نبذة عن حياة الكاتب
الصوفية في نظر الاسلام

محيي الدين بن عربي
560 ـــــــ 638 هجرية
1164 ـــــــ 1240 ميلادية


الحقيقة المحمدية
عند ابن عربي


محيي الدين بن عربي
560 ـــــــ 638 هجرية
1164 ـــــــ 1240 ميلادية
هو محمد بن علي بن محمد بن أحمد بن عبد اللَّه الحاتمي، من ولد عبد اللَّه بن حاتم أخي عدي ابن حاتم الطائي، وكان يكنى بأبي بكر، ويلقب بمحيي الدين بن عربي، ويعرف بالحاتمي وبابن عربي (بدون الألف واللام) تفريقاً له عن القاضي أبي بكر بن العربي (الفقيه الأندلسي).
ولد في مرسية من بلاد الأندلس في أواخر شهر رمضان من سنة 560 هجرية، حتى إذا بلغ الثامنة من عمره نقله أبواه معهما إلى إشبيلية، وهناك درس الحديث والفقه، وأخذ عن مشيخة بلده، وكتب إلى بعض الولاة.. ومن شيوخه الأندلسيين ـــــــ الذين خصَّهم بالذكر ـــــــ أبو محمد عبد الحق عبد الرحمن بن عبد اللَّه الأشبيلي، الذي حدَّثه بجميع مصنّفاته في الحديث، كما حدَّثه بكتب الإمام أبي محمد علي بن أحمد بن حزم..
وأثناء تلك الإقامة في مرسية، التي دامت قرابة ثلاثين عاماً، تردَّدَ ابن عربي على عدة مدن أندلسية، حيث تعرّف بعلماء كثيرين ومتصوِّفين عديدين. كما سافر إلى بلاد المغرب حيث دخل مدينة فاس سنة 590هـــــــ. وعاد بعدها إلى غرناطة سنة (595هـــــــ). ثم إلى مرسية، ومن بعدها رجع إلى فاس، ودخل مراكش، ثم تونس حيث تعرف إلى الشيخ عبد العزيز المهدوي؛ وقد استفاد منه علماً وحقائق لم يكن يعرفها من قبل ـــــــ كما يحدِّث هو نفسه ـــــــ مما جعله يعجب به كثيراً، ويميِّزه عن شيوخه الآخرين ـــــــ الذين أخذ عنهم ـــــــ بالثناء والتقدير والشكر، كما يظهر ذلك في كتابه (الفتوحات المكية)، وفي الرسالة التي وجهها إليه وهو في مكة سنة 600 هجرية، وتعرف برسالة «روح القدس» كما تسمى «بمشاهدة الأسرار القدسية ومطالع الأنوار الإلهية».. وقد تعرف في تونس أيضاً إلى ولد أحمد بن قسي وأخذ عنه كتاب والده «خلع النعلين».. وابن قسي هذا من الذين يقولون بالوحدة، وكان من أتباع ابن مسرَّة..
لقد كان ابن عربي يتنقَّل في تلك الأسفار وعائلته ما تزال تقيم بأشبيلية؛ ويبدو أنه أخيراً عقد العزم على الانتقال إلى المشرق، فسافر سنة 598هـــــــ. إلى مكة حاجاً، وأقام في الحجاز سنتين، ثم انتقل بعدها إلى بغداد سنة 601هـــــــ. فالقاهرة سنة 603هـــــــ. ثم رجع مرة ثانية إلى بغداد سنة 608هـــــــ. وإلى مكة سنة 611هـــــــ. ومنها خرج إلى حلب، وانتقل إلى دمشق حيث استقرَّ فيها ـــــــ دون أن يرجع إلى بلاد الأندلس منذ خروجه منها ـــــــ وبقي إلى أن توفي سنة 638 هجرية وله من العمر ثمانٌ وسبعون سنة.
وقد برز ابن عربي، في الفترة التي كان التصوف فيها قد استعادَ مكانته على يد أبي حامد الغزالي، بعد النكسة التي حلَّت بأهله، والمصاعب الكثيرة التي لاقوها بسبب التهوُّس الذي أصاب أقطابهم وهم يُنشئون مذاهبهم الصوفية المليئة بالكفر والإلحاد، وبنتيجة استهتار شيوخهم بالعلم والشريعة، بحيث جعلوا أحكامهما خاضعة لأهوائهم وتأويلاتهم.. كل ذلك أدَّى إلى النقمة عليهم، ومحاربتهم، حتى جاء الغزالي بذلك الدورِ الدفاعيِّ عنهم، عندما راح يُفلسف آراء الصوفية، ويوجد لهم المعاذير والتأويلات، فعاد التصوُّف ينتعش من جديد، وتنتشر آراؤه بين الناس بشكلٍ واضح..
وهكذا، فما كادَ أبو حامد الغزالي يُخلِّي هذه الدنيا حتى قُيِّض للتصوُّف عالمٌ صوفيٌّ آخر، لم يتمشَّ على منوال السابقين من الأقطاب والمشايخ فحسب، بل ابتدع من الآراء، وابتكر من الأفكار، ما أدهش صوفيَّة أهل زمانه أنفسهم، وجعلهم به ينشغلون، وبتعاليمه يقتدون..
هذا العالم الصوفيُّ كان محيي الدين بن عربي ذاته، الذي ما زالت كتب الصوفية تحفظ آثاره حتى اليوم، وما زال الصوفية يجلُّونه، ويضعونه في أرفع مقامات شيوخهم وعلمائهم.. ويبدو أن هذا التقدير والإعجاب بابن عربي ناجم عن اعتقادهم بأنه كان من أصحاب الكرامات الذين «مَنَّ اللَّه (تعالى) عليهم بأسرار لم يُعطها لغيرهم..». كما أن تصنيفهم هذا، ووضعهم له في ذلك المقام، وعدَّهم إيّاه بين «أولياء الصوفية» إنما كان لشدَّة تأثرهم بما يجدون في مؤلفاته من حكايات، هي في نظرهم معجزات لا تؤتَى إلاَّ لأصحاب الكرامات والأولياء، وقد أعطيت لشيخهم الأكبر ابن عربي، فكانت له ـــــــ عند السابقين ـــــــ تلك الحظوة التي يرون ضرورة استمرارها نظراً «لقداسة صاحبها وجلال مكانته»!!... في حين أن تلك الحكايات، في الحقيقة، لا تعدو كونها من غرائب الأمور التي لا تُقنع عقلاً واعياً، ولا ترتاح لها نفسٌ صادقة..
ومن تلك الحكايات، هذه الحكاية التي نضعها بين يدَي القارىء، والتي رواها ابن عربي نفسُه، والتي تدلُّ على نفسها بنفسها، وتشهد على ما كان للرجل من أباطيل وخزعبلات..
