواله: «الحكمة هي النطق بالحق، والتقوى تتولد من الخوف. لا تَصْحبْ إلّا أمينًا أو معينًا، فإنَّ الأمين يحملك على الصدق، والمعين يعينك على الطاعة».
ـــ أما أبو نصر عبد الله بن علي السراج الطوسي، فهو صاحب الكتاب المعروف باسم «اللمع» وهو الكتاب الذي أظهر فيه براعته وفنه في التصدِّي للآراء المناهضة لأهل التصوُّف، وفي دفاعه عن مذاهب هؤلاء، بحيث هيَّأ للصوفية مكانةً لا تقل في الاعتبار عن مكانة علماء الفقه وأصول الشريعة.
وقد أخذ عن الطوسي جعفر الخلدي، والدقي، والسائج وغيرهم. ويُعدّ الطوسي صاحب سياحات ودعايات.
ـــ وأما أبو طالب محمد بن علي المكي الحارثي فهو من أصحاب الرياضات والمجاهدات. وقد قيل إنه هجر الطعام مدةً من الزمن، وقصَرَ أكله على الحشائش حتى اخضرَّ جلده من كثرة تناولها.
قدم بغداد وراح يعظ الناسَ، فاجتمع عليه خلقٌ كثير، ولكن سرعان ما عدّوه يهذي في كلامه من مثل قوله: «ليس على المخلوقين أضرّ من الخالق» فتركوه وهجروه. لذا لم يعد بعدها إلى الكلام بل انصرف إلى تأليف الكتب، ومنها كتاب «قوت القلوب» في أربعة مجلدات، ويُعدّ من أهم كتب التصوف، وهو الذي نسج الغزالي على منواله في تصنيف (الإحياء)».
بعد هؤلاء المتقدمين، وقبيل العصر السلجوقي، عاش نفرٌ من مشايخ الصوفية كان لهم بدورهم باعٌ طويل في نشر عقائد التصوف، وابتداع مذاهب مختلفة لهم، وتفسيرات شتى، ومن هؤلاء المشايخ:
ــــ أبو عبد الرحمان السلمي، وأبو نعيم أحمد بن عبد الله الأصبهاني، وأبو القاسم عبد الكريم القشيري.
أما أبو عبد الرحمان السلمي (325 ـــ 412هـــ). فقد انصرف إلى دراسة الحديث والتصوف. وكان شيخه في الحديث أبو الحسن الدارقطني، وفي التصوف السراج الطوسي (صاحب كتاب اللمع).
وكان أبو عبد الرحمان شغوفًا بجمع الكتب والقراءة والتأليف، حتى قيل إنه أسس مكتبةً كبيرة جمع فيها ما لم يجمع من طرائف كتب الصوفية والمحدثين. كما أنه ألَّف ما يقارب ثلاثين كتابًا، منها: تفسير القرآن على المنهج الصوفي، وكتاب طبقات الصوفية، وله رسالة في غلطات الصوفية.
ونورد نموذجًا من تفسيره للقرآن في الآية الكريمة: [وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُم مِّنْهُ ذِكْرًا (83)‏ إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا] (الكهف: 83 ـــ 84)، يقول في ذلك التفسير: «قال ابن عطاء: جعلنا له الدنيا طوع يده، فإذا أراد طُويت له الأرض، وإذا أحب قُلب له الأعيان. وإذا شاء مشى على الماء. وإذا هوى طار في الهواء. وكذا من أخلص لنا سريرته مكَّناه من مملكتنا يتقلَّب فيها كيف يشاء»!.
إن مثل هذا التفسير إن دلَّ على شيء، فإنما يدلُّ على جهل صاحبه، وادِّعائه لنفسه علم التفسير، وهو لا يعدو أن يكون من اختلاط العقل واضطراب الحسّ كما يبدو واضحًا لكل صاحب نظر!
على أنه على الرغم من مجافاة هذا التأويل للعقل وللدِّين، فقد أخذه كثير من الصوفية على محمل الجدِّ، وراحوا يتقوّلون بأن فلانًا يسير بقدميه على ظهر الماء، أو يروون بأنهم رأوا فلانًا يرتفع ويطير في الهواء، أو أنَّ آخر يطوي المسافات البعيدة في لمح البصر. ونجد هذه الأمور، التي يسمونها «كرامات» بكثرةٍ في كتب المناقب حيث يقولون: رأيته يطير، أو رأيته على الماء يسير، وهي كلُّها في الحقيقة مجرَّدُ أوهام، تنبئ بما وَصَلَ إليه الصوفيون من مهارة في تغفّل البسطاء من الناس لإبعادهم عن جادة الحق والصواب، ومن هنا فقد صدق بعض معاصريه عندما قال عن تفسيره: «إن كان قد اعتقد أن ذلك تفسيرٌ فقد كفر».
ويذكر عن أبي نعيم بن عبد الله الأصبهاني (336 ـــ 430هـــ) أنه كان من أعلام المتصوفين. وقد ألَّف كتاب (حلية الأولياء) في طبقات الصوفية، في عشرة أجزاء دوَّنها على منهاج المحدِّثين. كما ألَّف كتاب (تاريخ أصبهان)، عرفه ابن خلَّكان ونقل عنه.
ويبقى أن نشير إلى أبي القاسم عبد الكريم القشيري (346 ـــ 465هـــ) العربيِّ الأصل، الخراسانيِّ النشأة، الذي توفي أبوه وهو صغير. وكان عنده ميل لتعلُّم الحساب، فقدم نيسابور لهذا الغرض، لكنه سمع بأبي علي الدَّقاق ومجالسه فحضر بعضها، فوقع كلام الرجل في قلبه فرجع عن تعلُّم الحساب وسلك طريق الإرادة. وقد أعجب به الدقاق كثيرًا، لِمَا وجد عنده من ذكاء ونجابة، فزوَّجه ابنته. وبعد وفاة الدقاق سلك طريق المجاهدة، وأخذ في التصنيف، فوضع «التفسير الكبير» وسمّاه «التيسير في علم التفسير»، كما صنّف «الرسالة» في علم التصوف ورجال الطريقة.
وقال الباخرزي في كتاب «دمية القصر» عن القشيري: «لو قرع الصخر بصوت تحذيره لَذابَ، ولو ربط إبليس في مجلسه لَتابَ»!
قدم بغداد عام 448هـــ. وعقد فيها مجالس الوعظ والذكر. وتوفي في مدينة نيسابور ودفن في المدرسة تحت شيخه أبي علي الدقاق الذي كان قد توفي عام 412 هــ.
تلك بعض ملامح العصر الذي عاش فيه أبو حامد الغزالي، وأولئك هم بعضُ مشايخ الصوفية الذين سبقوه، وأنشأوا ما أنشأوا، من أفكار ومذاهب صوفية، إلى جانب أهل الفلسفة، والكلام، وأصحاب الفرق والنِّحَل التي جعلت الناس يتنابذون ويتقاتلون وفق الأهواء والعصبيات، والمذاهب والمعتقدات، وكانت هذه ـــ كلها ـــ هي السُّبل التي هيأت للغزالي مجالات الدرس والنظر، وبالتالي اعتماد ما رآه وما ادَّعاه من أنه «الحقيقة الخالصة» التي قادته إلى اليقين، فمن الغزالي، وما أهم آرائه الصوفية، التي جعلته حجةً، وجعلته إمامًا يقتدي به كثيرون حتى يومنا هذا؟!
1 ـــ نشأة الغزالي
ولد أبو حامد محمد الغزالي في مدينة طوس من أعمال خراسان (التي كانت مدرسة للتصوف في ذلك العصر، ومركزًا للدعوات الشعوبية الهدامة). وكان أبوه رجلًا فقيرًا يشتغل بغزل الصوف ويبيعه في دكان. وكان على مذهب التصوف، يسير سيرة الزهاد، وسط الفقر والحاجة، مما جعل لهذه الحياة أثرها على بَنيه، فلما حضرته الوفاة أوصى بولديه أحمد ومحمد إلى صديق له يكفلهما، وكان متصوفًا مثله، فقام الرجل على رعايتهما وتعليمهما، حتى إذا عجز عن الإنفاق عليهما، دفع بهما هذا الوصي إلى نظامية نيسابور ليتابعا التعليم، و«ليحصل لهما قوت»، وهو القوت الذي كان يجري في المدارس النظامية على نحو ما عرف في الأزهر الشريف.
وقد أمكن للغزالي أن يدرس على أشهر معلمي عصره، ومنهم الجويني إمام الحرمَين، كما أمكن له تلقّي علوم الفقه، والجدل، والمنطق، وشيئًا من الفلسفة حتى بلغ الثلاثين. ثم قصد الوزير نظام الملك، وراح يحضر مجالسه، ويناظر الأئمة والعلماء، حتى كان له التفوق عليهم، فظهرت حجته على الجميع، وذاعَ صيته، ووجد فيه الوزيرنظام الملك رجلًا مؤهَّلًا، فاختاره للتدريس في مدرسته النظامية ببغداد عام 484 هـــ.
مكث الغزالي في المدرسة النظامية أربع سنوات يدرِّس، ويصنِّف، حتى اكتسب شهرة واسعة كفقيه وأصولي، إلَّا إنه لما كان علم الفلسفة ـــ يومذاك ـــ مقياس الشهرة وميزان التقدير، فقد انكبَّ أبو حامد على تعلُّم الفلسفة عن طريق المطالعة، وقراءاته الشخصية، من دونِ أن يتلقَّى عن أيٍّ من الفلاسفة مباشرةً، كما يقول لنا في ذلك: «فقد شمَّرت عن ساق الجد في تحصيل ذلك العلم من الكتب بمجرد المطالعة من غير استعانةٍ بأستاذ، وأقبلت على ذلك في أوقات فراغي من التصنيف والتدريس في العلوم الشرعية، وأنا مكلَّف بالتدريس والإفادة إلى ثلاثمئة نفس من الطلبة ببغداد».
ومُذ كان في نيسابور وأبو حامد يُبدي عدم اطمئنانه إلى أدلة المتفقهين كما يقول الأستاذ جميل صليبا في مقدمة (المنقذ من الضلال)، لذلك كان من أوائل عهده بالتدريس في المدرسة النظامية ببغداد، يبحث عن أدلة برهانيَّة يطمئن إليها قلبه، ويومها ألف كتاب (مقاصد الفلاسفة) سعيًا لطمأنة شكوكه الفكرية وتهدئةً لاضطرابه الباطني. وفي هذا الكتاب يسلك أبو حامد طريق الحياد فلا هو يُثني على الفلاسفة فيمتدحهم، ولا هو يسفِّه أحلامهم وينقض مقاصدهم. ويبدو أنَّه لم يحصل على الطمأنينة التي يريد فألَّف كتابه الآخر (تهافُت الفلاسفة) لإبداء شكوكه في قيمة العلم وبراهينه المنطقية. وفي هذا الكتاب يفنِّد آراء الفلاسفة، ويحاول الردَّ عليهم، مستعملًا طريق المنطق الذي سلكوه هم أنفسهم، مما جعل له شهرة واسعة فسمَّاه الناس «هادم الفلاسفة». وهذه الشهرة هي التي حدتْ بالخليفة «المستظهر بالله» أن يطلب منه أن يتناول آراء الباطنيَّة ويردَّ عليهم، فألَّف كتابًا سمَّاه «الردَّ على الباطنية»، عُرف بعده، على أنه مُبطل آراء الباطنيَّة.
لكنَّ شكوك الغزالي، كانت قد بلغت ذروتها، فعزم ـــ بعد مدة السنوات الأربع تلك ـــ على اعتزال التدريس وترك الأهل والولد والمال. ثم خرج من بغداد عام 488 هــ(1095 م)، لكنه لم يخرج إلَّا ليسلك طريق الصوفية، ولم يسلك طريق الصوفية إلَّا لأنه بحث في الفرق المختلفة ولم يطمئن إلى أدلَّتها، وهو لم يبحث في أدلة الفرق إلا بعد أن عاد إلى نور اليقين، ومعنى ذلك أن خروج الغزالي من بغداد كان بعد خروجه من الشك. وما الأزمة النفسية التي يشير إليها في هذه الفترة، إلَّا تلك التي حصلت له حين كان عليه أن يترك الشهرة والمال والولد، لينصرف إلى البحث عن حقيقة التصوف وهو لم يتيقَّن بعدُ من الحصول على الحقيقة من هذا الطريق. تلك هي الأزمة التي يشير إليها الغزالي مرة أخرى عند كلامه على التصوف، ويقول بأنه كان يقدم رِجْلًا ويُؤخر أخرى إذ كان لا يزال منغمسًا بعلائق الدنيا، فلا تصدق له رغبة في طلب الآخرة بكرةً، إلَّا ويحمل عليها جند الشهوة حملةً، فيفتِّرها عشيةً. ودامت الحال كذلك ستة أشهر حتى عقد لسانه وساء هضمه، وقطع الأطباء طمعهم في العلاج، وعندها سقط بالكلية الاختيار، والتجأ إلى الله تعالى الْتجاء المضطرِّ الذي لا حيلة له، فأجابه الذي [يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ] وهكذا خرج الغزالي من شكه في قيمة العلم وبراهينه أولًا، ثم خرج من شكه حول جدوى التصوُّف ثانيًا، ولم تكن طريقة خروجه الثانية إلا بوساطة الكشف الباطني، والحدس الصوفي، لا عن طريق العقل والبرهان. وقد قال في ذلك: «وعادت النفس إلى الصحة والاعتدال، ورجعت الضرورات العقلية مقبولةً موثوقًا بها على أمنٍ ويقين، ولم يكن ذلك بنظم دليل وترتيب كلام، بل بنور قذفه الله في الصدر، وذلك النور هو مفتاح أكثر المعارف، فمن ذلك النور ينبغي أن يطلب الكشف، وذلك النور يَنْبَجِسُ من الجود الإلهيّ، في بعض الأحايين، ويجب الترصد له».
