نبذة عن حياة الكاتب
سلسلة أعلام التصوف
الطبعة : الطبعة الاولى
المؤلف : سميح عاطف الزين
فئة الكتاب : السير
عدد الصفحات : ٩٢٩
تاريخ النشر : ١٩٨٨

إبرَاهيمُ بْنُ أَدْهَم
سِلسِلة أعلامِ التصوّف



إبرَاهيمُ بْنُ أَدْهَم

دراسة وتحليل

سِميح عاطِف الزّين

الشركة العالمية للكتاب
دار الكتاب اللبناني ـــ مكتبة المدرسة







بِسْم الله الرَّحمٰن الرَّحيم

مقَدّمة عامّة
إننا اليومَ نواجه تحدِّيات العصر، واختلاطَ المفاهيم، وفوضى المبادئ والنظريَّات. وواجبُنا إمَّا الوقوف أمامها كمسلمين ينهضون بالدعوة على مستوى الرسالة الكريمة السليمة، وإمَّا التقوقُع والاستكانةُ أمامَ مفاهيم سقيمةٍ ما فتئت تشوبها عبرَ العصور.
فمن أجل الإسلام الصحيح الَّذي أنزلَه الله تعالى على رسولِه الكريم، ندعو المسلمين وغير المسلمين إلى قراءة هذه السلسلة برويّةٍ وعمق، بعيدًا من الانفعالِ والتعصُّب، ليرَوْا عدمَ تجنِّينا على الصوفية والمتصوِّفين، وليَلمسوا أننا ناقشنا الفكرة بموضوعية وهدوءٍ من خلال القرآن العظيم والسنَّة الشريفة، بُغيةَ كشفِ الحقيقة ولمِّ الشَّمل على «كلمة الحق» التي تُعيدنا أمةً واحدةً كما أرادنا إسلامُنا، وكما أراد الله تعالى ورسولُه وصحابته الكرام. ونحن لا نُنكر عمل بعض حَملة الصوفيَّة من المتزهِّدين الذين ذبُّوا عن الدِّين قديمًا وحديثًا، لكننا نحمل راية النّكير على أصحاب الأفكار الملتوية من الذين أساؤوا فهم التزهُّد وفَهْمَنا، وانحرفوا عن جادَّة الحق، ورمَونا بما لا يجوز للمسلم أن يرميَ به أخاه، مع أن البَون شاسعٌ بين ما هم عليه من أفكارٍ وعمل، وما هو عليه كتابُ الله وسنَّةُ رسوله من رسمٍ وتشريع، لأنهم مَزجوا آراءهم بآيات قرآنيَّةٍ أوَّلوها، وبأحاديث نبويَّةٍ وضعوها، فتقبَّل ذلك البُسَطاءُ، ودخلَ ـــ بذلك ـــ في الدِّين ما ليس من الدِّين.
فيا أيُّها المسلمون، ما من أحدٍ منَّا مُعفًى من المسؤولية، والواجبُ على كل واحدٍ أن يرابط على ثغر من ثغور الإسلام فلا يُؤْتَيَنَّ من قِبَلِه، لأنَّ الأعداء لا يأتون من قِبَلِ الجنديّ المرابط. وبذلك نقف للآراء المنحرفة والأفكار المسمَّمة بالمرصاد من أيِّ جهةٍ صدَرتْ، ونحافظ على مصالح الأمَّة ورسالتها الخالدة، ونستعيد قوَّتنا ومِنْعَتنا، ونرجع إلى ارتقاء مركز الصَّدارة في عالَم التوجيه والعمل الحضاريِّ الذي فقدناه لمَّا تفرَّقنا وصرنا شِيَعًا. ثم تزول الفُرقة بين الفِرَق، وتتمُّ وحدةُ «الرأي» ووحدة «الهدف الخيِّر».
من هنا رأينا لزامًا علينا أن نبحث في هذه السلسلة ماهية التصوف ومصادره، وكيف دخل إلى بلاد المسلمين، ومَنْ دعاتُهُ الأوائل، وماذا كانت معتقداتهم وآراؤهم، وما الأساليب التي اتبعوها لنشر تلك المعتقدات والآراء، وبالتالي هل يتوافق التصوُّف، في ذلك كله، مع إسلامنا الذي يقوم على الكتاب والسنَّة؟ وبصورة شاملة نقول: ما التصوُّف في نظر الإسلام؟
هذا هو الذي تحاول سلسلة أعلام التصوف، الإِجابة عنه، بعدما توخينا أن تأتي هذه الأبحاث موضوعية بعيدة من الانفعال أو التعصُّب لفكرةٍ معيَّنة، وعن طريق الاحتكام دائمًا، في جميع الأبحاث، أو عند مناقشة الأفكار، إلى كتاب الله المجيد وسنَّة رسوله الكريم، وهما خير مرشد للحقيقة، لأنَّ أيَّ حقيقة في الأصل، إن لم تلتقِ معهما، فهي ليست من الحقائق إلَّا في ذهن صاحبها، أو في ذهن من انخدع بها، من دون أن يدرك كنهها!!!
وما هذه السلسلة إلَّا إبرازٌ واضحٌ لأهم مذاهب الصوفيَّة والقائلين بها، ولجميع ما تفرَّع منها. ولم نكن فيها مع هذا ولا ضدَّ ذاك، لكنَّنا ناقشنا الصوفِّيين بمعيار الإِسلام النابع من الكتاب والسنَّة، وبَقينا ـــ إن شاء الله ـــ مع الإسلام. فنأمل من كل قارئٍ كريمٍ يَعثرُ لنا على ما يظنُّه خطأً، أن يفكِّر ويتأمَّل ويزن الأمر بميزان الدِّين القويم، ثم ينبِّهنا إلى ما وجده عنده حقًّا، لنشكرَه أَنْ هَدانا إلى ما يُرضي ربَّنا عزَّ وعلا. ونحن على استعدادٍ لتصحيح ما يمكن أن يكون قد فرَط منَّا، والعصمةُ لله وحدَه.

اسم التصوُّف
لقد ردَّ الباحثون القدماء والمحدثون كلمة «التصوف» و«الصوفية» إلى أصول مختلفة:
ـــ فقال فريق إنها تعود إلى أصل إسلامي، أي إلى «الصُّفَّة» وهي زاوية أقامها رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، خارج مسجد الصفاء في المدينة، ذات حيطان ثلاثة، فكان بعض فقراء المسلمين ـــ وخصوصًا من أولئك المهاجرين الذين لم تؤمَّنْ لهم بيوت في المدينة ـــ يأوون إليها اتِّقاءً للحر والبرد، وهؤلاء هُم الذين نزلت فيهم الآية الكريمة: [لِلْفُقَرَاء الَّذِينَ أُحصِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاء مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ] (البقرة: 273).
ومن أهل الصفّة المستضعفين الذين عذَّبتهم قريشٌ وآذتهم. يُذكر بلال، وعمار بن ياسر، وصهيب، وعبد الله بن عبد الأسد المخزومي، وعكاشة بن محسن الأسدي، والعرباض بن سارية، ومنهم أيضًا سلمان الفارسي، وجندب بن جنادة (أبو ذر الغفاري)، وخباب بن الأرت، وأبو لبابة الأنصاري (بشر بن عبد المقدر) وغيرهم. وقد ظَلَّ هؤلاء المسلمون ـــ وهم من الصحابة الأخيار ـــ مشمولين بعناية خاصة، ورعايةٍ تامَّةٍ من رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، إذ كان لا يتعشَّى إلَّا إذا أطعمهم، ويهتم بشؤونهم كاهتمامه بشؤون المسلمين كافة من ذوي اليسار. وظلّوا على هذه الحالة حتى جاءَ النصرُ من عند الله، فانطلقوا ينفضون عنهم غبار الفقر، ويعافون حالة الضعف التي كانوا عليها، لأنهم لم يكونوا ليرتضوا هذه العيشة التي فرضتها عليهم ظروفٌ قاسيةٌ حاقت بهم، فإنهم قوم ما خرجوا من ديارهم مهاجرين إلَّا ونفوسهم توّاقةٌ للعمل الحلال، والجهاد في سبيل الله لإعلاء كلمته، كما وصفهم الله عز وجلَّ بقوله تعالى: [لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ] (الحشر: 8).
هذه هي صفاتهم في القرآن الكريم، [يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللهِ] أي عيشًا كريمًا، لا ذُلًّا وفقرًا ومهانةً ـــ وَيَنْصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ، لأنَّهم الصادقون، المخلصون. وفي كتاب الله، وسنّة رسولِهِ، أصدَقُ النبأ عن حالهم، فإن أحدهم ـــ وهو العرباض بن سارية ـــ راحَ يبكي بنفس محترقة لأنه لم يجد دابَّةً كي يزحف مع إخوانه إلى غزوة تبوك، فكان من البكائين الذين نزل فيهم قوله تعالى: [وَلاَ عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّواْ وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلاَّ يَجِدُواْ مَا يُنفِقُونَ] (التوبة: 92)، وواحدٌ آخَرُ منهم، هو عبد الله بن عبد الأسد المخزومي، يبيِّن لنا كيف كانوا يشتكون عند رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، من ضائقتهم، (على ما نجده في ترجمة ابن النعيم في الحلية) إذ يقول: «كنّا عند رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، فشكونا إليه الفقر والعُري وقلَّة الشيء. فقال لنا عليه وعلى آله أفضل الصلاة والسلام: «اصبروا، فوالله لأنا من كثرةِ الشيء أخوَفُ عليكم من قلَّته، وإنه لا يزال هذا فيكم حتى تفتح لكم أرض فارس والروم وأرض حِمْيرَ، وحتى تكونوا أجنادًا ثلاثة: جندٌ بالشام، وجندٌ بالعراق، وجندٌ باليمن؛ وحتى لَيُعطى الرجلُ المئة دينار فيسخطها».
وبالفعل فقد شارك كلُّ من كان يأوي إلى الصفّة في المهمّات التي ندبَ المسلمون إليها أنفسهم، وتبوَّأَ بعضهم مراكز مهمّة كعمار بن ياسر وعبد الله بن مسعود وغيرهما.
ومثل هذين الصحابيَّين الجليلَين، قد عمل جميعُ أهل الصفّة ـــ على مدى حياتهم ـــ للدارَيْن، فوفِّق مَن وفِّق في تحقيق الآمال التي يرجوها من راحةٍ وهناءة وغنًى وغير ذلك، ولم يندبْ أحدٌ منهم نفسه لجوعٍ أو قهرٍ أو عنتٍ أو ارتحالٍ في الأرض، يبتغي نزعةً تصوفية لا يعرفها، أو يُفني عمره في زهدٍ قاتلٍ لا يأمرُهُ به دينُهُ.
إذن، فالتصوُّف لا يمكن إرجاعُ أصله إلى أهل الصُّفَّة. ومن قال بذلك فقد أرادَ أن يجعل لهذا التصوُّف مصدرًا إسلاميًّا عريقًا، إلَّا إنه أخطأ، ولم يُصبْ شيئًا من الحقيقة، وأبسط الأمور الدّالة على ذلك هو الدليل اللغوي: فالنسبة إلى الصُّفَّة «صُفِّي» لا «صوفي».
ـــ وقال فريقٌ آخر من الباحثين إن اسم الصوفي جاءَ من «الصفَويين» ثم تطوَّر فصار صوفيًّا، أو أنه جاء من كلمة «صفَوي» وصار صوفيًّا، أو أنَّ اشتقاق الصوفي من الصَّف، بمعنى أن الصوفيَّ، من حيث الروحانية، يُعدّ في الصف الأول بين يدَي الله تعالى أو لاتِّصاله به عزَّ وجلَّ. وهذا طبعًا غريب عن الإسلام لأنه لم يرد في القرآن شيء عن الصفَوي، ولا عن صاحب مكانةٍ متقدمة في روحانيته، إلَّا بمقدار ما خدم الإسلام، وبمقدار ما عمل لإعلاء كلمة الله. وما يجب على المسلم أن يدركه هو أنَّ الله تعالى اختار ثلةً من عبادهِ الصالحين، واصطفاها لحمل رسالاته إلى الأرض، وليس أهل التصوف من الأنبياء ولا المرسلين ولا من أوصياء الأنبياء المقرَّبين، لأنَّ الرسالات السماوية ختمت بالنبيِّ محمد، صلى الله عليه وآله وسلم، فكان خاتم النبيِّين صلوات الله عليهم بنَص القرآن الكريم إذ قال سبحانه وتعالى: [مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا] (الأحزاب: 40) والله تعالى هو أصدق القائلين.
ـــ وهنالك فريق من العلماء ينسبون اسم الصوفي إلى الصَّفاء أو الصفو، بمعنى أن الصوفي هو أحد خاصَّة الله الذين طهَّرَ قلوبهم من كدرات الدنيا، أو أنه مَن صافَى ربَّهُ، فهو صوفي «وهؤلاء العلماء قد خالفوا بذلك قواعد اللغة العربية، وبلغ بهم التحايل في اللغة إلى أن جعلوا الفعل المبني للمجهول اسمًا تلحق به ياء النسب».
ـــ وعن اسم الصوفية قال ابن الجوزي: إن محمد بن ناصر روى عن إبراهيم بن سعيد الحبال، عن عبد الغني بن سعيد الحافظ أنه قال: سألتُ وليد بن القاسم إلى أي شيء ينتسب الصوفية؟ فقال: «كان قوم في الجاهلية يقال لهم «صوفة»، انقطعوا إلى الله عزَّ وجلَّ، وقطنوا الكعبة، فمن تشبَّهَ بهم فهم الصوفية. ومضى يقول: إن هؤلاء المعروفين «بصوفة» هم من ولد الغوث بن مرة ابن أخي تميم بن مرة». ونقل عن الزبير بن بكار أنه قال: «كانت الإجازة بالحج للناس من عرفة إلى الغوث بن مرة أو بن طابخة، ثم صارت له في ولده ويقال له صوفة، فإذا حانت الإجازة قالت العرب: أَجْزِ صُوفة» وأضاف الزبيرُ بن بكار إلى ذلك أن أبا عبيدة كان يقول: «يقال لكلّ من وَليَ البيت شيئًا من غير أهله وقام بشيء من أمر المناسك: صوفة وصوفان. وروى كذلك قائلًا: «حدثني أبو الحسن الأشرم عن هشام بن محمد السائب الكلبي أنه قال: إنما سمّي الغوث بن مرة «صوفة» لأنه لم يكن يعيش لأمه ولدٌ، فنذرت إذا عاشَ لها لتُعلقنَّ برأسه صوفة ولتجعلَنّهُ ربيط الكعبة، فلما فعلت قيل له ولولده من بعده: صوفة».
وفي رواية ثانية للزبير بن بكار تنتهي بسندها إلى عبد العزيز بن عمران، تشبه في مضمونها الرواية السابقة. قال: «أخبرني عقال بن شبة: أن أم تميم بن مرّة كانت تلد البنات فقالت: لله عليَّ إن أنا ولدت غلامًا لأربطنه عند البيت، فولدت الغوث بن مرّة، فلما ربطته مرت عليه يومًا وقد أصابه الحرُّ حتى سقط واسترخى، فصرخت تقول: ما صار ابني إلَّا صوفة، فسمِّي صوفة. وكان الحج وإجازة الناس من عرفَة إلى منى إلى مكة لصوفة؛ ولم تزل الإِجازة في عقب صوفة حتى أخذتها عدوان، وبقيت بيد عدوان إلى أن انتهت إلى قريش».
هذه مجرد روايات، وهي إن صحَّت فإنما تدلُّ على بعض معتقدات الجاهليين. ولا يجوز للمسلمين أن يتشبّهوا بأهل الجاهلية في فِعال أو تقاليد لم يُقرَّها الإسلام.
ـــ ومن الباحثين في اسم التصوف الدكتور الشيبي الذي يردُّ أصل التصوف إلى الشيعة وإلى علي بن أبي طالب، عليه السلام، بالذات. فيقول: «إنَّ ابن خلدون قال: إن الصوفية قد تأثروا بالشيعة، وتوغَّلوا في الديانة بمذهبهم حتى جعلوا مستند طريقتهم في لبس الخرقة: أنَّ عليًّا ألبسها الحسنَ البصري وأخذ عليه العهد بالتزام الطريقة». لكنَّ هذا الرأي، إذا توقفنا عنده قليلًا، نجده يحمل مغالطاتٍ كثيرة أهمها:
أولًا ـــ إن الحسن البصري عاش نحو ثمانين سنة وتوفي عام 110 هــ، في حين أن وفاة عليٍّ، عليه السلام، كانت عام 40 هــ. بمعنى أنه كان للحسن البصري من العمر عند وفاة عليّ، عليه السلام، عشر سنوات، وهي سنٌّ مبكِّرة لا تسمح للبصري بتلقي الطريقة وفهمها، ولا سيَّما أن طريقة التصوُّف لم تكن معروفة قطُّ في ذلك الزمن.
ثانيًا ـــ لماذا اختار علي، عليه السلام، ولدًا من بين سائر الناس حتى يلبسه الخرقة، ويلقَّنه الطريقة، أَفَما كان أبناؤه وشيعتُه أولى بذلك لو كان صحيحًا؟! والحسن البصري ليس من شيعته كما هو معروف.
ثالثًا ـــ أن عليًّا، عليه السلام، انتقل من المدينة إلى الكوفة في السنة التي بويع فيها بالخلافة، بعد معركة البصرة، ولم يكن البصري يسكن البصرة حتى نقول ـــ جزافًا ـــ بأن عليًّا، عليه السلام، التقاه.
رابعًا ـــ أن عليًّا، عليه السلام، كان من أشد الناس تعلقًا بالنبي، صلى الله عليه وآله وسلم، وأقربهم إليه، وأحفظهم لسيرته وهداه، فإن نسبنا إلينا أصلَ التصوف فكأنما ننسبه إلى رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، وهذا منتهى الشطط في التفكير، والتجنِّي في الافتراء.
فالنسبة، إذن، بدعة ليس إلَّا، وقد دحضَها كثيرون من أهل العلم والإنصاف. ومن هؤلاء محمد ابن السيد درويش البيروني الذي نقل دحضَهُ عن كلٍّ من دحيّة وابن الصلاح اللَّذَين عدّا مثل تلك الرواية حديثًا باطلًا، وأضاف ابن حجر: «إن ذلك الحديث غير ثابت، ولم يرد عن علي، عليه السلام، أنه ألبس البصريَّ الخرقة على الطريقة الصوفية لا في خبرٍ صحيح ولا في ضعيف».
ومثلما كان الافتراء على عليّ، عليه السلام، في إلباس الخرقة الصوفية للبصري، فكذلك ورد افتراءٌ مثلُه على أنبياء الله، سلام الله عليهم. فقد جاء في (التصوّف بين الحق والخلق) عن (عوارف المعارف) المطبوع على هامش الإحياء للغزالي: أن الصوفية قد أرجعوا لبس الخرقة إلى النبيِّ إبراهيم الخليل، عليه السلام، وحوَّروا حديث قميصه لمصلحة طريقتهم فقالوا: إنَّ إبراهيم عندما أُلقي في النار جُرِّد من ثيابه وقُذف فيها عريانًا، فأتاه جبرائيل بقميص من حرير الجنة وألبسه إيَّاه، فلما مات إبراهيم ورثه إسحاق، ولما مات ورثه يعقوب، فجعل يعقوب هذا القميص في تعويذة على عنق يوسف وكان لا يفارقه، فلما ألقي في البئر عريانًا جاءه جبرائيل وألبسه إيَّاه. ويعتقد الصوفية أن القميص كان فيه ريحُ الجنة، ولأجل ذلك كانت الخرقة للمريد الصادق. ويضيف المصدر المذكور بأن محيي الدين بن عربي كان يعتقد بأن الخرقة كان الخضر، عليه السلام، يُلبسها بيده إلى أولياء الله. وقد ادَّعى ابن عربي بأنه لبس خرقة الخضر من يد تقي الدين عبد الرحمن بن علي بن ميمون بن النورزي، ولبسها هذا من يد صدر الدين شيخ الشيوخ في الديار المصرية وهو محمد بن حموية، وكان جده قد لبسها من يد الخضر، عليه السلام.
أرأيت مثل هذه الخرافات التي كلها بدع مُبتدعة، كي يجعلوا للتصوف أصلًا دينيًّا يوهمون الناس به: إما بنسبته إلى أنبياء الله الصالحين، أو إلى أحد الخلفاء الراشدين.
على أن غالبية الباحثين يردون أصل التصوف إلى اشتقاقه من الصوف الذي كان «لباس الأنبياء ورمز الأولياء» على حد تعبير الصوفية، كما جاء عند أبي نصر السراج مؤلف أقدم كتاب عربي في التصوف، أو كما جاء في عوارف العوارف للسهروردي حيث قال: «وإن الذين لبسوا الصوف قد اختاروه لرفضهم زينة الدنيا، وقناعتهم بسد الجوعة، وستر العورة، واستغراقهم في أمر الآخرة. ولم يتفرَّغوا لملاذ النفوس، والدنيا وراحتها، لشدة شغلهم بخدمة مولاهم وانصراف همهم إلى عبادته». ويضيف قائلًا: «وهذا الاختيار يلائم ويناسب من حيث الاشتقاق، ويصح أن يقال: (تَصَوَّفَ) لمن لبس الصوف، كما يقال (تَقَمَّصَ) إذا لبس القميص»، كما يضيف إلى ذلك: «ولمَّا كان حالهم بين سير وطير (أي يطيرون في الهواء كما يسيرون على الأرض) لتقلُّبهم في الأحوال وارتقائهم من عالٍ إلى عال، لا يقيدهم وصفٌ ولا يحبسهم نعتٌ، فلما تعذَّر تقيُّدهم بحال (لكثرة تعدُّد آرائهم ومفاهيمهم والطرائق التي ابتدعوها) نُسِبوا إلى ظاهر اللبسة، وكان ذلك أَبْين في الإشارة إليهم وأَدْعَى إلى حصر وصفهم، لأنَّ لبس الصوف كان غالبًا على المتقدِّمين من سلَفَهم».
وهكذا يتبين أن كل الأسانيد التي ذهَبَ الباحثون إليها في أصل التصوف، إنّما هي مجرد آراء واجتهادات، أو روايات ومنقولات، ليس لها أساسٌ ثابت، وإن كان الغالبُ أن الصوفية قد اتَّخذوا لباسَ الصوف والخرقة شعارًا لهم حتى صاروا يُعرفون به.
أما المستشرقون فيردُّون أصل اللفظة «صوفي» إلى مصادر غير عربية. فيقول «جوزف فون هامر» في كتابه (تاريخ البلاغة عند الفرس): إن الصوفية ينسبون إلى الهنود القدماء المعروفين باسم «الحكماء العراة». وإنَّ الكلمتين العربيتين: صوفي وصافي مشتقتان من نفس الأصل الذي اشتُقت منه الكلمتان اليونانيتان: سوفوس Sophos وسافيس Saphis. لذا فهو يُعدّ أن كلمة «صوفي» مرادفة لكلمة «سوفوس». ولقد حدَّد ماسينيون أول تاريخ لظهور هذا اللفظ أي «الصوفي» بالنصف الثاني من القرن الثاني للهجرة مع جابر بن حيان الذي كان يسمى الصوفي، ومع أبي هاشم الكوفي الصوفي، وأضاف: إن جمع الصوفي على صوفية قد ظهر عام 199 هــ بمناسبة فتنة صغيرة قامت في الإسكندرية، بعد أن كان مقتصرًا على مَن في الكوفة، حتى إذا مرت على ولادته خمسون سنة فيها صار يطلق هذا الاسم على كل صوفية العراق. أما في خراسان وجِهاتِها فقد كان الاسم الغالب على الصوفية «الملامتية».
هذا ويعدّ الأستاذ جبور عبد النور في (التصوف عند العرب): أن لبس الخرقة لا أثر له في الإسلام، وقد أخذه الصوفية عن الديانة البوذية، التي من شروطها ـــ كما يقول ـــ الزهد في الدنيا، وحياة الفقر، وحلق الرأس، ولبس الخرقة الصفراء.
ويذكر الأستاذ عبد الرحمٰن بدوي: أن اسم الصوفية أصبح منذ القرن الرابع الهجري، علمًا على جميع الصوفية المنتشرين في أنحاء العالم الإسلامي.