فابنُ عربي يروي عن نفسه فيقول: «رأيت ليلة أني نكحت نجوم السماء كلَّها، وما بقي منها نجم إلّا نكحته بلذة عظيمة روحانيَّة، ثم لمَّا أكملت نكاح النجوم أُعطيت الحروف فنكحتها، فعرضت رؤياي هذه على مَنْ عَرَضها على رجلٍ عارفٍ بالرؤيا بصيرٍ بها، وقلت للذي عرضتُها عليه: لا تذْكرني باسمي.. فلمَّا ذكر له الرؤيا استعظمها وقال: إن صاحب هذه الرؤيا يفتح له من العلوم العلويَّة، وعلوم الأسرار وخواصِّ الكواكب، ما لا يكون لأحد مثله من أهل زمانه.. ثم سكت ساعةً وقال بعدها: إن صاحب هذه الرؤيا في هذه المدينة هو ذلك الشاب الأندلسي الذي وصل إليها»..
وواضحٌ أن هذه الرؤيا غريبة حقاً، ولم نعلم أحداً من الصوفية، أو غير الصوفية، تطاول به الوهم، حتى خُيِّل إليه أنه نكح نجوم السماء بتلك «اللذة العظيمة الروحانيَّة» التي يصوِّرها لنا ابن عربي... والواقع الذي نعتقده، أنه لم يكن لابن عربي رؤياه تلك، وإنما هي مجرد تعبير عن حالةٍ نفسية كان يعيشها، وربما لم يكن بمقدوره الإفصاح عنها، فألبسها هذا التصوُّر الصوفيَّ الذي يجيز له التكلم بالألغاز حتى يخفي كوامنه الباطنيَّة!!.. هذا فضلاً عن أن الرؤيا فيها من المغالطات السافرة ما لا ينطلي على أحد من بسطاء الناس.. ولعلَّ الدافع الحقيقيَّ الذي كان وراء ما ادَّعاه ابن عربي في رؤياه تلك، يكمن في ما أظهره الدكتور زكي مبارك في كتابه (التصوف الإسلامي في الأدب والأخلاق) عندما يقول: «إن الشهوات الحسية كانت تطارد ابن عربي أينما توجَّه، وكانت تطالعه بصورٍ موَّشاةٍ بالتهويل، وكان يتلمَّس المخرج منها بالتعلق بأذيال التفسير والتأويل؛ لأنه كان قد انغمس في عالم المجد، ويجب أن تكون جميع النوازع بنظره تفسيراً لما ينظره في أودية العقل».
ويضيف الدكتور مبارك قائلاً: «إن الرؤيا التي رآها ابن عربي فيها ما يقنع من يدَّعي أن المتصوِّف بمقدوره أن يتخلَّص من عالم الحس. هذه الرؤيا التي غمرته في تيار الشهوات من حيث لا يريد، تدلُّ على أن غرائزه المقهورة تصوِّر له العوالم بصورة الخضوع المؤنَّث»..
إذن فابن عربي كانت تطغى عليه الشهوات الحسيَّة التي تهوله، ورؤياه تلك تعبير عن تيَّار هذه الشهوات الذي كان يشعر بأنه يعمل على جرفه، تلبيةً لنوازع غرائزه الدفينة، إلاَّ أنه كان يحاول التفلُّت من تأثير هذا التيار، فإذا به يستنبط تلك الرؤيا حول العوالم الشاسعة، بما فيها من نجوم، لكي تستجيب لنوازعه، وتُرضي شهواتِه، سيَّما وأنه يركّز على تصوير تلك العوالم بصورة الخضوع المؤنَّث كما قال «مبارك».. وربما يكون أيضاً الوازع الدينيُّ هو الذي يقف له بالمرصاد، فعندما كانت تتشبَّث به الشهوات الحسية، كان يصطدم بواقع الأحكام الشرعية التي تلجم تلك الشهوات ولا تطلقها إطلاقاً، فيصير عنده نوع من الكبت، أو القهر الغرائزيّ، فلا يجد للتنفيس عنه سبيلاً إلاَّ اختراع أمثال تلك الرؤيا.. ولكنْ مهما كانت دوافعه، فإنه قد وقع في المغالطات والتصوُّرات الفاسدة، بسبب تلك الحالة النفسية التي كان يعاني منها..
وإذا أَجَلْنا النظر في آثاره، يبدو أن تلك الشهوات الحسية كانت حقّاً تطارد ابن عربي أينما توجَّهَ، بل كانت تحتلُّ حيّزاً كبيراً في نفسه، حتى لَنَجدها بارزةً في أغلب حكاياته التي يرويها.. فها هو، بعد رؤياه الغريبة، يروي لنا حكايةً أخرى لا تقلُّ غرابةً، ولا خرافةً. فلنقرأ له قوله: «لقد اتَّفق لي مع بنت لي كان تَرضع وعمرها دون السنة، فقلت لها: يا بنيَّة! ـــــــ فأصغت لي! ـــــــ ما تقولين في رجلٍ جامع امرأته ولم يُنزل، ماذا يجب عليه؟ فقالت: يجب عليه الغُسل.. وكانت جدتها حاضرةً فغشيَ عليها من نُطقها».. ثم يعقِّب على ذلك فيقول: «لقد شهدت ذلك بنفسي»!..
ثم يروي خرافةً أخرى من خرافاته فيقول بأن «امرأة كانت ترضع صغيراً لها، فمرَّ رجلٌ ذو شارة حسنة، وخدم وحشم.فقالت: اللَّهم اجعل ابني مثل هذا.. فترك الرضيعُ الثديَ ونظر إليه وقال: اللَّهم لا تجعلني مثله. ومرَّت عليها امرأة وهي تُضرب والناس يقولون فيها: «زنتْ وسرقتْ» ـــــــ فقالت أم الطفل: اللَّهم لا تجعل ابني مثل هذه.. فترك الصغير الثدي ونظر إليها وقال: اللَّهم اجعلني مثلها».. ويعلِّق ابن عربي على هذه الحكاية فيقول: «إن رسول اللَّه (ص) قال في ذلك الرجل: إنه كان جباراً متكبراً، وإن تلك المرأة كانت بريئة مما نُسب إليها».. وهو يكرر حكايته هذه في أكثر من موضع من مؤلفاته.
فلنتأمل في الرِّوايتين، هل هما حقّاً مما ينطبق على الواقع، ويقرُّه المنطق الصحيح؟ لا، أبداً، لأنَّ المغالطة واضحة، والزَّيف ظاهر.. فمن الناحية التاريخية، يحاول ابن عربي أن ينسبَ ما ابتدعه خياله (في الحكاية الثانية) إلى رسول اللَّه(ص)، بينما الحقيقة أنَّ الحادثة لو وقعت فعلاً أيام الرَّسول الأعظم، لرواها أصحابه الأبرار الميامين عنه، ولحَفظتها كتب السيرة الشريفة من بعدهم، وهذا ما لم يحصل.. ثُمَّ على افتراض أنَّ الحادثة لم تُروَ، فإنها لو حصلت لَما كان وقع على تلك المرأة ـــــــ التي يصوِّر ابن عربي أنها زنت وسرقت ـــــــ أيُّ ظلم، طالما أنها بريئة، وما ذلك إلأ لأنَّ الرسول الأمين كان هو القاضي الأعلى، والحاكم العادل لجميع المسلمين وغير المسلمين ممَّن يعيشون في مجتمع يرعاه؛ ولم يكن ممكناً أبداً أن ترجم امرأة، ظلماً وعدواناً، بوجوده صلوات اللَّه وسلامه عليه وعلى آله أجمعين..