ترك الغزالي بغداد ليجوب البلاد، على طريقة أهل التصوف، بعد أن استجاب إلى دواعيه النفسية، وبعدما اقتنع بما كان لرجال التصوف من شهرة بالولاية والكرامة، ولعلَّه أراد أن تكون له مثل تلك الشهرة، فآثر حياة التقشف، والترحال، متنكرًا في زي الفقراء، كما يروي لنا ابن عباد عن لسان القاضي أبي بكر بن العربي وهو يقول: «رأيت الإمام الغزالي في البرِّية، وبيده عكَّاز، وعليه مرقعة، وعلى عاتقه ركوة، وقد كنت رأيتُه ببغداد يحضر مجلس درسه نحو أربعمئة عمامة من أكابر الناس وأفاضلهم، يأخذون عنه العلم، قال: فدنوت منه وسلَّمت عليه وقلت له: يا إمام! أليس تدريس العلم ببغداد خيرًا من هذا؟ فنظر إليَّ شزرًا وقال: «لما طلع بدر السعادة في فلك الإرادة، وجنحت شمس الوصول في مغارب الأصول:
تركــتُ هــوى ليلى إليَّ بِمَعْزلِ وعُدتُ إلى تَصْحيح أولِ منزلِ
ونادتْ بيَ الأشواقُ مَهْلًا فهذِه منازلُ مَنْ تَهوى رويدَك فانْزِلِ
غَزَلتُ لهمْ غَزْلًا رقيقًا فلمْ أَجِدْ لغزليَ نَسَّاجًا فَكَسَّرْتُ مِغْزلي»
ودام ذلك التطواف لأبي حامد عشر سنوات تقلّب فيه بين المجاورة في بيت المقدس، والحج إلى مكة المكرمة، ثم انتهى إلى الاعتكاف في إحدى زوايا الجامع الأموي في دمشق، أي الزاوية التي ما زالت تعرف اليوم بالغزالية نسبةً إليه. وفي أثناء اعتزاله في الجامع الأموي، ألَّف كتابه الشهير (إحياء علوم الدِّين) الذي يُعدّ بمنزلة موسوعة عند المتصوفين.
وبعد تلك المدة عاد إلى مسقط رأسه في طوس، وعزم على الدعوة إلى الإصلاح عن طريق العمل، فاتخذ إلى جانب داره مدرسة للفقهاء وتكيَّة للصوفية، وراح يوزع أوقاته بين مجالسة المتصوفين، وتدريس طلبة العلم. وفي ذلك الحين نشر علومَ التصوف ممزوجة بعلوم الدِّين، ممَّا جعل صيته يذيع في البلاد، وأمرَهُ يشتهر بين الناس، وصار يلقب «بزعيم الصوفية، وفقيه الأمة، وإمام الفلاسفة وحجة الإسلام».
وفي أثناء إقامته في طوس، وضع رسالة (المنقذ من الضلال والموصل إلى ذي العزة والجلَال) وفيها يروي الغزالي مختصرًا لتاريخ حياته، ولأحواله، وأعماله وتنقلاته، كما أن هذه الرسالة تحتوي على تعرُّضه لعلوم الفلسفة والكلام والباطنية، بالذم إجمالًا، وبتكفير أصحابها أحيانًا، إلَّا إنها ـــ في المقابل ـــ تُشيد بذكر التصوُّف وتعظيم رجاله، بحيث يستفاد منها: «أنَّ التصوف هو اليقين الذي مَنَّ الله تعالى به على الغزالي، والطريق الذي يهدي إلى الله ـــ سبحانه وتعالى ـــ إذْ بالإيمان الذي عمر قلبَه من قبل، استطاع أبو حامد التخلُّص من الشك (المنطقي) إلى اليقين (الصوفي)».
2 ـــ تصوّف الغزالي
لقد قدمنا، في هذا الحديث، بعض ملامح العصر السلجوقي الذي عاش الغزالي شطرًا منه. وزيادة في التوضيح، نشير هنا، إلى أن الاختلاط في الآراء، وتداخلُ الثقافات أمرًا واضحًا وجليًّا في ذلك العصر. فالفلسفة اليونانية يُستدل بها في العقائد ويُحْتَجُّ بها في الدِّين، والثقافة الأعجمية تسود بأفكارها ومراميها في الأدب والتعليم، والخلافات الفقهية، بعد التفسيرات الصوفية والتدوينات الفارسية، شُغلُ الألسنة وملهاةُ الغافلين، وأساطير اليهود والنصارى تُزاحم أخبار الأولياء وكرامات الصوفيين. ومن هذا الاختلاط تألَّفت تلك العقلية المتحلِّلة، التي قامت على العجز والانحراف حتى كان لها مظهرُ الدِّين وحقيقةُ الوثنية، وهي العقلية التي يمكن تسميتها «بالعقلية الشرقية» التي تقوم على السَّذاجة، والالتواء والتخاذل، والتي يمكن تمييزها من «العقلية الإسلامية» التي تقوم على الوضوح والاستقامة والكفاح.
وقد تعرَّف الغزالي إلى تلك الثقافات المتباينة جميعًا، فكان لذلك أثره الملحوظ في توجيه أفكاره ومجهوداته. لذلك نراه يبحث عن الحق خارج ذلك المحيط الذي راج فيه ما راج من الفلسفات والنزَعات والضلالات، فيقرر في كتابه (المنقذ من الضلال): «أن الحق لا يعدو واحدًا من أربع فرق هي: الباطنية والصوفية والفلاسفة والمتكلِّمة»، وأن ذلك الحق موجودٌ في الصوفية من دون سائر الفرق الأخرى. لكنه على الرغم من معارضته للفلاسفة وقيامه بالردِّ عليهم والقول بتكفيرهم، ينقل مصطلحاتهم وأفكارهم، ويستعين بأساليبهم وعلومهم. فهو مثلًا يتكلَّم كما تكلَّموا في النفس الكليَّة، والنفس الجزئيَّة، والجوهر والعرَض، وإن ادَّعى اختلاف المراد من كل لفظة عند كل قوم. وهو يُظهر الشك في المحسوسات كما يفعل السفسطائيون من الفلاسفة مع مؤاخذته لهم بذلك. ومع مهاجمته لرجال الكلام يقرر أن علم الكلام هو أفضل العلوم وأجلُّها وأكملُها.
والغزالي لا يمانع في النقل عن اليهود والنصارى وغيرهم، بدعوى أن الحكمة ضالَّة المؤمن. ويحكي من أخبار الرهبان والصوامع، ومن أحاديث الروحانية ما لا يقع تحت حصر.
أما بخصوص التصوف فهو يعشق نظرية الإشراقيين في الفيض والتلقِّي، ويؤيِّد بها فكرة الكشف والذوق والعلم اللَّدُني، وهو يرى الجهاد في تعذيب البدن بالجوع والسهر وما إليه. لذلك انحصر جهده ـــ بعد اقتناعه بالصوفية ـــ في الكتابة حول الفضائل السلبية والمجاهدات النفسية التي تلائم نزعته الصوفية تلك، فعدَّ الخمول والتقشف والمسكنة، من أمهات الفضائل، وعدَّ الفقر والزهد والصمت والجوع من أكبر القربات.
إذن، فقد وجد أبو حامد أن التصوف هو وحدَه الطريق إلى «الحقيقة الخالصة» التي بحث عنها طويلًا عند أصناف الطالبين ـــ بعدما حصرهم في فرق أربع ـــ حتى تبيّن له أخيرًا أنها عند الصوفية وحدها من بين الفرق الثلاث الأخرى. وعلى هذا رأى أن التصوف عملٌ وليس نظرًا، وهذا العمل مصدرُه القلب وأداته الذوق لا العقل، وقد عرَّف القلب بقوله: «وأعني بالقلب حقيقة روحه (الإنسان) التي هي محل معرفة الله (المنقذ ص 110). وكذلك عرَّف الذوق بقوله: «وأما الذوق فهو كالمشاهدة والأخذ باليد، ولا يوجد إلَّا في طريق الصوفية» (المنقذ ص 109). وبحسب تعبيره: إنَّ من اتبع طريق القلب بالزهدِ والعُزوفِ عن الدنيا وذكرِ الله الدائم، وصَلَ إلى ما وصَلَ إليه المتصوفون من مشاهداتٍ وكراماتٍ وفناءٍ في الله.
ويصف الغزالي المراحل التي يقطعها الإنسان في الطريق الصوفي فيقول: «فماذا يقول القائلون في طريقةٍ طهارتُها تطهيرُ القلب بالكليَّة عمَّا سوى الله، ثم استغراق القلب بالكليَّة في ذكر الله، وآخرها الفناء بالكليَّة في الله؟». وأما «المكاشفات والمشاهدات فإنها تبدأ من أول الطريقة. حتى إن المتصوفين يدركون العالم الروحانيّ وكأنه مشاهَدٌ بالعيان، وتترقَّى حالهم إلى درجات يضيق عنها نطاق النطق فلا يحاول مُعَبِّرٌ أن يُعَبِّرَ عنها إلا اشتمل لفظه على خطأ صريح».
ومن هذه الأحوال والأطوار التي هي وراء طور العقل ـــ كما يرى الغزالي ـــ حصل الوهم عند بعض الصوفية بأنَّ الله حالٌّ فيهم (الحلول) أو في جميع الموجودات، أو متحد بهم (وحدة الوجود)، أو أنهم اتصلوا به اتصالًا فعليًّا. وكل ذلك خطأ لأن «العبد يبقى عبدًا والرَّب يبقى ربًّا»، بحسب تعبيره، لذلك فهو ينصح أولئك الذين لابَسَتْهم تلك الحال أن يقتصروا على القول:
وكانَ ما كانَ ممَّا لستُ أذكرهُ فَظُنَّ خيرًا ولا تسألْ عن الخبرِ...
وبخلاف أولئك الصوفية الذين يحصل عندهم ذلك الوهم، فإنَّ الغزالي يرى بأن الصوفية إنما يسلكون طريق الله تعالى خاصة «فسيرتهم أحسن السير، وطريقتهم أصوب الطرق، وأخلاقهم أذكى الأخلاق، فإنَّ جميع حركاتهم وسكناتهم في ظاهرهم وباطنهم مقتبسة من نور مشكاة النبوَّة، وليس وراء نور النبوة على وجه الأرض نور يستضاء به».
وإذ كان هؤلاء ـــ ويقصد بهم الأولياء ـــ من أقرب المقرَّبين إلى الأنبياء، فهم قد أدركوا بالذوق شيئًا من حقائق النبوَّة. لأن «كرامات الأولياء هي على التحقيق بدايات الأنبياء». ويزعم أنَّ ذلك كان حال رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، حين أقبل إلى جبل حراء حيث كان يخلو بربه، ويتعبَّد، حتى قالت العرب إن محمدًا عشق ربَّه. ويقطع الغزالي بأن السبيل الأوحد إلى إدراك حقيقة النبوَّة إنما هو سبيل المتصوفين: «وبالجملة، فمن لم يرزق منه شيئًا بالذَّوق فليس يدرك من حقيقة النبوَّة إلا الاسم». وعلى ذلك يرى أن هنالك ثلاث درجات في معرفة الحقيقة الدينية عرَّفها بقوله: «والتحقيق بالبرهان علْمٌ، وملابسة عين تلك الحالة ذَوقٌ، والقبول من التسامح والتجربة بحسن الظن إيمان. فهذه ثلاث درجات يأتي بعدها قوم جهال هم المنكرون لهذه الأشياء الساخرون، والقائلون عن الصوفية: العجب كيف أنهم يَهذون».
فالغزالي يرى أن نهاية الطريق الصوفيّ لا تتخطَّى عتبة النبوّة، وجلّ ما يصل إليه المتصوف هو أن يفهم شيئًا من حقيقة النبوَّة.
تلك بعضُ الخصائص التي قام عليها تصوُّف أبي حامد الغزالي، ولكن ما تجدر الإشارة إليه هو أن نشأته في أحضان الصوفية، وتربيته على التصوف في حداثته، لم تَمْحُ آثارَهما معرفتُهُ، في ما بعد، بسائر العلوم التي وقف عليها، بل على العكس إن تلك العلوم قد أَوجدت عنده نوعًا من التناقض أدَّى إلى ما أصابه من شك، أو مرض نفسي، ولم يستقرَّ له قرارٌ حتى عادَ إلى أحضان الصوفية التي تربَّى في دفئها الأول، فصحَّ القول فيه: «ما الحبُّ إلَّا للحبيب الأوّلِ».