ماهيّة التصوُّف
لم يقتصر الخلاف عند الباحثين على الأصل الذي تعود إليه تسمية الصوفي، بل إنَّ تحديد التصوُّف هو مجال اختلاف كبير أيضًا حتى عند الصوفية أنفسهم، بحيث نجد تحديدات لا حصر لها ظهرت على ألسنة الشيوخ والأقطاب الصوفية، وهي تختلف بعضها عن بعض إن بالشكل أو بالجوهر.
فعن إبراهيم بن أدهم يُروى أنه تعلم الصوفية من راهب يقال له سمعان، إذ دخل عليه يومًا صومعته وسأله: منذ كم أنت في صومعتك هذه؟
قال: منذ سبعين سنة.
فعاد يسأله: ما طعامك؟
فإذا بالراهب يقول له: وما يدعوك إلى هذا السؤال؟
فقال إبراهيم: أحببت أن أعلم.
قال له الراهب: في كل ليلة حمِّصة.
قال إبراهيم: فما الذي يهيج من قلبك حتى تكفيك هذه الحمِّصة؟
فقال الراهب، وهو يعني الملائكة: «إنهم يأتونني في كل سنَة يومًا واحدًا، فيزيِّنون صومعتي، ويطوفون حولها يعظمونني بذلك، وكلّما تثاقَلتْ نفسي عن العبادة ذكَّرتُها تلك الساعة، فأنا أحتمل جهد سنة لعزِّ ساعة». فيقول إبراهيم بن أدهم: «فوقر في قلبي المعرفة».
والجنيد، وهو أحد أقطاب الصوفية، يعطي عدة تعريفات للتصوف. فعندما سأله أحدهم عن ماهية التصوف قال له: «التصوف أن تكون مع الله تعالى بلا علاقة».
وعن المتصوّفة يقول: «إنهم أهل بيت واحد لا يدخل فيه غيرهم». ويُعدّ الصوفيَّ «كالأرض يُطرح فيها كل قبيحٍ ولا يَخرج منها إلَّا كل مليح»، وعن التصوّف أيضًا يقول: «التصوف ذكرٌ مع اجتماع، ووجْدٌ مع استماع، وعملٌ مع اتباع».
أما أبو بكر الشبلي فيرى في التصوف «أنه الجلوس مع الله بلا همٍّ. وإن الصوفي هو الذي ينقطع عن الخلق فيتصل بالحق، وإن الصوفية هم أطفالٌ في حجر الحق».
ويفرِّق الحسين بن منصور الحلّاج بين الصوفي والمتصوف، عندما يرى أن «مَنْ أشارَ إليه فهو متصوّف، ومن أشار عنه فهو صوفي. فالأول لا يزال يفرِّق بين الرب والعبد، والثاني قد اتَّحد بالذات الإلٓهية حتى صار يتكلم عنها وباسمها»!!!
وفي (تلبيس إبليس) لابن الجوزي أنه عثر مع أحدهم على كتاب مكتوب عليه: من الرَّحمٰن الرحيم إلى فلان ابن فلان، فلما سئل صاحبه قال: هذا للحلّاج. فلما جيء به قال: نعم هذا من خطِّي وأنا كتبته، وقيل له: كنت تدَّعي النبوة فصرت تدَّعي الربوبيَّة؟ فقال: «لا أدَّعي الربوبية، لكن هذا عين الجمع عندنا. هل الكاتب إلَّا الله، واليدُ آلةٌ لا غير؟».
وفي (عوارف العوارف) عن معروف الكرخي أنه قال: «إن سهل بن عبد الله قال: إن الصوفي مَن صفا من الكدر، وامتلأ من الفكَر، وانقطع إلى الله عن البشَر، واستوى عنده الذهب والمدَر»!!!
وهكذا يتبيّن مما تقدَّم، ومن مجمل كتب التصوُّف، أن التصوُّف يقوم على تعذيب النفس بالجوع والسهر، وقلة الكلام، واعتزال الناس، واتِّباع المجاهدات، والتجوال في القفار، والإِيناس بالوحوش والهوام، وما إلى ذلك مما يقهرُ الإِنسانَ ماديًّا ومعنويًّا، بحيث يحيله كتلةً من التصوُّر قادرةً على الانسلاخ من دنيا الأرض حتى تصل إلى المعارج السماوية. وأحيانًا يمكن لصاحب هذه الحال أن يرى الله تعالى بأم العين، أو أن يتّحد به، أو أن يحلَّ الله تعالى فيه. وما إلى ذلك من أفكار وتخيُّلات ابتدعَها الصوفية ولا تمتُّ إلى الحقيقة، ولا سيَّما إلى حقيقة وجود الله، بشيء. وهذا ما نلمسه مثلًا في ادِّعاءاتهم من أن طول الجوع يؤدي إلى فتح آيات الملكوت لهم، فتنكشف لهم قدرةٌ من الجبروت يتجلَّى الله تعالى فيها على الكيفية التي يشاؤون. ومن قبيل هذا الادعاء ما رواه السهروردي عن بعضهم عندما قال: لما انتهى جوعي إلى الغاية، فتَحَ الله عليَّ بعد أيامٍ بتفاحة، فتناولتها وقصدت أكلها، فلما كسرتها كوشفت بحوراء خرجت من التفاحة، فما إن نظرت إليها حتى حدث عندي من الفرح ما استغنيت به عن الطعام أيامًا. أو ليس ذلك من خرافات ألف ليلة وليلة حيث تظهر الجنيَّات الحواري اللواتي نشَدَهن الرائي فينسى كل ما حوله ولا يعود يفكِّر بطعام أو شراب؟!.
ومن الباحثين المحدثين الذي أورد تعريفًا عامًّا للتصوف الدكتور طلعت غنام، في كتابه (أضواء على التصوف)، إذ يقول: «يرى المسلمون أن المقصود بالتصوف في عمومه: هو السير في طريق الزهد والتجرد عن زينة الحياة الدنيا وشكلياتها، وأخذ النفس بأسلوب من التقشف، وأنواع من العبادة والأوراد، والجوع، والسهر في الصلاة أوتلاوة أورادٍ، حتى يضعف في الإنسان الجانب الجسدي ويقوى فيه الجانب النفسي أو الروحي. فهو إخضاع الجسد للنفس بهذا الطريق المتقدِّم سعيًا إلى تحقيق الكمال الأخلاقي للنفس كما يقولون، وإلى معرفة الذات الإلٓهية وكمالاتها، وهو ما يعبِّرون عنه بمعرفة الحقيقة».
ويعقّب الدكتور غنام على ذلك بقوله: «والإسلام يتفق مع هذا، إذ هو يدعو إلى إخضاع الجسد أو الحسِّ للنفس والدين والعقل، ولكن لا عن اتّخاذ كل ما أشار به الصوفية، ذلك لأن سلوك التصوف سلوكًا متزيِّدًا مبالغًا يقهر في النفس الإنسانية معنوياتها، ويحاول في أحوال تطرفه أو مغالاته أو تفلسفه أن يباعد بينها وبين الحياة».
هذا وقد ذهب غالبية الباحثين إلى أن للتصوف أسسًا يقوم عليها، وأبرزها التجربة الباطنية، وبلوغ الصوفي مرتبة الاتحاد مع الله، ولكلٍّ منهما شرائطه وطرائقه التي يتحقق بها.
ويتوسّع الدكتور عبد الرحمٰن بدوي في تفصيل هذين الأساسين في كتابه (تاريخ التصوف الإسلامي) فيعدّ بالنسبة إلى الأساس الأول ما يُفيد بأن «التجربة الصوفية يقتضي أن تقوم على أساس ملكة خاصة بوساطتها يتم الاتصال بالله عن طريق رياضة النفس بالجوع والسهر والسياحة والتأملات العميقة، وغير ذلك من أحوالهم ومقاماتهم (الصوفية). وفي هذا النحو من السلوك تحصل المعرفة عند الصوفي بصورة تلقائية فيسيطر عليه شعور عارم بقوًى تضطرم فيه كفيض من النور الباهر حتى يغمره، أو يغوص فيها كالأمواج العميقة. ويبدو له بعد استمراره على هذا السلوك أو اتِّباع هذه الطريقة أن قوًى عالية قد غزته وشاعت في كيانه الروحي، يسمِّيها نفحات علوية. ويشعر صاحب هذه التجربة بإثراء في كيانه الروحي وتحرر في أفكاره وخواطره، وانطلاق لطاقات حبيسة عميقة الغور في نفسه. وتصحب هذه الحالات عند الصوفي أحيانًا ظواهر نفسية غير عادية كشعوره بأن ثمةَ هواتف وأصواتًا يسمعها، ويتخيل رؤى خارقة وجذبات ومواجيد، قد تتعدى ذلك إلى أن تصبح وكأنها نوبات هستيرية أو صراعات حادة. وقد يستعين الصوفي على استدعاء هذه الأحوال بوسائل أخرى كالموسيقى وسماع الغناء والرقص وتحريك البدن بطريقة منتظمة وبإيقاع متفاوت الشدة، ومن أجل ذلك كان للأحوال والمقامات وبقية الطرائق دور أساسي في التصوّف».
وأما عن الأساس الثاني للتصوف فيقول الدكتور بدوي: «إن هذا الأساس (وهو يقوم على اتحاد الصوفي بالله) ضروري جدًّا في مفهوم التصوف وإلَّا كان مجرد أخلاق دينيَّة. ويقوم في توكيد المطلق، أو الوجود الحق أو الموجود الواحد الأحد الذي يضم في حضنه جميع الموجودات، وفي الإمكان الاتصال به اتصالًا متفاوتًا في المراتب، حتى يصل المرء إلى مرتبة الاتحاد التام بحيث لا يبقى ثَمَّ إلَّا هو. ومن هنا ـــ كما يمضي بالقول ـــ كان طريق التصوف سُلَّمًا صاعدًا ذا درجات نهايتها عند الذات العلية، وكان سفرًا يرقى في معارج حتى يبلغ ذروة الاتحاد».
هذا وقد جاء في كتاب (تلبيس إبليس) أن السراج قال: «بلغني أن جماعة من الحلوليين زعموا أن الحقَّ اصطفى أجسامًا حلَّ فيها بمعاني الربوبيَّة وأزال عنها معاني البشرية».
هذه بالإجمال بعض التحديدات للتصوف، وبعض ما ذهب إليه عدد من الباحثين في الأسس التي يقوم عليها، ومنها نستخلص بأن التصوف يعني التخلِّي عن الدنيا بكل ما فيها عن طريق مجاهدة النفس إلى حد القهر، وإضعاف الجسد إلى حد التلف، ويقوم هذا على الفقر والحرمان، والجوع والسهر، والابتعاد عن الناس، والتجوال مع مصاحبة الهوام، واتِّباع ما أوجد الصوفية من أحوال وطرائق ومقدمات، حتى تحصل للصوفي المعرفة بصورة تلقائية، فيعيش في حالة روحية علوية يترقَّى فيها من مرتبة إلى مرتبة حتى يبلغ حالة الاتِّحاد بالله ـــ سبحانه وتعالى ـــ أو ادِّعاء الألوهية أو الربوبيَّة. وهذا بطبيعة الحال ما لا يتفق والإسلام على الإطلاق، لأن مجاهدة النفس وقهر الجسد على ذلك النحو لا يؤدي فقط إلى قتل الغرائز، والقضاء على الطاقة الحيوية لدى الإنسان فحسب، بل يقضي أيضًا على الذهنية المتفتحة والعقلية الواعية حتى يفقد الإنسان توازنه الفكري والروحي، ويفقد القدرة على الحكم على الأشياء حكمًا صحيحًا بحيث لا يعود عنده أي أمل ليكون إنسانًا سويًّا، وفق مفهوم الإسلام، ولا تعود عنده أيّ قدرة للسير على طريق التكامل الذي يعدّ هدفًا من أهداف الإسلام في تربية الإنسان والأخذ بيده إلى ما فيه خيره وخير البشرية جمعاء.
وبالإضافة إلى ذلك، يمكن القول بكل بساطة وصراحة، إن التصوّف يقوم برأينا على ناحيتين:
الناحية الفكرية التي تهدف إلى الاتصال بالله بأيّ طريقة من الطرائق التي ابتدعها الإنسان ووسوس له بها الشيطان.
والناحية العملية التي تقوم على المجاهدات والرياضات ـــ بحسب تعبير الصوفية ـــ وما تنطوي عليه من أساليب ووسائل متنوعة يتهافت الصوفية على استعمالها حتى يصل بهم الحدُّ إلى نوع من نوبات الصرَع أو الغشيان الذي يسمونه الفناء، في حين أنه في الحقيقة إرهاق للجسم وتلف للأعصاب حتى لا يعود يقوى معهما أحدهم على المتابعة فيخرُّ مغشيًّا عليه.
وهاتان الناحيتان، الفكرية والعملية، ينكرهما الإسلام جملةً وتفصيلًا، لأن التفكير الذي يوصل صاحبه إلى الاعتقاد بحلول الله فيه، أو الاتحاد بالله، أو بتحقيق الجمع به ـــ سبحانه وتعالى ـــ أو بوحدة الوجود بينه وبين الله ـــ عَزَّ وجلَّ ـــ إنما هو تفكير كفر وإلحاد، كما أن اتِّباع الطرائق والأساليب التي من شأنها قتل فطرة الإنسان، والقضاء على خصائصه كمخلوق مميَّز، هي أيضًا من القبائح التي يمقتها الإسلام عقيدةً ومنهجًا. لذلك كانت كلمة «صوفي» في عصور اليقظة والقوة الإسلامية، تُعدّ مرادفة لكلمة «زنديق»، وعنوانًا على الإلحاد والبُعد من الحق، والإيغال في الباطل، لذا كان أهل التصوف يسترون تصوفهم تحت مختلف الأسماء. وكل ذلك من أجل إخفاء حقيقتهم الشعوبية والتعمية على أصولهم الأجنبية، الغريبة عن الإسلام، وهي الأصول التي أخذوها عن الهنود القدماء، والمجوس، وفلاسفة اليونان، وغيرهم من أصحاب العقائد والمذاهب التي لا نجد لها أثرًا في الإسلام.