ثم إننا نجد في الحكايتين أن الطفل الرضيع يتكلم، فابنته وعمرها سنة تطلق حكماً شرعيّاً، وطفل الأم المرضعة يعلم الغيب وأسرار الأنفس... وهذا ما يخالف القوانين الإلهية في خلق الإنسان وتكوينه.. ذلك أنَّ هذه القوانين ثابتة، ولا جدال في حقيقتها على الإطلاق. وليس في هذه القوانين أنَّ الطفل الرضيع، ابن السنة، بقادر على أن يدرك حاجاته الأساسية والطبيعية، والتعبير عنها، فكيف إذن والأمر يتعلق بحكم شرعي، لا يجوز لأحدٍ أن يُفتيَ به إلاَّ إذا كان عالماً بالأصول الفقهية للدِّين الذي يبنى عليه هذا الحُكم حقَّ العلم، وأثبت أنَّ لديه فعلاً العلمَ والمعرفةَ، والقدرةَ على إصدار حُكمٍ شرعي.. أما أن يَعلم الإنسان العاديُّ بصورةٍ مطلقة، صغيراً كان أم كبيراً، علم الغيب، فهذا محال، لأنَّ اللَّه وحده علاَّم الغيوب، كما أنه لا أحد يعرف سرَّ الإنسان ومكنون نفسه إلاَّ اللَّه سبحانه وتعالى؛ فكيف يمكن لرضيع أن ينبىء عن نفسية ذلك الرجل الجبَّار المتكِّبر، وعن حقيقة براءة تلك المرأة المظلومة؟!..
ومن ثمَّ أيضاً ـــــــ وطبقاً للقوانين الإلهية في الخلق ـــــــ هل يعقل أن ينطق رضيعٌ، ويتكلم بمثل ما يتكلم به الراشدون، بل قل الراسخون في العلم؟! إنَّ هذه الميزة لم تُعط إلاَّ لعيسى ابن مريم (ع)، ولكنْ بإرادة اللَّه تعالى وأمرٍ منه، تكلَّم في المهد، من أجل أن يبيِّن حقيقة بعثه، ويثبت براءة أمه الطاهرة البتول سلامُ اللَّه عليها.
أما أن يتكلم «أطفال» ابن عربي، هكذا، وبلا موجب، ولا بأمرٍ سماوي، فهذا منتهى الضلال والإضلال وغاية البدَع.. وأي ضلال، أو أية بدعة، قامت أو تقوم على دليل شرعي، أو تتوافق مع قانون طبيعيٍّ وضعي؟!!..
وعلى هذا المنوال نفسه، يروي ابن عربي أيضاً حكاية «شاب زعم أن أمَّه عطست وهي حامل به، فقال لها، وهو ما زال جنيناً في جوفها: (يرحمكِ اللَّه) بصوتٍ سمعه كلُّ من كان حاضراً»!..
فهذه الحكايات كلُّها إنما كانت ترجع إلى تلك النزعة المادية لدى ابن عربي، وهي النزعة نفسها التي كانت تزيِّن له بلوغ المجد، فتجعله يقول: «سلمت لي الأرض شرقاً وغرباً، سكني وغير سكني، براً وبحراً، سهلاً وجبلاً، وكلُّهم يخاطبونني بالقطبيَّة»!!.
وهنا ظهر جليّاً الأملُ الذي كان يراود ابن عربي، وحلمُه البعيد، وهو بلوغ «القطبيَّة».. نعم لقد أرادَ أن يكون قطب الصوفية، وشيخَهم الأكبر، فابتدعَ ما طاب له من الخرافات التي أوصلته إلى أن ينكح نجوم السماء نجمةً نجمة، وأن ينكح الحروف، ثم تدين له الأرض، بشرقها وغربها، وكلُّ من عليها، بالسِّيادة، لأنَّ الحلم قد تحقق وصار «القطب»!...
إذت فالغاية التي كان يسعى إليها باتت معروفة.. وما لم تكن له «كرامات»، فلا يمكن تحقيق تلك الغاية.. ولذلك ألَّف تلك الحكايات، التي تنبىء عن «الكرامات»، حتى كان له ما أراد.. ولعلَّ من أغرب الأمور، أن تصدر مثل تلك الخرافات عن رجل مثل ابن عربي، الذي قال فيه أحدهم: «إنه كان يملك مقدرة في العلوم الشرعية والعقلية لم تتوفَّر إلاَّ للقليل من العلماء والمفكِّرين».. ولكنَّ الغرابة تزول، عندما نستدرك بأنَّ ابن عربي كان صوفيّاً، وقد أغلق هذا التصوُّف ـــــــ كما فهمه وادَّعاه ـــــــ على الرجل منافذ البصيرة التي تُطل على الحقائق، فجعله يسخِّر طاقاته الفكرية، وكل ما يملك من العلوم، لتحقيق مآربه المعْنَوية عن طريق الصوفية..
وهكذا يتبين أنَّ ابن عربي كانت له مطامح كبيرة للارتقاء في سلَّم المجد، وقد اكتشف أنَّ أمانيه تلك لا يمكن بلوغها إلاَّ في عالم التصوُّف، فاندفع فيه حتى كانت له ـــــــ على حدّ زعمه ـــــــ «العلوم العلوية، وعلوم الأسرار، وخواصُّ الكواكب»، وبات أسيرَ هذه النزعة الصوفية الجامحة، التي سيطرت عليه في جميع بحوثه، بما فيها بحوث الفقه، وذلك عندما يجعل في كل بحثٍ منها، مجالاً لأحوال المتصوِّفين ومقاماتهم.. فهو مثلاً عندما يتكلم عن الطهارة، يبدأ أولاً بتلخيص أقوال العلماء فيها، ثم يعود فيبيِّن رأيه الخاصّ، عندما يعتبر أن الطهارة طهارتان، ويفسِّر هذا الرأي عن إحدى الطهارتين بقوله: «طهارة غير معقولة المعنى وهي الطهارة عن الحدَث، والحدَث وصفٌ نفسيٌّ للعبد، فكيف يمكن أن يتطهرَّ الشيء من حقيقته، وإذا تطهَّر من حقيقته انتفت عينه وإذا انتفت عينه فلن يكون مكلَّفاً بالعبادة.. فلهذا قلنا إن الطهارة من الحدَث غير معقولة المعنى»....