3 ـــ أهم آراء الغزالي الصوفية
بما أن مذاهب الصوفية كثيرة، وآراءَهم كثيرة، فإننا سوف نقتصر على أهم تلك الآراء وخصوصًا ما يعود منها إلى: المعرفة، ومذاهب الاتحاد والحلول والوحدة، والسماع، والخلوة، والفناء، والتوكل، حتى نتبيَّن موقف أبي حامد من كل منها، ونظرتَه إليها، مع الاستعانة طبعًا بآثاره في هذا السبيل.
أ ـــ المعرفة عند الغزالي:
ليس للمعرفة عند الصوفية تعريف موحَّد شامل، بل اختلفت عندهم باختلاف النظرة إلى الأمور. لذلك فهم يفرقون بين المعرفة والعلم، ويقولون إن المعرفة تقوم على التجربة المباشرة التي تنتج انطباعًا خاصًّا أو لقاءً مباشرًا بموضوع المعرفة، في حين أن العلم يكون أكثر عموميَّةً لأنه يدل على كسب المعلومات نقلًا أو عقلًا بالنسبة إلى الإنسان. إذن، فالمعرفة تتطلب تجربة مباشرة، في حين أن العلم لا يشترط التجربة، ومن النافل القول أن المقصود، بكل من المعرفة والعلم، عندهم، معرفةُ الله، أو العلم بالله سبحانه وتعالى.
وإننا لَنجدُ التناقضَ حول المعرفة فيما يقوله كلٌّ من الجنيد وسهل بن عبد الله التستري. فالأول يقول، بما يروى عنه: «المعرفة وجود جهلك عند قيام علمه»، كما يقول: «هي العارف والمعروف». في حين أن الثاني يُعدّ «المعرفة هي المعرفة بالجهل»، لكنه هو نفسه الذي يقول: «العلم يَثبت بالمعرفة، والعقل يثبت بالعلم، أما المعرفة فإنها تثبت بذاتها».
على أنه مهما يكن التبايُن في الآراء حول المعرفة الصوفية، فإنَّ الأساس الذي تُبنى عليه هذه المعرفة إنما يقوم على نظريتهم التي أُطلق عليها وصف «الميثاق»، والمقصود به الميثاق الذي أخذه الله تعالى على الناس في الآية 172 من سورة الأعراف، بقوله تعالى: [وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا].
فهذه الآية الكريمة فُسِّرت تفسيرات شتَّى: فمن قائل بأنها تشير إلى حادث تاريخيٍّ خاصٍّ بفئة أو بأمَّة من الناس، إلى قائل بأنها تعبير عن لقاءٍ فعليٍّ بين الله وجميع الخلق قبل أن تتلبَّس أرواحُهُم بأبدانهم... ومنهم من رأى أن الآية لا تعني أكثر من أن الله جلَّ جلالُه قد وضع في الإنسان عقلًا يستطيع أن يتعرَّف به عليه، وأن يقرَّ بربوبيَّته ضرورةً إذ كانت دلالةُ العقل على الله دلالةً ضرورية، فكأنَّ الله استشهد الناس، وكأنَّ الناس قد شهدوا فعلًا بالربُّوبية. أما عن وقوع لقاءٍ بهذه الصورة فإنه لم يتم، لما يترتب على ذلك من نتائج دينية وعقلية غير مقبولة.
ولما كان لكل معرفة عارف فقد عرَّف أحد الصوفية العارف بقوله: «هو الذي طلب معرفة الله وقُربه، فبذل ماله فأخرجه، ثم نفسه فباعه، ثم روحه فأباحه، فلو لم تكن جنَّة ولا نار، لـَـمَا مَالَ ولا زالَ ولا فَتَر»، أو هو كما يقول آخر: «لم ينل الصدِّيقون معرفتهم بالصلاة والصيام فحسب بل بأنهم طرحوا أنفسهم بين يديه» (أي بين يدَي الله عزَّ وجلَّ).
والصوفيّ العارف لا بد من أن يكون له هدف، وهدفه الأعلى «ليس أن يحصِّل معلوماتٍ عن نفسه أو يستوعب أنباءً عن الله جلَّ جلالُه. بل هدفه أن يستعيد شعورَه المباشرَ السابقَ بالله سبحانه، وأن ينعم بهذا اللقاء القديم، وأن يظلَّ في هذه الحضرة ذَوُو حضرة أخرى. وذلك وفاءً بالعهد الذي قُطع عليه، وتحقيقًا للميثاق الذي أُخد عليه». يقول صوفي كبير: «انتهت هِمَمُ العارفين إلى الحُجب فوقفتْ مُطرِقة، فأذن لها بالدُّخول، فدخلتْ فسلَّمت، فخلع عليها خُلَعَ التأييد وكتب لها من الرُّقع بَراءات».
وتتخذ المعرفة الصوفية أسماء مختلفة بحسب الأشكال أو المراحل أو الأحوال التي تتحقق فيها في النفس. وقد جعل الصوفية تقسيمًا تقليديًّا لهذه الأشكال على ثلاثة أنواع: المكاشَفة، والتجلِّي، والمشاهدة، وهذه الأشكال الثلاثة، وإن كانت متميِّزة من ناحية الكيف، فإنها تختلط بعضها ببعض، فقد يوجد في العبد اثنان منها في وقت واحد وفي مقام واحد...
هذه هي المعرفة الصوفية بصورة عامَّة، والأشكالُ التي تتَّخذها تلك المعرفة، وهذا هو العارف الصوفيّ وهدفُه الأعلى.
فما رأي أبي حامد الغزالي بهذه المعرفة؟
إن الغزالي يرى أن العلم اليقينيّ «هو الذي ينكشف فيه المعلوم انكشافًا لا يبقى معه ريبٌ، ولا يقارنه إمكانُ الغلط والوهم».
وإن هذه ـــ عنده ـــ هي معرفة الأولياء أو الراسخين في العلم، فكلُّ ما لا يعلمه الإنسان على هذا الوجه، ولا يُتقنه على هذا النحو من اليقين «فهو علم لا ثقةَ به ولا أمان معه، وكلُّ علم لا أمانَ معه فليس بعلم يقينيّ».
وهو يعتقد أن الطريق إلى إدراك المعرفة على هذا الوجه ليس العقل بمقاييسه واستدلالاته، بل هو البصيرة (أو الحدس كما يسمِّيها بعضهم) أو القلب، لأن ذلك طور وراء العقل. أما العقل ـــ فمع ثقته به وتقديسه له إلى أبعد مدًى ـــ فمجالُه الحسُّ أو مجاله عالم المُلك والشهادة، ومجال البصيرة والمشاهدة عالم الملكوت وهو ما وراء عالم المُلك المتمثل في السماوات والأرض وما بينهما. وفي كلتا الحالَين فالقلب وعاء العلم والمعرفة، وهو المرآة التي تنعكس عليها العلوم من هاتين النافذتين: نافذة الحس ونافذة البصيرة. فالغزالي يقول إن للقلب بابَين: بابًا مفتوحًا إلى عالم الملكوت ـــ وهو اللوح المحفوظ ـــ وعالم الملائكة، وبابًا مفتوحًا إلى الحواس الخمس المتمسكة بعالم المُلك والشهادة، والأول طريق الأولياء والأنبياء، والثاني طريق العلماء. ويؤمن الغزالي بأن اتِّصال الإنسان بعالم الحسّ هو الذي يحجبه عن عالم النور وعالم الملكوت، وهو بهذا يحدد طريق العلماء وطريق الأولياء في الحصول على العلم اللَّدُني: «فإنَّ العلماء يعملون في اكتساب نفس العلوم واجتلابها إلى القلب، وأولياء الصوفية يعملون في جلاء القلوب وتطهيرها وتصفيتها وتصقيلها فقط». ويضرب لذلك مثالًا، هو ذلك المثال المشهور بنقش أهل الصين، وأهل الروم، وهو أن أهل الصين وأهل الروم تباهَوا بين يدي بعض الملوك بصناعة النقش والصوَر، فاستقرَّ رأي الملك على عقد مسابقة بينهم، فسلَّم كلَّ فريق منهم جانبًا من صُفَّةٍ ، وكان الجانبان متقابلَين، وأرخى بينهما حجابًا يمنع اطِّلاع كلِّ فريق على الآخر، فجمع أهلُ الروم من الألوان والصباغ ما لا حصر له، وما ليس له مثيل في الجودة وأدخلوه معهم، ثم دخل أهل الصين من غير صبغ ولا لون، لكنهم أقبلوا على جانبهم يَجْلُونه ويصقلونه. فلما فرغ أهل الروم من نقشهم، أعلن أهل الصين كذلك أنهم قد فرغوا. ثُم رفع الحجاب، وإذا بالجانب الصينيِّ تتلألأ منه عجائبُ الصنائع الصينية مع زيادة إشراقٍ وبريق، إذ كان قد صار كالمرآة المجلوَّة لكثرة التصقيل، فازداد حُسن جانبهم بمزيد التصقيل. فكذلك عناية الأولياء بتطهير القلب وجلائه وتزكيته وصفائه، حتى تتلألأ منه جليَّةُ الحق بنهاية الإشراق، وعنايةُ الحكماء والعلماء بالاكتساب. وهو يسمي ذلك العلم الذي يحصل بالاكتساب وحيلة الدليل «اعتبارًا واستبصارًا». ويقابله العلمُ الذي لا يحصل بالاكتساب ولا بحيلة الدليل بل يلقى «ذوقًا وكشفًا». وهو إما إلهامٌ أو وحيٌ خاصٌّ بالأنبياء، كما أن الأول خاصٌّ بالأولياء والأصفياء. والإلهام يختلف عن الوحي في أن صاحبه لا يرى الملك المفيد للعلم، أما الوحي فإن الأنبياء فيه يشاهدون جبرائيل (عليه السلام) حين ينقل الوحي إليهم.
وبهذا الاتجاه الذوقيّ يسمِّي الغزالي علم الأولياء «بعلم المكاشفة أو علم الباطن». ويرى أن هذا العلم هو «علم طريق الآخرة»، وهو أيضًا «علم الصدِّيقين والمقربين». أما ماهيّة هذا العلم فهي عبارة عن «نور» يظهر في القلب عند تطهيره وتزكيته من صفاته المذمومة، وينكشف من ذلك النور أمور كثيرة، ومنها «المعرفة الحقيقية بذات الله سبحانه»، وإن كانت معرفةً لا تقوم على إدراك ذاته سبحانه إدراكًا تامًّا، لذا فهو يقرِّر بأنه «لا يعرف حقيقةَ الله إلَّا الله».
إذن، فعلم الأولياء (الصوفيين) هو علم المكاشفة، الذي يرتفع به الغطاء حتى تتضح للوليِّ جليَّةُ الحق، في الأمور كافة التي تتناولها المعرفة، اتِّضاحًا يجري مجرى العيان الذي لا يُشكّ فيه، وهذه هي المعرفة الحقيقية، وهي الأمانة التي تُشير إليها الآية الكريمة: [إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولاً] (الأحزاب: 72)، وهذه المعرفة هي إيمان العارفين. وهذا الإيمان يختلف عن إيمان العوامِّ بذلك الكشف التفصيليّ الذي يقوم إشراقُه في المعرفة، وإدراك الأسرار النائية عن مشاهدة الأبصار، التي هي قوامُ عالَم الملكوت.
ويحدِّد الغزالي المعرفة الكشفية هذه بأنها «انعكاسٌ للصوَر بين القلب واللَّوح المحفوظ، فالقلب مثل المرآة، واللوح المحفوظ مثل المرآة أيضًا لأن فيه صورة كل موجود. وإذا قابلت المرآة بمرآة أخرى حلَّت صور ما في إحداهما في الأخرى. وكذلك تظهر صورُ ما في اللوح المحفوظ إلى القلب إذا كان فارغًا من شهوات الدنيا، فإن كان مشغولًا بها كان عالم الملكوت محجوبًا عنه. وإن كان في عالم النوم فارغًا من علائق الحواسِّ طالَع جواهر عالَمِ الملكوت فظهر فيه بعضُ الصور التي في اللوح المحفوظ. وإذا أغلق باب الحواسِّ كان بعده الخيالُ، لذلك يكون الذي يبصره تحت ستر القشر (أي مستورًا بالصورة الخيالية)، وليس كالحق الصريح مكشوفًا. فإذا مات (أي القلب) بموت صاحبه لم يبق خيال ولا حواسّ، وفي ذلك الوقت يبصر بغير وهم وغير خيال، ويقال له: [فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ] (ق: 22).
ب ـــ رأيه في الاتِّحاد والحلول والوحدة:
إن الغزالي وإن كان قد تأثر بالإشراق، فيما مالَ إليه من القول بعلم الباطن، والدعوة إلى التصوف والمجاهدات والرياضات كطريقٍ للكشف والوصول إلى المعرفة اليقينيَّة أو العلم اللَّدُني، إلا إنه ـــ في المقابل ـــ حال بين الصوفية والانحراف في تيار المذاهب الإلحادية من الاتحاد أو الحلول أو الوحدة، إذ إنه عارض هذه المذاهب وقاومها بالحجة والنقد، فأعلن أنه لا يليق بصاحب الكشف والمشاهدة أن يقول بما يتعارض مع العقيدة الإسلامية، التي هي عقيدة التوحيد الخالص، التي تفرق بين الرَّب والعبد، فتؤكد أنَّ الربَّ ربٌّ، وأن العبدَ عبدٌ. ولا يجوز، بحالٍ من الأحوال ـــ ومهما اختلفت الأحوال ـــ أن يتخيَّل عبدٌ أو يتصوَّر أو يتوهَّم بأنه يقدر على الخروج على تلك الوحدانية لله تعالى، وعلى الإقرار بربوبيَّته وألوهيَّته سبحانه جلَّ وعلا.