مصادر التصوُّف
لم يكن اختلاف الباحثين مقتصرًا على ماهيَّة التصوف والأسس التي قام عليها والطرائق التي اتَّبعها الصوفية للوصول إلى غاياتهم، بل نجد هذا الاختلاف أيضًا في المصادر التي استقى منها التصوف في العالم الإسلامي أفكاره وتعاليمه: فقد ردَّها بعضهم إلى أصل صيني أو هندي، ورآها بعضهم الآخر مصادر يونانية أو فارسية، في حين أن فريقًا يقول بأن التصوف جاء من أفكار النصارى وخصوصًا ما يعود إلى الطرائق التي كان يسلكها الرهبان في لباسهم وأكلهم، ومختلف شؤون معيشتهم، وفي دأبهم على حياة الزهد والتقشف. هذا فضلًا على أن الصوفيين يزعمون بأنَّ التصوف من الإسلام، وهم يعتمدون في زعمهم هذا تارة على عيش أهل الصُّفة، وتارة على آيات من القرآن الكريم أوَّلوها، أو على أحاديث للرسول وضعوها. فأمَّا نسبتهم إلى أهل الصُّفة من الصحابة الأخيار، فقد رأينا أن ظروف العيش القاسية، قد أجبرت أهل الصُّفة على الضعف والاستكانة ردحًا من الزمن، حتى إذا ما حانَ الوقت خرجوا للجهاد ومن ثَمَّ إلى للانطلاق في الحياة بصورة طبيعية يدعون لإعلاء كلمة الله من دون أن ينسوا نصيبهم من الدنيا. لذلك بيَّنّا خطل ادِّعاء الصوفية، وأظهرنا كيف أن التصوّف لا يمتُّ إلى أهل الصُّفة بشيء لا من قريب ولا من بعيد.
أما اعتماد الصوفية على آيات من القرآن الكريم، فذلك لأنَّهم حرَّفوا تفسير بعض الآيات وأوَّلوها تأويلًا لا يتفق وحقيقة التنزيل، بما يماشي أغراضهم وطرائقهم، حتى إن الباحث يجد أحيانًا في تأويلهم ما لا يتفق مع أبسط القواعد العقلية، بل يخالف تعاليم الإسلام مخالفة صريحة وواضحة. ومن قبيل ذلك تأويل ابن عربي للآية 15 من سورة فاطر، وهي قوله تعالى: [أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللهِ وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ]، إذ قال فيها: «فوجودنا وجوده، ونحن مفتقرون إليه من حيث وجودنا، وهو مفتقر إلينا من حيث ظهوره لنفسه، فأنت غذاؤه بالأحكام، وهو غذاؤك بالوجود، فتعيَّن عليه ما تعيَّن عليك، والأمر منه إليك، ومنك إليه، غير أنك تسمَّى مكلفًا، وما كلفك إلا بما نظرت له. ويقول:
فيحمدني وأحمده ويعبدني وأعبده» !
أفرأيت هذا التأويل الذي جاء به ابن عربي ليخدم اعتقاده في «وحدة الوجود» مع أن الآية الكريمة هي من الوضوح بما لا يقبل أي تأويل؟. فهي تنطق بالحق الصريح بأنَّ الناس جميعًا مفتقرون إلى الله تعالى، وقد خاطبهم عزَّ وجلَّ من عليائه بهذه الحقيقة كي يستمدُّوا العَون منه تعالى في كل صغيرة وكبيرة في حياتهم، بحيث لا تكون هنالك من صغيرة أو كبيرةٍ تعينهم إلَّا وهم مفتقرون فيها إلى الإلٓه الواحد، العزيز، القادر. في حين أنه هو ـــ سبحانه وتعالى ـــ غَنيٌّ عن الناس، وعن كل المخلوقات، وهو حميد بخلقه لهذه المخلوقات، وبما أنعَمَ عليها من وجود، أي يَقبل حمدَهم على عطاياه بأحسن قبول. فهل يعقل أن يكون هذا الخالق العظيم فقيرًا إلى عبد مخلوق، وهل يقبل الإسلام الذي يقوم على التوحيد بتأويلٍ صوفيٍّ جاء على لسان ابن عربي كفرًا باعتقاده أنَّ الله تعالى مفتقرٌ إلينا من حيث ظهوره لنفسه؟!.
هذا، ولسوف نورد، في هذا الكتاب، بعضًا من تأويلات الصوفية لآيات الله البيِّنات، بمقدار ما يقتضي البحث ذلك. ومنها يتَّضح مدى الخطأ الذي ارتكبوه في هذه التأويلات حتى يصلَ بهم الأمر إلى حدِّ العبث بكلام الله، إن لم يكن الكيد لدينه وما شرع لعباده.
وأما وضعُهُم الأحاديثَ ونسبتها إلى رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، فقد كانت غايتهم منها حشوَ رؤوس العامة حتى يجدوا آذانًا صاغية لهم، وعقولًا ضعيفة تقبل ترَّهاتهم. فمن قبيل ذلك ما ادَّعَوه زورًا على رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، من أنه قال: «إذا أعيتكم الأمور فعليكم بأصحاب القبور». أما غاية الصوفية من هذا الحديث فهي إيهام البسطاء من عامة الناس أن شيوخهم وأقطابهم الجاثمين في بطون الأضرحة، والراقدين في القبور، لهم كراماتٌ عند الله، بصفتهم أولياء له، ومنهم يكون طلب العَون والغوث على النوائب وسدُّ الحاجات، مع أن الدعاء ينبغي أن يكون لله تعالى وحدَه، والرجاء إليه، والطلب منه، وذلك لقوله تعالى: [أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ] (النمل: 62).
وقوله تعالى: [وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُو مِن دُونِ اللهِ مَن لَّا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَومِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَن دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ] (الأحقاف: 5).
وقوله تعالى: [وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ (13) إِن تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ] (فاطر: 13 ـــ 14).
فإذا كان الأحياءُ هم في حاجة إلى الله تعالى، فهل يُعقل بأن يلجأ حيٌّ إلى ميتٍ قضى حياته متقلِّبًا في معاصي الله تعالى والكذب عليه وعلى رسوله، صلى الله عليه وآله وسلم، ثم يطلب منه الغوث والمدَدَ؟
من أجل ذلك نقول بصراحة: أيها الصوفيون! لا يحق لكم أن تُعدّوا القرآن الكريم والسنَّة النبويَّة الشريفة مصادر لتصوُّفكم. ونُعلن أن مصادر تصوُّفكم هي غريبة عن الإسلام وتعاليمه، ونُعلن أن مصادر تصوُّفكم هي غريبة عن الإسلام وتعاليمه، وأن تعاليمكم ومعتقداتكم قد كانت دخيلةً على الإسلام وعلى بلاد المسلمين لأسباب عدّة ومتنوعة، كان، وسيبقى أهمها على الإطلاق، الدسُّ على الإسلام، والنيلُ من المسلمين لإضعاف شوكتهم، وإبعادهم من عقيدتهم، ولكي يظل هذا الضعف مستحكمًا في نفوسهم، مفسدًا أفكارهم، مقوِّضًا أركان مجتمعاتهم، مفكِّكًا وحدتهم، بما يحقق لأعدائهم، من وراء ذلك، أغراضَهم البعيدة والقريبة.