ثم يضيف إلى ذلك قوله: «إن صورة الطهارة عندنا أن يكون الحقُّ سمعَك وبصرَك في جميع عباداتك، فتكون «أنت» من حيث ذاتك، وتكون «هو» من حيث تصرفاتك وإدراكاتك» (الفتوحات، المجد الأول، ص 288).
والفقه عند ابن عربي «مقدمة لدرس أحوال القلوب» أي تماماً كما هو عند الغزالي؛ ولكنْ بينما يرى الغزالي أن الشريعة هي من حظ العوام والخواص، فإن ابن عربي يرى أن الشريعة هي من حظ العوام، والحقيقة هي التي تكون من حظ الخواص..
وبينما يرى الغزالي أن أعمال الجوارح، أي ما يؤديه الإنسان من العبادات والأعمال التي شرعها الإسلام، لا تنفع ولا تصحُّ منه إلاَّ بعد الوصول لأسرارها وما تهدف إليه، فإن ابن عربي يذهب إلى «أن أعمال الجوارح مقدِّمةٌ للوصول إلى معانيها الباطنية وإلى أسرارها بنحو يكون «الحقُّ» سَمْعَ الإنسان وبصرَه، بل وكلَّه، في جميع عباداته. فإذا بلغ هذه المرحلة لم يعد ما يدعو إلى الإتيان بالعبادات وغيرها».. أي أن الصوفي عندما يبلغ هذه المرحلة، كما يراها ويحددها ابن عربي تسقط عنه التكاليف الشرعية كلُّها، فلا يعود من حاجة عنده للصلاة أو الصوم، أو غير ذلك من العبادات التي شرعها اللَّه تعالى في كتابه العزيز، وفرضها على المسلمين..
فأي إسلام هذا الذي يعتنقه ابن عربي، وأمثاله من الصوفية، وهم يسنُّون «شرائع» تخالف شريعة اللَّه سبحانه في عباده؟!.. وكيف ينسى ابن عربي أن اللَّه تعالى يقول عن الصلاة في كتابه الكريم: {إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَّوْقُوتاً} [النساء: 103]. وهو سبحانه الذي أَمَرَنا بقوله: {وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللّهِ إِنَّ اللّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [البقرة: 110] ، وأمرنا بالمحافظة عليها بقوله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} [المعارج: 34]، وأنه سبحانه فرض علينا الصيام بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183].
لا ليس هذا نسياناً من ابن عربي لكتاب اللَّه، بل هي محاولة متعمَّدة منه لإهمال أحكام شريعة اللَّه عزَّ وجلَّ، والتحلُّل من أوامره ونواهيه، وهذا في نظرنا هو الكفرُ بعينه، والضلال لصاحبه، والإضلال لغيره!!...
أما عن الفقهاء، فإن ابن عربي يقول: «وما زالت الفقهاء في كل زمان مع المحقِّقين، بمنزلة الفراعنة من النَّبِيِّين»... أي أن الفقهاء بالمقارنة مع المحققين من الصوفية هم كفارٌ، طالما أنهم بمنزلة الفراعنة من النبيين، وقد كان الفراعنة كفاراً، ومكذِّبين للنَّبيين... ولذا فهو لا يتوانى في كلام آخر عن ذم الفقهاء، ووصفهم بأنهم «أصحاب علم الرسوم»! فمن جملة ما تقدَّم، يتبيَّن أن ابن عربي ظاهريُّ المذهب في العبادات، باطنيُّ النظر في الاعتقادات.. ولقد أقام مذهبَه في التصوُّف على هذا الأساس، أي ظاهريته في العبادات، وباطنيته في الاعتقادات.
أما أهم الأسس التي قام عليها مذهبه الصوفي، فتبرز من خلال نظرته إلى المعرفة، ووحدة الوجود، ووحدة الأديان، والحقيقة المحمديَّة.
فما هي نظرة ابن عربي إلى هذه الأمور الأربعة؟.
1 ـــــــ رأيه في المعرفة
إن الأشكال التقليدية للمعرفة، وبتقسيمها الثلاثي عند الصوفية، أي المكاشفة، والتجلِّي، والمشاهدة، هي ما أخذ بها ابن عربي، عندما اعتبر أن تلك الأشكال وإن تميَّزت من ناحية الكيف، إلاَّ أنها تختلط مع بعضها البعض، ويبيِّن هذا الاختلاط بقوله: «المشاهدة تكون مع التجلِّي، وتكون مع غير التجلي. والتجلي يكون مع المشاهدة ومع غير المشاهدة، وهما لا يكونان إلاَّ مع المكاشفة، والمكاشفة توجد بدونهما»..
فأما عن المكاشفة فهو يعتبر أنَّ هنالك حجاباً ما بين النفس البشرية والجلال الإلهي.. وهذا الحجاب يتمثَّلُ بالمخلوقات، سواء وجدت في العالم المادي أو في العالم الروحاني.. أي أن المخلوقات هي التي تحجب النفس عن حقيقة اللَّه تعالى... إلاَّ أن النفس، عندما تقوم بالمجاهدات والرياضات ـــــــ وفقاً للطرق الصوفية المعروفة عندهم ـــــــ فإنها تتخلّى عن المخلوقات التي تحول بينها وبين اللَّه تعالى، مما يؤدي إلى تبديد الحجب، والوصول إلى الكشف عن الأسرار الإلهيَّة...
وأما عن التجلِّي فهو يرى بأنه «عبارة عن ظهورٍ نورانيٍّ للذَّات الإلهيَّة وصفاتها، وللأمور الروحية والإلهيَّة» أي أنه يرمز هنا «بالنور»، بدلاً من رمزه للحجاب في المكاشفة.. معتبراً أنَّ اللَّه سبحانه هو مركز النور، وكل ما يصدر عنه من مخلوقات يجب أن تكون منيرة، ولكن بدرجات متفاوتة. وبما أن النفس الإنسانية هي مخلوقة للَّه، فإنها إذاً من نور اللَّه، ولكنَّ ضوءها يخفت لالّتصاقها بالبدَن، إلاَّ أن النور الإلهيَّ لا ينقطع عنها تماماً، بل يظل فيها شيءٌ منه مثل ذلك الدخان الذي يتصاعد عن ذُبالة مصباح أُطفىء منذ قليل، فإن لامس هذا الدخانَ نورٌ مشتعل من مصباح مضيء، فإنَّ هذا النور ينزل مباشرة، بواسطة الدخان، ليمسك بالذُّبالة.. هكذا يبقى النور الإلهيُّ متصلاً بالأنفس، وتجلِّيها يكون تامّاً أو ناقصاً بمقدار درجة ذلك النور.. ويتمُّ هذا التجلِّي إما عن طريق الروح أو مباشرة من اللَّه عزَّ وجلَّ نفسه.. إلاَّ أن الروح ـــــــ وهي مخلوقٌ حيوانيُّ في نظر ابن عربي ـــــــ لا تستطيع أن تتحمَّل الإشعاع الصادر عن اللَّه تعالى، ولذلك فإنها تُبْهَرُ، في حين يتموَّج النور على القلب، فينشأ حينها الوجدُ، بعد أن يكون قد سبقه القلَق الروحيُّ نتيجةَ عدم تحمُّل الرُّوح لذلك الإشعاع النازل إليها من اللَّه تعالى.