من هنا يصف أبو حامد القرب الذي يمكن أن يصل إليه الصوفيّ في حال مجاهداته ورياضته على أنه «درجات يضيق عنها نطاق النطق، وأن من تخيَّل فيه (بالقرب) حلولًا أو اتحادًا أو وصولًا فهو مخطئ، وإنما هي درجة من الْقُربَى وكفى». لذلك فهو يرى أنَّ الاتحاد مستحيل عقلًا، ويفرِّق فيه بين ذاتين، «بحيث نكون أمام احتمالات ثلاثة: فإما أن تظلَّ كلُّ ذات منهما موجودة، وإمَّا أن تفنى إحداهما وتبقى الأخرى، وإمَّا أن تَفنيا معًا، ففي الاحتمال الأول ليس هناك اتِّحاد، وكذلك بالنسبة إلى الاحتمال الثاني إذ الاتِّحاد لا يكون بين موجود ومعدوم، وفي الاحتمال الأخير فإنَّ قولنا بالاتِّحاد باطلٌ أيضًا، إذ الأولى بنا هنا أن نتحدث عن الانعدام لا عن الاتِّحاد».
وفي إنكاره لفكرة الحلول يبيِّن أن هذا الحلول إمَّا أن يكون بين جسمين، والله سبحانه وتعالى قد تنزَّه عن معنى الجسمية، فيستحيل إذن، في حقِّه ذلك، وإمَّا أن يكون الحلول بين عرض وجوهر، والعرض ليس قوامُه إلَّا بالجوهر، وهذا محال على كلِّ ما قوامُه بنفسه، فدعْ عنك ذِكْرَ الرَّب تعالى في هذا الغموض. «ويؤكد مخالفتَه تعالى للحوادث، وعلوَّهُ على المخلوقات، وأن الإنسان مهما يَتَخَلَّق بأخلاق الله أو بأسمائه، فليس له من هذه الأسماء إلَّا أوصافًا، على نوعٍ من التقيُّد خالٍ عن الإِيهام، وإلَّا فمطلق هذا اللَّفظ موهم». وفي نظره أن «حظيرة القدس أعلى من أن يطأها أقدام العارفين، وأرفعُ من أن يمتدَّ إليها أبصار الناظرين، بل لا يلمح ذلك الجانب الرفيع صغيرٌ أو كبيرٌ إلَّا غضَّ من الدهشة والحيرة طَرْفَه»، «وهذا هو الذي يجب أن يكون مبدأ الأولياء والراسخين في العلم، فيقرّون على أنفسهم بالعجز، ويرتضون لأنفسهم مسلك الاقتباس عن النور النبويّ. فما من عارف أو حكيم عاقل يدَّعي لنفسه كمال المعرفة بالله تعالى حتى لا ينطوي عليه شيء، إذ لا يعرف الله حقَّ المعرفة سوى الله تعالى، فلا داعيَ إذن، للتوهُّمات وللتخليُّلات والشطحات التي تُوقِعُ في الحلول أو في غيره من المذاهب الأخرى، ولا توصل إلى حقيقة أو يقين».
ويبرِّر الغزالي إنكاره لتلك المذاهب الإلحادية، بما نجده في أول كتابه (إحياء علوم الدِّين). وذلك عندما يرى «أنَّ الكلام إن كان ظاهريًّا في الكفر بالاتِّحاد، فقتل واحد ممَّن يقول به أفضل من إحياء عشرة أنفس، وإنْ كان فهم كلامه مُشْكِلًا، فلا يَحِلُّ ذكرُهُ. إنَّ الألفاظ إذا صرفت عن مقتضى ظواهرها بغير اعتصامٍ بنقلٍ عن صاحب الشرع، وبغير ضرورةٍ تدعو إلى ذلك من دليل العقل، اقتضى ذلك بُطلانَ الثقة بالألفاظ، والباطن لا ضبط له، بل تتعارض فيه الخواطر، وبهذا الطريق توصل الباطنية إلى هدم جميع الشريعة بتأويل ظواهرها وتنزيلها على رأيهم».
أما عن الشطح، فيقول أبو حامد: «وأما الشطح فنعني به صنفَين من الكلام أحدَثَهما بعض الصوفية: أحدهما الدعاوى الطويلة العريضة في العشق مع الله تعالى، والوصال الـْمُغْنِي عن الأعمال الظاهرة حتى ينتهيَ قومٌ إلى دعوى الاتِّحاد، وارتفاع الحجاب، والمشاهدة بالرؤية، والمشافهة بالخطاب، فيقولون: قيل لنا كذا، وقلنا كذا، ويتشبَّهون فيه بالحسين بن منصور الحلَّاج الذي صُلب لأجل إطلاقه كلمات من هذا الجنس، ويستشهدون بقوله: «أنا الحق»، وبما حكي عن أبي يزيد البسطامي أنه قال: «سبحاني، سبحاني». وهذا فنٌّ من الكلام عظيمٌ ضَرَرُهُ في العوامِّ، حتى ترك جماعةٌ من أهل الفلاحة فلاحتَهم، وأظهروا مثل هذه الدعاوى. فإنَّ هذا الكلام يستلذه الطبع إذ فيه البطالة عن الأعمال مع تزكية النفس بدرك المقامات والأحوال. فلا تعجز الأغبياء عن دعوى ذلك لأنفسهم، ولا عن تلقُّف كلمات مُحبطة مزخرفة. ومهما أنكر عليهم ذلك لم يعجزوا عن أن يقولوا: هذا إنكار مصدره العلم والجدل، والعلم حجاب، والجدل عمل النفس. وهذا الحديث ـــ أي الذي يتحدث به المتصوفة ـــ لا يلوح إلا من الباطن بمكاشفة نور الحق، كما يزعمون. فهذا ومثله قد استطار في البلاد شَررُه، وعظم في العوامِّ ضررُه. حتى إن من نطق بشيء منه، فقتله أفضلُ في دين الله من إحياء عشرة!!!».
ويتابع الغزالي قائلًا: «والصنف الثاني من الشطح كلماتٌ غير مفهومة، لها ظواهر رائعة، وفيها عبارات هائلة، وليس وراءها باطل، وذلك لأنَّها إما أن تكون غير مفهومة عند قائلها بل يُصدرها عن خبطٍ في عقله، وتشويش في خياله، لقلة إحاطته بمعنى الكلام، وهذا هو الأكثر، وإمّا أن تكون هذه الشطحات مفهومةً لقائلها لكنه لا يقدر على تفهيمها وإيرادها بعبارة تدل على ما في ضميره. ولا فائدة لهذا الجنس من الكلام إلَّا إنه يشوِّش القلوب، ويُدهش العقول، ويحيِّر الأذهان، أو يُحمل على أن يُفهم منه معانٍ ما أُريدتْ منه. وقد قال، صلى الله عليه وآله وسلم: «كلِّموا الناسَ بما يفهمون، ودعُوا ما يُنكرون، أتريدون أن يُكْذَبَ علَى الله ورسُولِه؟».
إنَّ هذا الهدم لنظريات الصوفية في الاتحاد والحلول والوحدة، على صوابيَّته وأحقيَّته، كان جديرًا بالغزالي الوقوف عنده، خدمةً للدِّين وللناس. أمَّا أن يعود أبوحامد ويحاول، ما وسعه الجهد، أن يوجد لأصحاب تلك النظريات الأعذار والتبريرات، فهذا ما لا يستقيم مع الحق، ولا مع الهدم الذي قام به... وفي التبرير، واختلاق الأعذار، لأصحابه وإخوانه الصوفية، يقول: «فليس للعارف أن يزعم إدراك الذات الإلهية، فضلًا عن أن يزعم الاتِّحاد بها أو حلولها فيه. وإذا كانت المشاهدة أسمى مرتبةً من الاستدلال، فإنها ليست كشفًا تامًّا يزول معه كلُّ حجاب. وإذا وجدنا متصوِّفًا يدَّعي أنه «الحق» (كالحلَّاج) وجب تأويل قوله: إمَّا على أن يعترف بأن «لا وجود له إلا بالحق» وهذا التأويل منه بعيد لأن اللفظ لا ينبئ به، ولأن كل شيء سوى الحق فهو بالحق، وإما على أن «صاحب الذوق يغفل عن ذاته» فيكون همُّه الحقَّ وحدَه بحيث لا يكون فيه متَّسع لغيره. وعلى هذا الاعتبار العقلي وحدَه يمكن فهمُ شطحات الصوفية، لأن من يستغرقه شيء فينسيه كل شيء سواه، يجوز له ـــ لا على سبيل الحقيقة ـــ أن يقول إنه هو هو» (المنقذ ص 44 و45).
وعلى هذا يرى أبو حامد أن الوحدة حالٌ عارضة، وهو لا يقول بها مطلقة في الناس، عاملة في الحياة، بل يحصرها في أضيق حد، ويعدُّها حالًا خاصةً بأصحابها الخواص العارفين بعد العروج إلى سماء الحقيقة، فقد «اتفقوا على أنهم لم يرَوا في الوجود إلَّا الواحد الحق، ومنهم من كانت له هذه الحالة عرفانًا عليًّا كما في تصورات الفلاسفة، ومنهم من صارت له ذوقًا وحالًا، وانتفت عنهم الكثرة بالكليَّة واستغرقوا بالفردانيَّة المحضة فلم يبق عندهم إلَّا الله، فسكروا سكرًا وقع دونه سلطان عقولهم، فقال بعضهم: أنا الحق. وقال الآخر: سبحاني ما أعظم شأني. وقال آخر: ما في الجبة إلَّا الله».
وعلى الرغم من أن الغزالي يؤكِّد أن هذه الأمور «لا تقع في تقدير الإسلام ولا تدخل في تعاليمه» فإنه يعتذر عن بعضهم بلسان العقل فيتابع قائلًا: «فلما خفَّ سُكرهم، ورُدُّوا إلى سلطان العقل، عرَفوا أن ذلك لم يكن حقيقةً الاتحاد».


ج ـــ السماع عند الغزالي:
يقول الغزالي: «لا يدل على تحريم السماع نَصٌّ ولا قياس».
ومن منطلق هذا المعتقد، فقد أفَاضَ أبو حامد في ذكر طرق وأخبار الذين صُعِقوا فماتوا، أو غشيَ عليهم، عند السماع، بل هو يتباهى بما فعلوا، وكأنَّه يحاول أن يوهمنا بأنَّ تلك الحالات التي كانت تظهر عليهم، هي نوع من الاستجابة «لصدق» ما يسمعون و«حقيقة» ما يَطِنُّ في آذانهم، أو يخيَّلُ إليهم في أذهانهم. والحقيقة أن مثل تلك الأفعال لا تنمُّ إلَّا عن تمثيل ومخادعة من قبل من يقول بها، إذ مهما كان نوع الإلقاء في ذهن السامع، فلا نظن أنه يؤثّر إلى درجة تدفعه إلى الغيبوبة، أو فُقدان الوعي والإرادة، حتى يُغشى عليه في مجلسه، أو يهبَّ ليهيم في الفلوات، أو أن يُمسك بجلده حتى ينزعه عن جسمه!
ولعلَّ مثالًا مأخوذًا من كتاب (إحياء علوم الدِّين) يبيِّن لنا مقدار المخادعة التي كان يظهرها الصوفية بتأثير السماع. فأبو حامد يذكر في الإحياء، تحت باب آداب السماع، أنَّ أبا الحسن النوري حضر مجلسًا، فسمع هذا البيت من الشعر:
ما زلتُ أَنْزِلُ مِنْ وَدَادِكَ مَنْزِلًا تَتَحَيَّرُ الألْبَابُ عِنْدَ نُزُولِهِ
فإذا بأبي الحسن يملؤه الوجد، ويقوم هائمًا على وجهه، حتى يقع في أجمة قصبٍ كان قد قُطِعَ وبقيت أصولُه قائمةً مثل السيوف. ولم يأبه أبو الحسن لما يقع عليه، بل ظل يعدو في تلك الأجمة، وهو يردد ذلك البيت الذي سمع، حتى الغداة، ولم يحسَّ في هيامه ذاك بأن رجلَيه قد تثلّمتا من القصب، وبأن دمه كان يسيل منهما طوال الوقت.
وتنتهي الرواية بأن ما أصابَ الرجل من جروح أدت إلى ورم قدميه وساقيه، لكن النتيجة النهائية أنه لم يعش بعد ذلك إلَّا أيامًا، ومات.
ويأتي أبو حامد على هذه الحادثة ليعلِّق بقوله: «فهذه درجة الصدِّيقين في الفهم والوجد، فهي أعلى الدرجات»!