وبما أنَّ الإسلام لا يمكن أن يكون مصدرًا للتصوف، فإنَّ أهم مصادره تكون:
أولًا ـــ المصدر الصيني:
يرى بعض الباحثين أنَّ الصلاتِ ما بين بلاد العرب وبلاد الصين قديمة جدًّا، وهي ترجع إلى بضعة قرون قبل الميلاد. ثم توثَّقت هذه العلاقات في ما بعد، إلَّا إنها لم تدوَّن إلَّا في أواسط القرن الخامس الميلادي. أما اتصال المسلمين بالصين فيرجع إلى بداية القرن الأول الهجري.
لكنَّ تلك الصلات الجديدة لا تعني أبدًا أن المسلمين الأوائل قد أخذوا عن أهل الصين تعاليمَ يمكن إدخالها على دينهم، أو بُغيةَ توضيح بعض مفاهيم هذا الدين على أساسها. إنَّ المسلمين ـــ في فجر الدعوة ـــ كان همهم أن ينشروا الإسلام وأن يلقِّنوه للناس حتى يدخلوا فيه، لأنه الهدى ودين الحق، والأولى بالناس أن يعتنقوه: [وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ] (آل عمران: 85)، لذا حرصوا على حمل الدَّعوة إلى الله تعالى ونشر كلمة الحق.
وما دامت هذه آياتُ الله تعالى، وما دام الدينُ عند الله الإسلامَ، فإنَّهُ لا يمكن أن يأخُذَ الإسلامُ من دياناتٍ اختلَقَها بَشرٌ مهما كانت ساميةً أفكارُ هؤلاء البشر، ومهما كان فيها من عمقٍ وشمول! فإذا عرفنا أن بعض تعاليم التصوّف التي استقيت من بلاد الصين تعود إلى قرون عدّة قبل الميلاد، حكمنا قطعًا بأن هذه التعاليم ليست من الإسلام، بل دخلت إلى بلاد المسلمين في أزمان لاحقة. وعلى هذا يقالُ إنه عاش في بلاد الصين أيام الحكيم (كونفوشيوس) أي في القرن السابع قبل الميلاد رجلٌ يقال له «لاؤتسة»، وكان من ذوي الاتجاه الصوفي البارز، يرفض متع البشر، ويريد الإصلاح في بني قومه. فلما يئس منهم، ارتحل عنهم فصادف في طريقه رجلًا كتب إليه كتابًا أودعَ فيه تعاليمه الصوفية التي تقوم على ترك العمل، وشؤون الحياة، والتخلي عن الشهوات وحاجات الجسم كي يستطيع الإنسان (الذي يقال له التآوي وفق هذه التعاليم) الاتصال بالتآوي (القدرة الغيبية التي يجب الإيمان بها). ولكي يحقق التآوي هذا الاتصال عليه أن يمرَّ بمراحل ثلاث:
ـــ تزكية النفس وتطهيرها حتى يتحرر من شهوات الدنيا. والذي يستطيع هذا التحرر يمكنه أن يفهم (التآوي) في ذاتها الروحية.
ـــ الإشراق، وينال التآوي (الإنسان) هذه المرتبة بعد أن يستغني عن التكلُّف في إتيان الفضائل، بحيث يصبح هذا الاستغناء سجيةً فيه، نابعةً من نفسه المتعطشة إلى الفضيلة.
ـــ الاتصال (بالتآوي) أو الاتحاد بها. وفي هذا الاتحاد تصبح للتآوي (الإنسان) صفاتها ذاتها وإدراكها ذاته، فيفهم الموجودات كما تفهمه هي، وهذا ما يجعله يتحرر من القوانين الطبيعية كلها وقد عبَّر (لاؤتسة) عن ذلك بقوله: «إن الإنسان يستطيع أن يعرف كل ما في العالم من غير أن يخرج من باب داره».
هذه التعاليم الصوفية التي ظهرت في الصين، نجدها هي نفسها أو ما يشابهها كثيرًا في تعاليم الصوفية في العالم الإسلامي. لذلك يعدّ الدكتور فروخ أن هنالك صلةً وثيقة بين التصوف الإسلامي وفلسفة الحياة الصينية، حتى إن الدارس ـــ كما يقول ـــ «ليعجب من ذلك. لقد اشترك العربُ والصينيون في تسمية هذا المذهب طريقًا أو طريقة، ونظروا جميعهم إلى الحياة على أنها سفر. ولقد رأى متصوفة الإسلام أن الله علة للوجود، وإليه يتوق الوجود، وأنه يتجلَّى للمتصوف فيما خلق. وهكذا رأى الصينيون في (تآوي). واتفقوا جميعهم على أن العلة الأولى لا تدرك بالحواس ولا توصف بالتشبيه. وقد أصرَّ الجميع على أن يكون للسالك منهاج خاص، وألّا يقلِّد أحدًا في حياته الصوفية. والطرفان وضعوا لبلوغ الاتحاد بالعلة الأولى رياضةً خاصة ذات مراتب هي عبارة عن المقامات والأحوال: فتزكية النفس وتطهيرها عند الصينيين يشبه مقام التوبة والورع عند المسلمين، والإشراق الصيني يشبه الكشف عند صوفية المسلمين، والاتصال والاتحاد يشبه الفناء». هذا بالإضافة إلى ما في فلسفة الصينيين حول النفس والروح وغير ذلك مما يتوافق مع أفكار الصوفية وفلسفاتهم في أكثر المواضيع.
من أجل ذلك وغيره استدلَّ بعض الباحثين على أن للتصوف في العالم الإسلامي مصدرًا صينيًّا.
ثانيًا ـــ المصدر الهندي:
قد لا يكون من المغالاة في شيء إن قلنا: إنَّ حياةَ التقشف والفقر، وحياة الحرمان والعذاب، بكل الألوان والأشكال، قد دعا إليها فلاسفة الهنود منذ أقدم العصور. وهذه المظاهر للحياة واتِّباعها إنْ هــي إلَّا تعاليم الصــوفية أينما وجدوا، وإن تفاوتت آراؤهم أو تعابيرهم أحــيانًا، ولا سيما في نظرتهم الفلسفية إلى بعض القضايا.
فالتصوف بكل اتجاهاته وأشكاله معروف في الهند، وهو يبرز أكثر ما يبرز في معتقدات البراهمة والبوذية.
أما عقيدة البراهمة فتتلخص بأنَّ على الإنسان أن يجاهد في حياته كي يخلص نفسه من استعباد الجسد لها، ثُمَّ يترقّى حتى يتمكن من الاتحاد بالروح الكليِّ أو (براهما) الذي هو عندهم الله، على ما سوف نرى من تفسير الفيلسوف الهندي (شنكارا) لدين براهما عند البحث في آراء ومعتقدات أبي يزيد طيفور البسطامي. ومع ذلك يمكن أن نشير هنا إلى أن الصوفية قد أخذوا عن البراهمة مذهبين من مذاهبهم الأساسية: وحدة الوجود، وطريق الهداية.
فأما عن وحدة الوجود عند البراهمة فيقول البيروني: «إنهم يذهبون في الوجود إلى أنه شيء واحد». وبعد أن يذكر النصوص التي كتبوها حول هذا المذهب، ويبيِّن كيف أنه نشأ عن أسطورة لبداية الخلق والتكوين، فإنه يعود ويتعرض للصوفية كي يفنِّد أقوالهم بالحلول والظهور الكلي.
وأما عن المذهب الثاني فيرى الأستاذ محمد البهلي النيال، في كتابه (الحقيقة التاريخية للتصوف الإسلامي) أن «مما أخذه الصوفية عن البراهمة وغيرهم من الأمم الأخرى، أن الهداية لا يصل إليها العقل بمنطقه، وأن الوصول إلى الحقائق لا يتأتَّى إلَّا بمحض البصيرة. وهذا ما تورط فيه الإمام الغزالي. وإلَّا فما البصيرة: أليست هي خميرة العقل في الإنسان؟».
هذا ويعدّ الأستاذ النيال أن مذهب «اليوجا» هو أيضًا من تصوّف الهند، وأن اليوجا هم طائفة يفوق عددهم في الهند الثلاثة ملايين يعذبون أنفسهم من أجل أن يظفروا بسكينة «المعرفة». ولطريقتهم مقامات شبيهة بمقامات صوفية الإسلام.
ومن هذه المقامات:
ـــ موت الشهوة وتحرير النفس من كل رغباتها، وتمنّي الخير للكائنات جميعًا.
ـــ النظافة والقناعة والتطهر والتقوى والدراسة.
ـــ إيقاف كل حسٍّ لدى الإنسان عن طريق تعويد الجسد على وضعٍ معين، وتنظيم التنفُّس كي يفرَّغ العقل مما يشغله استعدادًا للتأمل.
ـــ تأمل الغيبوبة بحيث يمحى من الذهن كلُّ تفكير، وينغمس في مجموعة الوجود.
ـــ تكرار المقطع «أوم» وهو مثل الذكر (هو، هو، هو) عند الصوفية.
ويعقِّب الأستاذ النيال على ذلك بقوله: «وهل التصوف الإسلامي بعد هذا شيء آخر غير مذهب اليوجا؟».
وأما البوذية فهي مذهب ديني نشأ في الهند على يد «بوذا»، الذي كان أحد أبناء الملوك، لكنه تخلَّى عن العرش ليعتزل الدنيا وزخارفها، ويقبل على رياضة النفس والتفكير في أسرار الخليقة، حتى تحقق له الفناء المطلق أو «النيرفانا»، وكلمة «النيرفانا» هذه فسَّرها الدكتور فروخ بأنها تنطوي على معنيين سلبيين: الأول هو حال من الاضطراب والتشاؤم اللَّذين ينجم عنهما اعتقاد بأن هذا الوجود هو عذاب وشقاء. والثاني حال من النعيم النفساني يراها البوذي خيرًا من كل وجوده مهما كان شَاقًّا، فهي أملٌ بالتخلص من الشقاء الحاضر ومن خوف الشقاء المقبل لأنه سيدخل بعد موته في «النيرفانا الكبرى» ثم لا يعود بعدها إلى الحياة أبدًا.
وإن من شروط الانخراط في سلك الجماعة البوذية التخلي عن الدنيا، واتِّباع حياة الفقر، وحلق الرأس، ولبس الخرقة الصفراء.
ومن النظريات التي تقول بها بعض الديانات الهندية «التناسخ» الذي يقوم على أن الأرواح لا تموت ولا تفنى، بل تنتقل من كائنٍ حيٍّ إلى كائنٍ حيٍّ آخر، إما بصورة اطِّرادية نحو الأعلى وإما نحو الأسفل: فالأرواح الخيِّرة تنتقل من الحسن إلى الأحسن وترتقي في معارج الكمال حتى يتحقق شوقها ويتَّحد العقل والعاقل والمعقول فيصيروا واحدًا، والأرواح الشريرة تنتقل من بدن الإنسان إلى النبات أو مرذول الهوام، ونظرية «التناسخ» هذه أخذ بها الصوفية في الإسلام ـــ كما يقول البيروني ـــ حين قالوا: إن الدنيا نفسٌ نائمة والآخرة نفسٌ يقظَى.
هذا ونجد عند بعض الباحثين: أن جميع الفرق المذهبية من الهنود «كالجوكية» أصحاب الأنفاس والأوهام، وأصحاب الروحانيات، وأصحاب الحكمة وغيرهم، لكلٍّ من هؤلاء رياضات شاقة عملية لا تخلو من العزلة وتحريم اللذائذ الشهوانية على النفس، أي تمامًا مثل رياضات الصوفية في العالم الإسلامي.
وفيما يتعلق بتربية المريدين والأتباع، لا تختلف طريقة الصوفية عن الطرائق التي اتَّبعها الهنود في ذلك، وخصوصًا ما هو لدى البْرهمانيّة التي تفرض طريقتُها أن يتعلم البرهمي في سن معيَّنة علم الكلام والشريعة، من أستاذٍ يعيش معه ويقوم على خدمته فيغتسل في اليوم ثلاث مرات، ليقدِّم في كل مرة قربانًا للنار، ثم يجثو على قدمي أستاذه بعد القربان. ولا يخرج هذا البرهمي من بيت أستاذه إلَّا لكسب القوت، وإنْ تسوُّلًا، فيأتي بما يحصل عليه ويقدِّمه لأستاذه كي يتخيَّر منه ما يشاء ثم يترك له ما فضل عنه. وهل هذا غير ما يقوم به الصوفية إذ يجب أن يكون المريد طوعًا لشيخه، منفذًا لأوامره ورغباته، مسلوب الإرادة والتفكير، أو على حد تعبير أحدهم: «أن يكون بين يدي شيخه مثل الميت بين يدي الغاسل»؟
مما تقدم يتبيَّن ما للتصوف الهندي من تأثير بالغٍ على معتقدات الصوفية في العالم الإسلامي، حتى أضحت التعاليم التي عرفها الهنود القدماء، وطبقوها على شكل عبادات، مصدرًا يستلهمه الصوفية، ويأخذون منه ما يشبع جوعتهم في المجاهدات وقهر الغرائز وإماتتها، للوصول إلى إحدى حالات الفناء أو الاتحاد، أو الحلول، وما إلى ذلك من معتقداتٍ سخيفة.
ثالثًا ـــ المصدر اليوناني:
من المعروف أن الفلاسفة المسلمين أمثال الكندي، والفارابي، وابن سينا، والغزالي، وابن طفيل وغيرهم قد تأثروا بالفكر اليوناني، وبالفلسفة اليونانية تأثرًا كبيرًا، وذلك بفعل حركات النقل والترجمة التي قام بها نصارى النساطرة واليعاقبة، والصابئة من الوثنيين.
وقد تركَّزت أبحاث الفلاسفة المسلمين، بشكل رئيسي، في التوفيق بين الشريعة والفلسفة أو بين الإيمان والعقل. فكانت لهم نظريات عدّة بهذا الخصوص وبغيره من مجال الفلسفة التي هي النظر في حقيقة الأشياء أو التي هي علم المبادئ الأولى. ونظرياتهم تلك معروفة على ما نجد في بطون الكتب والمؤلفات.
على أن ما تقتضي الإشارة إليه هو أن التصوف الذي استقى من مصادر يونانية إنما يعود بشكل أساسي إلى الأفلاطونية الحديثة، وهي مزيج من مذهب أفلاطون والنصرانية. بدأ بها (فيلون الإسكندري)، وجدَّدها بعد ذلك أفلوطين، فوجَدَ فيها الصوفية منهلًا لنظرياتهم في الذوق، والمواجد، والمكاشفة وما إلى ذلك.
ويرجع المصدر اليوناني في التصوف، لدى بعض الباحثين، في أساسه إلى (فيثاغورس) المعروف باتِّجاهه الصوفي وتقشفه. ومن نظرياته أن النفس تتصل بالملأ الأعلى، وذلك عندما يحسن الإنسان تقويم نفسه بالتبرؤ من العُجب والتجبر والرياء والحسد وما إلى ذلك، ومن شهوات الجسد، بحيث يصبح أهلًا لأن يلحق بالعالم الروحاني، النوراني فوق عالم الطبيعة، ويطَّلع في هذا العالم على ما شاء من الحكمة الأزلية، فتأتيه لذائذ النفس بصورة تلقائية مثلما تأتي الألحان الموسيقية إلى حاسة السمع.
ولا يختلف أفلوطين كثيرًا عن فيثاغورس في نظرية اتِّصال النفس بالملأ الأعلى، إذ يُعدّ أن النفس كانت قبل اتصالها بالجسد مع الله في الملأ الأعلى، ثم هبطت إلى العالم الأرضي وأصبحت خاضعة للتناسخ في البشر والبهائم والنبات، فإذا أرادت الرجوع إلى الله فلا بدَّ لها من أن تتحرر من شهوات الدنيا، وأن تدأب على التأمل في ذات الله، حتى تخسر وجودها الجزئي ويتم لها الاتِّصالُ بالعلة الأولى التي هي الله تعالى، فتشعر حينئذٍ بالسعادة لأنها أصبحت والله شيئًا واحدًا!
ويُعدّ (فورفوريوس) وهو تلميذ أفلوطين غاية الفلسفة تخليص الإنسان من الشرور عن طريق مجاهدة النفس، والقضاء على حاجاتها وشهواتها، بحيث يتحقق له عن طريق هذه المجاهدة الاتِّصال تطَّلع النفس على ما تشاء من أسرار الكون.
ومن أفكار الأفلاطونية الحديثة نظرية «الفيض» التي تُعدّ أن أوَّل فيض من الله كان العقل الأول، ومنه استمدّت جميع الموجودات وجودها، وعنه تصدر الفيوضات الأخرى.
وهذه النظريات هي نفسها التي أخذ بها الصوفية. فهم يرون بأن المعرفة الحقيقية لا تحصل عن طريق الحس أو العقل، بل بنور يقذفه الله في قلب العبد بعد أن يكون قد تخلص من كدر الدنيا وشوائب المادة، وتحقق له الفناء في ربِّه، والاستغراق في ذاته سبحانه وتعالى استغراقًا تزول معه الفوارق ويتحقق الجمع، وما قال به (فوفوريوس) هو أيضًا ما اعتنقه ابن عربي في «وحدة الوجود»، وعمر بن الفارض في نظرية «وحدة الشهود». أما نظرية الفيض فقد عبَّر عنها ابن عربي بالحقيقة المحمديَّة التي عدّها أول فيض من الذات الإلٓهية، والموجودات الأخرى هي فيوضات لها. وهي أيضًا النظرية نفسها التي قال بها شهاب الدين السهروردي الحلبي (المقتول) في حكمته الإشراقية، التي يجعل الله تعالى منها نورًا فيَّاضًا بالأنوار الباهرة أي النفوس والعقول.
فهذه النظريات الصوفية (الاتّصال بالله أو الجمع، ووحدة الوجود، والفيض، والحقيقة المحمديَّة، ووحدة الشهود والمعرفة وما إلى ذلك...) نجد جذورها في الفلسفة اليونانية ولا سيما في الأفلاطونية الحديثة، مما يبيِّن العلاقة الوثيقة ما بين فلسفة اليونان وفلسفة الصوفية من المسلمين.
رابعًا ـــ المصدر الفارسي:
كان للفرس، قبل دخولهم في الإسلام، أفكارهم وآراؤهم الفلسفية مثل سائر الشعوب الأخرى. ويبدو أن ما عُرِفَ في فارس من «مانوية» و«زرادشتية» كان مأخوذًا في معظمه عن «البوذية» و«البْراهمانية» الهنديتَين، وخصوصًا فيما يعود إلى الجسد والروح، وترك الملذات ولبس المرقَّعات.
تلك المعتقدات الفارسية القديمة سوف تعود وتظهر، في حقبة لاحقة على دخول الإسلام بلاد فارس، ولا سيما إبَّان العصر العباسي الذي كثر فيه المشتغلون بالعلوم والفلسفة والتفسير، كما كثر فيه أهل الكلام، وكانوا جميعًا، أو في الغالب، من الأعاجم.
ومن مظاهر تلك المعتقدات المجوسية التي كانت سائدة مثلًا عبادة النار، والإرهاب النفسي، والانحلال الخلقي، وما تبعَ ذلك من فسادٍ في بناء المجتمع وكيانه. فلما كسر العربُ شوكة فارس في القادسية، وتمَّ لهم بالاستيلاء على المدائن تعريب ملك كسرى، لاقت تعاليم الإسلام قبولًا رائعًا في عقول الناس ونفوسهم، حيث تجلّت لهم عقيدة التوحيد بأبهى مظاهرها، لما فيها من دعوة للإيمان الصادق، وحثٍّ للإنسان على العبادة الحقة، وأمرٍ بالمعروف، ونهيٍ عن المنكر، فانضوت فارس إلى لواء الإسلام، طائعة مختارة، تظللها الرعاية السابعة وعدالة التشريع النابعتان من جوهر العقيدة وسمو المبدأ.
