نبذة عن حياة الكاتب
خَاتَمُ النَّبييِّن مُحَمَّد (ص) - الجزء الثاني

البحث الثالث: غزَواتٌ جديدة
غزوة بني قريظة
انجلت الشدّة، وتفرَّق جمع الأحزاب من حول المدينة، فعادَ المؤمنون إلى بيوتهم يطمئنّون على الأهل والأحبة، ويحمدون ربهم تبارك وتعالى وقد حقق لهم النصر المبين. ولكنَّها بضع ساعات فقط وصلَّى فيهم الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) صلاة الظهر من يومه ذاك[*]، ثم أمر بلالاً أن يصعد سطح المسجد وينادي في الناس: «مَن كان سامعاً مطيعاً فلا يُصليَنَّ العصر إلاَّ في بني قريظة»[*].
وهبَّ المسلمون يتخلَّون عن الراحة، على الرغم مما ذاقوا من مرارة السهر والخوف وعذابهما.. فتلك الفئة اليهودية التي غدرت بهم بغياً، ونقضت عهدها مع رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بغير حق، لا يجوز أن تظل في حصونها، تنصب شباك المكر والخداع للإِيقاع بالمسلمين، ولا تتوانى عن ضرب الإسلام وأتباعه، والعهد بها مازال جاثماً على الصدور جرّاء ما لاقوا - من حصار الأحزاب، ومن خيانتها على السواء - حتى ابتلي المؤمنون أشد البلاء، وبلغت القلوب الحناجر وزُلزلوا زلزالاً شديداً.
فالمسلمون لم يطالبوا بني قريظة أن يقاتلوا معهم، ولم يخونوا عهدهم الذي عقدوه مع رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم)،بل ظلوا أوفياء على هذا العهد، كما يعترف به زعيم بني قريظة نفسه، كعب بن أسد، عندما جاءه حُيي بن أخطب النَّضري يحضُّه على شهر العداء للمسلمين والانضمام إلى الأحزاب، فقال له كعب بن أسد: «ويحَك يا حييُّ! فدَعني وما أنا عليه، فإني لم أرَ من محمد إلاَّ صدقاً ووفاءً»[*].
ولكنَّ زعيم بني قريظة - وأحباره من ورائه ـ عاد وآثرَ الانحياز إلى الأحزاب،وتغليبَ رأيِ ابن أخطب، ولم يسمع للصحابة الذين جاؤوه ناصحين، بألاَّ يدخل بنو قريظة في سوء فعال، قد تجر إلى خرابهم.
وهكذا غلب صوت الحقد والرعونة على بني قريظة، وحضّروا أنفسهم، وتجهّزوا للاشتراك في قتال المسلمين، لولا أن الله سبحانه وتعالى قد دحر الأحزاب، وأوقع بهم شرَّ هزيمة، فعادوا خاسئين خاسرين.
على أن ذلك الموقف من بني قريظة، الذي لم يكن يهدف إلاَّ إلى طعن المسلمين من الظهر، ما كان ليمرَّ بدون حساب.. بعد اليوم كيف يمكن أنْ يأمن المسلمون جانب هؤلاء الخونة الغادرين، ويقبلوا ببقائهم إلى جوارهم، دون أن يخشوا غدراً قد يكون أدهى وأمرّ، وخيانةً قد تكون أعتى وأشدّ؟! لا، لن يقبل المسلمون أن يبقى الخطر محدقاً بهم، وإلاَّ أوقعوا أنفسهم في شروره ومآسيه!
ولذلك، فقد لبَّى كلُّ من اشترك في غزوة الأحزاب، نداء الواجب، وجاء مشمِّراً للقتال، وهو يدرك أنَّ أمرَ رسول اللّه بالخروج إلى بني قريظة، لا يكون أبداً إلاَّ عن تقديرٍ وحكمةٍ بالغَيْن.. فقد عامَل بني النضير من قبلُ بالحسنى، واكتفى بإخراجهم من ديارهم فقط، وتركهم يذهبون لشأنهم، إلاَّ أنهم بدلَ أنْ يقدّروا تلك الرأفة النبوية، التي تركتهم سالمين، راح بنو النضير يحرّضُون القبائل ويؤلبون بني قريظة عليه، ثم يُجمعون على غزو المسلمين في عقر دارهم.. فمن يضمن بعد هذا ألاَّ يفعل بنو قريظة مثلهم، وتكون لهم مع المشركين غزوة جديدة للمدينة، فتعود تلك الحالة التي أوشكت أن تعصف بالإسلام وأهله، لولا رحمة الله تعالى وفضله؟
ومن منطلق هذا التقدير النبويّ الذي وعاه المسلمون حقاً وحقيقة، كان ضرب الحصار على ديار بني قريظة، ظهيرة انكشاف الأحزاب عن المدينة، لأنّ في مباغتتهم ما يحول دون إعطائهم الفرصة لكيدٍ جديدٍ، قد يعدّون له سريعاً، لاسيما أن اليهود - كما هو معروف ـ أهل مكر وخداع وخيانة.. وتراصَّت الصفوف أمام المسجد، واستوى المهاجرون والأنصار في جيش قوامه ثلاثة آلاف مقاتل، فنادى رسولُ الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) عليِّ بنِ أبي طالب كرّم الله وجهه فأمَّره على الجند، ثم دفع إليه الراية، وأمره بالسير في طليعة الجيش على بركة الله. وما أوشك العصرُ أن يحلَّ حتى كان الحصارُ حول آطام بني قريظة قد اكتمل، مما جعلهم يُباغَتون فعلاً، إذ لم يتوقعوا قطّ أن يسارع المسلمون إليهم في نفس اليوم، بل كانوا يظنون أنه يلزمهم راحة لا تقلُّ عن عشرات الأيام أو بضعة أشهر، حتى يمكنهم أن يلتقطوا أنفاسهم، ويستعيدوا قواهم الواهنة. أما وقد أتوهم فعلاً يضربون الحصار من حولهم، فقد أسقط في أيديهم، ورأوا أن الأمر يعدُ بنذير شؤم.
وكان حريّاً بهؤلاء اليهود أن يراعوا الأوضاع ويتدبروا وسيلةً للتفاهم مع النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، ولو بالاعتذار عن غدرهم.. ولكنه غضبُ الله (تعالى) بما كسبت أيديهم، فبدلاً من أن يتداركوا الأمور، راحوا ينادون من وراء النوافذ، وطاقات الآطام بصيحات الحرب والاستعلاء، وهم يكيلون للمسلمين السبابَ، والشتائم على أنواعها، متعمدين أن ينالوا بسفاهتهم رسول اللّه ذاته!.. ولم يكن ردُّ المسلمين إلاَّ قولاً وجيزاً، بعيداً عن السفاهة: «السيف بيننا وبينكم يا بني قريظة»!.
وكانت الخطّة التي اعتمدها الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) تقوم على عدم شنّ الهجوم على حصون بني قريظة، بل الاكتفاء بضرب الحصار عليهم، ومنع الإمدادات عنهم، أو أية نصرة يمكن أن تأتيهم من الخارج..