والمغالطة الفادحة التي يرتكبها ابن عربي هنا، هي اعتباره أن الروح مخلوقٌ حيواني، في حين أن «الروح» لا يعرف كنهها، ولا سرَّها إلاَّ اللَّه تعالى، لقوله عزَّ وجلَّ: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً} [الإسراء: 85].. فابن عربي لا يعبأ بهذا المفهوم القرآني، ويتجاوز حكمة اللَّه تعالى، في عدم الكشف عن ماهية الروح، ويتناسى هذا النَّص القرآنيَّ الشريف، ليقرِّر بأنها «مخلوقٌ حيواني» أي أنها عضوٌ متمِّمٌ للجسم كالقلب أو أي عضو آخر في الإنسان...
وأما عن المشاهدة، فهو يرى بأنها تحصل «إذا ما طُويت الحُجب، وأشرقت النفس بأنوار علويَّة، بحيث لم يبقَ إلاَّ المشاهدة».. ولذا فإنَّ هذه المشاهدة تُتصوَّر على أنها رؤيةٌ واضحةٌ وتجريبية، أي أن الإدراك المباشر للَّه تعالى يحصل عن مشاهدة حضوره بالعين المجردة. وهذكا فإنَّ هدف النفس، عند ابن عربي، أن تطمح إلى الرؤية المباشرة التجريبية للنور الإلهي الجوهريِّ الخالي من كلِّ شكل وكيفية مخلوقين.. ويعبِّر عن هذا الهدف بقوله: «فإذا كانت المكاشفة هي طيُّ الحُجب التي تستر النور الإلهيَّ عن عيون الناس، والتجلِّي هو تلقِّي أنوار السرِّ الإلهي، فإنَّ المشاهدة ليست إلاَّ انعكاس هذه الأنوار في القلب؛ والقلب مثل المرآة يصبح معقولاً صافياً بالذِّكر، وعلى سطحه الصافي تظهر أنوار النور الإلهيّ».. تعالى اللَّه ـــــــ سبحانه ـــــــ عن هذه السفسطائية السخيفة علواً كبيراً، فإنه {لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الأنعام: 103]، الذي بَعُدَ عن مشاهدة العيون، وسما عن تصوُّر الظُّنون، لا يُعلم كيف كان ولا كيف يكون، ولا يُكيَّفُ بكيفٍ ولا يُؤيَّنُ بأينٍ، قد احتجب عن النظر ولا تحويه الفكرُ، واحدٌ بلا ثان في العدد لأنه الأحد الصمد الذي {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ}، احتجب عن خلقه بالنور الذي تغشى منه العيون، والذي لَمَّا {تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ موسَى صَعِقاً} [الأعراف: 143]. ما كان ذا جسم يحتاج إلى حيِّزٍ ومكان، ولم يكن قبله قبلٌ ولا يكون بعده بعْدٌ حتى يُحَدَّ بزمان.. فكيف يكون له حضورٌ منظورٌ أو يكون نورهُ تحت مقدورٍ، والنَّظرُ إذا جال في مخلوقاته ينقلبُ خاسئاً وهو حَسير لِمَا أبدعَ من جميل الصُّنع ولمَا دلَّ عليه لطيفُ خلقِه الناطقُ بعظمته الشاهدُ على قُدرته التي لا هي تُخالط الأجسام فتمتزج بها، ولا هي تُباينُها فتكون معزولةً عنها، فإذا السَّماوات مطوياتٌ بيمينه والأرض قبضتُه جميعاً يوم القيامة بسلطان القدرة وشأن العظمة لا ببسط يدٍ ولا بإجهاد عضو، لأنه لم يكن جسماً فيفتقر إلى ما يقيم الأوَد، ولا ذا حركة فيحتاج للانتقال والمُزايلة، فكيف تنطوي حُجبه أمام هؤلاء الْعُمي البصيرة والأبصار الذين خسئوا أن ينظروا إلى الشمس في رابعة النهار، ومع ذلك ادَّعَوا «الكشف» و«المشاهدة» لنور العزيز الجبَّار!!..
وهكذا يذهب ابن عربي في تحليل أشكال المعرفة الصوفية، وفق منهجٍ فلسفيٍّ معقَّد حتى يرى بأنَّ هذه المعرفة «تسري مع اللَّه، وليست هي باكتساب العبد.. إنها كرامة من اللَّه يهبها فضلاً منه لمن يشاء من عباده، ومع ذلك فإنَّ هنالك درجات قدرها اللَّه تعالى بعناية لبلوغ النفس تلك الموهبة الباطنية، حتى ترتفع إلى مقامات أعلى في الفضل والكمال».
2 ـــــــ مذهبه في وحدة الوجود
ما تجدر الإشارة إليه هنا، هو أن ابن عربي يُعتبر المؤسس لمذهب وحدة الوجود بشكله الكامل، إذ إن جميع الذين سبقوه كانت لديهم اتِّجاهات متفرقة حول وحدة الوجود، وإن جميع الذين أتوا بعده كانوا متأثرين به، أو ناقلين عنه..