وإذا كان الناسُ قد أقبلوا على الإسلام راضين، فإنَّ فئةً منهم كانت لا تزال تتقلَّب بين ما ورثتهُ من أفكار ورواسب وعادات وتقاليد مجوسية، وما جاءَ به الإسلام من قيمٍ جديدة، وتعاليم سمحاء، مما جعل ذلك التقلُّب يحولُ دونَ تجلّي الإسلامِ الصحيح في نفوسِ تلك الفئة، فأخذت منه ما يلائم طبائعها ويروق لأذواقها، وما تجده الأسهل على مداركها، بحيث لا تتخلى عن قديم معتقداتها بل تصله بحاضر دينها، حتى صارَ لإسلامها طابع خاص يختلف كثيرًا عن الإسلام الصحيح الذي أنزله الله تعالى، وبلَّغه الرسولُ الأمين، وحَمَلَهُ الدعاةُ الصادقون. وهكذا اختلطتْ على تلك الفئة المفاهيمُ مما أدَّى إلى تعطيل الإدراك، وتخدير العقول، والترخيص في الفضائل، والتلهِّي بالخيال، والولوع بالخوارق.
ولقد أدرك الخليفة عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، بثاقب نظره ما قد يؤول إليه الأمر في تلك الديار، فكان يُلحُّ في تحذير المسلمين بقوله لهم: «إياكم وأخلاق الأعاجم» وقد كان يقصد بهذا التحذير كلَّ ما هو غريب عن جوهر الإسلام، ولا سيما المعتقدات المجوسية التي كانت تبدو في ظاهرها نوعًا من الزهد، والتعفُّف، والعمل على تهذيب النفس، في حين أنها هي في الحقيقة تُميتُ شخصيةَ الإنسان، وسلامةَ فطرتِهِ، لما فيها من دعوة لتجويع البدن، وإرهاق الحواس، مما يجعل بالتالي الجماعةَ الإسلامية ضعيفة، منهوكة القوى، ويقضي بالتالي على ما عندها من تطلعات للعمل والتقدم.
إذن، فقد أراد عمر، رضي الله عنه، أن ينبّه المسلمين إلى خطورة الأفكار الغريبة عن الإسلام، ليعملوا جميعًا على اجتثاث جذورها أينما وجدت، ولكن يبدو أن صرخته التحذيرية تلك لم تلقَ التجاوبَ المأمول، فظلت تلك الفئة المتردِّدة على حالها، إذ لم تستطع التخلِّي عن ميراث المجوسية بصورة نهائية. وكان لذلك أبعد الأثر في حياة المسلمين. فلما جاءت الصوفية استغلَّت هذا الوضعَ، وراحتْ تعملُ من خلالِهِ على نشر معتقداتها، وتزيين آرائها.
وإلى جانب تلك الجماعة التي ظلَّتْ مشدودةً إلى أخلاق المجوسية، ظهرت أيضًا جماعةٌ أخرى كانت تسعى وراء مآرب سياسية، فلم تحفل بتعاليم الإسلام السوية الواضحة، بل راحت تعمل على إشاعة الفوضى ونشر الخرافات بين صفوف المسلمين. حتى إذا ما أصيب العربُ المسلمون بداء الترف من عدوى الشعوب التي خالطوها، هبَّت تلك الجماعة المتربّصة، في شعوبية لئيمة، تعمل ـــ في ظل الغفلة والتسامح ـــ على تشويه مفاهيم الإسلام وإبعاد تعاليمه الحقيقية عن العقول والنفوس، فاستنبتوا لذلك التصوّف، وجنّدوا له الدعاةَ والمبشِّرين، ثم وزعوهم في البلاد، يتظاهرون بالزهد والتقشف والعبادة، في حين أنهم كانوا يعملون في الخفاء على بذر سموم الشك في العقيدة، وهدم تعاليمها. ولعلَّ أبشع ما اتَّبعوه لذلك إغراءُ الناس بمظاهر الدروشة ونوبات الولاية، وإغواؤُهم عن طريق الترخص بأوامر الله ونواهيه من حيث إباحة المحرمات، وتحريم الطيبات، وتأويل القرآن، ووضع الأحاديث تقوُّلًا على رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، وادِّعاء رؤيةِ الملائكة ومخاطبتِهم، وعلم الغيب، والقدرة على ردِّ الغائب وشفاء المريض، وهم في ذلك يحدثون طوائف الناس المختلفة بما يتوافق وأهواءَها وميولها، وبما يخدعُ البسطاء من العامة بالسحر والشعوذة، قائلين عنها إنها كراماتٌ من الله ـــ سبحانه ـــ يمنحها للمخلصين من رجال التصوّف.
ولم يكتفِ الشعوبيون باستنباتِ التصوّف، والعملِ على تفشيه في صفوفِ المسلمين، بل راحوا يتقربون من الولاة والحكام بالمداهنة والمراوغة، عن طريق التظاهر بمحبتهم وتقديم فروض الطاعة والولاء لهم، حتى نجحوا في ذلك فاتخذوهم بطانةً وأعوانًا، ومع الوقت صار لهم الإشراف الفِعلي على مصالح البلاد، والكلمة النافذة في توجيه السياسة، ونشر الثقافة وفق ما يريدون. وفي هذه الحقبة كتبوا التاريخ عن بلاد المسلمين، محشوًّا بالأغلاط والأكاذيب، ونقلوا إلى المكتبة الإسلامية الفِكر اليونانيَّ، وأخلاقَ المجوسية. وهكذا حَملَ الأحفاد، مع مرَّ السنين وتعاقب الأجيال، ميراثَ التاريخ مزوَّرًا، وقاموسَ الفكر مضطربًا، مما جَعَلَ التصوُّف يلقى في النفوسِ الاستجابةَ والميلَ، ويعيش إلى يومنا هذا.
على أن هذا الفعل التزويري لتاريخ المسلمين لم يحملْ إثمَهُ صوفية الفرس القُدامى وحدهم، بل يقَعُ وزرٌ كبيرٌ منه على الصوفيين من العرب كذلك. فكما كان لصوفية الفرسِ، أمثال معروف الكرخي وأبي يزيد البسطامي وغيرهما، تأثيرهم في الأفكار في العالم الإسلامي، فقد كان التأثير نفسه وأكثر لصوفية العرب أمثال سليمان الداراني في العراق (الذي توفي عام 215 هــ)، وذي النون المصري في مصر (الذي توفي عام 245 هــ)، ومحيي الدين بن عربي (الذي توفي عام 632 هــ)، وشرف الدين عمر بن الفارض (الذي توفي عام 632 هــ).
وبمثل ذلك التزاوج بين الآراء والأفعال، بين أعلام الصوفية من العرب والفرس، تفشَّى التصوّف في العالم الإسلامي يدعو الناس إلى الانكماش والعزلة باسم الدين، ويحبسهم في معتقلات الجهل، ويشغل أوقاتهم بتعاطي الخيال، وترويج الكلام في المقامات والأحوال، حتى صَرَفَ الأمة عن وحدة الكلمة، ودفعَ بحيويتها المتدفقة إلى أغوار الخوانق (جمع خانقاه) والتكايا، وقيَّد نشاطها الطبيعي في دائرة الجدل العقيم حول التفسيرات المغلوطة، والتأويلات المدسوسة، فتكاثر في ذهن الأمة الميل إلى الضياع والعجز والرضى بالذل والمسكنة، وما إلى ذلك من ضروب التخلُّف والجهل والتعمية. هذا فضلًا عن إشاعة الأوراد والأحزاب التي تشبه ترانيم الكهانة القديمة، التي ابتدعوها لصرف الناس عن تلاوة القرآن وتدبُّر معانيه.
وهكذا أغلقوا على عقول المسلمين طريق التفتح واليقظة، وصرفوهم عن تفهُّم حقيقة الإسلام، بعد أن قصرُوا دعوته ـــ التي جاءت أعظم دعوة من رب العالمين لهداية الناس جميعًا ـــ على الاعتقاد بكرامات أوليائهم، وإقامة حلقات الذكر في نواديهم، وتضليل الناس بأفكارهم ومعتقداتهم، في حين أن حقيقة هذه المعتقدات لا توصل إلَّا إلى الكفر، ما دامت غايتها مشاهدة الله تعالى، والاتحاد به وما إلى ذلك من معتقدات الزندقة والكفر.
إذن، ففي تاريخ الفكر الإسلامي زيف وخداع. وقد آن الأوانُ لأن ننفضَ غبارَ ذلك الماضي، وذلك التاريخ المزيَّف، أيًّا كان دعاتُهُ، والأسبابُ التي تكمن وراء استمراره وبقائه. ولانخال هؤلاء الدعاة من المستشرقين والحكام، الذين هم عملاء للاستعمار الطامع بخيرات البلاد الإسلامية ومقدراتها، إلَّا أعداء الإسلام، ومعهم أتباعهم أولئك الغافلون من المسلمين الذين اتَّخذهم الأعداءُ أدواتٍ ينفذون من خلالها إلى تنفيذ مآربهم وأطماعهم.
فالإسلامُ هو الدين الحق، ومصادره الكتاب والسنَّة، فمن عمِلَ بهما أرضَى الله تعالى ورسولَهُ الكريم، ومن خالَفَهما أغضبَ الله تعالى ورسولَهُ، ولن يكون له في الآخرة ـــ بعلم الله ومشيئته ـــ إلَّا النار مأوًى، ليذوق عذابَ ما جنَى على الإسلام وأهله.
خامسًا ـــ المصدر اليهودي:
تدل كتب التاريخ على أن جزيرة العرب عرفت قبل الإسلام الديانتين اليهودية والنصرانية. فأما اليهود فقد عاشوا في اليمن حيث عملوا في الزراعة والحِرَف، وفي الحجاز حيث كانت أهم مواطنهم في يثرب وخيبر وبتراء ووادي القرى. وكانت أبرز عشائرهم وأظهرها قوة في هذه الديار تلك التي عاشت في يثرب من بني قينقاع، وبني النضير، وبني قريظة الذين تعاطوا أعمال الزراعة والصناعة، فكانت لهم ديار وأرزاق وفيرة.
وقد اشتهر يهود شبه الجزيرة بإتقانهم اللغة العربية وآدابها. وعلى الرغم من ذلك لم يتخلَّقوا بأخلاق العرب البدو، بل ظلَّت صفاتُهم الغالبة الدسَّ وإذكاءَ نار الفتن بين القبائل، حتى تتأمن مصالحُهم من خلال تنابذ تلك القبائل وتفرقها.
ولقد حاول يهود شبه الجزيرة بثَّ ديانتهم بين الناس، إلَّا إن طباع العربي لم تألف نهجهم في الحياة، مما حالَ دونَ استمالة العرب هناك إلى اليهودية، فظلَّ أكثرهم على الشِّرك وعبادة الأصنام. لذلك لم يتمكن اليهود لا قبل الإسلام، ولا بعد قيام الدولة الإسلامية، من بناء وحدة دينية أو سياسية تفرض آراءَها وتكون لها السيطرة والسيادة، فاستمرُّوا مشتَّتين في البلاد، إلى أن ظهر ضعف الدولة الإسلامية، فكانوا من بين الشعوبيين الذين عملوا على تقويض أركان هذه الدولة، وتزوير تاريخها بما أدخلوا من تعاليم عرفت بالإسرائيليات استقَوها من التوراة، بل مما أدخلوه هُم على التوراة من تحريف، حتى يُلصقوه بالإسلام زورًا وبهتانًا.
من هنا كان تأثير الفكر اليهودي في التصوُّف تأثيرًا محدودًا يقتصر على ما عُرف بالإسرائيليات التي استغلَّت بعض نظريات الصوفية لتجعل لها طابعًا إسلاميًّا، ومن هنا ـــ أيضًا ـــ يعدّ المستشرقُ (جولدتسيهر) الصوفية المسلمين قد تأثروا باليهودية.
وهذا هو نفسه الذي ذهب إليه الشهرستاني (في الملل والنحل) عندما يقول: «وجدوا التوراة ملأَى بالمُشابهات مثل الصورة والمشافهة والتكلُّم جهرًا مع الله، والنزول في طور سيناء انتقالًا، والاستواء على العرش استقرارًا، وجواز الرؤية فَوْقًا. ولما وجدوا (يعني بهم الصوفية) الفرق اليهودية اليوذعانية وغيرها تقول بأن للتوراةِ ظاهرًا وباطنًا، أكدوا ذلك على أساس المنهج الصوفي».
وكذلك يبيِّن الدكتور طلعت غنام المصدر اليهودي للتصوُّف فيقول: «وقد سجلت هذه المواقف التي عاشتها النظريات الصوفية في مجال الأديان الثلاثة ونص ترجمة التوراة هكذا: (جاء الله من سيناء وأشرف من ساعير واستعلن في فاران)».
ويفسِّر معنى تلك الترجمة بقوله: «ومعنى هذا كما تقول النصوص جميعها أن طورَ سيناء مظهر موسى، عليه السلام، في الوادي المقدس، وأن ساعيرَ (جبال فلسطين) مظهرُ عيسى، عليه السلام، وأنَّ فارانَ إعلانُ الله رسالتَهُ الأخيرةَ حقيقةً ومظهر محمد، صلى الله عليه وآله وسلم، فإذا تفحَّصنا (فيلون) الفيلسوف الصوفي اليهودي فإننا ندرك مدى تأثُّر الدوائر الصوفية في الإسلام بالمصدر اليهودي الشرقي الذي كان له الأثر في الأفلاطونية المحدثة، والدوائر المسيحية، وبالتالي في الدائرة الإِسلامية والفكر الإِسلامي».
وإذا أخذنا بنظرية الدكتور غنام من أنَّ المستشرق (جولدتسيهر) هو يهودي، وهو حامل لواء راية تأثر الصوفية المسلمين باليهودية، فإنَّ ذلك كافٍ لأن ندرك كم كانت شهوة اليهود شديدة، وخصوصًا المستشرقين منهم، إلى تشويه الإسلام بإدخال الأفكار الغريبة عليه، ومنها الأفكار الصوفية التي كانت من أعتى الهجمات على الدين الحنيف، فأوقعت في صفوف المسلمين ضحايا كثيرين ما زالت تعجُّ بهم الأمصار، ويا للأسف، حتى اليوم!!!.
سادسًا ـــ المصدر النصراني:
لقد عرفت جزيرة العرب النصرانية، كما قلنا، وانتشر أتباعها في عددٍ من النواحي والأطراف، فأقاموا في اليمن، وحُمِلتْ جماعاتٌ من الجاليات الرومية رقيقًا إلى مكة ـــ البلد الذي كان من أهله أعلامُ الأحناف. وتشير بعض المصادر إلى أن حنظلة الطائي ترك قومه من أجل التنسّك، فأقام ديرًا بالقرب من شاطئ الفرات قضى فيه باقي عمرِهِ حتى مات. وأنَّ أميّة بن أبي الصلت لبسَ المسوحَ تعبّدًا، وكانت له آثارٌ في الشعر والنثر تحمل طابعه الزهدي في الدنيا، ونظرته إلى الكون والحياة.
وقد ذكرت المصادرُ التاريخية أولئك الأحناف من مكة الذين نزعوا إلى النصرانية بأسمائهم وذلك لقلّة عددهم، في حين أن تلك المصادر تشير إلى أنه قامت على أطراف الجزيرة قبائلُ من العرب دخلت كلها في النصرانية لأغراض سياسية، كالغساسنة وقبائل كلب وقضاعة وجذام في بلاد الشام الذين تنصَّروا مسايرةً لأسيادهم الروم. كما أن قبائل من العراق كانت قد اعتنقت النصرانية قبل الإسلام كتغلب وإياد وبكر وغيرها.
ومثل هذا الوجود الضئيل للنصرانية في جزيرة العرب وبعض أطرافها لم يؤثر في حياة العرب الفكرية وما كان لهم من عادات البادية وتقاليدها، إلَّا ما أخذه بعضهم من مظاهر العيش التي كانت للرهبان وسكان الأديرة، وهي تدور في محورها على التقشف في الحياة ولباس الصوف وما شابه ذلك، وهي المظاهر نفسها التي اتَّبعها الصوفية في طرائق عيشهم كما صارَ معروفًا.
على أنَّ عدم تأثير النصرانية في الفكر العربي لم يمنع المتصوفين الأوائل من الوقوف على أخبار الرهبان حول المجاهدات النفسية، وإقامة الخلَوات، والانصراف إلى التعبُّد في الصوامع، بل إنَّ كثيرًا منهم ـــ كما يدعي ابن عربي في محاضرات الأبرار ـــ كانوا يجتمعون إلى الرهبان النصارى ويستشيرونهم حتى في أمور الدين كما يروى عن عبد الواحد بن زيد، والعتابي، وأبي سليمان الداراني وغيرهم. وفي ذلك يقول بعض الصوفية الأوائل:
مواعظُ رُهبــانٍ وذكرُ فِعالهــم وأخبارُ صدقٍ عن نفوسٍ كوافرِ
مواعظُ تَشْفِينا فنحن نَحُوزُها وإنْ كانــتِ الأنباء مِنْ كــلِّ كافِرِ
مواعظُ بِرٍّ تُورثُ النفسَ عِبرةً وتـــترُكُها وَلْهـــاءَ حــــولَ المقــابرِ
فإذا أضفنا إلى طرائق العيش أو الموعظة تلك، ما كان للنصارى من اتجاهات روحية وفلسفية على ما تروي كتب الصوفية أنفسهم من قصصٍ وأقوال عن السيد المسيح، عليه السلام، نجد أنَّ كلّ ذلك يؤلف مصادر مهمة لبعض مذاهب الصوفية.
ومن تلك الاتجاهات الروحية في النصرانية: المحبة وهي أهم التعاليم التي نادى بها السيد المسيح، عليه السلام، وإن كان الكثيرون اليوم لا يعملون بها كما أرادَها، عليه السلام، بذرة خيرٍ في القلوب والنفوس، تدعو إلى التآلف والتسامح وإيثار الغير، وما إلى ذلك من القيم السامية التي ترفع من قدر الإنسان الذي يتعامل بها. هذه المحبة أخذها الصوفية عن أصلها المسيحي، لكنهم أوَّلوها بما يتوافق وأهواءهُم، فأنشأوا من خلالها، أو على منوالها مذهبهم المعروف بالحب الإلٓهي أو بالعشق الإلٓهي، وهو المذهب الذي كانت رابعة العدوية رائدته الأولى، وكان له أكبر الأثر في استمالة كثيرين من الناس إلى التصوُّف، فدخلوا فيه إمَّا متأثرين بمشايخه، وإمَّا تيمُّنًا برابعة وتبرُّكًا بها، أو اقتداءً بنهجها عندما أحبَّت الله تعالى وأقبلت عليه بكل جوارحها طمعًا في مطالعة جماله، ورؤية وجهه الكريم، والاتصال به، على ما سنرى في هذا الكتاب.
ويتحدث الأستاذ عبدو حلو (أستاذ محاضر في تاريخ الفلسفة العربية) عن الطرائق العملية التي تأثر فيها الصوفية بالنصارى، فيرى بأنَّ ما أخذه الصوفية من تنظيمات إدارية ومسلكية، في التكايا والزوايا وأماكن تجمعهم، أشبه ما يكون بنظام الأديرة، وتعرف عندهم بالخانقاوات. وقد أسست أول (خانقاه) في الرملة من بلاد فلسطين قبل نهاية المئة الثامنة الميلادية، وخلال النصف الثاني من القرن الثاني الهجري. وكان مؤسسها مسيحيًّا، لكنَّ الذي كان يترأس نظامَها هو أحدُ شيوخ الصوفية.