ويروي أيضًا، تحت الباب نفسه، أنَّ ذا النون المصري دخل بغداد، فاجتمع إليه قوم من أصحابه الصوفية، ومعهم قوَّال، فاستأذنوه بأن يسمعوا من هذا القوَّال شيئًا، فلما أذن لهم الشيخ ذو النون، راح القوَّال ينشد:
صغيرُ هــواكَ عذَّبَني فــكيف بــه إذا احْــتَنَكَا
وأنتَ جمعتَ في قلبي هــوًى قــد كان مشتركا
أمــا تــرثـي لِمُــكَتئبٍ إذا ضحِكَ الخليُّ بَكَى؟
وما كاد ينتهي من إنشاده، حتى سقط ذو النون على وجهه مغشيًّا عليه!!!
د ـــ رأي الغزالي في الخلوة:
لقد أوضحنا معنى الخلوة عند الصوفية، من قبل، ونكتفي هنا بأن نورد ما قال بها أبو حامد بالحرف الواحد، في الجزء الثالث من إحيائه إذ قال: «لا تكون الخلوة إلَّا في مكان مظلم، فمن لم يكن له مكان مظلم فليلفَّ رأسَه في جُبَّته أو يتدثَّر بكساءٍ أو إزارٍ، ففي مثل هذه الحالة يسمع نداء الحق ويشاهد جلال الحضرة الرُّبوبية».
فهل تنفع بعد ذلك معارضتُهُ لمن يقولون بالحلول أو بالاتِّحاد أو بالوحدة، ما دام مجرَّد الاختلاء بالنفس في مكان مظلم، يؤدِّي إلى سماع نداء الحق، ومشاهدة الله عزَّ وجلّ؟!
أليس الله سبحانه وتعالى نورًا على نور، وأنه نور السموات والأرض؟ فأيُّ فضلٍ للظلام إلَّا أن يُظلم البصرَ والبصيرة؟ ومتى رأينا عالِمًا يحصِّل علمًا، أو عارفًا يقع على معرفة، وهو في دياجير الظلام؟!
ومتى أذن الله تعالى للصوفية، أن يشاهدوا جلَالهُ، وهو الذي لا تراه العيون والأبصار؟ هل إن تلك الخلوة في مكانٍ مظلم، ولفَّ الرأس بجبّةٍ أو كساءٍ أو إزارٍ هي التي تحقق ذلك، ونحن ما وجدنا في كتاب الله، ولا وصَلَ إلينا من السنَّة الشريفة، أنَّ أحدًا يقدر على مشاهدة الله سبحانه وتعالى؟ بل على العكس، فإنَّ القرآن الكريم أورد ذكر قصة موسى (عليه السلام) وقومه في حادثة الجبل عندما خرَّ صعقًا لتكونَ دليلًا قاطعًا للبشرية كافَّة، بألَّا يتوهَّمَنَّ أحدٌ، بقدرته أو بفضله ـــ أيًّا كانت تلك القدرة، وأيًّا كان ذلك الفصل ـــ أنه يمكنه أن يَرى الله تعالى، فليت أبا حامد وقف عند حدود كتاب الله، وسنّة رسوله، ولم تغرَّه الصوفية بأباطيلها حتى يقول لنا إن خلوةً في رحاب التصوُّف تؤدي إلى «سماع نداء الحق ومشاهدة جلال الحضرة الربوبية» والله سبحانه وتعالى يقول لنبيِّه وكليمه موسى عليه السلام: «لَنْ تَرَانِي»، و«لَنْ» هي للنَّفي التأبيدي الذي يستحيل معه حصول الفعل!!!
هـــ ـــ رأي الغزالي في الفناء:
الفناء عند الصوفية هو نهاية المطاف وآخر مرحلة من مراحل الطريق الذي يمر به الصوفيّ. وهو الهدف الأسمى من رياضته الشاقَّة التي تقوم على هجر كل الماديَّات، وعلى السهر المضني، والعزلة عن الناس، والتّيه في البراري واللجوء إلى الكهوف والمغاور، وذلك كي يؤديَ هذا إلى اضمحلال ذات الإنسان بذات الله، أو كما يعبّر الصوفية إلى «اضمحلال الذات بالذات»، أو بتعبير آخر: إن الفناء هو الطريق الذي يؤدي إلى الاتِّحاد.
وقد جاء ذكر الفناء وتفسيراته في غالب كتب الصوفية. ففي الرسالة القشيرية أن «من شاهد جريان القدرة في تعاريف الأحكام يقال: فني عن حسبان الحدثان من الخلق، فإذا فني عن توهم الآثار عن الأغيار بقي بصفات الحق.
ومن استولى عليه سلطان الحقيقة حتى لم يشهد من الأغيار لا عينًا ولا أثرًا ولا رسمًا ولا طللًا يقال: إنه فني عن الخلق وبقي الحق.
وإذا قيل: فني عن نفسه وعن الخلق، فنفسُه موجودة والخلقُ موجودون، ولكنه لا علم له بهم، ولا إحساس ولا خبر».
على أنَّ الفناء في ادّعاء الصوفية ـــ وإن كان باطلًا حكمًا في نظر الإسلام ـــ فقد وُجِدَ من أبطله علمًا وتحليلًا. جاء في (التصوف بين الحق والخلق): «إن الفناء بمعناه الصوفيّ وهمٌ من الأوهام وعقيدة فاسدة وجدت أصولها في الدِّيانة البوذية، كما وجدت في الأفلوطينية الحديثة. والفناء عند البوذيين غاية الغايات، ومنتهى الآمال، ويسمى عندهم (النيرفانا) أو الفناء المطلق والسعادة الدائمة. وفي الأفلوطينية الحديثة أساس لنظرية الفناء المطلق. فهم يدعون إلى الانجذاب الروحانيّ، وهو الطريقة الوحيدة التي توصل إلى المعرفة. وهذا الانجذاب لا يتم إلَّا عندما يكون الإنسان في حالة سُكْرٍ روحانيّ، فتمتزج الروح الفردية بالخير المطلق ـــ وهو الله ـــ وتُدرك عند ذلك أسرار جميع الكائنات. وهي مرحلة لا تصل إليها حتى الأرواح الموهوبة كالأنبياء والحكماء، إلَّا بعد محاولات عديدة».
وعند كتَّاب الصوفية فيض كبيرٌ من الكلام حول الفناء، على الرغم من أنه يُعدّ أشنع ما ذهبت إليه تلك الفئة في ادِّعاءاتها، وقد أجمع علماء المسلمين على تكفير القائلين به. إلَّا إن الغزالي ـــ وقد كان من أشد المعجبين بفكرة الفناء ـــ أراد أن يصبغها بطابع فلسفي، فقال: «الكمال أن يفنى بالكليَّة عن نفسه وأحواله، أعني أن ينساها، فيسمع لله وبالله وفي الله ومن الله. وهذه رتبةُ مَن خاضَ لجّة الحقائق، وعبر ساحل الأحوال والأعمال، واتَّحد بصفاء التوحيد، وتحقَّق بمحض الإخلاص، فلم يبق فيه شيء أصلًا، بل خمدت بالكليَّة بشريَّتُه، وفني التفاتُه إلى صفات البشريَّة رأسًا. ولست أعني بفنائه فناءَ جسده، بل فناء قلبه. ولست أعني بالقلب اللحم والدم بل أعني سرًّا لطيفًا له إلى القلب الظاهر نسبة خفية وراء سرِّ الروح الذي هو من أمر الله تعالى. ولذلك السرِّ وجود، وصورة ذلك الوجود ما يحضر فيه، فإذا حضر فيه غيرُه فكأنه لا وجود للحاضر، ومثالُه المرآةُ إذ ليس لها لونٌ في نفسها بل لونُها لونُ الحاضر فيها».
و ـــ موقفه من التوكل والجهاد:
إن التوكل بالمفهوم الإسلامي يجب أن يقترن بالتوفيق. أي إنَّ على المسلم أن يتوكل على الله، وأن يكون معتقدًا بأن التوفيق بيد الله. لكنَّ هذا التوفيق لا يكون إلَّا إذا احتوى حالتَين:
ـــ أن يملك الإنسانُ المسلمُ أسبابًا يثق بها أولًا، ويثق بالتالي أنه قادر على أدائها.
ــ وأن يسهل له هذا الأداء من الله تعالى.
ـــ ويأتي بعد ذلك التوكل على الله تعالى. وهو في حقيقته ربط الأسباب بالمسبِّبات، ثم تركُ النتيجة إلى الله سبحانه وتعالى.
وعلى هذا فإنَّ من لا يملك الأسباب، لا يجوز له أن يعتمد على التوكل. وإنْ هو ملك الأسبابَ لكنه لم يملك الثقة بها، لَـمَا جاز له أيضًا التوكل. ثم إنْ هو ملك الأسباب وكانت له ثقة كاملة بها، فيجب أن يكون جديرًا بحملها، وقادرًا على أداء ما هو مطلوب منه، فإن لم تكن له هذه القدرة، وتلك الجدارة، ضاع عليه التوكّل.
إذن فالتوكل يقوم على ربط الأسباب بالمسبِّبات وتركِ النتيجة إلى الله تعالى. ولعلَّ خير دليل على ذلك قول الرسول، صلى الله عليه وآله وسلم، لأعرابي جاء يسأل عن ناقته: «إعْقِلْ وَتَوَكَّلْ»، فلو أنَّ الأعرابي عقلَ (ربطَ) ناقته بحبلٍ في موضعها، وتوكَّلَ على الله تعالى بأن يحفظها له، لَـمَا كانت الناقة قد ذهبت من حيث تركها. أما أن يتركها في البرية هكذا، من دون عقال، ثم يقول: توكلتُ على الله، فهذا ليس من التوكل بشيء، لأن الله سبحانه وتعالى لا يتيح له توفيقًا بنتيجة ما فعل.
ومن تراثنا أيضًا ـــ الذي به نفخر وعلينا اتِّباعه ـــ ما تدلُّ عليه تلك الحادثة المشهورة عن عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، وهي التي تحتوي مفهوم التوكل وتوضحه للقاصي والداني من الناس، ذلك أن عمرَ، رضي الله عنه، دخل يومًا المسجد لإقامة الصلاة ـــ وكان الوقت نهارًا ـــ فرأى جماعةً منكبَّة على التسبيح، فلم يلتفت إليهم، لأنَّ من عادة المسلمين أن يقوموا بذكر الله، وبالطاعات، في بيوت الله. لكنه فوجئ، عندما عادَ ليلًا إلى المسجد، ليجد تلك الجماعة نفسها ما زالت قابعةً في زاوية المسجد، وهي على حالها كما رآها في النهار، فسأل عن أمرها، فقيل له: يا أمير المؤمنين، هؤلاء لا يعملون، بل هم يتوكلون برزقهم على الله، فلم يكن منه، عندما سمع ذلك، إلَّا أن أخذ الدِّرةَ بيده وهجم عليهم، وهو في حالة الغضب الشديد، وضرب أحدهم على رأسه فشجَّهُ، وكان من نتيجة ذلك أن حصل بعض الضوضاء في المسجد، فاعتلى المنبر وحمد الله تعالى وأثنى عليه وقال: ما بالُ أناسٍ يريدون أن يُفسدوا علينا ديننا ويزعمون أنهم هم المتوكلون على الله، وكذبوا. بل هم المتآكلون الذين يأكلون أموال الناس بالباطل. أفأدلكم على المتوكلين؟ الذين يشقُّون الأرض ثم يضعون النوى ثم يتركون النتيجة على الله. هؤلاء هم المتوكلون على الله.
فإذا كان هذا هو مفهوم التوكل عند المسلمين، فإنَّه يأخذنا العجب من أمر أولئك الصوفية الذين يدعون أنهم ينتمون إلى الإسلام، وهم بعيدون كل البعد حتى من بعض المفاهيم التي يعرفها العامة من المسلمين، كمفهوم التوكل الذي هو ربط الأسباب بالمسبِّبات وتركُ النتيجة على الله تعالى.
وممَّا يُثبت لنا ابتعادهم عن هذا المفهوم الإسلامي نظرة شيخهم الكبير أبي حامد الغزالي، إلى التوكل، وما جرَّته تلك النظرة على المسلمين من مصائب وويلات. فهو يرى أن الكسب والادِّخار ينافيان التوكل. وقد أجابَ عن القعود بغير كسب: إنه ليس بحرام. لذلك فهو يعتقد بأنَّ أعلى مراتب التوكل أن يكون المرء بين يدي الله تعالى في حركاته وسكناته كمثل الميت بين يدي الغاسل. ثم يذكر أن التوكل على مقامات: أدناها الامتناع عن التدبير، ثم الامتناع عن التعلُّق، ثم الامتناع عن الدعاء، فلا يبقى غير انتظار ما يجري عليه.