ويقوم مذهب ابن عربي في وحدة الوجود، على أنَّ الوجود كله واحد؛ وأن وجود المخلوقات عين وجود الخالق، ولا فرق بينهما من حيث الحقيقة. أما الفرق الظاهر بين الوجودَين فلا يعدو كونه أمراً يقضي به الحس الظاهر، والعقل القاصر عن إدراك الحقيقة على ما هي عليه من «وحدة ذاتية» تجتمع فيها الأشياء جميعاً. ويدلل على نظريته هذه بالبيتَين التاليين:
يا خالقَ الأشياءِ في نفسِهِ أنتَ لمـــــــــا تَخلِقُـــــهُ جامـــــــــــــــــعُ
تخلقُ ما لا ينتهي كونـــُـــــــــهُ فيكَ، فأنتَ الضيِّقُ الواسعُ
ثم يبيِّن لنا أنَّ ذلك الفرق بين وجود اللَّه ووجود المخلوقات إنما يتراءى للإنسان، لأنه ينظر إلى اللَّه بوجهٍ، وإلى المخلوق بوجهٍ آخر، ولو نظر إليهما بوجهٍ واحد ومن عين واحدة، لَزال ذلك الفرق، ولأدرك «الذاتيَّة الواحدة» التي لا جمع فيها ولا تفرقة، وهو يعبِّر عن ذلك بقوله:
فالحق خلقٌ بهذا الوجهِ فاعتبــــــــروا وليس خلقاً بهذا الوجه فادَّكروا
مَن يدرِ ما قلتُ لم تُخذَلْ بصيرتُهُ وليس يدريـــــه إلاَّ مَنْ لَهُ بَصـــــرُ
جمعٌ وفرقٌ، فــــــــإنَّ العيــــــــن واحـــدةٌ وهــــي الكثيرةُ لا تُبقي ولا تَـــــــــذَرُ
والسند الذي يعتمده ابن عربي من القرآن الكريم، للقول بوحدة الوجود، إنما هو الآية المباركة: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [فاطر: 15[, إذ يفسّر هذه الآية الشريفة بحسب تأويله فيقول: «فوجودنا وجوده، ونحن مفتقرون إليه من حيث وجودنا، وهو مفتقر إلينا من حيث ظهوره لنفسه؛ فأنت غذاؤه بالأحكام، وهو غذاؤك بالوجود، فتعيَّن عليه ما تعيَّن عليك، والأمر منه إليك، ومنك إليه، غير أنك تُسمَّى مكلَّفاً... ولا يُسمَّى هو مكلَّفاً:
فيحمدني وأحمده ويعبدنــــــــــي وأَعبـــــــــــده
وفي حالٍ أُقِرُّ بهِ وفي الأعيان أجحدُهُ
فَيَعـــــرِفُني وأُنكــــرُهُ وأَعـــــــــــــرفُهُ فأَشْهـــــدُهُ»
فابن عربي يؤمن بوحدة الوجود إيماناً مطلقاً مع تشويه «قبيح» عقلاً لذلك الرأي الذي يقول به الناس من وحدة الوجود، إذ جعل اللَّه تعالى مفتقراً إليك، كما أنك مفتقر له!. ناسياً قوله عزَّ من قائل: {سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَات وَمَا فِي الأَرْضِ} [يونس: 68] لا تنفعه طاعة من أطاعه، ولا تضرهُّ معصيةُ مَن عَصَاهُ، {وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ} [المؤمنون: 88]. ومن العجيب أن ابن عربي يبرهن عن إيمانه بالوحدة بكثير من التصريح والوضوح كما ظهر في تفسيره ذاك للآية (15) من سورة فاطر، أو كما يظهر في قوله: «فما يعرف شيء» إلاَّ وهو حدُّ الحق، فهو (أي اللَّه تعالى) الساري في مُسمَّى المخلوقات والمبدعات، فهو الشاهد من الشاهد، والمشهود من المشهود، فالعالم صورته، وهو روح العالم المدبّر له، وهو الإنسان الكبير»، فللّه في خلقه شؤون.
إنَّ ابن عربي بعدَ صَفّ كلامٍ ورصفِ جملٍ في تعليل وحدة الوجود توصَّل إلى أن يقول عن اللَّه عز وجلَّ بأنه الإنسان الكبير {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً} [الكهف: 5] أوليس عجيباً أمر هؤلاء القوم؟ ولكن أعجب منه أن يكون لهم أتباع كثيرون، ومدافعون أكثر عن آرائهم، وكأنَّ هؤلاء وأولئك لم يدينوا بدين ولم يطّلعوا على شيء مما أنزل من عند رب العالمين...
بل تعالَ واستمع أيها القارىء الكريم إلى ما يؤكده ابن عربي في نظرته إلى وحدة الوجود عندما يقول: «فسبحان من أظهر الأشياء وهو عينها» ثم أنشد:
فما نظرت عيني إلى غير وجهِهِ ولا سمعتْ أذني خلاف كلامِهِ
فواعجباً مِمَّن يدّعي سماع كلام اللَّه على هواه، ويفسّره على كيفِهِ حيث يأتي بالحجج الباطلة لتدعيم فكرته، وهو يقول بوحدة اللَّه تعالى مع الموجودات التي هي من خلقِهِ!..
ويذهب ابن عربي في وحدة وجوده إلى أبعد من ذلك، كما أثبتَهُ كثيرٌ من المحققين في قوله في (الفتوحات): «ما في الوجود إلاَّ اللَّه، ونحن وإن كنا موجودين: فإنما كان وجودنا به، فمن كان وجوده بغيره، فهو في حكم العدم».. ومما قاله في ذلك شعراً:
مِمَّن تَفِرُّ ومـــــــــــــــــا في الكون إلاَّ هُــــــــــوْ وهل يجوز عليه «هُوَ» أو «ما هُوْ»؟
إن قلت «هُوْ» فشهود العين تنكره أو قلــــــت «مـــــا هُـــــوَ» لــــــيس إلاَّ هُــــوْ
فــــــلا تفــــــرَّ ولا تركــــــــــــنْ إلــــــى طلــــــبٍ فـــــكـــــلُّ شــــــــــيءٍ تـــــــــــراه ذلـــــــك اللَّـــــه..
على أن هذه الصراحة التي يظهرها هنا، ليست هي طريقته، ولا أسلوبه في التعبير عن أفكاره وإظهار آرائه بصورة دائمة، إذ كان غالباً ما يلجأ إلى التورية، والأحاجي، ويتخفَّى وراء الرموز والرسوم وغيرها لكي يشرح معتقداته الماورائية؛ بل لم يكن يتحرّج، من أجل ذلك، من الاستعانة بالخرافات، وتفسير الأحلام وغير ذلك كما رأينا سابقاً.
أما غاية ابن عربي من وراء ذلك، فهي إبعاد الجماهير عن مقاصده لئلا تسخط عليه، ويكون له معها شأن، كما كان مع سلفه الحلاج أو غيره، حيث أذاقتهم تلك الجماهير أشَدَّ ألوان الهوان والعذاب بسبب المعتقدات التي كانوا يبدونها خلافاً لأحكام الدين.
ومن الأمثلة على غموضه وألغازه قولهُ في هذه الأبيات:
فنحن له كما نُثبــــــــــتْ أدلتُنــــــا، ونحــــن أنــــا
وليس له سوى كونـي فنحن له، كنحن لنا
فلي وجهان: هو وأنــا وليس له أنـــــــا بأنـــــــا
ولكــــن فـــــيَّ مظهــــــــــرُهُ فنحن له كمــــــثل أنــا
هذا مجمل آراء ابن عربي في وحدة الوجود، وقد ثبت بدليل قوله أن الوجود كلَّه واحدٌ، وأنَّ لا فرق بين اللَّه الخالق، والإنسان المخلوق، بل والمخلوقات كلها؛ وما يرى الناس من فرق إنما هو ناتج عن قصر عقل الإنسان، وعدم إدراكه لحقيقة «الذات الواحدة»....
ومن هنا كانت نظرته إلى الحساب نظرة إنكار تقوم على نفي الجحيم والنار، وعلى وجود جنةٍ في عذابها لذةٌ ونعيم.. أي أنه، يخلط بين المفاهيم. ففي حين ينفي وجود العذاب، يعود ويقول بأنَّ في عذاب الجنة لذةً، وفي التلذذ بهذا العذاب نعيم؛ بحيث يتساوى عنده في النهاية العذاب والنعيم...