ويضيف إلى ذلك: أن موارد الالتقاء بين الصوفية والرهبان تقوم على أن نظام الأديرة كان يفرض على من يريدُ الرهبنة الفقرَ والعفافَ والإِطاعة لرئيسه، وإنَّ هذا الشرط بعينه هو ما اشترطَهُ الصوفية في المريد الذي يلتحق بأحد الشيوخ ليصبح صوفيًّا.
هذا ويذهب الأستاذ النيال في كتابه (الحقيقة التاريخية للتصوف الإسلامي) إلى أن «الصوفـيةَ ما كـان لها أن تعيشَ لو لم يكن الصوفيةُ بين المسلمين من ضحايا شدَّة الحبِّ في الله، ولا سيما الصوفية القدماء قد تركوا مجال الحياة فسيحًا بين المتنافسين في هذه الحياة فهم لا يضايقونهم في شيء منها».
ويضيف إلى ذلك قوله: «ومع ذلك فقد أنكر عليهم الفقهاءُ غلوَّهم، ونعتوهم بالرهبانية ـــ والرهبانيةُ قد ذمَّها الإِسلامُ ـــ فنشبتْ بين الفريقين (أي الصوفية والفقهاء) خصومةٌ حادةٌ عاشت بعض الوقت إلى أن ظهر صلاحُ الدين الأيوبي على الفرنجة وعلى الجميع، فحمل الأمة الإسلامية على السنّة وعلى المذهب الأشعري، وقرَّبَ إليه الصوفيةَ فتكاثَرَ عددُهم، فأسَّسَ لهم التكايا وحَبَّسَ عليها. واشترط ـــ كما يقول المقريزي ـــ أن لا يُقبلَ فيها إلَّا من كان (سنيًّا أشعريًّا). وبذلك هدأت الخصومةُ الحادة التي كانت بين الصوفية والفقهاء، وأمكن للفقيه أن يتصوَّف، وللصوفي أن يتظاهرَ بالأشعرية، وفتحَ كلُّ فريقٍ من الفريقين أبوابَ دارِهِ في وجه الآخرين. وانطلقت الصوفيةُ بعد أن سار الحكام المسلمون على منوال صلاح الدين الأيوبي فتكاثَرَ عددُهم في البوادي (وتمشْيَخوا) بين سكانها، وأسَّسُوا فيها البيوت المعروفةَ بالزوايا للمريدين والأتباع. ومن هنا ينتقلُ التصوفُ إلى حرفةِ ارتزاقٍ وتكسُّب، إذ كثرت شيوخُهُ في كل مكانٍ حتى إنك لا تجد أحدًا غيرَ منسوبٍ إلى طريقِ زاوية من الزوايا في البلاد التونسية والشمال الأفريقي كلِّه طوال القرون السبعة الأخيرة».
ويرى فريقٌ كبيرٌ من المستشرقين أن التصوُّف أخذ الكثير الكثير عن النصرانية، ويستندون في ذلك إما إلى وجود الرهبان والقسيسين في بلاد العرب، وإما إلى إيثار حياة الفقر والفقراء على الغنى والأغنياء، وإما إلى ما عند الصوفية من صمتٍ وذكرٍ، وما إلى ذلك.
وهكذا يتبين لنا من جملة ما تقدم، كم هي كثيرة المصادر التي استقى منها الصوفية، وهي جميعها غريبة عن الإسلام. ومجرد كونها من غير هذا الدين الحنيف الذي تكمن فيه الحقائقُ المطلقةُ عن الكون والحياة والإِنسان، يعني أنها تحريفٌ لحقائقه. لذا نجدها ظهرت بمذاهبَ فلسفية، غالبُها زيغٌ وإلحادٌ، أو بأنماط زيف وخداع معظمها مسايرة للحكام، ونصرةٌ لهم، في سبيل تحقيق مصالح ذاتية، ومآرب أخرى شتى.
ونحن لا ننكر أن أيّ أمةٍ من الأمم لا بدَّ من أن يكون لها تراثُها الفكري والحضاري، وحقائقها التاريخية، وأن تكون لها معتقداتُها، وأن تفاخِر بهذه المعتقداتِ، بل بجملة ذلك التراث الذي يقومُ عليه وجودُها، وتبرز على أساسه كأمةٍ بين الأمم. ولكن أن تأتي جماعةٌ من أمة المسلمين، وعندها الإسلامُ عقيدةً ومنهجًا في الحياة لتأخذَ بما يناقِضُ تعاليم العقيدة، وقوامَ المنهج، ولتُفسدَ على المسلمين صحة معتقداتِهم، ثم لتقول بأنَّ هذا من الإِسلام، فهذا ما لا يَصحّ أبدًا، لأنه خلاف للحقيقة.
إذن يجب أن نعيَ هذه الأمور بكل إدراك، وأن نعرفَ الغاياتِ التي تكمنُ وراءَها، والتي لم تختلف اليوم عما كانتْ عليه في الماضي، وهي الدسُّ على الإسلام والطعن في تعاليمه، ومحاربته بلا هوادة، والأخطرُ من ذلك أن يتقبَّلَ المسلمون، في بلادهم المختلفة، تلك الأنماطَ الفكريةَ، على أنها تتوافقُ مع كتاب الله العزيز القدير، وسنّةِ رسولِهِ الكريم الأمين، في حين أنها بعيدةٌ منهما بُعدَ السماءِ من الأرضِ، وتخالفُهما شكلًا وجوهرًا.
وعلى هذا، فنحن قد تحدثنا في كتابنا (الإسلام وثقافة الإنسان) في طبعته السابعة عن العوامل الأربعة الرئيسية لضعف المسلمين، وقلنا إنها تتلخص في:
1 ـــ الأحاديث التي دست كذبًا على الرسول، صلى الله عليه وآله وسلم.
2 ـــ محاولة التوفيق بين الأفكار والفلسفات الأجنبية والإسلام.
3 ـــ فصل الطاقة العربية عن الطاقة الإسلامية.
4 ـــ الغزو التبشيري.
وفي رسالة «عوامل ضعف المسلمين» تعرضنا للأسباب الرئيسية التي نجم عنها تأخر المسلمين، والعقبات التي تحول دون نهضتهم، وفيها أشرنا إلى:
ـــ الذين يطلبون العلم للارتزاق.
ـــ الذين يفهمون الإسلام مجرد طقوس وروحانية فقط.
ـــ الحركات القومية والانفصالية بين المسلمين.
ـــ التبشير باسم العلم والإنسانية.
ـــ الانتفاضات الارتجالية التي هي أشبه بحركة الطير المذبوح تنتهي دائمًا باليأس والاستسلام.
وفي هذا الكتاب نعقد فصولًا عن «التصوف» بصفته دخيلًا على الإسلام وعاملًا من عوامل ضعف المسلمين، وهدفنا هو تصحيح المفاهيم المتعلقة بالدين والحياة، ودعوة الطيبين من أبناء أمتنا إلى أن ينفضوا عن أنفسهم غبار الوهم والأباطيل لتحقيق الترابط الفكري بينهم على أساس المبدأ الإسلامي.
وقد اقتضانا ذلك تسليطَ قدر من الضوء على المتاهات والنزعات الصوفية التي تنتشر بشكل وبائي حول مفهوم الإسلام، فتصيب الأفراد والجماعات بالجمود والسلبية، وتشل قوى الأمة وتعطِّل حركتها بحيث تدفعها إلى الانحطاط الفكري، وبالتالي إلى التأخر في جميع الميادين والحقول.
وكم يحز في نفس المسلم أن يرى الخاصة والعامة يهيمون في بُحرانِ التصوف، ويؤخذون بكثيرٍ من صوره الكثيرة الخفية، أو يسبحون في جو القداسة الزائفة لرجاله، والتخشع لطقوسه وهذيانه، حتى اضطربت بعض موازين الحياة والمجتمع، وتدهورت الأحوال السياسية والاقتصادية في البلاد، أو انتقلت مقاليدها إلى أيدي أعدائهم.
ولكَم يعزُّ على المسلم أن تسود الآراء المشوهة، والاتجاهات السلبية باسم الدين تحت ستار التصوف، حتى جاز لأقوام أن يرموا الدين ورجاله بالتخلف والجمود والرجعية، وأن يدرجوا الإسلام ـــ مع غيره من الأديان ـــ حين يقولون «بأن الدين أفيون الشعوب». في حين أن الأديان السماوية، وفي طليعتها الإسلام، لو عدنا إلى حقيقتها، بلا تحريف ولا تزوير، لوجدناها وحدها طريق الإنسان إلى الخلاص من كل المشاكل التي تعرض له، ومن كلّ الأخطار التي باتت تحدق به، بفعل بُعده من الدين.
ولقد يتوهم بعضهم أن التصوف مرتبة من المراتب العليا في الدين. فهل هذا صحيح؟ إن هذا لخطأ فادح، وهو أيضًا وهمٌ أدخلوه في رؤوس أبناء أمتنا حتى يصرفوهم عن دينهم. لذا فنحن نبادر إلى القول بأن فطرة الوجود الإنساني الكامل تنتج الفكر الصحيح، والشعور الصادق، والعمل النافع. وإن السلوك الصحيح في الحياة لا يكون بغير الاستخدام الرشيد للطاقات العقلية والبدنية لتحديد المفاهيم الصحيحة عن الإسلام، ثم العمل بما طابق هذه المفاهيم. وإن الأمة التي تتخلى عن قواعدها العملية، وأفكارها السامية المحددة ينتظرها الشتات والانحطاط.
والحقيقة هي أن الخلاف بين الإسلام والصوفية، ليس خلافًا حول مسائل فقهية، أو اختلافًا حول اجتهادات في قضايا فرعية، بل هو نزاع رئيسي حول فهم حقيقة الله تعالى، وفهم الكون والحياة والإنسان.
ويتركز الخلاف حول نقطتين أساسيتين:
الأولى ـــ موافقة الإسلام للفطرة ومخالفة التصوف لها:
إن الإسلام يدعو لحياة قوامها الاستخدام الأمثل لقوى العقل، وطاقات النفس والبدن، في ما ينفع الناس [فِطْرَةَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا]. لذا لم يجهد المسلمون الأولون ليكونوا مبتدعين، أو ليكونوا من الفلاسفة أو المتصوفين، بل اكتفوا بأن يكونوا من العابدين الخاشعين، ومن المجاهدين الصادقين. وقد أدركوا بالفطرة السليمة بعض الحقائق فالتزموها، من دون أن يجدوا أنفسهم في حاجة إلى تعليلها أو حتى مجرد التحدث عنها. وهذه الحقائق هي:
أولًا: أن المسلم لا يرضى بحياة الضعف مهما كلفه السعي لاكتساب القوة. لذلك لا ينفك عاملًا على استكمال أسباب القوة الذاتية لنفسه ولأمته، حتى يلقى الله وهو عنه راض.
ثانيًا: أن العقل هو الخصوصية الأولى للإنسان، وأننا محاسبون أشد الحساب على استخدامه أو إهماله، وأنه إذا أهمل العقل ضلت الإنسانية.
ثالثًا: أن العمل الصالح هو السلوك الفطري الصحيح في الحياة في ظل عقيدة التوحيد.
فالمسلم يحصل على المال بالسعي الحلال ليسد به حاجته، ويعين به أخاه، ويبذله في سبيل الله من أجل خير أمته، ويأخذ الحق الذي له، ويعطي الحق الذي عليه. فإذا بغى عليه باغ ثار الجميع في وجهه، لا يظلمون ولا يظلمون. وإذا واجهت المسلم عقبة في طريق الحق الذي يسعى إليه جابهها للتغلب عليها، لا تفتنه الدنيا فينزلق، ولا يخشى إلّا الله، فيقعده الخوف.
هكذا من دون تعقيد أو التواء، يمضي المسلم في حياته اليومية، وفي كل أموره، مسايرًا لناموس الفطرة. والفطرة أوجدَها الله سبحانه وتعالى صحيحة سليمة في بني البشر، وإنما يفسدها صاحبها بانحرافه عن فهم هدف الحياة.
فإذا علمنا أن التصوف هو الحالة التي تُستل فيها من الأجسام عافيتها بالجوع والحرمان، ومن العقول جذوتها بتخدير القوى المدركة وتشتيتها في متاهات الروحانية، بدعوى العمل للآخرة، صحَّ لنا أن نقول إن التصوف خطأ في فهم الحياة يعارض الفطرة القويمة المستقيمة، وأنه نزعة طارئة على الإسلام غريبة عن طبيعته.
الثانية ـــ الفصل بين القول والفعل عند الصوفية والمطابقة بينهما في الإسلام:
لقد أراد الصوفية ـــ منذ البداية ـــ أن يتستروا بالإسلام، لتحقيق أغراضهم ومآربهم، وبذلك تساوى عربيُّهم وأعجميُّهم في الفصل بين القول والفعل، بحيث كانوا يقولون ما لا يفعلون، أو يفعلون خلاف ما يذيعون. لقد نمَّقوا الكلام، وزينوا الأفعال، فادَّعوا الطهر والبراءة والعبادة، في حين أنهم انغمسوا في الفحشاء والمنكر ومخالفة الأحكام الشرعية حتى وصفهم الفقهاء بالزنادقة، وقامت بين الطرفين خصومة ما كان يمكن أن تتوقف لولا بعض الحكام وذوي الأمر؛ لذلك، ولكي يبعدوا الناس من المفاهيم المحددة لكلمات الله وأحاديث الرسول، صلى الله عليه وآله وسلم، عمدوا إلى التأويل وانحرافات التفسير، والحيل والمخارج في الفقه، والتعطيل والتجسيم في العقائد، حتى إذا أُجهضت الكلمات من معانيها، قالوا إن للكلمات معاني ظاهرة وأخرى باطنة. في حين كان منهج المسلمين في صدر الدعوة يقوم على فهم الكتاب والسنّة فهمًا عمليًّا ـــ لا يزيدون شيئًا ولا ينقصون ولا يتأولون ـــ أي فهمًا واقعيًّا إيجابيًّا محدودًا للتكيف مع الدين ومقوماته وتوجيهاته. وكل فرد يصح له من إسلامه بقدر ما يخلص النية، ويتحرى الصدق، ويسعى جاهدًا للعمل على مقتضاه، وليس بما يكثر من القول في موضوعات الدين.
فالكلمة كانت عندهم لا تنفصل عن معانيها ومسؤولياتها، والدين لا يفترق عن السياسة، والفرد لا ينشق عن الجماعة، وكل عمل صالح في الدنيا هو سعي مشكور في طريق الآخرة.
ثم دارت الأيام دورتها فأضيفت شروح وتصورات وزيادات اعتقادية ومنهجية، إلى المفاهيم الإسلامية، وتسلَّلت النظرة الفلسفية إلى محيط الصوفية تأثرًا بالفكر الإغريقي المؤسس على الجدل التجريدي. وافتتن فريق من رجال الكلام والفقه والحديث والتفسير بمنطق الفلسفة فغرقوا في موضوعاتها، حتى أصبح الهدف من العلم والتعليم هو إثبات المهارة العقلية في حل المعضلات اللفظية، وليس إثارة مفاهيم محددة أو استثارة الهمم للقيام بالعمل الواجب الذي تفرضه الظروف. وبدلًا من أن يكون القصد هو معرفة الحق واستبانة الطريق وإعداد الجماعة لحمل أمانة الدين، أصبح الهدف إظهار البراعة في الكتابة والخطابة واستعراض قوة الحافظة. إلخ.
وهكذا تلاشى سلطان الكلمة بعد أن أُفرغت من محتواها، وأصبح الإصلاح حرفة، والتعليم حرفة، والسياسة حرفة. وفي غمرة المغالطات الفكرية فقد فريق من هؤلاء الرؤية الصحيحة لحقيقة الدين، واستجرَّهم الجدل إلى الاكتفاء بتزويق العبارة وتكرار القول وإدارة المعنى على وجوه كثيرة ـــ في عملية تعويض ـــ يستبدلون بها مشقة العمل الجاد ومجابهة الواقع، ويحسبون أنهم مهتدون.
بمثل هذا تمَّ نزع الإِيجابية عن الدين بتجريد الكلمات من شحنتها، وبالقعود عن مباشرة الأعمال الصحيحة الواجبة، وليس شرٌّ ومقتٌ عند الله أشدَّ من قول بلا عمل: [كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ] (الصف: 3).
وهكذا نخلص من ذلك كله إلى النتيجة الحتمية التالية، وهي: أن الإسلام والتصوف اتجاهان متعارضان:
ـــ فيما خص هدف الحياة، فإن الإسلام عبارة عن فهم واقعي إيجابي لقانون السيادة في الحياة، وممارسة العمل الواجب وفق فكر مستنير طبقًا لأوامر الله تعالى ونواهيه، وصولًا إلى الغاية المثلى التي هي رضوانه. أما التصوف فيقوم على ادِّعاء تملُّك العالم روحيًّا، وتفسير ذلك أن الصوفية يستمتعون في الخيال بما عجزوا عن تحقيقه في حياتهم، لذلك عطَّلوا أداة العمل (وهي الجسد)، وحطموا مصابيح الهداية بإلغاء عمل العقل والحواس.
ـــ فيما خص نظرتهما إلى الواقع، فإن الإسلام يقوم على مباشرة الواقع بالسلوك الصحيح، بحيث يتم انطباق عمل الإنسان على الكلمة الخالدة من عند الله سبحانه، والمفهوم الصحيح لحديث الرسول، صلى الله عليه وآله وسلم، في وحدة لا تنفصم. وفي القرآن الكريم حيث يذكر الإيمان يذكر العمل الصالح، إذ هو الترجمة الواقعية لمفهوم الإيمان. في حين أن التصوف يقوم على الهرب من الواقع والانسحاب من الحياة، والتلهي بالنظرة الفلسفية التي تقف عند مشكلات التفسير والرأي والخلافات المذهبية «للكلمة والعبارة» ثم الانتهاء إلى إحلال الجدل محل العمل.
هذا مضافًا إلى أن الإسلام يقضي باستخدام العقل في مواجهة الأحداث والمواقف، مع قوة التوجه إلى الله تعالى بالعمل الصالح. والتصوف يواجه المسائل بمنطق الكهانة، المتمثل بانتظار المصادفة السعيدة أو التماس الخير بالتمائم والرقى، ويدير ظهره لمشاكل الحياة عجزًا عن المواجهة الصحيحة بترك أسباب العمل، وله بعد ذلك أن يصنع من العجز حكمة!!!
أما في مسائل العبادات فيتعارض المفهوم الإسلامي مع التصور الصوفي، إذ فات الصوفية أن الإسلام ليس رياضات روحية، كما أرادوه، بل هو عبادات خاشعة يُبتغى بها وجه الله.
وإن شر ما تُبتلى به أمة هو أن تنتشر فيها الضلالات، وأن تختلط فيها المفاهيم حتى تسودها الفوضة الفكرية. وأشد ما تكون الإصابة فتكًا عندما تتلبس الضلالات بالدين.
وإننا لنعقد الرجاء بالله سبحانه أن يثوب المشتغلون برعاية شؤون الأمة إلى استئناف الحياة الإسلامية، وحمل رسالة الإسلام الفكرية، بحيث يصبح الفكر الإسلامي موجهًا للعمل السياسي، فترتفع راية الحق ويعود الجميع إلى حظيرة الدين، وقد اتَّضحت لهم حقيقته العليا وتحددت لديهم مفاهيم الإسلام الصحيح [وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللهِ].