ومرَّت بضعة أيام على تلك الحال، كانت كفيلةً بأن يستفيق بنو قريظة من الغفلة... وظنّوا بأنهم قادرون على مفاوضة المسلمين، كي يتخلَّصوا من هذا المأزق الحرج الذي أوقعوا أنفسهم فيه، فبعثوا إلى رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يعرضون عليه السماح لهم بالخروج مع نسائهم وأبنائهم، وما حملت الإبل من أموال، كما فعَلَ مع بني النضير، فكان جوابه لرسلهم بأنه لا خروج إلاَّ بالنزول على حكمه!..
وعادوا يسألونه الخروج بالنساء والأبناء بلا مال ولا سلاح؛ فلم يكن ردّه إلا كالسابق: لا.. إلاَّ أن ينزلوا على حكمه..
فلما أيقنوا أن «محمداً» غير منصرف عنهم حتى يناجزهم، قال لهم زعيمهم كعب بن أسد: «يا معشر يهود، قد نزل بكم من الأمر ما ترون، وإني عارض عليكم خِلالاً ثلاثاً، فخذوا أيَّها شئتم»[*]. قالوا: وما هي؟.
قال: «نبايع هذا الرجل ونصدّقه، فوالله لقد تبيّن لكم أنه لنبيٌّ مرسل، وأَنَّهُ للذي تجدونَهُ في كتابكم، فتأمنون على دمائكم وأموالكم وأبنائكم ونسائكم»[*].
قالو: «لا نفارق حكم التوراة أبداً، ولا نستبدل به غيره»[*].
قال: «فإذا أبيتم عليَّ هذه، فهلُمَّ فلنقتلْ أبناءنا ونساءنا، ثم نخرج إلى محمد وأصحابه مُصْلِتينَ السيوف، لم نترك وراءنا ثَقَلاً (متاع المسافر وَحَشَمُه)، حتى يحكم الله بيننا وبين محمد: فإن نَهْلِكْ نَهْلِكْ ولم نترك وراءنا نَسْلاً نخشى عليه، وإن نَظْهَرْ فلَعَمري لنَجِدنَّ النساءَ والأبناء»[*].
قالوا: «نقتل هؤلاء المساكين! فما خير العيش بعدهم»؟[*].
قال: «فإن أبيتم عليَّ هذه، فإِنَّ الليلة ليلة السبت، وإنه عسى أن يكون محمد وأصحابه قد أَمِنُونا فيها، فانزلوا لعلَّنا نُصيب من محمد وأصحابه غِرَّةً»[*].
قالوا: «نُفسدُ سبتنا علينا، ونحدث فيه ما لم يُحدث من كان قبلنا إلاَّ من قد علمت، فأصابه ما لم يخفَ عليك من المَسْخ»[*].
قال: «ما باتَ رجل منكم منذ ولدته أمه ليلةً واحدةً من الدهر حازماً»[*].
خطأ أبي لبابة بن عبد المنذر
وكان حُييُّ بنُ أخطبَ، بعد أن ذهبت الأحزاب، قد دخل في حصن بني قريظة وفاءً لعهده مع زعيمهم كعب بن أسد، فلما جهدهم الحصار، أشار عليهم أن يوسِّطوا بينهم وبين «محمد» حلفاءهم من الأوس، فوافقوه، وبعثوا إلى رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أن يوفد إليهم أبا لبابة رفاعة بن عبد المنذر - أخا بني عمرو بن عوف - ليتشاوروا معه في أمرهم...
ووافق رسول اللّه على ذلك.. ولكنْ ما إن دخل أبو لبابة عليهم حتى هبَّ النساء والأولاد في وجهه، يبكون مذعورين، خائفين.. فقالوا له: ماذا نفعل يا أبا لبابة! أترى أن ننزل على حكم محمدٍ؟!. ويبدو أن العاطفة كانت قد غلبت عليه فقال لهم: نعم (وأشار بيده إلى عنقه بما يعني الذبح). ولكن سرعان ما عادَ لأبي لبابة رشده،وأدرك الخطأ الفادح الذي ارتكبه، إذ ما كان ينبغي له أن يفشي سراً للمسلمين ويخالف عهد الله ورسوله.. فخرج من عند بني قريظة لا يلوي على شيء، وانطلق، هائماً في المدينة حتى أتى المسجد، فارتبط إلى عمودٍ بجانب منبر رسول اللّه وآلى على نفسه مقسماً ألاَّ يذوق طعاماً أو شراباً حتى يموت، أو يتوب الله تعالى عليه، فلا يطأ ناحيةً لبني قريظة، ولا يُرى في بلدٍ خان فيه الله ورسولَه..
ذلك ما كان من أبي لبابة وهو يعاهد الله مُقِرّاً بالخطأ الجسيم الذي ارتكبه. وجاء من يخبر رسول اللّه بأمره، فقال: «أَمَا إنَّهُ لو جاءني لاستغفرت له، فأَمَّا إذْ فعلَ ما فعلَ فما أنا بالذي أُطلقُهُ حتى يتوبَ الله تعالى عليه».
ولم يعد أحد يقرب من أبي لبابة إلا امرأته، فقد كانت تأتيه وقت الصلاة، فتفك وثاقه حتى يصلي، ثم تعود وتربطه من جديد. وانقضت ست ليالٍ وهو على تلك الحال، وقع بعدها مغشياً عليه، خائر القوى، فارغ الفؤاد إلاَّ من خشية الله، فأسرعت إليه امرأته تُسعفه، فأفاق يبكي ويتحسَّر على ما صنع، وهو في ذلك لا تكاد أنفاسه تطلع من صدره إلاَّ بالجهد الجهيد..
لقد كان لومُ أبي لبابة لنفسه شديداً، وندمُهُ على ما فعل كبيراً، فتاب إلى الله - سبحانه وتعالى - توبةً نصوحاً مخلصة، ودعا ربَّه بأن يغفر له مقرّاً بذنبه، وغلبة عاطفته عليه من شدة تأثّره عند ملاقاة القوم له.. وهنا أيضاً - كما في كل حالٍ وشدَّةٍ ـ، تتجلَّى رعايةُ الله سبحانه للمسلمين، فرادىً وجماعاتٍ، فأنزل سبحانه قرآناً على رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بقوله تعالى: {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ *} [التّوبَة: 102].
وحدَّث رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) زوجَهُ أمَّ سلمة بتوبة الله - عزَّ وجلَّ - على أبي لبابة، فقالت مستأذنة:
»ألاَ أُبشّرُهُ يا رسولَ الله؟».
فقال الرسول الكريم: «بلى، إنْ شئتِ».
فقامت أم سلمة تقف على باب حجرتها، المحاذية لباب المسجد، وتنادي أبا لبابة قائلة:
»يا أبا لبابة! أبشر فقد تاب الله تعالى عليك».
ولم يقبل أن يفكَّ أحدٌ وَثاقه، وهو يقول: «لا! لا يفكنَّ أحدٌ وثاقي إلاَّ رسولُ الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، فهو الذي يطلقني»..