وهل في الجنَّة عذاب؟.. وهل المكان الذي فيه عذاب يسمَّى جنَّة نعيم؟؟ ذلك مبلغ ابن عربي من العلم.
ويقول:
فلم يبقَ إلّا صادق الوعد وحدَهُ ومـــــا لوعيــــد الحـــــــــق عيــــنٌ تُعاينُ
وإن دخلوا دار الشقــــــاء فإنهــــــــم علــــــى لـــذة فيــــــــــها نعيـــــــم مبـــــــــاينُ
نعيم جنان الخلد، فالأمر واحــد وبينهمــــــــــا عنـــــــــد التجلــــــــي تبايُـــــنُ
يسمى عذاباً من عذوبة طعمه وذاك له كالقشر، والقشر صائــــنُ
فاستمعْ، وحلِّلْ، واخلطْ عذاباً بنعيم، واعجنْ جنَّةً بنار تصلْ إلى فهم هذه الأسرار.. ولكنْ لا تنسَ أنَّ هذه النظرية في الجزاء، تنفي المسؤولية عن الإنسان، التي هي مناط الجزاء، بحيث لا يعود معها من مجال للتفريق بين مؤمن وكافر، وبين صالح وطالح، وبين خير وشر؛ كما أنها تخالف ما نزلت به الشرائع السماوية من وجود جنة ونار، وما قالت به عن عذاب ونعيم، وعن شقاء وسعادة..
ولنا هنا أن نتساءل، بكل بساطة وعفوية:
ماذا يقول هذا الشاعر الغاوي المغوي {وَالشُّعَرَاء يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ (224) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ} [الشعراء: 224 ـــــــ 225]، أجلْ ماذا يقول بعد أن هام في «وادي اللَّه» السحيق، وصعَّر خدَّه ولم يحفلْ بآيات الكتاب الحكيم، وهي تتوعَّد المجرمين، والكافرين، والظالمين بألوان من العذاب المهين؟!... فعن المجرم يقول اللَّه تعالى: {يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (11) وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ (12) وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْويهِ (13) وَمَن فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنجِيهِ} [المعارج: 11 ـــــــ 14]، وعن الكافر الذي لا يؤمن باللَّه العظيم، يقول اللَّه تعالى لملائكة العذاب وخَزَنَة جهنَّم: {خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (30) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (31) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاسْلُكُوهُ (32) إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ (33) وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (34)‏ فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ (35) وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ (36) لَا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِؤُونَ} [الحاقة: 30 ـــــــ 37]. وعن الظالمين، وما أعدَّه اللَّه تعالى لهم من عقاب، يقول تعالى: {وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاء كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءتْ مُرْتَفَقاً} [الكهف: 29].
وكيف ينزلق ابن عربي الذي قيل إنه تفقِّه في الدين عشرات السنين في هذا المنزلق الخطير، بحيث تستوي عنده جهنم والجنة، حتى أنه لَيبيت كالكافرين الذين {يَتَسَاءلُونَ (1) عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ} فيأتيهم الجواب من ربّ العالمين، قولاً حقّاً مُبيناً: {إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتاً} و{إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَاداً (21) لِلْطَّاغِينَ مَآباً (22) لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَاباً (23) لَّا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْداً وَلَا شَرَاباً (24) إِلَّا حَمِيماً وَغَسَّاقاً (25) جَزَاء وِفَاقاً (26) إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَاباً (27) وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّاباً (28) وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَاباً (29) فَذُوقُوا فَلَن نَّزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَاباً (30)‏ إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازاً (31) حَدَائِقَ وَأَعْنَاباً (32) وَكَوَاعِبَ أَتْرَاباً (33) وَكَأْساً دِهَاقاً (34) لَّا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلَا كِذَّاباً (35) جَزَاء مِّن رَّبِّكَ عَطَاء حِسَاباً (36) رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرحْمَنِ لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَاباً (37) يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفّاً لَّا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرحْمَنُ وَقَالَ صَوَاباً (38) ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَن شَاء اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآباً (39) إِنَّا أَنذَرْنَاكُمْ عَذَاباً قَرِيباً يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَاباً} [النبأ: 21 ـــــــ 40].
هذا بعضُ ما جاءَ في القرآن الكريم عن النَّار وجحيمها، وعن الجنَّة ونعيمها، وقد أنكر ابن عربي ذلك كلَّه، عندما اعتقد، وهماً وضلالاً، أن العذاب يكون في الجنَّة لا في جهنَّم، ويكون لذةً، ولا يحصلُ الإنسانُ في الآخرة إلاَّ على النعيم.. وما إنكار ابن عربي ـــــــ وكل الصوفية أمثاله ـــــــ إلاَّ معارضةٌ لحكمة اللَّه في خلقه، ولمشيئته في محاسبته لعباده؛ وهو إنكارٌ ما كان ليحصل، لولا عقيدة الصوفية في وحدة الوجود، وما أوحت لابن عربي من تضليل، حتى لم يعد يفرِّق بين وجود خالق ومخلوق وعبد ومعبود، وصار عنده «الكل واحدٌ، في محتوى وحدة الوجود» ليعفي نفسه من الطاعة مع الجماعة!!.
ومن خلال هذا الإنكار الإلحاديِّ، يتصدَّى ابن عربي للدفاع عن قوم نوح (ع)، وتأويل آيات القرآن التي صوَّرت حالهم، وما كانوا عليه من تكذيب نبيِّهم، واعتمادهم الوسائل والأساليب التي تبرر مواقفهم في الإصرار على الكفر، تأويلاً لا يتفق أبداً ومدلولات الآيات، ولا يتوافق إطلاقاً وحقيقة الأحداث التي تتناولها، ويبعد كل البعد عن الغايات التي تهدف إليها.. وعلى هذا الاساس فإنَّه يرى أن قوم نوح (ع) كانوا على حق، في حين أن نوحاً (ع) أراد بدعوته أن يفسد عليهم إيمانهم، وأن يمكر بهم حتى يخرجهم بمكره من النور إلى الظلام، ومن الهدى إلى الضلال!!... ويتبيَّن لنا هذا البطلان عند ابن عربي من خلال الوقوف على تفسيره لبعض آيات «سورة نوح».
يقول عن دعوة نوح (ع) لقومه جهاراً وإسراراً: «فلو أن نوحاً دعا قومه بين الدعوتَين لأجابوه، ولكنه دعاهم جهاراً ثم دعاهم إسراراً.. فنوح دعا قومه (ليلاً) من حيث عقولهم وروحانياتهم، فإنها غيبٌ؛ (نهاراً) دعاهم أيضاً من حيث ظاهر صورهم وحسِّهم.. وما جمع في الدعوة مثل {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} فنفرت بواطنُهم لهذا الفرقان، وزادهم فراراً... ثم إن نوحاً دعاهم ليغفر لهم لا ليكشف لهم، وقد فهموا ذلك منه عليه السلام، ولذلك جعلوا أصابعهم في آذانهم، واستغشوا ثيابهم، وهذه كلُّها صورة الستر التي دعاهم إليها فأجابوا دعوته بالفعل، لا بلبيَّك..» فاقتنع بهذا التأويل إن كان القرآن قد أُنزل بغير لُغتك أو إن كنت صاحب عقل وبصيرة....