إبراهيم بن أدهم

إبراهيم بن أدهَم
والمجاهدات الجسديّة والنفسيّة عند الصوفية
إن المجتمعات التي لم تعشْ في ظل راية الأديان السماوية، هي مجتمعات جاهلية لأنها تبقى بلا ريبٍ أسيرةً للأوهام، مقيدةً بأقوال المنجِّمين والكهَّان، مغلولةً بالأساطير والخرافات، غارقةً بالأعراف والتقاليد، وجميعها لم تخاطب الإنسان يومًا، بما يقنع عقله، ويطمئن قلبه، ويرضي وجدانه، بل كانت أنواعًا من الظلم والاستعباد والاستغلال، تمارسها فئات حاكمة طاغية، همُّها نيل التقديس والاحترام، والحصول على المكاسب والمغانم، بحيث لا تتورع عن ابتداع الأباطيل والمزاعم، وعن استعباد الناس وتجويعهم، فتسوقهم كالأغنام، ليكون لها ما تشاء. وكل ذلك كان باسم المعتقد الديني الذي اخترعوه، وعبادة الآلهة التي صنعوها، والأحكام التي سنّوها لمعالجة مشاكلهم، والقصص التي حاكوها حول معتقداتهم وآلهتهم. والقصة تفعل الأعاجيب في نفوس الشعوب البدائية.
ومن هنا نجد أن القِصص الدينيّة كانت أكثر القِصص أثرًا في النفوس، وأشدها انطباعًا في الأذهان، يتوارثها الأبناء عن الآباء أجيالًا بعد أجيال، حتى ليمكن القول بأن هذه القِصص هي أهم ما تحفظه الشعوب المتأخرة عقليًّا وذهنيًّا، حتى تضحي بمنزلة تراث لها، تحافظ عليه ولا تريد التخلِّي عنه ما لم تهزَّها أحداث جسيمة، أو تجبهها أفكار جديدة يكون لها وقع في النفوس يغلب على ما سيطر عليها من قبل، لكن تلك الغلبة للأفكار الجديدة ولأحداثها، قد لا يكون لها الاستقرار التام، فتختلط بها الأفكار القديمة أو القِصص المنسوجة في الأخيلة والقلوب، بما يبعد الجدّية من حقيقتها.
وعلى هذا فإن الأنبياء لما جاؤوا بالقَصص الصحيح سرعان ما اجتمعت عليه الصور القديمة في القِصص الوثنية، فأضافت إليه ما ليس منه، وغيرت فيه بشكلٍ جعل القَصص الصحيح يخرج عن حقيقته. وإننا لَنجد المثال على ذلك بما صوَّرت به بعض الكتب الدينية النبيَّ داود، عليه السلام، إذ جعلته ملكًا من ملوك الدنيا، تسود قصره النزاعات بين الزوجات والجواري، ويحوك الدسائس لقتل الأشخاص حتى يحظى بزوجاتهم، مع أنه نبيٌّ منزَّهٌ عن كل ما يشين سمعة الإنسان، وعن كل ما يكون فيه يدٌ للشيطان، تعالى رُسُل الله عن ذلك علوًّا كبيرًا. وطبعًا لم تكن الغاية من تلك الصور إلَّا دفع الناس للتعلُّق بالحياة، والتهافت على الملاذِّ والمسرَّات، وهذا في العادة أيسر الطرائق لإخضاع الجماعات للفكرة الاستغلالية في الدين!
ولم تسلم قصص القرآن الكريم من هذا العبث بالحقائق، فاندست حولها تفسيرات مليئة بالخرافات والأساطير التي اصطلح على تسميتها بالإسرائيليات: مثل أخبار كعب، ووهب بن منبه، وغيرهما من يهود المسلمين، التي حملت هذا الطابع الإسرائيلي بوضوح، والتي كانت الغاية منها إفساد عقول المسلمين، وثَنْيَهُمْ عن عقيدتهم، وبالتالي النيل من الإسلام الذي من أهدافه القضاء على كل ما يُفسد العقل، وما يسوء النفس، ويقهر الجسد، وبالإجمال كل ما يبعد الإنسان من مكنون تكوينه، وعظمة هذا التكوين بما هو عليه من روح ونفس وجسد.
وهكذا فإنه لما نجح الإسلام في بسط سلطانه على الشعوب التي كانت الوثنيات تسود عقولها، ورأت طائفة من أصحاب النفوذ والمنتفعين أن مكاسبهم قد قُضي عليها، وأنه لا كيان لهم بوجود نظام شامل، وعدالة مستقرَّة، استنفروا جهودهم لبذر جراثيم الفساد التي قد ينالون بوساطتها من الإسلام وعظمته، فلم يجدوا وسيلةً أفضلَ لذلك من الزهد والتقشُّف، وما يحملان من دعوة لتحقير الدنيا ونعيمها، واعتزال الناس، ومحاربة الجسد بتحريم الطيبات، فأدخل أصحاب تلك الدعوات في أذهان فقراء الناس وبسطائهم أنَّ الدين يدعوهم، أول ما يدعوهم، إلى التقرب إلى الله، وأنَّ هذه القربة لا تكون إلَّا بتعذيب النفوس بالجوع والصيام، وبقهر الجسد وحرمانه.
وهكذا فإن جرثومة التصوف الهندي التي كانت قد لقيت في العقلية الفارسية مرتعًا خصبًا، والتي جعلت فارس تحمل التصوف الهندي بحرمانه وأخيلته قرونًا عدّة، عادت للظهور أيام ضعف الدولة الإسلامية في حكم بني العباس، ونجاح المتآمرين الأعاجم في الاستيلاء على الحكم، فقام شيوخ «خراسان» و«بلخ» ينادون بالتصوف على أنه من صميم الدين، وأنه مذهب الصفوة المختارين، متأثرين في ذلك بما كانوا عليه من العادات والطباع أجيالًا طويلة. واختلطت التعاليم الإسلامية بالتقاليد الفارسية والهندية، فضاع الناسُ، ولم يعودوا يعرفون أين هي الحقيقة، فأدى بهم هذا الضياع إلى النفور من الدنيا، وتحريم أطايبها، ومن ثَمَّ الركض وراء الحرمان والقهر والفقر، والجوع، والعذاب معتمدين لذلك طرائق عدّة ملتوية عرفت بالرياضات والمجاهدات، أو بالعبادات والخلوات.
ولقد زعم دعاة تلك المجاهدات بأنها تؤمِّن الاتصال بالله، وتتيح فرصة مشاهدته بأم العين، وبها يمكن تلقِّي العلم عن الله مباشرةً، بما أسموه «العلم اللَّدُني»، ومن أجل هذا اندفع الزاهدون (كما كانوا يدعون في حين أنهم هم في الحقيقة غلاة صوفيون) وراء مجاهدة النفس وتعذيبها بالجوع والسهر والخلوة، ولبس المرقعات والمواظبة على الأوراد والصلوات. كما أشاعوا في صفوفهم ضرورة ترك الغنى وكل وسائل الفرح والبهجة، فراح عدد كبير منهم يسوح في البراري والفلوات،ويعاشر الوحوش والبهائم ـــ كما تروي كتب التصوف ـــ وغير ذلك من الأساليب والطرائق التي ظنوا فيها تحقيق أهدافهم الصوفية، وأغراضهم «الدينية»!
ولكي يمكن الوقوف على حقيقة المجاهدة وما يعنون بها، فإننا نأخذ ما نقله القشيري عن إبراهيم بن أدهم في ذلك، والذي يُعدّ تحديدًا لأغراض التصوف وأساليبه في المجاهدة. قال إبراهيم بن أدهم:
«اعلم أنك لا تنال درجة الصالحين حتى تجوز ست عقبات:
أولها: أن تغلق باب النعمة وتفتح باب الشدة!
ثانيها: أن تغلق باب العز وتفتح باب الذل!
والثالثة: أن تغلق باب الراحة وتفتح باب الجهد!
والرابعة: أن تغلق باب النوم وتفتح باب السهر!
والخامسة: أن تغلق باب الغنى وتفتح باب الفقر!
والسادسة: أن تغلق باب الأمل وتفتح باب الاستعداد للموت»!
إذن، فعند إبراهيم بن أدهم تقوم المجاهدة على ترك النعمة واعتماد الشدّة، والتخلي عن العز واتباع الذل، وهجر الراحة إلى الجهد، والنوم إلى السهر، ورذل الغنى والركض وراء الفقر، ونبذ الأمل والاستعداد للموت! وهي حالات لو اعتمدها الإنسان فعلًا لأذهبت بصيرته، وخذلت نفسه، وطمست على عقله، فلا يألف عيشًا سويًّا، ولا يعرف حياة طبيعية.
وبعد إبراهيم بن أدهم بثلاثة قرون أبرز الغزالي رأيه في المجاهدة في كتابه (إحياء علوم الدين)، وهو الكتاب الذي يعدّه الصوفية بحر التصوف، ويتهافت عليه العاجزون والمحرومون من صغار الشباب تهافت الفراشات على الضوء القاتل، ليجعلوا منه قناعًا لعجزهم وحرمانهم، وذلك عندما قال: «المجاهدة تكون بلزوم زاوية ينفرد بها العبد، ويوكل به من يقوم له بقدر يسير من الرزق «الحلال»! ويلقنه ذكرًا من الأذكار. ومن المجاهدة: دفع الوساوس التي تترتب على وجود المرء في الخلوة، وقفل باب الفكر، والتجرد للذكر مع ملازمة هذه الحال. ومن المجاهدة تأديب النفس بتثقيل الأوراد والوظائف وإجهادها بالأذكار والصلوات، والسهر وقلة الطعام»!!!
أما العزلة في زاوية انفراد العبد، فيقول عنها الغزالي: «إنها لا تكون إلا بالانقطاع عن علائق الدنيا بالكلية، وتفريغ القلب منها، وقطع المهمة عن الأهل والمال والولد، والوطن، وعن العلم، والولاية، والجاه، حتى يصير الشخص في حالة يستوي فيها وجود كل شيء وعدمه، ثم يخلو بنفسه في زاوية، مع الاقتصار على الفرائض. ويجلس فارغ القلب، مجتمع الهم، لا يشغل فكره بقراءة القرآن، أو تأمل في تفسير، أو كتابة حديث أو نحو ذلك».
ثم يقول هذا الشيخ الفيلسوف في «الخلوة»: «إنه لا تكون إلا في بيت مظلم، فمن لم يكن له بيت مظلم فليلفَّ رأسه في جيبه، أو يتدثر بكساء أو إزار. ففي مثل هذه الحالة يسمع نداء الحق، ويشاهد جلال الحضرة الإلٓهية».
إذن، فالغاية عند أبي حامد من «العزلة»، و«الخلوة» ـــ وقوامهما المجاهدة ـــ هي في نهاية المطاف سماعُ نداء الحق، ومشاهدةُ جلال الحضرة الإلهية، أليست هذه الغاية ضربًا من المحال حقًّا؟ بل أليست ضربًا من الجنون، لا يمكن لمؤمن بالله، وبقدرته، وعظمته، وسناء جلاله، أن يقبل بها؟! ويكفي الإنسانَ العاقلَ المؤمنَ أن يكون في هذه الدعوة للمجاهدة، التخلي عن كل شيء، عن الأهل والولد، وعن المال والوطن، وعن العلم، وحتى عن قراءة القرآن والتفكر في تفسيره، لكي يتبيّنَ سُخفَها وبطلانَها. وإذا كان الأمر كذلك فماذا بقي للإنسان في دنياه؟! ولماذا كانت هذه الحياة؟ ولـِمَ كان خلق الإنسان في الأصل؟!
على أنه وإن كانت هذه أغراض المجاهدة الجسدية، ومجاهدة النفس، عند إبراهيم بن أدهم، وعند الشيخ الأكبر أبي حامد الغزالي، فإن الجوع والسهر وإرهاق البدن، والاعتزال، والانفراد، والاختلاء، لم تكن كافية لكبح جماح النفس عند الصوفية، لذلك نجدهم يفرُّون إلى التكايا والزوايا بعيدًا من الناس، بقصد التفرغ لمحاربة النفس، ومغالبتها باسم المجاهدة كما يزعمون. أما الجهاد بالنفس والمال لمناصرة الدِّين والحق أو الدفاع عن الوطن والعرض، وغير ذلك من المقاصد السامية التي يُعدّ الموت في سبيلها علامة على الصدق والانطلاق في الحياة بحسب الشرع الإسلامي الصحيح، فهذا ما لا تسمو إليه همم الصوفية في صميم العقيدة، ولا تتعلق به إرادتهم العاجزة. فالصوفية مع تحقيرهم الدنيا، وترك كل ما فيها، والتخلي عن مقاصدها، ومع ادعائهم كراهية هذه الحياة، وسخطهم على ما فيها، نجدهم أحرص الناس على الحياة ـــ وإن كانوا يقضونها غرقى في بحران الوهم والخيال ـــ لذلك تراهم عند المصيبة، أو الغارة عليهم مثلًا، أشد الناس هلعًا وجزعًا. ولكن ماذا يفعلون حيال ذلك؟ إنهم يهرعون إلى قبور أشياخهم يلتمسون منها الغوث ودفع المكروه، أو يقيمون قابعين فيها علهم يجتمعون بساكنيها، ويتربصون ـــ من غير جدوى ـــ أن تنزل بالغزاة أو المغيرين عليهم قارعة من السماء، أو أن تنخسف بهم الأرض، أو ينزل بهم الوباء من دونهم، أما أن يبرزوا لعدوِّهم، أو يخرجوا لملاقاته، فليس هذا من شأنهم! كيف لا وقد علَّمهم أشياخهم أن يلجؤوا إليهم ـــ، أحياءً وأمواتًا ـــ لكشف الكرب، والشفاء من الأمراض، وغير ذلك من الخزعبلات والأضاليل؟ ولعلَّ المثال البارز على ذلك، كيف هرج صوفية بنغازي ـــ وهم كثرة غالبة ـــ عندما دهمتهم جيوش العدوِّ، تستعمر أرضهم، وتستبيح ديارهم، وتستحل أعراضهم، إلى قبور أشياخهم، يستعطفون أجداثها أن تجيرهم، وهم لا يفتأون يرفعون أصواتهم مبتهلين إلى شيخهم الأكبر، مرددين هذه المنظومة التوسلية:
يا حسيبًا، إنا عليك حسبنا ودخلنا في كهفك المحميِّ!
وبظل الجناب منــك اتَّقينا مــن عدوٍّ ومن مُغيرٍ قويِّ!
فهل حماهم ذلك الحسيب المحسوب فعلًا، وهل وقاهم شَرَّ العدوّ؟
طبعًا لا، بل إن مَدافع المغير القويِّ قد حصدتهم، ولم تبقِ منهم أحدًا، وحلَّت الكارثة بالبلاد، وعمَّ البلاء!
وشبيه بذلك، ما تذكر كتب التصوف من حكايات غريبة التصوُّر، ومنها هذه الحكاية الفريدة عن خروج بعض الصوفية للقتال، فتقول بأن اثنين من صوفية خراسان، وهما حاتم الأصمّ، وشقيق البلخي، خرجا ذات يوم ليشهدا حربًا مع المسلمين، وما إن حمي وطيس المعركة، واشتدَّ الكرب بالناس، حتى نظر شقيق إلى حاتم وقال له: «هل ترى نفسك اليوم كما كنت ليلة زفافك؟!» فأجابه حاتم: «لا...». فقال شقيق: «إني لأجد نفسي في هذا اليوم مثل ما كنت عليه في تلك الليلة». ثم نام إبَّان المعركة، والقتال دائرٌ على أشدِّه، حتى سُمِع غطيطه!
ومن الغريب أن الأشياخ يسوقون هذه القصة في معرض الشجاعة النادرة، وحسن التوكل على الله، ويفسِّرون عملية النوم عند اشتداد القتال بأنها (الإيمان الكامل والتصديق بموعود الله في قوله تعالى: [قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللهُ لَنَا] (التوبة: 51) فأيُّ توكل هذا الذي يدَّعون، وأي إيمان هذا الذي يعتقدون؟ ومتى كانت آيات الله ـــ سبحانه وتعالى ـــ لا تحضُّ المسلم على قتال عدوّه وعدوّ الله، ومتى كان الإسلام دينًا للهزل في معرض الجد، ودعوةً للتقاعس والذل قبالة الخطر والشدَّة؟! بل وأيّ شجاعة هذه التي تطرح واجب الجهاد المقدس جانبًا، وترتمي في أحضان الدعة والإخلاد إلى النوم؟! فلو كان هذا شأن الإسلام، ولو كان كذلك توكل المسلمين، لمَا خاضوا معركة، ولما نزلوا إلى ملاقاة عدو، في حين أن التاريخ يشهد لهم بأنهم كانوا أبطالًا عظامًا في معركة بدر، والخندق، ومؤتة، بل وفي سائر الفتوحات الإسلامية التي جعلت راية الإسلام خفَّاقةً على مشارف بقاع عدّة من بقاع الأرض. وعندما غفل بعض المسلمين في معركة أُحد عن الأعداء واتَّبعوا هوى النفس، جرُّوا على المسلمين جميعًا المصائب والمتاعب والويلات، مع أنهم كانوا في حمى الرسول الأعظم، صلى الله عليه وآله وسلم.
لنعد إلى المجاهدات فنراها قد ملأت بطون كتب التصوف. وهذه طائفة من أخبار تلك المجاهدات، نسوقها أمثلة على ما وصل إليه أولئك الناس، من أوهام سيطرة على عقولهم، حتى لم يعودوا يرون في الدنيا إلَّا الألم والعذاب.
يحكي الغزالي، في باب معاقبة النفس، أن أبا مسلم الخولاني قد علق سوطًا في جدار بيته يخوّف به نفسه، فإذا كلَّت نفسه تناول سوطه وضرب به ساقه! وهو يقول: أنت أولى بالضرب من دابتي! ثم يقول: أيظن أصحاب «محمد» أن يستأثروا به دوننا؟ كلا والله لَنزاحمنَّهم عليه زحامًا، حتى يعلموا أنهم خلَّفوا وراءهم رجالًا! ثم يستأنف ضرب نفسه!!!
ويحكي الغزالي أيضًا في الباب نفسه، أن صفوان بن سليم قد تعقدت ساقاه من طول القيام، وكان إذا جاء الشتاء اضطجع على السطح ليضرَّ به البرد! وإذا جاء الصيف اضطجع داخل البيت ليجد الحر فلا ينام!!!
وأبو حامد يحكي مثل هذه الحكايات ويحبِّذها ويدعو إليها.
ومن أساطير الصوفية في المجاهدة ما جاء في الرسالة القشيرية من أن أبا تراب التخشبي، أحد أقطاب الصوفية، نظر إلى صوفي من تلامذته قد مدَّ يده إلى قشر بطيخ وكان له ثلاثة أيام طاويًا لم يأكل شيئًا، فقال له أبو تراب: تمد يدك إلى قشر البطيخ؟ أنت لا يصلح لك التصوف، إلزم السوق. وطردَه من بين تلامذته.
وكان عبد الله التستري لا يأكل الطعام إلا في كل خمسة عشر يومًا مرةً واحدة ـــ كما يزعمون ـــ وإذا دخل شهر رمضان، دخل بيته وقال لامرأته: طيني علي الباب، وألقي إليَّ من الكوَّة كلَّ ليلة رغيفًا. فإذا كان يوم العيد فتح الباب ودخلت امرأته البيت، وإذا بثلاثين رغيفًا في زاوية البيت لم يأكل منها شيئًا. فكيف يمكن للتستري أن يحيا وهو صائم من دون طعام لمدة شهر كامل؟ أليس ذلك من باب الأساطير والكذب والأباطيل؟
ويروي ابن الجوزي أن بعضهم ادَّعى بأن سهل بن عبد الله التستري كان يقتات ورق شجر النبق لمدة طويلة من الزمن، وظلّ ثلاث سنوات يأكل دقائق التبن، واشترى بثلاثة دراهم طعامًا كان يعتاش عليه لمدة ثلاث سنوات، فتأمَّل هذا الكذب المفترى، وتفكَّر بما نسجوه من الأساطير حول قادتهم وسادتهم في نشر الضلالات.
وكان أبو علي الروذباري، وهو من الصوفية المشهورين في زمانه، يخرق أكمام قميصه، ويخرق الثوب الثمين فيرتدي بنصفه ويأتزر بالنصف الآخر. ودخل الحمّام يومًا فرأى جماعة من أصحابه ليس معهم ما يأتزرون به، فقطع إزاره على عددهم، وطلب منهم أن يدفعوا عند خروجهم بخرقهم إلى صاحب الحمّام.
وجاء في اللمع للسراج أن أستاذه الجنيد أصابته جنابة في ليلة من الليالي الباردة، وكانت عليه مرقعة من صوف غليظة يبلغ وزنها ثلاثة عشر رطلًا، فذهب إلى الشط، وخاف من الدخول في الماء لشدة البرد، إلَّا إنه عاد وطرح نفسه في الماء وهو في المرقعة، فلما خرج قال: إنني عزمت على ألّا أنزعها عن بدني حتى تجف عليَّ، فلم تجف عليه شهرًا كاملًا فصدِّقْ إن كنت بلا عقل.
وهكذا تظاهر الصوفية بالمجاهدات والرياضات، كما ترى، بحجة جهاد النفس وتجريدها عن المادة، فجاءت مجاهداتهم محاربة للعقل والحاجات العضوية والغرائز التي أوجدها الله تعالى في الإنسان، وخلافًا لما يهدف إليه الإسلام من حشد جميع الطاقات والقوى للعمل لخير الإنسان ورفعة شأنه، وتساميه في وجوده، ولبناء المجتمع الإسلامي بناءً سليمًا يرتكز على العمل الصالح، والحرص على المصلحة الخاصة والعامة، وتثبيت أسس العدالة الدائمة، كيما تتوافر الفرص المؤاتية، والحياة الفاضلة الكريمة لجميع الناس. وهذا عكس ما أوصى به بعض الصوفية في وصيته لأحد مريديه: «لتكن خربتك الخلوة، وطعامك الجوع، وحديثك المناجاة، فإما أن تموت، وإما أن تصل إلى الله» ولا بدَّ من أنه سيموت أسوأ ميتة. وكذلك قال يحيى بن معاذ، أحد مشاهير الصوفية: «لو أن الجوع يباع في السوق لـمَا كان لطلاب الآخرة إذا دخلوا السوق أن يشتروا غيره». وهي أقوال لا تختلف في شيء، عمّا قاله الغزالي، ومن قبله إبراهيم بن أدهم، في تحديد معنى المجاهدة الصوفية.
إبراهيم بن أدهم
وإذا كان إبراهيم بن أدهم أول من جدَّد قواعد هذه المجاهدة، فإنه، كما تحكي عنه كتب التصوف، قد طبقها على نفسه، فعدّ فكره، ومن ثم سلوكه، بداية لعهد جديد في انتقال التصوف من مصادره الأولى إلى العواصم الإسلامية العربية، وصياغته بثوب إسلامي.
وعلى هذا فإن حياته، كما روي، تُعدّ أشبه شيء بحياة (بوذا) مؤسس الديانة البوذية. وقد نقلت الروايات عن بداية تصوفه أن أباه كان من أهل بلخ ومن ملوك خراسان، وقد علّمه حبَّ الصيد وفنونه، فخرج يومًا على فرسه ومعه كلبه إلى صيدٍ، فثارت أمامه إحدى الطرائد (ثعلب أو أرنب)، فحرّك فرسه واندفع في أثرها. فبينما هو كذلك إذ سمع نداءً يهتف به: «يا إبراهيم ليس لذا خلقت ولا بذا أمرت» فوقف يلتفت يمنة ويسرة، فلم يرَ أحدًا، فقال: لعن الله إبليس. ثم حرك فرسه من جديد في طلب الطريدة، فإذا به يسمع النداء أعلى من قبل قائلًا له: يا إبراهيم ليس لذا خلقت ولا بذا أمرت. وعاد يقف ويلعن إبليس. ثم يمضي مسرعًا نحو غايته، فإذا بالصوت يعاوده، وهو أقرب ما يكون إليه، ويقول له: يا إبراهيم ما لهذا خلقت ولا بذا أمرت، ما هذا العبث، [أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ] (المؤمنون: 115) عند ذلك وقف وقال: «نبهت وبلغت إن كنت نذيرًا من رب العالمين. والله لا عصيت الله بعد يومي هذا ما عصمني ربي. ورجعت إلى أهلي، وخليت عن فرسي. ثم جئت إلى رعاة لأبي فأخذت من أحدهم جبةً ودثارًا وألقيت له ثيابي، ثم أقبلت العراق» وتذهب هذه الرواية إلى أنه بعد أن عمل في العراق بضعة أيام ولم يبقَ له منها شيء من الحلال، سأل بعض المشايخ عن الحلال، فقال له: إنه ببلاد الشام، فذهب إليها ودخل مدينة المصيصة، ولم يجد الحلال. فسأل عنه من جديد، فقيل له إنه بطرطوس، فعمل في بستان حتى جاءه يومًا جماعة وطلبوا إليه أن يأتيهم بأطيب رمان وأكبره، فظهر له بعدها أن أصحاب البستان كانوا يعرفون عن زهده واستقامته، لكنهم لا يعرفونه شخصيًّا، فلما عرفوه، جاؤوا ليعتذروا إليه، فاختفى عنهم.
ويروي السلمي في طبقات الصوفية عنه أنه قال: «بعد أن هتف بي الهاتف وتأكدت أن النداء كان من الله صادفت راعيًا لأبي، فنزلت عن فرسي وأخذت جبة الصوف التي كان يلبسها الراعي وسلَّمته الفرس وما كان معي، وتوجَّهت إلى مكة المكرمة. فبينما أنا أسير في البادية على قدمي وإذا برجل يسير وليس معه زاد ولا ماء. فلما أمسى وصلى المغرب حرك شفتيه بكلام لم أفهمه، فإذا أنا بإناء فيه طعام، وإناء فيه شراب، فأكلت وشربت. وبقيت معه أيامًا على هذه الحال، ثم علَّمني اسم الله الأعظم وغاب عني، فبقيت أسير وحدي، فبينما أنا ذات يوم مستوحش من الوحدة دعوت الله بالاسم الأعظم أن يجمعني به. وقبل أن أفرغ من الدعاء إذا بشخص قد استوقفني وقال: «سلْ تُعطَ»، فراعني قوله. فقال لي: لا روع عليك أنا أخوك الخضر، إن أخي داود علَّمك اسم الله الأعظم فلا تدعُ على أحد بينك وبينه شحناء فتهلكه في الدنيا والآخرة، ولكن ادعُ الله أن يشجع به جُبنك، ويقوي به ضعفك، ويؤنس به وحشتك، ويجدد به في كل ساعة رغبتك. ثم انصرف وتركني»!!!
وإن رحلته الأولى من بلخ، واجتماعه بالخضر، عليه السلام، وما رافق هذه الرحلة من الكرامات، قد لفت أنظار بعض المستشرقين من ناحية الشبه بينها وبين أسطورة (جوثامابوذا) واعتبروها من جملة الأساطير. فقال (ماسينيون) في كتابه (بحث في نشأة المصطلح الفني للتصوف): «لقد نسبت إليه في عهد متأخر لمحة من أسطورة بوذا الأمير الشحاذ» ثم أضاف: «إن ابن أدهم فرَّ من بلخ في سنة 132هـــ. وهي السنة التي قام فيها أبو مسلم الخراساني بثورته، ولحق بأخته وهي في الكوفة، وكان لها ولد شاعر هو محمد بن كناسة الأسدي. وقد قتل ابن أدهم في الساحل السوري، ودفن في جبلة، وباسمه أنشئت طريقة صوفية في القرن الرابع عشر الميلادي تدعى الأدهمية كانت لها زوايا في أهم المدن العثمانية، وبقيت زاوية الأدهمية في بيت المقدس إلى سنة 1911».