ولمَّا أتاه رسولُ الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وحلَّه من رباطه، خرَّ أبو لبابة على ركبتيه أمامَهُ قائلاً:
»والله إني لَنادمٌ يا رسول اللّه على ما فعلت. وقد آليت على نفسي أن أهجر دارَ قومي وبلدي التي أصبتُ فيها الذنبَ، وأن أتخلى عن مالي».
فقال له الرسول الأعظم: «يجزيك الثلث أن تتصدّق به»..
... وانقضت عشرون ليلةً على الحصار، وتقدم عليُّ بن أبي طالب، وهو ينادي: «يا كتيبة الإيمان!» فانحاز إليه الزبير بن العوام، وجمع من المؤمنين، فقال عليٌّ «واللَّه لأذوقَنَّ ما ذاقَ حمزةُ أو لأفتحَنَّ حُصْنَهم»[*].. وكانت أحوالُ بني قريظة تزداد سوءاً يوماً بعد يوم، حتى أصابهم اليأس، فلمَّا رأوا كتيبةَ المسلمين تريد الاقتحام عليهم، لم يجدوا غيرَ النزول على حكم «محمد»، فبعثوا إليه قائلين: لقد نزلنا على حكمك فإننا خارجون!
... ونزل بنو قريظة من آطامهم فجرى حبس الرجال في دار بنت الحارث - امرأة من بني النجار - وذلك بعيداً عن النساء والذراري، فجاء رجالٌ من الأوس - وهم حلفاء بني قريظة - يعرضون على رسول اللّه أن يعاملهم بمثل ما عامَلَ به يهود بني قينقاع - حلفاء الخزرج - وأن يقبل شفاعتهم بهم، كما قبل شفاعة عبد اللّه بن أبيّ ابن أبي سلول عندما طلب الرأفة بحلفائه.
فقال لهم رسول اللّه: «يا معشر الأوس! أترضون أن يحكم فيهم رجل منكم».
قالوا: بلى يا رسول اللّه.
وتمَّ التوافق أن يكون سعدُ بن معاذ هو الحكم، وكان ما يزالُ طريحَ الفراش مُذْ أصابَهُ سهمٌ في عرقه أثناء غزوة الخندق، ونقل إلى خيمة الجرحى التي تقوم عليها امرأة تدعى «رفيدة»، نذرت نفسها لخدمة إخوانها في الدين، ولا سيما من يصابون في غزوٍ أو قتال مع الأعداء، فأتاه نفرٌ من بني قومه يحملونه على دابة، ويلحون عليه في الطريق ألاّ يجعل حكمه قاسياً على بني قريظة، وهم يقولون له: «يا أبا عمرو! أَحسِنْ في مواليك، فإِنَّ رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إنما ولاّك ذلك لتحسن فيهم».
فلما أكثروا، ولَجُّوا عليه، وجعلوا يقولون: يا أبا عمرو! حلفاؤك ومواليك يقضون ما عليهم ولا يتأخرون، ومنْ قد علمتَ؟ قال لهم:
»قد آنَ لسعدٍ أن لا تأخذه في الله لومةُ لائم».
فلمَّا انتهوا به إلى مجلس رسول اللّه قال: «قوموا إلى سيدكم فأنزلوه»[*]. ثم قال له:
»احكم فيهم يا سعد»[*].
قال سعد: «اللّهُ ورسولُهُ أحقُّ بالحكم».
فقال له الرسول: «قد أمرك الله أن تحكم فيهم».
فقال سعدٌ للمسلمين: «عليكم بذلك عهدُ الله وميثاقه أنَّ الحكم فيهم بما حَكَمتُ!».
قالوا: نعم.
وأشارَ سعدٌ، وهو يغضُّ الطرف، ناحيةَ رسول اللّه إجلالاً له وقال: «وعلى مَنْ ها هنا؟».
فقال الرسولُ الأعظم: نعم.
والتفت سعدٌ إلى بني قريظة وقال: وأنتم يا هؤلاء، أترضون بحكم الله وميثاقه فيكم؟
قالوا: نعم..
قال: «عهدُ الله وميثاقه بأَنَّ الحكم فيكم ما أحكم به؟».
قالوا جميعاً: نعم..
فقال سعدٌ عندها: «فإني أحكم فيهم أن تُقتَل الرجالُ، وتقسَّم الأموال، وتُسبى الذراري والنساء»[*].
فقال رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) : «لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبعة أرقعة»[*].
وبالفعل فقد نُفِّذَ فيهم حكمُ سعد بن معاذ، لأنه كان حكمَ الله (تعالى) عليهم في قوله المبين: «فريقاً تقتلون وتأسرون فريقاً»[*]، وذلك أنَّ اللَّهَ سبحانه وتعالى قد علم ما صنعَ بنو قريظة، وما قد يصنعون فيما لو تركوا بلا عقاب، وكان اللَّهُ عليماً حكيماً..
ويُروى أنه عندما سيقَ حييُّ بن أخطب، لتنفيذ الحكم فيه، نظر إلى رسول اللّه، وقال: «أما واللهِ ما لُمتُ نفسي في عداوتك، ولكن من يخذل اللّهَ يُخذَل»[*].
ثم أقبل على الناس، فقال:
»أيها الناسُ، إنه لا بأسَ بأمر الله، كتابٌ وقدر، وملحمة كتبها اللّهُ على بني إسرائيل»[*].
وتعالت الأصوات تنادي بالإسراع في قتل عدوّ الله، والناس تقول:
»ما كان الله سبحانه وتعالى ليظلمهم، وما كان رسولُ الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ليأمر بظلم، ولكن كانوا أنفسهم يظلمون... وهذا هو الحق... فالظلم قد وقع من بني قريظة أنفسهم في خيانتهم، وتآمرهم، وإعدادهم لحرب المسلمين: إذ وَجَدوا بعد فتح دورهم ألفاً وخمسمائةَ سيف، وألفين من الرماح، وثلاثمائة درع وخمسمائة ترس.. كانت مخبَّأةً كي ينقضّوا بهـا على المسلميـن عندما يواتيهم الظـرف، ولـكنَّ الله (تعالـى) خـذلهم، فـردَّ كيدهـم إلى نحرهم وجعلَ سلاحهم بيد المؤمنين يقاتلون به أعداءَ الله أمثالهم.
وكان ثعلبة بن سَعْية، وأسيد بن سَعْية، وأسد بن عبيد، وهم من بني هَدْل، وأبناء عمّ بني قريظة، قد أسلموا في الليلة التي نزلوا فيها على حكم رسولِ الله، فأمّنهم (صلّى الله عليه وآله وسلّم) على أنفسهم وأهليهم وأموالهم، وصاروا إخوة في الدين..
وكان عمرو بن سُعدى القرظيّ قد وقف ضد رأي بني قومه في نقض العهد من المسلمين وقال: «لا أغدر بمحمدٍ أبداً». وقد شهِدَ بذلك محمد بن مسلمة وعددٌ من الرجال، فأمَرَ رسولُ الله بألاَّ يقتل، بل أطلق سراحهُ، فذهب في الأرض، لا يعلم إلاَّ الله سبحانه وتعالى أين توجهه، فقال الرسول الأعظم: «ذاك رجل نجّاه الله بوفائه»[*]..