ويبدو أنَّه كان على قناعةٍ تامةٍ بمثل هذا التوكل الصوفيّ، حتى ولو دقت ساعة الجهاد، وبات على كلِّ مسلم أن يكون مستعدًا للجهاد في سبيل إعلاء كلمة الله! وإلَّا فما معنى موقفه من الفَرَنْجة الصليبيين الذين جاؤوا يحتلون الديار، ويقصدون بيت المقدس بجحافل جرّارة، من دون أن تبدو منه أي بادرة تدلُّ على مقاومة أولئك الغزاة، أو تدعو إلى التصدِّي لهم ومحاربتهم؟ وأين دعواه في فهم الشريعة وأصولها، وهو يتناسى الجهادَ وأهميته عند الله سبحانه وتعالى، وعند رسوله الكريم، صلى الله عليه وآله وسلم، وعند المؤمنين الصادقين المصدقين بدين الله ورسوله؟
فالجهاد في الإسلام فَرْضٌ على جميع المسلمين بنصِّ القرآن والحديث. يقول الله تعالى: [وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ للهِ] (البقرة: 193). ويقول تعالى: [لاَّ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْـمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْـمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فَضَّلَ اللهُ الـْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُـلاًّ وَعَدَ اللهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللهُ الْـمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا] (النساء: 95). وقال تعالى: [أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الـْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللهِ لاَ يَسْتَوُونَ عِندَ الله وَاللهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (19) الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (20)‏ يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ (21) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً إِنَّ اللهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ] (التوبة: 19 ـــ 22).
وقال تعالى: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ قَاتِلُواْ الَّذِينَ يَلُونَكُم مِّنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللهَ مَعَ الـْمُتَّقِينَ] (التوبة: 123). إلى غير ذلك من الآيات التي تحث المسلمين على قتال الكفار، وأعداء الله، وتحضُّهم على الجهاد في سبيل الله، من أجل إعلاء كلمة الله.
وعن الجهاد، قال رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم: «الجهاد ماضٍ إلى يوم القيامة». وقال، صلى الله عليه وآله وسلم، أيضًا: «من مات ولم يَغْزُ، ولم يحدِّث نفسه بالغزو، بات على شُعبةٍ من النِّفاق». وفي حديث للحسن ـــ سلام الله عليه ـــ قال: «غدوةٌ أو رَوحةٌ في سبيل الله خيرٌ من الدُّنيا وما فيها».
إذن، فالمسلمون مكلَّفون بالجهاد، وفقًا للكتاب والسنَّة، لكنَّ هذا الجهاد يجب أن تكون الغاية منه إعلاء كلمة الله، وأن يكون الدِّين كلُّه لله، وهذا يعني أن الإسلام ليس مجرَّد عمليَّة دفاع عن أشخاص المسلمين، وعن ديار الإسلام عندما تُهاجم، ولا هو تهالكٌ على أيِّ عرض للمسالَمة، إن كانت لمجرد إبعاد المعتدين، وكفِّ أذاهم، كما لا يعني أنه يجب أن يتقوقع داخل حدوده ـــ في كل زمان ـــ وليس له الحق بأن يطالب الآخرين باعتناقه ولا بالخضوع لمنهج الله: بل الإسلامُ أبعد من ذلك بكثير، إذ هو دين الله الحق، وهو المنهج الثابت للحياة والكون والإنسان، لذلك فهو يدعو إلى أن تسود ألوهيَّة الله وسلطانه وحاكميَّته. وسيادة الحق هي وحدها التي تكفل الخير والبركة والحرية والكرامة للناس أجمعين. وبمقتضى هذا التصوُّر يصبح المنهج الحركيُّ لهذا الدِّين قادرًا على مواجهة الواقع دائمًا بوسائل متكافئة. وأهم هذه الوسائل أن يُعِدَّ المسلمون كل ما يستطيعون من أسباب القوة لمواجهة عدوِّ الله وعدوِّهم، حتى تبقى العقيدة حية في نفوسهم، والإيمان قويًّا في قلوبهم، من أجل الغاية الأسمى وهي أن يكون الدِّين لله، وأن تظلَّ كلمة الله هي العليا.
والجهاد بهذه المعاني، إذا ما دعا الدّاعي لقتالٍ أو حرب، يكون ببذل الوسع مباشرة في ساحة القتال، إما بالمعاونة بالمال، أو بالرأي، أو بتكثير السواد، أو بغير ذلك، أي بكل ما يختص بالقتال وما يتصل به مباشرةً، كالخطبة في الجيش لإثارة حماسته عند المعركة، وكالتبرع بالمال، أو كتنظيم الأوضاع المجتمعية ورصِّ الصف الداخلي، ممّا يحفظ القوى ويساعد على مواجهة العدو.
والجهاد بالمفهوم الإسلامي أيضًا، هو فرض «كفاية» ابتداءً، وفرض «عين» إن هجم العدو.
ومعنى كونه فرض كفاية ابتداءً، أن نبدأ بقتال عدو الله، وعدو دين الله، بعد أن تتأكَّد لنا هذه العداوة، وإن لم يبدأنا. فإن لم يَقُم بالقتال ابتداءً أحدٌ في زمنٍ ما، أثِمَ جميع المسلمين بتركه. ولا تسقط فريضته عن أهل بلد مسلم بقيام أهل بلد مسلم آخر به، بل يفرض على الأقرب فالأقرب من العدو إلى أن تقع الكفاية بمن قاموا بالقتال فعلًا. فلو لم تقع الكفاية إلَّا بكل المسلمين صار الجهاد فَرْضَ «عين» على كل مسلم. وذلك كإقامة دولة تحكم بما أنزل الله على المسلمين، فإنَّ قيامها فرضٌ عليهم جميعًا. فإن أقامها بعضهم سقطت فريضتها، وإن لم يُقمها المسلمون، ظلَّت فريضةً عليهم جميعًا حتى تحصل الكفاية بإقامتها بالفعل. وكذلك الجهاد إن بقي العدو في الساحة، فإنه يظل فرضًا على المسلمين حتى يُدفع العدوّ. ومن هنا جاء الخطأ في تعريف بعض الفقهاء لفرض الكفاية بأنه إذا قام به بعضهم سقط عن الباقين، لأنَّ هذا التعريف يقضي بأنه إذا قام أهل فلسطين بالجهاد ضد إسرائيل بالفعل سقط عن باقي المسلمين، أي إن بعضهم قام بالفرض ـــ وهو الجهاد ـــ فسقط عن الباقين. وهذا خطأ لا خلاف عليه بين المسلمين منذ عهد النبيّ، صلى الله عليه وآله وسلم، إلى اليوم، إذ إنه يناقض نصَّ القرآن القطعيّ: في فرض الجهاد حتى يخضع العدوّ.
إنَّ الجهاد ـــ بكل المفاهيم التي يعنيها ـــ لم يهزَّ ضمير الإمام الغزالي بشيء، ولا حرَّك فيه نبضة حيَّة، عندما دقت ساعة الخطر، وجاءت الحملات الصليبية تغزو بلاد المسلمين، وتجوس خلال الدِّيار، مُوقعةً الخرابَ والدَّمار وعابثةً بالأرواح، مسرفةً بالتقتيل وضرب الرِّقاب، إذ اكتفى في هذا الوقت بعزلته في الجامع الأمويّ بدمشق، ينظر بعقله، ويكشف ببصيرته ما يجب أن تكون عليه حاله، أما حال البلاد، وحال المسلمين، وما يفعله الغزاة المحتلُّون، فكلُّها أمور لا تُهمه، ولا تَعنيه بشيء، لا من قريب ولا من بعيد!!!
ونحن لا نتجنَّى على الرجل، فهذه كتب التاريخ تُنبئنا بأن قيصر الروم الكسيوس كومنينوس كان قد أرسل في عام 487هـــ. (1094م) إلى البابا أوربانوس الثاني رسالة يستحثّه فيها على تحريض النصارى ودعوتهم للتطوُّع والانخراط في جيش لَجِبٍ قوي يكون هدفُه تخليصَ بيت المقدس من أيدي المسلمين. وقد استجاب البابا لدعوة ذلك القيصر، فألقى في «كليرمونت» ـــ جنوبي شرقي فرنسا ـــ خطبته الشهيرة التي حثَّ فيها العالم المسيحيّ على التوجه إلى بيت المقدس وانتزاعه من الأعداء. وقد منَّى المشتركين في هذا الزحف بالجنَّة، مما جعل عشرات الألوف من مختلف الدول الأوروبية ينخرطون في ذلك الجيش الصليبيّ، ورفعوا الصليب شعارًا على صدورهم، وجاءت الحملات الصليبيَّة تحتل بلاد المسلمين واحدة تلو الأخرى، وهي في طريقها إلى القدس، حتى أمكن لإحدى تلك الحملات بقيادة «ريموند دي تولوز» أن تستوليَ على بيت المقدس، بعدما سفكت دماء الألوف من المسلمين، وكان ذلك عام 492هـــ. (1098م).
وهكذا حلَّت الكوارث، ووقعت المصائب، وفي محاولة للذَّود عن الحياض قدم وفدٌ من بلاد الشام إلى بغداد، مستغيثًا بأولي الأمر فيها، شارحًا ما دَهَمَ المسلمين بالقدس الشريف. فأحال الخليفة المستظهر بالله رجال هذا الوفد إلى السلطان السلجوقي بركيارق. إلَّا إن بركيارق هذا كان مشغولًا بالنزاع مع أخيه محمد، على عرش السلاجقة، وهو النزاع الذي بدأ به انحلال السلطنة السلجوقية، فلم يأبْه لأمر الوفد الذي جاءه، وهكذا انتهى الأمر عند هذا الحدِّ وعادَ الوفد من حيث أتى، من دون أن يتحرَّك ذَوو الشأن المسلمين لصدِّ الخطر الصليبي.
وقعت تلك الأحداث الداهمة، الخطيرة، ولم تصدر أي دعوة للجهاد! فأين كان العلماء، والراسخون في العلم؟ أَوَلَم يكن أبو حامد الغزالي حجة الإسلام في ذلك العصر؟ فلماذا لم يُلقِ خطبةً، ولم يُصدر فتوًى، ولم يَقُم بأي عمل يدعو فيه إلى الجهاد؟ لا ندري، ولكن من الثابت، أن تلك الأحداث ـــ على الرغم ممّا رافقها ـــ لم تحرِّك عاطفة الغزالي بشيء، ولم تُحدث فيه أيّ تأثُّرٍ ديني، بل على العكس، كان علمه الصوفيّ هو كل شيء عنده. وهذا العلم ـــ على ما يبدو ـــ لا يدعو إلى الجهاد وفق المفاهيم الإسلامية، بل يدعو إلى صرف الناس عن الجهاد من خلال تفاسير لبعض آيات القرآن الكريم، أقل ما يقال فيها إنها تفاسيرُ صوفية غريبة شاذة عن أي فهمٍ لكتاب الله المبين.
وهذه بعض دعاوى الصوفية التي تثبت ذلك الشذوذ:
روي عن «داود بن صالح» أنه قال: قال لي أبو سلمة بن عبد الرحمن: يا ابن أخي، هل تدري في أي شيء نزلت هذه الآية: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ] (آل عمران: 200)؟ قلت: لا. قال: يا ابن أخي، لم يكن في زمن رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، عزٌّ يربط له الخيل، لكنه انتظار الصلاة بعد الصلاة. فالرِّباط لجهاد النفس، والمقيم في الرِّباط مجاهد لنفسه» (عوارف المعارف ـــ 2/55).
وعلى المنوال نفسه، قال بعض المتصوفة في قوله تعالى: [وَجَاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهَادِهِ] (الحج: 78): إن معناه مجاهدة النفس والهوى، وذلك هو حق الجهاد، وهو الجهاد الأكبر على ما روي في الخبر أن رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، حين رجع من بعض غزواته، قال: «رَجَعْنَا منَ الجهادِ الأصغر إلَى الجهادِ الأكبر»، وهنا الخطأ الذي يقع فيه الصوفية. فهم مثلما يخطئون في تفسير آيات القرآن، يخطئون أيضًا في الاستشهاد بأحاديث رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم. وهذا الحديث إن صح عنه، صلّى الله عليه وآله، لا يعني أنه قد انتهى جهادُ أعداء الله بعد غزوة تبوك وسقط عن المسلمين إلى أبد الآبدين، بل يعني الحثَّ على جهاد النفس وحملِها على صعوبة الطاعات كحملِها على مشاقِّ الجهاد في الحرب، لأن العمل بأوامر الله تعالى ونواهيه لا يسقط عن الإنسان المسلم حتى في أثناء وطيس الحرب. بل يجاهد المسلم أعداءَ الدِّين لإقامة الشعائر والعمل بحلال الله وحرامه. فإن علي بن أبي طالب، عليه السلام، كان يتأمل زوال الشمس في معركة صفين، والحرب قائمةٌ على قدمٍ وساقٍ، فقال له عمَّار بن ياسر: أراك تتأمل الشمس يا أمير المؤمنين، كأنَّك تريد أن تصلِّي، وهل هذا وقت صلاة؟ فقال له عليٌّ، عليه السلام: وهل نقاتلهم إلَّا على إقَامِ الصَّلاة وإيتاءِ الزَّكاة وإقامة حدود الله؟!
فالدينُ الإِسلاميُّ هو قول وعملٌ يتجلَّيان في الدعوة إليه والجهاد في سبيل نشره وتعميمه من جهة، وفي إقامة أصوله وأركانه وحدوده وشرائعه على الصعيد الفردي، قبل الجهاد وفي أثناء الجهاد وبعد الجهاد من جهة أخرى. وهذا هو الذي عناه الرسولُ الأعظم حين حثَّ المسلمين على جهاد نفوسهم الذي عدَّه أصعب الجهاد، لأن النفوس أمَّارة بالسوء قد تورد أصحابها موارد الهلاك في الدنيا والآخرة. وتشبُّثُ الصوفيين بتحريف المعنى المقصود من هذا الحديث الشريف تشبثٌ بالطُّحْلُب ، وهو إن دلَّ على شيء فإنما يدل على التبرير الرخيص لما هم فيه من غفلةٍ عمَّا شرع الله تعالى وعمَّا سنَّ، رسوله صلَّى الله عليه وآله.