«ويروي المؤرخ الصوفي فريد الدين العطار في (تذكرة الأولياء) أن ابن أدهم رحل من بلخ إلى مدينة مَرو، ومن ثم إلى نيسابور فسكن فيها تسع سنين. ثم قطع البوادي أربع عشرة سنة بالصلاة والخضوع والخشوع إلى أن وصل إلى قريب من مكة. وفي مكة صحب سفيان الثوري، والفضيل بن عياض، والتقى في بغداد بأبي حنيفة».
«وقد اختلفت الروايات حول تنقلاته وأسفاره، والبلدان التي قصدها. ومثل ذلك اختلفت الروايات حول مكان دفنه، فقيل إنه «دفن في بيزنطية، وفي صور، كما قيل بأن له قبورًا في عسقلان وبغداد ودمشق».
وجاء في رواية فارس النجار عنه أنه قال: «رأيت جبرائيل، عليه السلام، في المنام وقد نزل إلى الأرض، فقلت له: لِـمَ نزلت إلى الأرض؟ فقال: لأكتب المحبين. فقلت له: ومن هم؟ فقال: مالك بن دينار، وثابت البناني، وأيوب السختياني، وعدَّ جماعة من الصوفية. فقلت له: وأنا منهم؟ فقال: لا. فقلت له: إذا كتبتهم فاكتبني تحتهم: محب المحبين. فنزل الوحي عليه: اكتبه في أولهم»!!!
وروي عنه أنه كان يقول: «اللَّهم إنك تعلم أن الجنة عندي لا تزن جناح بعوضة. إذا أنت آنستني بذكرك ورزقتني حبك، فأعطِ الجنَّة لمن شئت».
وقد روي عنه أيضًا، في مجاهداته، أنه كان يأكل التراب إذا لم يجد طعامًا. وقد مكث شهرًا كاملًا يأكل الطين ويقول: لولا أنني أخاف أن أعين على نفسي ما كان لي طعام غير الطين.
وقد نعت بعض الباحثين تلك الروايات عن إبراهيم بن أدهم بأنها من الأساطير. ونحن نجزم بأن ما روي منها عن اجتماعه بداود، وبالخضر، وبجبرائيل ـــ عليهم السلام ـــ محض اختلاق من أفانين الصوفية، إلَّا إن دلالتها تبقى واضحة، فيما أخذ به كثير من الصوفية أنفسهم بالعذاب، والجوع، وبطلب الفقر والحرمان، وما إلى ذلك من التصرفات التي ترمي إلى بيان معنى المجاهدة الجسدية والنفسية في التصوف، كما قالت بها الطبقة الأولى من الصوفية.
شقيق البلخي
ومن هؤلاء الصوفية المتقدمين يذكر شقيق بن إبراهيم البلخي، من صوفية القرن الثاني. ويذكر السلمي في طبقاته بأنه من مشايخ خراسان، وأنه أول من تكلم في علم الأحوال بكور خراسان. وقد صحب إبراهيم بن أدهم وأخذ عنه طريقة التصوف. وهنالك عدة روايات حول توبته، ومنها ما أورده القشيري، إذ جاء في رسالته بأن شقيقًا كان من أولاد الأغنياء، وقد خرج في تجارة إلى أرض الترك فدخل بيتًا للأصنام، ورأى خادمها قد حلق رأسه ولحيته ولبس ثيابًا أرجوانية شديدة الحمرة، فقال له شقيق: إن لك صانعًا حيًّا عالمًا قادرًا فاعبده ولا تعبد هذه الأصنام التي لا تضر ولا تنفع. فقال له الخادم: إن كان كما تقول فهو قادر على أن يرزقك في بلدك فلِمَ أنت تجشمت مشقة كبيرة إلى ههنا للتجارة؟ فانتبه شقيق ولزم طريق الزهد.
ونتوقف قليلًا عند هذه الرواية لأنَّ فيها أكثر من ضلالة: فهي من ناحية تُظهر كأنْ لا فرق بين عبادة الأصنام وعبادة الإلٓه الحق من ناحية اجتلاب الرزق: فخادم الأصنام يعتمد عليها في تحصيل رزقه من دون اعتماده على القادر الرزاق، وهي تُظهر من ناحية أخرى أن شقيقًا البلخي الذي يدَّعي بأنَّ الله تعالى هو الصانع الحيُّ العالم، قد أقنعه عابد للصنم بترك العمل، وهداه إلى طريق الزهد بأبسط حُجة، وهي تنافي حقيقة الإسلام الذي يدعو إلى العمل والكسب، وبذل الجهد لمحاربة الفقر والعوز والحاجة التي تحط من كرامة الإنسان. وهي بالتالي تدعو إلى التوكل على قوة غيبية، من دون إعداد العدّة، ومن دون أي فهم لحقيقة التوكل، بما يحيد أيضًا عن حقيقة الدين الحق، ويؤدي إلى التهاون في فهم مقاصده في تربية الإنسان وإعداده لمواجهة الحياة.
ونعود إلى السبب في توبة شقيق البلخي، إذ يورد القشيري رواية أخرى في ذلك فيقول: وقيل في توبته أنه رأى مملوكًا يلعب ويمرح في زمان قحط، والناس مهتمون فيه، فقال له شقيق: ما هذا النشاط الذي فيك؟ أما ترى ما فيه الناس من الجدب والقحط؟ فقال المملوك: وما عليَّ من ذلك ولمولاي قرية خالصة يدخل عليه منها ما نحتاج إليه؟ فانتبه شقيق البلخي وقال: إذا كان لمولاه قرية، ومولاه مخلوق فقير، وهو لا يهتم برزقه، فكيف يسوغ للمسلم أن يهتم برزقه ومولاه غني يعطي ويمنع ما يشاء؟ فترك الدنيا والتجارة وسلك طريق التصوف.
فلنتأمل في هذا التأويل الصوفي، لندرك مدى ما ذهب إليه أصحابه من ابتداع الأسباب لترك أسباب العمل، والركض وراء الفقر، ومن ثمَّ العيش بطريقة اتّكالية، جوفاء، تجرُّ المجتمع إلى التأخر والانحطاط، وتورث فيه الكسل والهرب من الحياة!!!
وبمقتضى هذه النظرة كان شقيق البلخي «يرى، كما جاء عنه، أن تفكير الإنسان بمؤونة غده والعمل في سبيلها يتنافى مع التوكل والثقة بالله. ويقول لمن في مجلسه: أرأيتم إن أماتكم الله اليوم هل يطالبكم بصلاة غد؟ فيقولون له: يوم لا نعيش فيه كيف يطالبنا بصلاته؟ فيقول لهم: فإن كان لا يطالبكم بصلاة غدكم فكيف تطالبونه أنتم برزق غدٍ، وعسى أن لا تصيروا إليه؟».
«وكان بالإضافة إلى ذلك يزيِّن للناس حب الفقر واختياره على الغنى. وكانوا يسألونه: بأي شيء يعرف العبد بأن نفسه قد اختارت الفقر على الغنى؟ فيقول: إذا صار يخاف من حصول الغنى كما يخاف من حصول الفقر، فعند ذلك يكون ممن يختار الفقر على الغنى. وعلامة صدق الزاهد أن يفرح بكل شيء فاته في الدنيا، ويغتمَّ لكل شيء حصل له منها».
بشر الحافي
ومن هؤلاء الذين اشتهروا بالمجاهدة بشر بن الحارث الحافي، وهو فارسي الأصل، ومن أهالي مروٍ، سكن أخيرًا في بغداد ومات فيها عام 227 هــ. ويعزو القشيري توبته إلى أنه عثر يومًا في طريقه على ورقة كتب عليها اسم الله، وقد وطأتها الأقدام، فأخذها ووضع عليها العطر وطيَّبها ثم جعلها في شق حائط، فرأى في المنام هاتفًا يقول له: يا بشر طيبت اسمي لأَطيبنَّ اسمك في الدنيا والآخرة. ونسب إليه الشعراني في طبقاته أنه روى عن نفسه دخوله داره يومًا، فوجد رجلًا عنده، فسأله عن سبب دخوله إلى بيته من دون إذن منه، فقال له إنه أخوه الخضر، عليه السلام، عندها قال له: ادع الله لي. فقال: هوّن الله عليك طاعته. فقال له: زدني. فقال: وسترها عليك.
ويروى عنه أيضًا أنه رأى الخضر، عليه السلام، مرة ثانية في منزله وهو قائم يصلي، فارتاب أول الأمر، ثم لما عرفه اطمأن وجلس معه يتحادثان.
وجاء في الرسالة القشيرية أن أحمد بن الهيثم المتطيب كان يقول: قال لي بشر الحافي: قل لمعروف الكرخي إذا صليتَ جئتك فأديت الرسالة.
ويُفهم مما جاءَ بعد ذلك أنهما انتظراه لصلاة الظهر فلم يأتِ، ثم صلَّيا العصر والمغرب، وبعدهما العشاء، وهما في انتظاره، إلى أن زال من الليل شطره، فرأياه قادمًا وعلى رأسه سجادة، وهو يسير على ماء الفرات، وقد طلب أن يُستر عليه ذلك، فلم يُتكلم عنه إلَّا بعد مماته. ويقول بعض المؤلفين في التصوف: إن بشرًا قد ترهبن، ولم يتزوج طوال حياته. فلما سأله أحد أصحابه عن سبب امتناعه عن الزواج أجاب: بأنه مشغول بمجاهدة نفسه وتصفيتها من الأخلاق الرديئة، وعن النساء والملذات.
إن هؤلاء الصوفية الذين ادَّعوا الزهد أو المجاهدة، وغيرهم مثلهم كثيرون ممن تخلوا عن الزواج، قد خالفوا سنّة الله في خلقه، كما خالفوا كتاب الله وسنّة رسوله، إذ من المعروف أنه لا رهبانية في الإسلام. وقد نزل في ذلك قوله تعالى: [وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاء رِضْوَانِ اللهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا] (الحديد: 27). وقوله تعالى: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللهِ] (التوبة: 34). هذا بالإضافة إلى أنه لو امتنعَ جميع الناس عن الزواج والإِنجاب ـــ في سبيل أنفسهم وخلاصه كما هي الحال عند الصوفية ـــ فإلى ماذا كانت تؤول الحياة، وهل يستمر وجود الإنسان على سطح الأرض؟!
أما أولئك الذين غلبت عليهم مجاهدة النفس وكانوا متزوجين، فإننا نسأل: ما مصير عيالهم ما داموا لا يعملون ويؤثرون الفقر على الغنى، والحاجة على الفقر، ويفرحون بكل شيء يفوتهم في الدنيا؟ إلى من يكِلون العيال والأولاد، وكيف يعيش هؤلاء حتى يكونوا أعضاء صالحين في المجتمع، نافعين للأمة؟! وبعد، وعلى افتراض أنهم أخذوا على أنفسهم رعاية الأبناء وتربيتهم، فكيف يكون هؤلاء الآباء، وكيف يتربَّى الأبناء في كنفهم؟ ومن ثَمَّ كيف تكون تربيتهم لمريديهم وأتباعهم وهم يدعون أن أساس دعوتهم تهذيب أخلاق هؤلاء المريدين، وتصفية نفوس أولئك الاتباع؟
إن الصوفية، ومن منطلق المجاهدة التي يفرضونها على أنفسهم، إنما يعنون بالتربية كل ضروب الجوع والسهر والحرمان التي يجب أن يطبقها الأبناء والمريدون والأتباع، وكل مراسم الطاعة والخضوع التي يبذلونها هم لشيوخهم. أما العناية بالتربية الصحيحة، التي تُعنى بالكمال الجسمي والعقلي والخلقي عند الإنسان، فهذه لا نصيب لها عندهم، لأن الصوفية هم أشد الناس إهمالًا للحياة المحيطة بهم، وأكثرهم تواكلًا فيها، وأشدُّهم ابتعادًا عن القيام بالواجب نحوها، وذلك لاشتغالهم بالتوافه، وانقطاعهم لطقوسهم وحفلاتهم، وتشردهم في البلاد، كما دلت على ذلك حياة عاشها كثيرون منهم، ومَن كانت هذه أحوالهم كيف لهم أن يضعوا لأبنائهم وأبناء مريديهم وأتباعهم ما يلزمهم من قواعد الصحة، ومناهج الثقافة، وأسباب العمل، وتقاليد الكفاح والنضال؟! إنهم لا يفكرون في هذه الأمور أبدًا. بل إن للصوفية في معاملة أبنائهم تقاليدَ بُنيت في الأصل على إذلال المريدين وإخضاعهم لأغراض شيوخهم. فهم قد أوجبوا على أولئك المريدين الطاعة المطلقة والانقياد الأعمى. فلا يجوز لمريد أن يعترض على شيء مما يفعله شيخه ولو كان ظاهره حرامًا، ولا أن يقول لشيخه «لا» فإن من قال لشيخه «لا» لم يفلح قطّ! ومن وصاياهم في ذلك للمريد: «كن مع شيخك كما يكون الميت بين يدي الغاسل». هذا فضلًا عن تقبيل يدي الشيخ، والوقوف له، والانحناء أمامه، والسير خلفه، وحمل نعليه، ورفع ذيل ثوبه، وبالتالي تقديمه على النفس والولد. وهذا لا نزال نرى مثله عند الكثير من عامة الناس حيال رجال الدين في بلاد الشرق قاطبة، وكذلك هي الحال عند جميع الناس، في العالم كله، تجاه أصحاب النفوذ والحكام وذوي الشأن. وإن كانت هذه المظاهر تدلُّ اليوم على احترام رجال الدين وأصحاب المكانة، طمعًا في نيل رضاهم، أكثر مما هي انقياد وطوع لإراداتهم، أو امتثال لكل ما يصدر عنهم، كما هي عند الصوفية. وليست هذه المعاملات التي يسلكها الصوفيون مع أتباعهم ـــ ومن ثَمَّ مع أولادهم ـــ إلَّا من مظاهر إلغاء الشخصية، ومستلزمات التبعية الذليلة المهينة.
وبالإضافة إلى ذلك فإن معظم الصوفية يسلكون مع أتباعهم سياسة الإسراف في التخويف، فلا تخلو تعاليمهم وكتاباتهم من الإرهاب بذكر الموت، وتهويل ما يعانيه الناس من بشاعته. وهي تستفيض أيضًا في وصف ظُلمات القبر ووحشته، حتى أورثوا الناس كراهة الموت، ولو كان فيه دفاع عن العرض والنفس، أو ذودٌ عن الحياض والكرامة، أو إعلاءٌ لكلمة الله رب العالمين، وليس ذكر الموت فحسب مما يفزع الصوفي، فهو يرتعد فزعًا لمشهد رجل الشرطة إلى جوار منزله، وينخلع قلبه لقادم يطرق بابه ليلًا، ويوجس خيفة لوصول رسالة البرق أو البريد المسجل، ويتعثر لسقوط حجر إلى جانبه على حين غفلة منه، ويضعف عند سماع الصيحة، ويهذي عند انشغاله بهمٍّ، أي إن الصوفي، إجمالًا، يتصور شبح الموت وكأنه يلاحقه في كل نازلة. والعجيب من أمرهم، أنَّهم مع هذا الخوف الذي يدل على تشبثهم بالحياة بصورة مزرية، وفزعهم من الخلاص منها، فإنهم يدَّعون الزهادة في الدنيا والإعراض عما فيها.
ولقد تأصلت كل تلك المراسم والتقاليد في نفوس الآباء الصوفيين، فالتزموها مع فلذات أكبادهم، وذلك لجهلهم بأساليب التربية الإسلامية الصحيحة، غير مبالين بما تُحدثه في نفس الطفل من قتل لعبقريته، وسحق لشخصيته. لذا نجدهم يخضعون أطفالهم لإرادتهم، ويحملونهم على الطاعة العمياء لهم، بالقهر والضرب الشديد، كما يستعملون معهم مختلف أنواع القمع والتوبيخ، وهذا ما يميت عند الأطفال جذوة الغضب، والانتصار للكرامة، والحفاظ على الحق، كما يقتل كل انفعالات الأطفال، ويحوّل ما كان كامنًا فيهم من الصراحة والإقبال على الحياة إلى كبتٍ وحقد على الدنيا ولؤم في معاملة الناس؛ فضلًا عن تقييد ميل الطفل عادة إلى الحركة والنشاط، بعدما يُجبر، بالعنف والضرب، على الاستكانة والتزام الهدوء، وكلها أساليب تؤدي لإفساد استعداد الطفل الطبيعي، فيشب مسلوب الإرادة، ضعيف الثقة بنفسه، لا يدري له وجودًا مستقلًّا، ولا يعرف لوجوده سببًا.
وليس أضرّ بالطفل من سيطرة الخوف على مشاعره، لما يسببه الإفراط في الخوف من ضعف الصحة، واضطراب الأعصاب، وجمود الفكر، كما انتهى إليه من طريق التجربة رأي رجال التربية الحديثة، بعد أن حققه العرب من طريق الطبع، منذ فجر نشأتهم. وهو ما اقتضته حكمة الإسلام في طريقته الثابتة للتربية. وعندما يرث الطفل هذا الخوف في صغره، فإنه يحمله معه في كبره، لذا نرى أن أكثر مخاوف الكبار هي أثر من آثار أوهام الطفولة، وما يظهر على الوالدَين من مخاوف وانفعالات يتأثَّر به الطفل تأثرًا شديدًا. لكنَّ البليّة التي هي أدهى من ذلك، هي تلك التهديدات التي يستعملها الآباء للتغلب على عناد أطفالهم، كتوعد الطفل بالحبس في مكان مظلم، وحرقه بالنار، وإنذاره بالموت، وتهديده بالمارد والعفريت، وإيذاء الشيوخ. كل ذلك يزيد في وطأة الخوف والهواجس في نفسه، ويقضي على إنماء قواه الجسمية والعقلية، ويبعث فيه من القلق والجبن والتردد ما يعجزه عن التماسك المعنوي لمجابهة معترك الحياة.
وهكذا يبتعد الطريق الصوفي عن الواقع في معالجة تربية الطفل البدنية والفكرية، إذ إنه فوق الحماقات التي توارثها الآباء الصوفيون والتي يطبقونها على أولادهم جهلًا وفسادَ رأي، فإنَّهم لا يقيمون اعتبارًا للطفل وتربيته، ما داموا يكلون حل الأمور للمصادفة ومرور الزمن، أو يعتمدون على خرافة القوى «الروحية» التي يمتلكها الشيوخ أحياءً وأمواتًا، وتستحوذ على عقولهم ونفوسهم إلى حد تجعلهم يفزعون إلى قبور الأولياء عند الضيق والمرض، يطلبون عندها كشف الكرب وإزالة البلوى. أما إعمال الفكر واستشارة أهل الرأي، والاستعانة بتجارب العلماء، فهذا ما لا يخطر لهم على بال. كذلك ترى الأمهات المتأثِّرات بهذه التعاليم يسارعن بأولادهن عند المرض إلى الأطباء الروحانيين من الصوفية، فيأمر هذا الطبيب الروحاني المرأة الجاهلة بذبح حيوان أو طائر، يشترط له شكلًا وحجمًا، ثم يطلب إليها أن تطلي بدمائه القذرة مكان المرض من طفلها المسكين، أو تجرعه شيئًا منها إلى غير ذلك من شعوذاتهم الكثيرة.
وعلى هذا الشكل يتدرج الطفل منذ حداثته، حتى إذا شبَّ ولاحظ أبوَيه وهما على هذه الحالة من الفزع إلى قبور الموتى عند الشدة، ومعالجة الأمراض بالشعوذة الفارغة، كبر وفي نفسه من هذه الضلالات شيء كثير يصعب عليه بسببها تذليل الصعاب وتحقيق الرجاء. ونلمس ذلك في ذهابه قبيل الامتحان إلى تملُّق الشيوخ بالدعاء كما كان يفعل والده. وكذلك عند السفَر والمرض ومنغِّصات الحياة لا يجد مثابةً سواهم، فيتعطل فيه التفكير السليم، ويصاب عقله بالعجز، فلا يقدر على حل مشاكله بالطرائق الممكنة، وتتلاشى في نفسه عقيدة الوحدانية الصحيحة فتنعدم بانعدامها عناصر الخير فيه.
وعلى هذا الأساس يعتمد الصوفية على تربية خاصة بهم هي «التربية الروحية» التي تعني عندهم كل ما يقوي الروح من الرياضات كالصوم، ومداومة الجوع، وحرمان النفس مما تشتهيه، مع الاستعانة بالأذكار والأدعية. لهذا فالصوفية لا يعنيهم من الدين سوى التنسك، وهم لا يعدّون الفرائض إلا خطوة مؤقتة في سبيل غاياتهم، وهي «الوصول» إلى الله خلال الأحوال والمقامات. لذلك تسقط عنهم هذه الفرائض جملة إذا أدرك الصوفي غايته، كما روى ابن حزم في الملل والنحل حيث قال: «إن طائفة من الصوفية يدّعون بأن من بلغ الغاية القصوى من الولاية سقطت عنه الشرائع كلُّها من الصلاة والصيام والزكاة، وحلَّت له المحرمات كلُّها من الزنا والخمر وغير ذلك».
هذه بعض تعاليم الصوفية ومجاهداتهم في الجسد والنفس، وفي تربية الأتباع والأبناء. أما فهم الإسلام على أنه عقيدة توحيد، تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، وتأخذ الإنسان باللِّين والعطف، وتعلِّمه العمل والاستقامة؛ وعلى أن الدِّين نظام متكامل، وأساس صحيح للنهضة والسيادة والعدل لا يدانيه في ذلك نظام من النظم، فهذا ما لا تتسع له أفهامهم، وليس مما يجول في خواطرهم.
ويصف القشيري في مقدمة رسالته، كيف ينظرون إلى الشريعة فيقول: «فَعَدُّوا قلة المبالاة بالدين أوثق ذريعة، ورفضوا التمييز بين الحلال والحرام، ودانوا بترك الاحترام وطرح الاحتشام، واستخفوا بأداء العبادات، واستهانوا بالصوم والصلاة، وركضوا في ميدان الشهوات، وركنوا إلى اتباع المنكرات، وقلة المبالاة بتعاطي المخدرات، والاكتفاء بما يأخذونه من السوقة والنسوان وأصحاب السلطان.» إلى آخر ما قال في وصف صوفية زمانه!!!
ولا بد من الإشارة هنا إلى أنه في حين يدَّعي بعض الصوفية مجاهدة النفس، ومغالبة متطلبات الجسد، ومن ثم الاستغناء عن مقومات الدنيا وخيراتها، فإننا نجد لوعة الحرمان باديةً في ألفاظهم سخطًا على الأغنياء، وسخيمة على أولي النعمة. ونجد أعمالهم الغريبة وأحوالهم الشاذة تتناقض مع ادِّعاءاتهم الكثيرة التي لا آخر لها. فهم يتلقَّفون ما يتصدَّق به عليهم المتصدِّقون، ويتملَّقون الحكام والسلاطين، وفي الوقت نفسه يزهون بذيوع الصيت وحب الشهرة! وإنَّ أحدهم ليحرص على قذارة مظهره استبقاء للسمعة السحرية التي يسيطر بها على عقول العوام، والتي من ورائها يحصل على المال والطعام، فلو أنك دعوته إلى تنظيف ثوبه ورتقِه، أو تسريح لحيته وإصلاح عمامته، لأجابك بأنه في شغل عن هذا. فبأي أمر جليل هو مشغول؟!
أما تأثير ما ذهب إليه الصوفية في المجاهدة، وما يعني ذلك من ذل النفس، وعار الكسل، وفقر العيش، وضياع البلاد، فإنه يظهر جليًّا في انزوائهم جماعات جماعات، وعكوفهم في زواياهم في تكاياهم يردِّدون أدعيتهم ويمارسون طقوسهم ومواجدهم. كما يظهر فيما يؤدي إليه من سوء الحال في البلاد، إذ تنقلب معه الأوضاع، وتضطرب المقاييس، حتى ليصبح لهذه الحال في بلادنا عدوى كعدوى الفن الخلاعي في بلاد غيرنا، ولكن مع فارق كبير، هو أن التأثير السيّئ للتصوف عندنا يظهر في الجماعات جملة فيقضي على نشاطها، ويدمِّر عقلها ووعيها، في حين أن التأثير السيّئ للفن الخلاعي هناك ينحصر في أفراد أو جماعات لا يعطلون منتوج الأمة على القواعد التي رسمتها لنفسها، ورضيت بها على أساس اعتقادها. ومن هنا وجدنا أكثرية الأمم التي انتشر فيها المتصوفون، وعاث فيها «الزهاد والمجاهدون» استحلَّت الرضا بالتوافه، وحرمت التطلع إلى عظائم الأمور، وأفرغت العقيدة من غاية الحياة واستمرار الحركة فيها، وغرست أوتادها حول أوراد الشيوخ وأذكارهم، واشتغلت بالتفريعات الفقهية، والافتراضات والمستحيلات في مسائل يستحي العقلاء من الاختلاف عليها، وغفلت بذلك عن حقوق الله التي تتمثل كاملة برعاية مصالح الأمة.
لقد نسي المتصوفون أنَّ في حياتهم ووجودهم كيانًا إسلاميًّا عريقًا يتقوَّض، ومجتمعًا صالحًا طيبًا يغوص في لجة الظلام. ومثلهم المسلمون الآخرون الذين اتَّبعوا نهجًا يغاير الإسلام، ولا يوافق طرائق حقائقه الخالدة. فتاهوا عن جادة الصواب جميعًا حتى حلَّ بنا هذا الضعف، واستفحلت حولنا الشرور، وبتنا ننتظر مساعدة الآخرين وعونَهم. في حين أن فينا كتاب الله وسنَّة رسوله، وهما أجلُّ وأعظم ما أرادَه الله تعالى للمسلمين، وللناس أجمعين. فهل نعود إليهما، ونطرح عن عقولنا الضلالات والأوهام، ونهجر الطرائق الملتوية، ونقضي على العادات الفاسدة، حتى تصلح أحوالنا، ويكون لنا دورنا الذي وعدنا الله تعالى به، فيرضى سبحانه عنا، ويرضى رسوله، صلى الله عليه وآله وسلم، فنكون من الفائزين؟!
























المصادر
1 فصوص الحكم لابن عربي (جزء 1 ـــ ص 83) طبعة الحلبي.
2 تعني التوبة هنا الدخول في طريقة التصوف والتجرُّد عن حاجات الجسم من أجل الاتصال بالله، إذ بالتصوُّف يمكن للإنسان أن يحقق هذا الاتصال. ولذا فعند الصوفية لا يمكن لغير الصوفي أن يتصل بالله وأن يعد من أهل طاعته مهما بلغ شأنه في العبادة، لأن المال والملذات وأسباب الدنيا تحول بينه وبين الله. ولهذا فإنهم يفتتحون أحاديثهم عن الصوفي بأسباب توبته وهم يعنون أسباب تصوفه.

مقدمة الكتاب
القسمُ الأوّل
القِسم الثاني
القِسم الثالِث
القسم الرابع
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