وكان رفاعة بن السموأل - القرظيّ - قد بعَثَ، وهو في الأسر، إلى أم المنذر سلمى بنت قيس أن تجيره لمعرفتها به، وبالفضائل والحسنات التي تميّزه عن بني قومه، فذهبت إلى رسول اللّه تستوهبه، فوهبَهُ الرسولُ الكريم لها. وكان لذلك أثرٌ كبيرٌ في نفسه، فأعلن إسلامَهُ صادقاً.
ثم قسّم رسولُ الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أموال بني قريظة ونساءهم وأبناءهم على المسلمين، وأمر ببعض السبايا أن تُحمل إلى نجد وبلاد الشام، ليباع لهم بها خيل وسلاح..
كلُّ ذلك بأمرٍ من الله سبحانه الذي قضى بأن تُعامَلَ تلك الفئةُ الباغية بمثل ما تستحقُّ من العقاب على خيانتها، وتربّصها بالمسلمين الدوائر، وذلك مصداقاً لقوله تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} [النّحل: 126].
فمن قبلُ غدرَ أعداءُ الله بالمسلمين في مواقعَ عديدة، فقتلوا أربعين بلا ذنب، وباعوا اثنين لقريش في مكة، بعد قتل رفاقهما!... فإن لم يُظهر المسلمون لسكان الجزيرة - وهم على ما هم عليه من عقلية جاهلية، وطباعٍ وعادات قاسية - أنَّ بإمكانهم استعمالَ الأساليب التي يستعملها أعداؤهم، لكان ذلك مدعاةً للاستخفاف بشأنهم، وعدم الركون إلى قدرتهم!.. من أجل ذلك اختار رسولُ الله عدداً ضئيلاً من السبايا وأرسلَهُ للبيع في البلاد البعيدة، ولو أرادَ خلاف ذلك لكان بعث بالسبايا كافة للبيع، ولَمَا كانَ قد أعطى الأوامرَ المشدّدة بألاَّ يُفرَّقَ بين الأم وابنها في القسمة، وهو يقول للمسلمين: «لا يفرق بين الأم وولدها حتى يبلغوا»[*].. ولَمَا كانَ أيضاً قد جعل من إحدى نساء بني اليهود، ريحانة بنت عمرو بن خنافة - التي اختارها لتكون من نصيبه في القسمة - سيّدةً مصوناً، تقيم في بيته، حتى يتوفاه الله سبحانه وهي ما تزال عنده، على الرغم من بقائها على اليهودية، إذ لم يلزمها قطّ أن تدخل في الإسلام، بل أمر بحفظها، وصون كرامتها، حتى تظل على نفس المكانة التي كانت عليها في بني قومها[*] (علماً بأن بعض السِّير تذكر بأن ريحانة عادت ودخلت في دين محمد (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بعدما رأت تلك المعاملة النبيلة، التي يعاملها بها الرسول وأهلوه)[*].
وكانت أخبار مصير الأحزاب قد بلغت الجزيرة كلها، فأيقن الناسُ أنَّ هناكَ قدرةً خفيةً عليّةً ترعى المسلمين، وتكلؤهم بعين الحفظ، وإلاَّ لما كانت تسلّط على أعدائهم قوى الطبيعة لتعصف بهم وتبدّد قواهم، كما جرى لذلك الجيش العرمرم الذي ذهب ليغزوهم في عقر دارهم، فرجع مهزوماً بفعل الرياح العاتية...
وكانت الأخبارُ قد تناهت أيضاً إلى بني يهود في خيبر، وما حلَّ ببني قريظة - جزاءً لنقضهم العهد - فأنحى سلامٌ بن مشكم، أحد زعماء بني النضير، باللوم على ابن أخطب قائلاً: «هذا كله عمل حُيي ابن أخطب.. ما كان أحرى بالرجل أن يترك بني قومه وشأنهم! ولكنه أبى إلاَّ أن يناجز «محمداً» وأصحابه فكانت تلك المصيبة الدهماء»..
موت سعد بن معاذ
والآن.. وقد فرغت المدينةُ من أعداء الله، فحق للمسلمين أن يهنأوا بالظفر وأن يلاقوا الراحة.. فعمّ السرور جميع بيوت المؤمنين، وطابتِ النفوس راضية، واستوثقت بحكم الله قانعة.
وإذا كان الله سبحانه وتعالى قد أفاءَ على المسلمين بتلك الراحة، فمن أحقُّ بها، بعد رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، غيرُ المؤمنين الصابرين المجاهدين؟!..
وهل كان سعد بن معاذ، إلاَّ أحد أبرز هؤلاء المؤمنين؟!..
فها هو يتفكّر بما قدَّره الله - عز وجل - وما أنعم به عليه وعلى المسلمين من فضله فيقرُّ عيناً، ويهنأ بالاً...
لقد دعا سعدٌ (رضي اللّه عنه) ربَّه، ساعة جُرِحَ، وعرفَ أن جُرحَه بليغٌ، وأنه قد يلاقي ربّه بين لحظة وأخرى، بأن يرأف المولى به فيمنحه فرصة من العمر ليناجز قريشاً إن أرادت حرباً على المسلمين، أو أن يشهد قصاص بني قريظة بسبب خبثهم وكيدهم، ومن بعدها فليمت قريرَ العين، وقد اطمأنَّ على الإِسلام - بفضل الله ورسوله والمؤمنين - سيّداً في هذه الدنيا، كما أنزلَهُ ربُّهُ مباركاً من عليائه..
ويتفكّر سعدٌ بما حفلت به حياتُهُ منذ أنْ آمَنَ باللَّهِ ورسولِهِ، وما أنعَمَ عليه المولى تبارك وتعالى في الاسلام من المكانة المشرّفة، فيقول في نفسه: لا، واللَّهِ لم يبق لي من مطمع إلاَّ في الشهادة..
ولقد كُتبت له الشهادة منذ أن جُرِحَ قرب الخندق.. إذْ لمَّا توجَّه بذلك الدعاء[*] الخالص للَّهِ - عزَّ وجلَّ - وبفعل إيمانه الصادق، ورجائه إلى ربه أن يحقق أغلى أمنيةٍ لديه.. أجل، ففي تلك اللحظات، وما إنْ أخلَصَ بكليته لربه تبارك وتعالى حتّى ورُفع دعاؤُهُ على بسطٍ من نورٍ، كلماتِ حقٍ واستسلامٍ لربِّ العالمين، لتنتشر تلك الكلمات، في الوجود كله، أصداءَ نفسٍ تحبُّ الله، ويحبُّها الله (سبحانه)، فتستبشر الملائكة فرحةً، وكأنها تؤمَرُ فتردد: بارك الله لسعدٍ ابن الأرض فقد استحق أن يكون عبداً لله سبحانه..
وكيف لا يتردَّدُ دعاء هذا الصحابي الجليل في آفاق الوجود وهو في قلب الشدّة والكرب، لا يعبأ بدمائه تنزف، ولا يطلبُ من يستطيع وقف هذا النزف، بل تصبو نفسه إلى رجاء واحد، وهو أن ينصُرَ الله سبحانه وتعالى الإِسلام؟!..