فالواضحُ ـــ جدًّا ـــ من القرآن، والمتواترُ من السنَّة أن جهاد الكفار من أعظم القربات إلى الله تعالى، وأن الصحابة والتابعين في العصور الزاهرة التي شهد لها الرسول الكريم، صلى الله عليه وآله وسلم، بالخيرية كانوا يتهافتون على القتال في سبيل الله، ليحصلوا على إحدى الحسنيين: إما الموت فالفوز بالجنة، وإما النصر فالعزة والرفعة. ولم يتركوا فرض صلاة، ولا منعوا زكاةً، ولا عطَّلوا حدًّا، لأنهم كانوا مشغولين بالجهاد. وإنَّ المجاهدين في سبيل الله، الذي يَقتلون ويُقتلون، هم الأبرارُ الذي أعدَّ لهم الله تعالى جنات النعيم خالدين فيها أبدًا، لأنهم مجاهدون ولأنهم عاملون. وهو وعدٌ من الله حقٌّ: [وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ] (آل عمران: 169). لأنهم مستكمِلون لشروط الإسلام من إيمان راسخ وعمل تامٍّ، وجهادِ نفسٍ لطالما جاهدوها حتى استقامت على أمر الله جلَّ وعلا.
أما الصوفية، فيقولون عكس ذلك تمامًا. كتبَ أحد المجاهدين الصالحين إلى أخ له من المتصوفين، يستدعيه إلى الغزو، فردَّ عليه ذلك الأخ قائلًا: «يا أخي كل الثغور مجتمعة في بيت واحد والباب مردود»، فكتب إليه المجاهد: «لو كان الناس كلُّهم لزموا ما لزمت لاختلَّت أمور المسلمين وغلب الكفارُ، فلا بد من الغزو والجهاد»، فردَّ عليه الصوفيّ: «يا أخي لو لزم الناسُ ما أنا عليه وقالوا في زواياهم وعلى سجَّاداتهم: الله أكبر، لانهدم سور القسطنطينية» (من عوارف المعارف على هامش الإحياء).
أرأيت هذا الدسَّ على الإسلام في أقوال أولئك الصوفية؟
أرأيت إلى دعوة الخنوع والذل والاستكانة التي يدعون إليها؟
أرأيت أيّ عقلية تسيطر عليهم حتى في أدقِّ الساعات وأحرجها، كما هي الحال عند الإمام الغزالي؟! الصليبيون يُذلُّون المسلمين، ويحتلُّون بيت المقدس، وشيخُ الصوفية قابعٌ في خلوته، صامت كصمت الجدران من حوله، غافلٌ على تخيلاته الصوفية كغفلة أهل الكهف، لا تعنيه شؤون المسلمين وأحوالهم بشيء.
وكيف تعنيه وهو لم يحرِّك ساكنًا، كما يصفه الأستاذ عبد الرحمن الوكيل في كتابه (هذه هي الصوفية) عندما يقول: «هذا بيت المقدس سقط في أيدي الصليبيِّين عام 492 هــ، والغزالي الزعيم الصوفيّ الكبير على قيد الحياة، فلم يحرِّك فيه هذا الحادث الجَلَل شعرةً واحدة. ولقد عاش بعد ذلك عامًا، إذ إنه مات عام 505 هــ، فما ذرفت عيناه دمعة واحدة، ولا استنهض هِمَمَ المسلمين ليذودوا عن القبلة الأولى، في حين أن غيرُه قال:
أَحــلَّ الكفرُ بالإسلام ضَيْمًا يطولُ عليه للدِّين النحيبُ
وكم من مسجدٍ جعلوه دَيْرًا على محرابِهِ نُصِبَ الصليبُ
دمُ الخنزير فيــه لهم خُلوفٌ وتحريقُ المصاحف فيه طِيبُ
ويعلق على هذا، الدكتور محمد جميل غازي، في مقابلة لصحيفة (المسيرة) فيقول: «أهزَّ هذا الصريخُ الموجعُ زعامة الغزالي؟ كلَّا، إذ كان عاكفًا على كُتبه يقرِّر فيها أن الجمادات تخاطب الأولياء!!! ويتحدث عن مراتب الولاية كالصحو والمحو، من دون أن يقاتل أو يدعو غيره إلى قتال. و«ابن عربي» و«ابن الفارض» الزعيمان الصوفيان الكبيران، عاشا في عهد الحروب الصليبية فلم نسمع واحدًا منهما شارك في قتال أو دعا إلى قتال أو سجَّل في شعره أو في نثره آهةً حرَّى على الفواجع التي نزلت بالمسلمين، بل كانا يقرِّران للناس «أن الله هو عين كل شيء، فليدع المسلمون الصليبيِّين فما هم إلا الذات الإلهية متجسِّدة في تلك الصور».
ثم يسوق الدكتور غازي شهادتَين إحداهما للدكتور عمر فروخ، والثانية للدكتور زكي مبارك، فيقول:
«الدكتور عمر فروخ يقول: ألا يعجب القارئ إذا علم أن حجة الإمام أبا حامد الغزالي شهد القدس تسقط في أيدي الفرنج الصليبيِّين وعاش اثنتي عشرة سنة بعد ذلك، ولم يُشر إلى هذا الحدث العظيم. ولو أنه أهاب بسكان العراق وفارس وبلاد الترك لنُصرة إخوانهم في الشام لَنَفَرَ مئاتُ الألوف منهم للجهاد في سبيل الله، وَلَوَفَّر إذن، على العرب والمسلمين عصورًا مملوءة بالكفاح، وقرونًا زاخرة بالجهل والدَّمار. وما غفلة «الغزالي» عن ذلك إلا إنه كان في ذلك الحين قد انقلب صوفيًّا أو اقتنع على الأقل بأن الصوفية سبيل من سبل الحياة.
وكذلك عاش «عمر بن الفارض» و«محيي الدين بن عربي» في إبان الحروب الصليبيَّة ولم يرد في كتابات أحدهما ذكرٌ لتلك الحروب.
وبينما كان الإفرنج يغيرون على المنصورة في مصر عام 647 هــ (1259 م) تنادى الصوفيون لقراءة «رسالة القشيري» وأخذوا يتجادلون في كرامات الأولياء (الشعراني 1/14) ».
أما الدكتور زكي مبارك فكتب يقول: «أتدري لماذا ذكرت لك هذه الكلمة عن الحروب الصليبيَّة؟ لتعرف أنه بينما كان «بطرس الناسك» يقضي ليله ونهاره في إعداد الخطب وتحبير الرسائل يحثُّ أهل أوروبا على احتلال أقطار المسلمين، كان الغزالي «حجة الإسلام» غارقًا في خلوته، منكبًّا على أوراده المبتدَعة، لا يعرف ما يجب عليه من الدَّعوة إلى الجهاد في سبيل الله تعالى...»، أليس حقًّا ما نقلته تلكما الشهادتان الصادقتان اللتان ما صدرتا إلَّا عن نفسين صافيتَين وعقليتين واعيتين ما رامَتا إلَّا الحق سبيلًا، والدعوة إلى الحقيقة منهجًا، فَوَضعتا أبا حامد في إطاره الصوفيّ الذي لا يحفل بمفهومٍ لجهادٍ في سبيل الله، ولا يأبه للخراب أو الدَّمار في بيوت الله، أو للتقتيل في عباد الله، إذ كان همُّهُ أن يكتب بما يتفتَّق عنه عقله، ليهدِّم من هدَّم، ويكفِّر من كفَّر، ويَعذر من عذَر؟!
فأيُّ فائدة من علمٍ لا تنتفع به البريَّة؟ وأي فضلٍ لعالِمٍ لا يتعاطى مع واقع حياته، ولا يحمل هموم قومه وأمَّته؟! إنه هروبٌ من الواقع، ما فعله الإمام وحجة الإسلام الغزالي، وفرارٌ من مباشرة الحياة التي دعا إليها الإسلام على أسسٍ صحيحة، وفي مقدمتها الجهاد للذَّود عن كرامة المسلمين، وديارهم، وأعراضهم، ووجودهم.
وها نحن ما زلنا إلى الآن، نعيش بالذهنية نفسها التي عاشها أبو حامد، فالصليبيَّة تحولت إلى صهيونية ـــ وإن كنا لم نتخلص من الصليبيَّة وما زالت حروبها تستعر على أرض العرب والمسلمين حتى يومنا هذا، وإنما بأثواب جديدة، وبأساليب محدَثة ـــ وهذه الصهيونيَّة لم تستولِ على بيت المقدس فحسب، ولم تشرِّد أهل فلسطين فحسب، بل إنها لا تزال تعمل على إذلالنا واغتصاب أرضنا وخيراتنا، فضلًا عمَّا تستعمل من الأساليب الخادعة لهدم معابدنا، وفي طليعتها المسجد الأقصى ـــ أولى القبلتَين وثاني الحرمَين ـــ، ولطمس معالم تاريخنا ومَحْوِ أي أثر لحضارتنا. وعلى الرغم من ذلك كله، فإن المسلمين ما زالوا في أقطار العالم كافة غافلين عن الخطر الصهيونيِّ الذي يتهدَّدهم، ويحاول القضاء على تراثهم. وهم إن أفاقوا لبرهة، فلكي يعقدوا مؤتمرًا أو يصدروا بيانًا، لا يردُّون فيه ظلم ظالم، ولا يصدُّون اعتداء غاصب!!! فإِلامَ نظلُّ هكذا وإلى متى تدوم تلك الغفلة، وعندنا من القُدرات ما نُرهب به عدوَّ الله وعدوَّنا؟! ومتى تحين الساعة التي نُعِدُّ لهم فيها ما استطعنا من قوة كما يأمرنا الله تعالى؟
هل هي دعوة إلى الجهاد؟ وهل أفضل من الجهاد في سبيل الله للذود عن كلمة الله وحياض المسلمين الموحِّدين بالله؟ أليس بيتُ المقدس بيتَ الله، وحوضًا من حياض الله أيها المسلمون؟ فانفضوا عنكم الذل، وهبُّوا مستجيبين للنِّداء العُلويِّ حتى تنالوا إحدى الحسنيَين. فهذا ممَّا يرضي الله تعالى، ويرضي رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم فهل نستجيب لدعوة الله والحق قبل أن يفوت الآوان؟
4 ـــ الغزالي بين المعجبين والمعترضين
لا أحد ينكر أنه كان للإمام الغزالي معرفة واسعة بعلوم عصره، ولا سيما منها علوم الفقه، والجدل، والمنطق، والفلسفة وعلم التصوف، وقد أمكن للغزالي، من خلال تلك المعرفة، أن يؤلِّف ويصنِّف الكثير في مجالات العلوم التي عرفها، حتى كانت له تلك الشهرة الكبيرة قديمًا وحديثًا. ممَّا جعل فئاتٍ عدة من الناس تُفتن به، إلَّا إنه يمكن حصرها إجمالًا في فئتين: الصوفية، ورجال الدِّين المستضعفين.
ولئن كان الغزالي موضع إعجاب من الكثيرين، فإنه في المقابل كان موضع انتقاد آخرين كثيرين أيضًا، إذ انبرى فريق من العلماء يتصدَّون لأفكاره بالتفنيد والنقد. وقد توزع هؤلاء إلى عدة أفرقاء، باعتراف الغزالي نفسه. هذا بالإضافة إلى المعترضين المحدَثين الذين أنكروا عليه وقوعه في متاهات التصوف، وعابوا عليه ذلك الموقف المتخاذل من أحداث عصره، على الرغم مما حملت من نتائج خطيرة على حياة المسلمين وممتلكاتهم ومقدساتهم.
وهكذا نجد الناس موزَّعين ـــ من قبل ومن بعد ـــ بين معجبين به ومعترضين عليه.
ومن المعجبين بالغزالي أيضًا، من غير الصوفية ورجال الدين المستضعفين، بعضُ المستشرقين الذين اهتمّوا بآثاره لأغراض دفينة وخبيثة كما سنرى.
فأما الصوفية، وهم المتكلمون في الولاية والكرامة وأصحاب المقامات والأحلام، فإنهم يُعدّون أنفسهم بمنزلة الشجرة المثمرة لتعاليم الغزالي وأفكاره، وإن كان إعجابهم به أو دفاعهم عنه من أجل غايات توخَّوها كالحرص على تأمين كيانٍ خاصٍّ بهم، وكتوفير مصادر للرزق يجنونها من ورائه، ذلك أنه بعد الصيت الكبير الذي ذاع للشيخ الغزالي، والشهرة الواسعة التي نالها، انكبَّ هؤلاء الصوفية على مؤلفاته يتدارسونها، وعلى أقواله يحفظونها، حتى صارت لهم القدرة على إلقائها على الأتباع والمُريدين، إذ بوجود هؤلاء وكثرتهم يمكن أن ينالوا الحظوة التي كانت لشيخهم في نفوس مُريديه والمعجَبين به. وتلك الحظوة قد تؤمِّن لهم المكانة التي ينشدون، وموارد الرزق التي يشتهون. وهكذا سار هؤلاء الصوفية على تعاليم معلِّمهم، وأخلصوا له العهد، من دون أن تكون عندهم نيَّة أو قدرة على تبيُّن مقاصده الصوفية، وما إذا كانت هذه التعاليم تخالف عقيدتهم الإسلامية أم لا، حتى لَيصحّ فيهم التشبيه بأنهم صاروا كالببغاوات التي تردِّد ما تسمع من دون أن تعيَ معنى ما تُرَدِّد.