فللّه درُّ هذا الصحابيّ ما أقوى إيمانَهُ بربه.. وما أقربه إلى ربه!. فأمَّا أن يكون الخالق قريباً من عبده، فهذا شأنٌ ربّانيٌّ، شاءه الله العزيز الحكيم منذ أن خلق الإِنسان، ثُمَّ نزَّلَ التوكيد عليه في محكم كتابه بقوله الكريم: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ *} [ق: 16].. فلا وجود أبداً لمسافة تفصل بين الخالق والإنسان، لأنه سبحانه أقرب إليه من خفقان قلبه.. وهذا هو السرُّ الذي قد يخفى على كثير من الناس، ولا يدركونه، فيذهبون مندفعين في طلب الدنيا، متنكرين لقلوبهم وخفقانها بالفطرة، بل ومتنكرين لخلقهم الذي ما زال معجزاً بدقيق صنعه، وعظيم إتقانه!.
نعم! أنْ يكونَ الله (تعالى) قريباً من عبده الإنسان، فهذا الحق المطلق. وأما أن يكون الإنسانُ قريباً من ربّه، فهنا حكمةُ هذا العبد وهدايته.. وأكبر واجبٍ عليه، حتى يدرك قرب ربه إليه أن يستجيب له في كل ما يأمره به وينهاه عنه. وهي الاستجابة التي تؤمّن له إجابة دعائه وتقرّبه هو إلى خالقه سبحانه، كما يبيّنه لنا قوله تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ *} [البَقَرَة: 186].. والناس عندما يسألون الله، فإنه - جل وعلا - يؤتيهم، ويتمنَّن عليهم بالعطايا والمواهب التي لا تعدُّ ولا تحصى توكيداً لقول رب العالمين: {وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ} [إبراهيم: 34].
ويبرز سعدُ بن معاذ على مدار الزمان مثالاً لعباد الله الداعين له، والمستجيبين له، والمؤمنين به - تبارك وتعالى - فحق أن يكون من الراشدين.. لقد آمن بالإِسلام، وصدّق رسوله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، فبذل كل ما منَحهُ ربُّهُ تعالى من نفسٍ، ومن نفوذٍ ومال، في سبيل الله.. فهل بعدُ أحسنُ استجابة، وأخلصُ عبودية، وأشدُّ إيماناً مما كان عليه سعد بن معاذ؟
ولقد منَّ الله تعالى عليه بالشهادة وهو في معرض الدفاع عن دين الله، فكان - هنيئاً له - من الشهداء الأبرار. وإِنَّ من كان مثل سعدٍ لهو جدير أن يُختار ليحكم بحكم الله.. وها نحن نجده قد قرَّ عيناً بالحكم الذي هداه الله (عزَّ وجلَّ) إليه، فحكم بما حكم على بني قريظة، لينام على الاستجابة لربه، ويغفو على طيب الشهادة. ويأتي الناس لنقل جثمانه إلى الثرى، فيجدونه خفيف الحمل، لا يُكاد يُشعَرُ له بوزن في النعش، مع أنه كان بادناً.. فيتعجبون!...
أجل، عجب المؤمنون لأنَّ الميت يثقل حملُهُ عادةً، ويزيد من هذا الثقل إن كان بديناً، بينما كانت جنازة سعدٍ أخفَّ ما حملوه من جنازات.. ولكنَّ رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وهو يعلم بالأمر، لا يأخذه أيُّ عجب، بل يقول للناس، ليُذهِبَ عنهُم ما قد يخالط نفوسهم من تصورات: «إنَّ له حمَلةً غيركم. والذي نفسي بيده لقد استبشرت الملائكةُ بروح سعد، واهتزَّ العرش لحبِّ لقاءِ اللَّهِ سعداً»[*].
فهنيئاً لك أيها المسلمُ الصادق، يا سعد بن معاذ، يا منْ تنزَّل الملائكة بإذن ربهم يحفّون بجثمانك ، ويستبشرون بروحك الكبيرة تشعّ عبوديةً لله، وتتوهَّج قدسيّةً لخالقك.. هنيئاً لك أيها الصحابي، وألهَمَ اللّهُ تعالى أهلَ الإِسلام كي يسيروا على خطاك، وينهجوا نهجك حتى يحظَوا بالمكانة التي حظيت بها عند الله ورسوله..
ومثل سعد بن معاذ رجالٌ عاهدوا الله: فمنهم من قضى نحبه، ومنهم من ينتظر، وما بدّلوا تبديلاً. فهم رجال الاسلام، والاسلام يفاخر بهم على الزمان.. وفي سِيَر هؤلاء العظام - إذا ما اطلعنا عليها - ما ينبئ عن صدق اسلامهم، ويهدينا الله إلى مدى رشدهم!...
وهكذا وبالقضاء على بني قريظة، ارتاحت المدينة المنورة من شرور المنافقين، بعدما فقدوا المؤلّبَ والنصير، ولاذوا بأنفسهم يحتمون من الخطر على حياتهم، فلم تعد لهم أصوات تُسمَعُ، أو شأن يبرز.. لقد كانت لهم شوكة سوءٍ، ولكنها انكسرت إلى الأبد، ولن تقومَ لهم بعْدها قائمةٌ على الإِطلاق في مدينة رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) .. وهذا من شأنه أن يريحَ المسلمين، فتستوي أمورهم شيئاً فشيئاً، وتسير في طريق أقلَّ تعثراً وأكثرَ أمناً، خصوصاً وأنَّ الدعوة الإِسلامية قد أخذت تتسم بطابع القوة، والغنى والاعتزاز، بدلاً من طابع الضعف، والفقرِ والاستكانة التي رافقتها في مراحل عديدة من حياتها السابقة. فمن قبيل ذلك أن السلاح، الذي غنمه المسلمون من المشركين ومن بني قريظة - خصوصاً - وما أضافوا إليه من عتادٍ وعدَّةٍ صنعوها أو شروها، قد وفَّرت لهم القوةَ الكافية. كما وأنَّّ ما أصابوا من المال والمتاع قد أمَّنَ لهم كثيراً من أسباب العيش التي كانوا يفتقرون إليها. وهذا يعني أنه لو لم تكن غزوة الأحزاب وغزوة بني قريظة، وما آلتا إليه من الناحيتين المادية والمعنوية، لما كان للدعوة هذا الوجه الجديد الذي ظهر للناس وجعلهم يرهبون المسلمين.. ولكن - ولا ريب - فإنَّ الفضل كله في الغزوتين كان لله تعالى، ولرسوله العظيم.. ففي غزوة الأحزاب قال عزَّ وجلَّ:
{وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا *} [الأحزَاب: 25].
«وردَّ الله الذينَ كفروا بغيظهم» أي قريشاً وغطفان «لم ينالوا خيراً»: مرادهم من الظفر، واستلاب خيراتِ المدينة المنورة..
ثم عقَّب في غزو بني قريظة، فقال سبحانه وتعالى:
{وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا *وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَأُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا *} [الأحزَاب: 26-27].
فكان في التنزيل الحكيم أمور عديدة أبرزها:
ـ صدْق الإيمان بالله تعالى: {وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَاناً وَتَسْلِيمًا *} [الأحزَاب: 22].
ـ هزيمة الأحزاب بصور مألوفة، عندما أرسل الله تعالى عليهم ريحاً وجنوداً لم يروها...
ـ التصديق على حكم سعد بن معاذ في بني قريظة «فريقاً تقتلون وتأسرون فريقاً».
ـ وراثة المسلمين - حقاً شرعياً - لأرض وديار وأموال بني قريظة «وأورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم».
ـ إن كل ما حصل - وما يحصل ـ إنما الأمر فيه لله تعالى «وكان الله قوياً عزيزاً»، «وكان الله على كل شيء قديراً».
غزوة بني لحيان
كانت السنة الخامسة للهجرة قد قاربت على نهايتها لمّا ظفر المسلمون ببني قريظة وَخَلَتَ المدينة من الأعداء. فانصرف الرسول الأعظم إلى تقوية دعائم المجتمع الإِسلامي، شأنه في كل مرة تنأى فيها ظروف الحرب والقتال، وتتاح له الفرصة للبناء المجتمعي.
وإذا كان سلطان الإِسلام قد ظهر قوياً في ذلك الحين، إلاَّ أنَّ أعداءه كانوا ما يزالون كثيرين في شتى أنحاء الجزيرة. ولذلك فإنَّ الاهتمامَ الداخليَّ لم يصرف رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) عن أن يبقى دائماً على الحذر واليقظة، خوفاً من غدر مفاجىء أو مداهمة سريعة. فكانت عيونه منبثَّةً في كل مكان، ترقبُ وترصدُ تحرُّكَ العرب واليهود، لئلاّ يحاولوا القيامَ بعمل ضده، فيسارع إلى تشتيت قواهم حتى لا يبقى لهم مجال للاتفاق عليه، أو السير إليه في أي حالٍ من الأحوال.
وإذا كان الثأر ما يزال يومذاك من عادات العرب المستحكمة في نفوسهم، فإن الإِسلام ولا شك ينبذ تلك العادة الجاهلية ويعمل للقضاء عليها. إلاَّ أنه يأمر في الوقت نفسه بإنزال أشدّ العقاب بأهل الغدر والخيانة إذا قاموا بعمل يستدعي مثل هذا القصاص، وذلك حرصاً على اجتثاث جذور الشر، واستئصال العقبات التي تقف حائلاً دون انتشار الإِسلام في المدى الذي يجب أن يصل إليه، أو الصعوبات التي تَسدّ الطرقَ والمنافذَ أمام هداه.. وكان رسولُ الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يحرص دوماً على تطبيق القاعدة القرآنية: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} [النّحل: 126]، وهذه القاعدة القرآنية تفرضُ على رسولِ الله ألاَّ يدعَ بني لحيان، وما امتطوا من الشرّ، يومَ جاؤوه منذ سنتين مخادعين، يطلبون أن يبعث معهم نفراً من قرّاء المسلمين يعلِّمونهم الدين ويفقهونهم به، فعدوا على مَنْ بعثَ إليهم، - وكانوا ستةً من الصحابة الأخيار - في ماء الرجيع، فقتلوا ثلاثة منهم واقتادوا الآخرين إلى قريش للبيع والإِذلال.
تلك الخيانة الكبيرة لم تكن لتمرَّ بدون عقاب. فما إن اهلّ شهر ربيع الأول من السنة السادسة للهجرة، حتى جهّز رسولُ الله كتيبة من فرسان المسلمين، وخرج على رأسها في مئتين من الرجال الأشدّاء، يريد تأديب بني لحيان، الذين كانوا ينزلون في وادي غُران من نواحي مكة بالحجاز. ولقد آثر أن يخفي مقصده حتى لا يعلم به العدو فيتخذ لنفسه الحيطة اللازمة، فخرج من المدينة مُيمِّماً نحو الشمال، ومظهراً أنه يريد الشام، حتى إذا بعد به المسيرُ، وصارَ في منأى عن شبهة الأعداء وظنونهم، عاد وانفتل منحدراً إلى ناحية الجنوب ليصل إلى مقصده في أسرع وقت. وكان بنو لحيان أخذوا حذرهم لما بلغهم أمر خروج المسلمين، فهربوا يعتصمون برؤوس الجبال ومعهم متاعهم، وبذلك فات رسول اللّه أن يصيبهم إذ وجد ديارهم خاوية خالية من الناس والحيوان.. فأقام في تلك الناحية سحابة يومين، بعث خلالهما باثنين من فرسان الإِسلام إلى ناحية مكة، فسارا حتى بلغا مكاناً بين مكة والمدينة يسمى «كُراع الغميم» ولكنهما عادا بلا أية أخبار تنبىء بجديد. فأمر (صلّى الله عليه وآله وسلّم) الناس بالرجوع إلى المدينة. وقد دخلها بعد غياب أربع عشرة ليلة، في يوم قائظ بلغ من قيظه أن كان الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يقول: «آيبون تائبون إن شاء الله لربنا حامدون، أعوذ بالله من وَعْثاء السفر، وكآبة المُنقَلب، وسوء المنْظر في الأهل والمال»[*].
غزوة ذي قَرد
لم تكد بضعُ ليالٍ تمرُّ على الأوبة من غزوة بني لحيان، حتى أغارَ عُيينة بن حصن الفَزاري في خيل من غطفان على نوقٍ لقاحٍ للمسلمين كانت ترعى في محلة تدعى الغابة[*] من أطراف المدينة..
ولقد كان دافع عيينة إلى تلك الإغارة ما نالَهُ من خذلان في غزوة الأحزاب، إذ كانت غطفان قد عوّلت على صلح مع المسلمين تنال فيه من ثمرات المدينة وخيراتها ما يشبع أطماعها، فلمّا أبى السعدان، والمسلمون معهما، أن ينالَ أهل الشرك شيئاً من أموالهم، عزمت غطفان على أن تثأر لنفسها عن طريق السلب والنهب.
وكانت النوق الحوامل في رعاية رجل من بني غفار ومعه امرأته، فقتلوه واختطفوا المرأة. وكان سلمة بن عمرو بن الأكوع الأسلمي قد خرج في الصباح الباكر يريد الغابة متوشحاً قوسه ونباله، فرأى خيول غطفان وهي تشتدُّ في رجوعها، بعدما فعلت فعلتها الغادرة، فأشرف في ناحية سَلْع ثم صرخ ثلاث مراتٍ: «واصباحاه»!
وأسمعت صرختُه ناحيتي المدينة فهبَّ المسلمون وهم ينادون: «يا خيل الله اركبي».. وكان أوَّلَ الواصلين المقدادُ بن الأسود[*] فأمره الرسولُ أن يتعجَّل مع من جاء من فرسان المسلمين في الخروج إلى مكان الاستغاثة حتى يكون قد جهّز الرجال ولحق بهم..