وأما المستضعفون من رجال الدين، والمشتغلون باسمه، فعند هؤلاء التصوفُ والإسلامُ شيءٌ واحد. بل أكثر من ذلك، فإنهم يُعدّون أولئك الذين يسيرون على طريق التصوف الصفوة المختارة من المسلمين. وهم بذلك إنما يردِّدون ما قاله زعيمهم الغزالي، وينسجون على منواله، إذْ إنهم يعدّونه من أخلص الدُّعاة لمجاهدة النفس، وأعظم المرشدين للزهد في العيش وكراهية الدنيا. هذا في حين أن الإسلام لا يقرُّ هذه المغالاة الصوفية، وليس في سيرة رسوله العظيم، صلى الله عليه وآله وسلم، ما يدلُّ على هذه المغالاة قط، بل على العكس إن الإسلام يدعو إلى الاعتدال، الذي هو قوام الحياة. وقد أوضحنا ـــ في هذا الكتاب ـــ كيف أنَّ النبيَّ، صلى الله عليه وآله وسلم، كان يدعو إلى الاعتدال حتى في العبادة، كي لا يُكَرِّه الدعاةُ دينَ الله إلى عباده، لأن الخالق جل وعلا لا يكلّف نفسًا إلّا وُسعها.
لقد نسي الغزالي هذا كله، ودعا إلى المجاهدات والرياضات من أجل الوصول إلى العلم اللَّدُني، في حين أن رجال الدِّين المستضعفين اكتفوا باتِّباع خطواته في قهر النفس وترك الدنيا فقط. فكان تأثُّرهم به عن طريق وحدة الفكر بعد وقوعهم في الوهم بأنَّ الدِّين هو هروبٌ من الحياة، وليس فهمًا لهذه الحياة وتعاملًا معها بما تستحق. ولو كان الأمر بخلاف ذلك، فما نفع هذه الحياة، ولِمَ خلقها الله تعالى للناس؟
وإلى جانب أولئك المعجبين ـــ من صوفية ورجال دين ـــ يقف فريقُ المستشرقين المشتغلين بأبحاث التصوف ممَّن عدُّوا الغزالي أسلَمَ الفقهاء نظرًا، ووضَعُوهُ في المكان الذي اختاروه له بين رجال الإسلام، كما نجد ذلك عند أحدهم الذي عدَّهُ ثالث ثلاثة: أولهم الرسول الكريم، صلى الله عليه وآله وسلم، وثانيهم البخاري، والثالث هو الغزالي نفسه.
لقد وجد المستشرقون في صوفية الغزالي وآثاره في مذاهب الصوفية مادةً دسمة، مكَّنتهم من امتلاك الأساليب لاعتماد الشّبهات والطعون التي توجَّهوا بها إلى الإسلام، وقد رأينا من الأفضل عدم الخوض في تبيان ما اعتمدوا، حرصًا على توجُّه المسلمين في هذا الظرف العصيب من تاريخهم، وحتى لا تؤخذ فئة منهم بتدليس أولئك المستشرقين وخداعهم فيما يظهرون من حرص على البحث في الآثار الإسلامية في حين أن قصدهم ضرب الإسلام والانقضاض عليه، لذلك فإننا نترك للخاصَّة، ولمن أراد الوقوف على آرائهم والتبصّر فيها حول الصوفية، أن يعودوا إلى مؤلفاتهم، وسوف يكتشفون التزوير المتعمَّد، والمحاولات السافرة والمبطّنة لتحقيق هدفهم التآمري على الإسلام وأهله.
أما بالنسبة إلى المعترضين على الغزالي والمفنِّدين لآرائه، فإنَّ هؤلاء لا يجدون شيئًا جديدًا ابتكره الغزالي في التصوف، ولا أيَّ فرقٍ جوهريٍّ بين تصوُّفه وتصوُّف الذين سبقوه إبَّان القرنين الثالث والرابع الهجريَّين، من ناحية «أحوالهم، ومقاماتهم، وتلاعبهم بالنصوص الإسلامية وبعقول العوامِّ والمغفلين». ويبرهنون على ذلك بالقول: إن الغزالي عندما يتحدث عن «الغناء وآثاره وما يُحدثه من الوجد والتواجد على النحو الذي يخرج به الصوفية على شعورهم، فيرقصون ويُغَنّون، ويغيبون عن الدنيا، فإنه يدَّعي بأن هذه المرحلة التي يصلون إليها هي درجة الصدِّيقين، وهي من أعلى درجاتهم وأفضل أحوالهم. وعندما يتحدث عن الزهد والتوكل والفناء الصوفيّ، وغير ذلك من أحوالهم ومقاماتهم، فإنَّ القارئ يحسُّ بأنه يعيش مع البسطامي، والشبلي، والجنيد، ويحيى بن معاذ، ويوسف العجمي، وغيرهم من أولئك الذين كانوا يضلّلون الناس ويلعبون بعقولهم، والذين اتهموا بالإلحاد، والزندقة والخروج عن الدين».
والغزالي نفسه، وفي تاريخه لحياته في رسالة (المنقذ من الضلال)، يذكر أن جماعة من العلماء قامت تعترضه، وتقف في وجهه. وهو يقسّم هؤلاء ثلاثة أفرقاء:
فريق عاب عليه أَخْذَهُ بأحوال الصوفية، وتَرَسُّمَ خطاهم، والنقلَ عنهم. وفي هؤلاء يقول أبو حامد: «إنهم من الذين لم تستحكم العلومُ سرائرَهم، ولم تتفتَّح إلى أقصى غاياتِ المذاهب بصائِرُهُم». وهو يعني بهم غير المتصوفين.
وفريق سمَّاهم «أهل الحق» عندما قام بالردِّ على الباطنية. ونترك له الكلام على هؤلاء حيث يقول: «أنكر بعض أهل الحق في مبالغتي في تقرير حجج الباطنية، وأنهم كانوا يعجزون عن نصرة مذهبهم بمثل هذه الشبهات، لولا تحقيقك لها وترتيبك إيَّاها».
والفريق الثالث هو الذي أنكر على الغزالي أَخْذَهُ بالفناء، وما يؤدِّي إليه من الحلول والاتِّحاد، أو ما يقوم عليه من الذوق، والمكاشفات، وكرامات الأولياء، وهؤلاء وصفهم حجة الإسلام بالجهل والإنكار والهذيان، وقال عنهم: «إنهم المعنيُّون بقوله تعالى: [أُوْلَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءهُمْ] (محمد: 16)»...
ويُعدّ ابن الجوزي، الحافظ المحدّث، في طليعة المعترضين على الغزالي، بعدما كشف كثيرًا من مغالطاته في مؤلفه (تبليس إبليس) عندما قال: «لقد جاء في إحياء أبي حامد الغزالي أن ابن الكريتي قال: لقد نزلتُ في محلةٍ فعرفت فيها بالصلاح، فنَشِبَ ذلك في قلبي، فدخلت الحمَّام وعيَّنت على ثياب فاخرة وسرقتها ولبستها ثم لبست مرقعتي فوقها. وخرجت وجعلت أمشي قليلًا قليلًا، فلحقوني وصفعوني ثم أخذوا الثياب وانصرفوا. فصرت أُعرف بعد ذلك بلصِّ الحمَّام، فسكنتْ عند ذلك نفسي وزال عنها ما كنت أشعر به من الإعجاب. ولقد جعل لذلك أبو حامد وجهًا صحيحًا مقبولًا حيث قال: «إن الصوفية يُروِّضون أنفسهم ليخلِّصهم الله من النظر إلى الخلق ثم من النظر إلى النفس. وأصحاب الأحوال ربما يعالجون أنفسهم بما لا يُفتي به الفقيهُ لإصلاح قلوبهم، ثم يتداركون ما صدر منهم، كما فعل هذا في الحمَّام». وبعد أن يورد ابن الجوزي تلك الحادثة ورأي الغزالي فيها يعقِّب على ذلك بما مؤداه: «سبحان من أخرج أبا حامد من دائرة الفقه بتصنيفه كتاب «الإحياء» وليته لم يدوِّن في كتابه ما لا تُبيحُهُ الأديان، ثم يستحسنه، ويُسمّي أصحابه أرباب الأحوال، وأي حالة أقبح وأشد من حال المخالفين لشرع الدِّين الذين يطلبون صلاح قلوبهم بفعل المعاصي، وكأنهم لا يجدون في الشريعة ما يُصلح لهم قلوبهم فيضطرون إلى إصلاحها بالمعاصي، وإني لأعجب من هذا الفقيه (يقصد به الغزالي) الذي أفقده التصوف فقهه وراح ينتحل للصوفية الأعذار والمبررات. وما أشبه هؤلاء برجال السياسة الذين يقطعون ما لا يحل لهم قطعُه، ويقتلون ما لا يحل لهم قتلُه، ويسمُّون ذلك سياسةً وإصلاحًا».
وكما كان أبو حامد موضع إعجاب عند بعضهم وموضع نقدٍ عند آخرين، فقد تفرَّقت الآراء كذلك حول مؤلفاته، ولا سيما أشهرها لناحية التصوُّف، ونعني (المنقذ) و(الإحياء). ففي حين يُعدّ أحدهم كتاب (المنقذ) وحيدًا من نوعه في الثقافة الإسلامية، يُعدّ غيره كتاب (الإحياء) مجرَّد كتاب عاديّ، لا يقدِّم ولا يؤخر في مفاهيم الصوفية بشيء.
فالدكتور جميل صليبا، وفي مقدمة كتاب (المنقذ من الضلال) يقول عنه: «إنما هو قصة فكرية مضطربة، وصورة نفس مفعمة بالإيمان، ميَّالة إلى الحق، باحثة عن اليقين. لا بل هو قصة ألمٍ نفسيّ، ونزاع عميق بين العقل والإلهام، كتبه الغزالي بأسلوب سهل عليه طابع الصدق والأمانة والبساطة والنقاء حتى جاء أوحد نوعه في الثقافة الإسلامية، وقليل الشبه في الأدب العالمي بأسلوبه ومنحاه، ووحدة غرضه، واستقامة منهجه».
هذا في حين أن الأستاذ محمد البهيلي النيال، في كتابه (الحقيقة التاريخية للتصوف الإسلامي) يقول عن كتاب (إحياء علوم الدين): «أما كتابه (الإحياء) فلو لم يكن ولو لم يظهر لما فَقَدَ علمُ التصوف شيئًا من أصوله وفروعه، فمتون هذا العلم وشروحه المستكملة قد دُوِّنت في (اللمع) و(قوت القلوب) و(الرسالة) من قبل. وحتى (عوارف العوارف) الذي أُلِّفَ بعد (الإحياء) كان موضوعه في صميم التصوف بلا تهافت ولا فضول». ويضيف قائلًا: «والغزالي قد أهمله الشعراني ولم يرض ذكره في الطبقات»، ويروي الأستاذ النيال بأنه لما وصل كتاب (الإحياء) إلى فاس في ولاية علي بن يوسف تاشفين (500 ـــ 537هـــ) انتقده القاضي وأعيان الفقهاء، وأشاروا على الأمير بإحراق ما وُجد منه. فأمر بذلك وأُحرق ما كان منه موجودًا، ومُنِعَتْ كتُبُه في بلاد المغرب والأندلس. وكان ذلك عام 507هـــ». كما يروي الأستاذ النيال أيضًا أن أبا الربيع سليمان الأندلسي كان ينتقد كتاب (الإحياء) ويقول: «متى ماتت علومُ الدِّين حتى تحيا؟ فإنها ما زالت حية ولا تزال».
هذا وقديمًا أجمع قضاة قرطبة على تحريم قراءة كتب الغزالي وإحراق نسخها. وفي عصرنا وقفت المملكة العربية السعودية موقفًا حاسمًا من مؤلفات الغزالي، وجميع المؤلفات التي تماثلها، فمنعت تداولها وحرَّمت دخولها، في حين شاع تداول هذه الكتب في البلاد التي أصابتها أمراضُ العقليةِ الصوفية.















المصادر
1 الصُّفة: مرتفع من الأرض يبنى إلى جانب الجدران كالمصطبة يجلس الناس عليها صفوفًا بخطٍّ مستقيم.
2 احتنك: استولى. احتنك الشيء: استولى عليه.
3 الدِّرَّة: جمعها دِرر: السوط يضرب به.
4 الطُّحْلُب: الاخضر الذي يعلو الماءَ.
5 خُلوف: تغيُّر رائحة الفم وفسادها.
6 راجع كتاب التصوف في الإسلام للدكتور عمر فروخ.
7 نَشِبَ: علق فيه.
مقدمة الكتاب
القسمُ الأوّل
القِسم الثاني
القِسم الثالِث
القسم الرابع
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