وكان سلمة بن الأكوع قد اندفع - بعد استغاثته - وراء القوم، وهو يرشقهم بالنبال ويقول:
خذها وأنا ابنُ الأكوع
اليوم يوم الرُضَّع[*]
كما أن طليعة فرسان المسلمين كانت قد أدركت مؤخرة الغزاة، فاستطاع أبو قتادة الحارث بن رِبْعيّ، أخو بني سلمة، أن يقتل حبيب بن عيينة بن حصن[*] فغشاه ببرده ليعرفوا أنه صاحبه، كما أدرك عُكَّاشَة بن مِحْصن أَوباراً وابنه عمرو بن أَوبار، وكانا على بعير واحد، فقتلهما معاً[*]، كما أمكنهم أن يستنقذوا بعضَ الإِبل، بينما سارع عيينة وبقية الغارة معه في الفرار يسبقون المسلمين بأميال..
فلما أقبل رسولُ الله نزل في المسلمين بالجبل من ذي قَرَد، مبدياً عدم الجدوى من اللحاق بالقوم، وهم قد بلغوا منازلهم في بني غطفان، قائلاً (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «إنهم الآن ليُغبَقُونَ في غطفان»[*].
وأثنى الرسول الكريم على ما أبدته تلك الطليعة من ضروب الشجاعة والإِقدام فقال (صلّى الله عليه وآله وسلّم) :
»خير فرساننا اليوم أبو قتادة، وخيرُ رجّالتنا اليوم سلمة».. وزيادة في إكرام سلمة على صنيعه الحسن، فقد كان الرسول يعطيه سهمي الراجل والفارس معاً..
وما إن عادوا من تلك الغزوة، بعدما أقاموا بذي قَرَد يوماً وليلة، حتى أقبلت امرأة الغفاري[*] على ناقةٍ من نوق المسلمين التي استُنقذت، فجاءت تخبر رسولَ الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بما جرى، وأنها بعدما اختطفوها وألحقوها بهم، استطاعت أن تتغفَّل القوم أثناء انشغالهم بالقتال، وتفلت من إسارهم. فسارعت إلى ناقةٍ من نوق المسلمين تركبها وتُغِذُّ السَّيْرَ فارّةً بنفسها. وكانت المرأة قد نذرت أن تنحر الناقة التي حملتها إن نجَّاها الله سبحانه عليها فداءً لنفسها.. فتبسَّم رسولُ الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لمَّا سمعها تقول ذلك، وقال لها: «بئس ما جزيتها أنْ حمَلك الله عليها ونجّاك بها ثم تنحرينها! إنه لا نذرَ في معصية الله، ولا في ما لا تملكين، إنما هي ناقة من إبلي، فارجعي إلى أهلك على بركة الله»[*].
مقتل سلام بن أبي الحقيق
كان يهودُ بني النضير بعد إجلائهم عن المدينة، قد أتوا خيبر وأقاموا فيها مع أهلها، وقلوبهم ملأى بالحقد على «محمد» وأصحابه... فوجدوا - حسبما ظنّوا ـ في إغارة عيينة نوعاً من التخاذل من قِبَلِ المسلمين يُغري بهم، فخرج أبو رافع سلام بن أبي الحُقيق، أحد كبار زعماء بني النضير، يؤلِّب عليهِمُ القبائلَ من جديد، كما فعل هو وحُيي بن أخطب، قبل غزوة الأحزاب، وحصار المدينة، وقد قرّر هذه المرة أن يستخدم أمواله الوفيرة لذلك، لأنه كان صاحب تجارة واسعة حتى كان يلقَّب بتاجر الحجاز..
وراح ذلك الزعيم اليهودي يتنقّل بين غطفان ومن جاورها من قبائل العرب، يغريهم بالمال كي يستعدوا لقتال «محمد» من جديد! أما لماذا يبذل المالَ وهو يهودي؟ فلأنَّ استئصال شوكة «محمد» كان عنده أهم من المال، بل وغاية الغايات التي نذر نفسه لها...
وعَرفَ المسلمون بتحريضه الجديد للقبائل، فجاء الخزرج إلى رسول اللّه يستأذنونه في قتله، حتى لا يظلَّ داعيَ إثارة لمقاتلة الإسلام وأهله، فيكون لهم الشرف في ذلك، كما كان للأوس شرفُ قتل كعب بن الأشرف. ووافق رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) على الأمر، لأن المصلحة العامة تقتضي القضاء على هذا العدو الحاقد وأمثاله.. فخرج إليه خمسةٌ من بني سلمة وهم: عبد اللّه بن عَتيك، وعبد اللّه بن أنيس، ومسعود بن سنان، وأبو قتادة الحارث بن ربْعيّ، وخزاعي بن أسود (حليفٌ لهم من أسلم)[*]، وقصدوا الذهاب إليه في خيبر بعدما أوصاهم رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ألاَّ يقتلوا وليداً أو امرأة، ولا ضعيفاً أو كهلاً، ممن لا قدرة لهم على حمل السلاح، إن دهموه في جماعة من أهله.
ودخل هؤلاء النفر خيبر متخفين، حتى إذا حلَّ الليل وخلتْ الطرقات من المارة، ذهبوا يطرقون بابه، فقامت امرأته تسأل من الطارق؟ فقالوا: ناس من العرب جئنا نلتمس الميرة، فأسرعت تفتح لهم الباب، وتأخذهم إلى مكان زوجها حيث كان يقبع في حجرته، منشغلاً بعدّ الأموال بين يديه.. فتقدموا منه مسرعين، لا يدعون له فرصة لسؤال، أو لقول كلمة واحدة، وأهوى عليه كلٌّ بضربة سيف، وهو على عجلة من أمره - بسبب ولولة امرأته وصراخها - إلاَّ أنَّ عبد اللّه بن أنيس وقف وغرز ظُبَّةَ السيف في بطنه،ثم انطلقوا في الخروج، وصوت المرأة يلاحقهم بالصراخ والعويل، ولولا نهي رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لكانوا قتلوها معه...
وكان عبد اللّه بن عتيك رجلاً ضعيف النظر، فزلَّت به قدمُه، فالتوى كاحله يمنعُهُ من التقدم، فحمله رفاقه، وأسرعوا إلى شقٍّ يدخل منه الماءُ إلى الحصن، فاختبأوا فيه..
واشتدَّ رجال خيبر في أثرهم وهم يحملون المشاعل ويبحثون في الجوانب والطرقات، إلاَّ أنهم لم يعثروا عليهم، فعادوا إلى صاحبهم يقيمون النائحة عليه، بينما انسلَّ النفر المسلم قافلاً إلى المدينة، يخبرون رسولَ الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بالإجهاز على ذلك اليهودي الأرعن، فحمد الله تعالى أن يسَّرَ الأمرَ للتخلّص من عدوٍّ لدودٍ، حاقدٍ على الإسلام وأهله.
وهكذا كانت السنة السادسة للهجرة مليئة بالغزوات والمناوشات الدائمة، فلم يهدأ خلالها المسلمون قطّ، وهم يقصدون أعداءهم في نواحٍ عديدة من شبه الجزيرة، في كل مرة يعرفون بأمر عدوّ يستعد لقتالهم، أو قبيلة تتجهز لحربهم، معتمدين في ذلك عنصر المفاجأة، حتى تبقى المبادرة بين أيديهم، فلا يُفرضُ عليهم قتال في غفلةٍ، بل كانوا هم الذين يثيرونه أينما يريدون، ووقت ما يشاؤون.
ولكن العنصر الأهم والأعلى شأناً في قتال المسلمين كان في الفضيلة التي اعتمدها الرسول الحكيم (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، إذ كان يأمر قادة حربه وسراياه بالتأني قبل الإقدام على القتال، ويوصي المؤمنين ألاَّ يتمنوا قتالاً، لأنَّ فيهِ امتحاناً للقلوب وهدماً للأجسام، فكان يقول عليه وعلى آله أفضل الصلاة والسلام: «لا تتمنوا لقاء العدو، وإذا لقيتموه فاصبروا»[*].
أما إذا وَجَدَ أنه لا مفرَّ من مواجهة العدو، فكان يدعو الله سبحانه وتعالى ويقول: «اللَّهم إنَّا عبادك وهم عبادك، نواصينا ونواصيهم بيدك، اللَّهم اهزمهم وانصرنا عليهم، لأنهم معتدون علينا وعلى الحق الذي أُنزل من عندك»..
وكان رسول اللّه أشدّ ما يحرص على عدم الدخول في القتال، إذا وجدَ إلى ذلك سبيلاً، حتى عند أخذ الأهبة له. ولذا نراه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يبيّن مقاصدَ القتال عندَ المسلمين في وصيته لمعاذ بن جبل حين أرسله إلى اليمن قائداً وهو يقول له: «لا تقاتلوهم حتى تدعوهم، فإن أبوا فلا تقاتلوهم حتى يبدأوكم، فإن بدأوكم فلا تقاتلوهم حتى يقتلوا منكم قتيلاً. ثم أروهم ذلك وقولوا لهم: هل إلى خير من هذا سبيل؟ فَلَأَنْ يهدِي الله على يديك رجلاً واحداً خير مما طلعت عليه الشمس وغربت»؛ وروى ابن عساكر أنَّ رسول اللّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لمَّا بعثَ معاذ بن جبل لأهل اليمن وحضرموت قال له: «يا معاذ! إنك تقدم على أهل كتاب، وإنّهم سائلوك عن مفاتيح الجنة: لا إله إلاَّ الله، وإنها تخرق كل شيء حتى تنتهي إلى الله عزَّ وجلَّ لا تُحجَبُ دونَهُ، من جاء بها يوم القيامة مخلصاً رجحت بكل ذنب»[*]..
ومثل هذا التوجيه من رسول اللّه كانَ في وقتٍ قد أعزَّ اللَّهُ (تعالى) الإِسلام، وجعله ديناً ثابتاً، موطَّد الأركان والدعائم، وبعد أن كانت قد انتهت تلك الحقبة السابقة التي كان همُّ المسلمين فيها أن يردوا عنهم هجمة الأعداء، فلا يأخذهم الناسُ، الذين كانوا يخططون للقضاء عليهم!..
وكانت سُنَّةُ الرسول (ص) في الحرب تتجسَّدُ - دائماً - في وصاياه التي تحمل الرحمة والرأفة، والإصلاح والإحسان من أجل خير الإِنسان. فكان يوصي قادته وجيوشَهُ بقوله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) : «انطلقوا باسم الله وعلى بركة الله. لا تقتلوا شيخاً فانياً، ولا طفلاً ولا امرأة، ولا تغلّوا أو تخونوا، وضمّوا غنائمكم، وأصلحوا وأحسنوا، إن الله تعالى يحب المحسنين»[*].
هذه هي التعاليم الرسولية التي كان يتبعها المسلمون في الحرب. ومنها يظهر جليّاً أن الحروب لا يجوز أن تكون إفناءً وإتلافاً، ولا إفساداً أو تحلّلاً من القيود والقواعد، بل هنالك دائماً أهدافٌ يجب أن تكون مشروعة. وقد فرضت الحرب كوسيلة أخيرة لتحقيق تلك الأهداف المشروعة كما في حالة الحقوق المسلوبة مثلاً التي يفرض الواجب الديني والدنيوي استرجاعها من المغتصبين أو المحتليّن، أو المعتدين.. وما أكثرها - إلى الآن - في دنيا الناس!.. أمَّا أن تكون الحرب من أجل الحرب، ومن أجل المطامع وما يرافقها من الاستغلال والظلم، فهذا ما يحرّمه الاسلام جملة وتفصيلاً.. وحتى في الحروب المشروعة، فلا يجوز أن يباح كل شيء، كما يفعل مجرمو الحرب وعملاؤهم في أيامنا هذه، إذ يتحللون من جميع النوازع الإنسانية، والقيم الخلقية، غير عابئين بما يحدثون وهم يهلكون الحرث والنسل، ويستبيحون كلَّ شيء من أجل أغراضهم الدنيئة..
وقد يأخذ الناسَ عجبٌ من الكلام عن الفضيلة في الحروب!.. فيتساءلون: وهل يعقل أن يكون للفضيلة أي مكانٍ في العقول والنفوس، إذا ما دوَّت المدافع، وانهالت القنابل، وأُزهِقت الأرواح، واستبيحت الحرمات؟!.. والحقيقة أنَّ مجرد مثل هذا التساؤل عين العجب، لأنَّ على الناسِ أن يعرفوا بأنَّ إبعادَ الفضيلة عن الحروب شرٌّ كله، ولو لم تكن للحروب قواعد وضوابط لما عقدت المؤتمرات الدولية، ووضعت الاتفاقيات والمعاهدات التي تحدد السلوكَ الصحيحَ في الحروب، كحدٍّ أدنى للفضيلة التي يجب أن يتعامل معها المتحاربون..
على أنَّ كلَّ اتفاقيات أهل الأرض ومعاهداتهم، وما تتضمن من أنظمة للحروب، تبقى مقصّرةً عن النظام الأمثل الذي وضعه رسولُ الإِسلام في حال الاضطرار واللجوء إلى حرب واقعةٍ لا محالة... وقد بانَ نظامُهُ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) جليّاً واضحاً في وصاياه وأوامره إلى قادته وجيوشه.. فالرسولُ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قد قام حقاً بالحروب، ولكنها كانتْ حروبَ النّبوة المقيدة بقوانين الله تعالى. فما باشَرَ حرباً أو قتالاً إلاَّ لدفع ضرر أكبر بضرر أقلّ..لا لقتل الناس وإفنائهم.. ومتى كانت الحرب دفاعاً عن الحق - بمفاهيمه الشمولية - ووفقاً للمفاهيم التي أرساها رسول الإِسلام، فإنها تكون حينئذٍ رحمةً من الله تعالى على الناس، لأنها تكون من أجل نفع الناس أجمعين، مصداقاً لقوله تعالى: {وَلَوْلاَ دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ} [البَقَرَة: 251] ، وقوله تعالى: {الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلاَ دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ *} [الحَجّ: 40].

مقدمة الكتاب
القسمُ الأوّل
القِسم الثاني
القِسم الثالِث
القسم الرابع
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