ثم يقول عن الوعود التي كان نوح (ع) يُمنِّي قومه بها، لو هُمُ استجابوا لداعي الإيمان: {يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَاراً} وهي المعارف العقلية في المعاني والنظر الاعتباري، {وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ} أي بما يميل بكم إليه، فإذا مال بكم إليه رأيتم صورتكم فيه، ومن عرف منكم أنه رأى نفسه، فهو العارف، ولهذا انقسم الناس إلى غير عالِم وعالِم»!!..
وعن مكر قوم نوح(ع) به يقول: {وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً} لأنَّ الدعوة إلى اللَّه تعالى مكرٌ بالمدعو لأنه ـــــــ أي الله ـــــــ ما عدم من البداية فيدعى إلى الغاية... وقالوا: {لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلَا سُوَاعاً وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً}، فقالوا في مكرهم: إنهم إذا تركوهم (أي تذروا عبادة هذه الأوثان والأصنام) جهلوا عن الحق على قدر ما تركوا من هؤلاء، فإنَّ للحق في كل معبودٍ وجهاً، ويعرفه مَن عرفه، ويجهله مَن جهله»!!.
وعن إغراق الكافرين وإدخالهم نار جهنم، بسبب خطيئاتهم التي ارتكبوها يعتبر ابن عربي أن هذه الخطيئات هي التي خطت بهم فغرقوا في بحار العلم باللَّه وهو الحيرة.. والنار التي أدخلوها هي «في عين الماء» وفي المحمديّين .
ويتابع تأويل الآية نفسها، فيقول عن معنى قول اللَّه تعالى: {فَلَمْ يَجِدُوا لَهُم مِّن دُونِ اللَّهِ أَنصَاراً} [نوح: 25] . فكان اللَّه عين أنصارهم فهلكوا فيه إلى الأبد، فلو أخرجهم إلى السيف، سيف الطبيعة، لنزل بهم عن هذه الدرجة الرفيعة، وإن كان الكلُّ للَّه، وباللَّه، بل هو اللَّه»!!...
وعن دعاء نوح (ع) لربِّه تعالى ألاَّ يذرَ على الأرض أحداً من الكافرين حتى لا يُضِلُّوا عباده، لأنهم {وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِراً كَفَّاراً} [نوح: 27] ، يقول ابن عربي: «قال نوح: ربِّ، وما قال إلهي، فإن الربَّ له الثبوت والإلهُ يتنوع بالأسماء فهو كل يوم في شأن، فأراد بالربِّ ثبوت التكوين، إذ لا يصحُّ إلاَّ هو... {إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ}، أي: تدعهم وتتركهم {يُضِلُّوا عِبَادَكَ} فيخرجوهم من العبودية إلى ما فيهم من أسرار الربوبية، فيرون أنفسهم أرباباً، بعدما كانوا عند أنفسهم عبيداً، فهم العبيدُ الأرباب.. {وَلَا يَلِدُوا} أي ما ينتجون، ولا يظهرون {إِلَّا فَاجِراً} أي مظهراً ما ستر {كَفَّاراً} أي ستَّاراً لما ظهر بعد ظهوره، فيظهرون ما ستر ثم يسترونه بعد ظهوره، فيحار الناظر ولا يعرف قصد الفاجر في فجوره، ولا الكافر في كفره، والشخص واحد»...
تلك بعض تفسيرات ابن عربي في سورة نوح (ع).. فتأمل أيها القارىء الكريم في هذا التفسير، وعُدْ إن أردت التمتُّع بما جاء به هذا الشيخُ الصوفي، إلى كتابه «فصوص الحكم» حتى تجد العجب العجاب مما يذهب إليه، والذي يدلُّ ، بصورة لا تقبل الشك، عن مغالطته لآيات اللَّه تعالى، مغالطةً تحمل الكفر الصراح؛ وإنه لولا اعتقاده بفكرة وحدة الوجود، لما جاءَ بمثل تفسيراته تلك، ولما كان وقع فيما وقع به من ضلال.. ولكنها عقيدته الصوفية التي أملت عليه ذلك التحريف والتزوير لحقيقة رسول كريم، (نوح عليه السلام) بحيث قلبَ الحقائق رأساً على عقب، وتاهَ في غياهب النفاق والكفر..
ومن خلال مذهبه في «وحدة الوجود» كانت له نظرته الخاصة، في فكرتين أخريين من أفكار الصوفية، وهما «وحدة الأديان» و«الحقيقة المحمديَّة»، فماذا رأى في كلٍّ منهما؟..
3 ـــــــ نظرته في وحدة الأديان
ليست «وحدة الأديان» فكرة جديدة ابتدعها ابن عربي، فقد سبقه إليها متصوِّفون كثيرون، ولكن كان أبرزهم «الحلاج» الذي من خلال اعتقاده بالحلول، وجَدَ أن الاختلاف في العقائد الدينية، لا يعدو اختلافاً في وجهات نظر تهدف إلى حقيقة واحدة، وهي حبُّ اللَّه الذي يجب اتخاذه مذهباً، وبه تتوحَّدُ المعتقدات ولا يعود هنالك من فرق بين عقيدة وأخرى، حتى ولا بين عقيدة سماوية وعقيدة وثنية، وهذا ما قاده إلى الإعلان صراحة عن كفره بدين اللَّه، واعتناق الكفر ديناً.
ولعلَّ هذه النظرة استهوت ابن عربي، بعد بضعة قرونٍ، فاعتنقَها وأوَّلها وفقاً لأهوائه، معتبراً أن للإنسان أن يدين بما يراه، بل وله أن يدين بكل دينٍ.. وليس ما يمنَعُ عليه أن يعبُد الشيطان، أو أن يتخذ الكلب أو الخنزير «إلهاً» له.. لأنَّ ـــــــ في زعمه الضال ـــــــ الإله في «كل كائن من هذه الكائنات».... ولذلك فهو لا يتورَّع من أن يقول:
وما الكلب والخنزير إلاَّ إلهُنا وما الربُّ إلاَّ راهبٌ في كنيسة
ثم ينصح في كتابه (فصوص الحكم) بالاَّ يتقيَّدَ الإنسان بدين معين، لأن ذلك يجعله يكفر بالأديان الأخرى، وهذا ما يفوِّتُ عليه نفعاً كبيراً، وذلك النصح بقوله: «فإيَّاك أن تتقيَّد بعقد (ويقصد معتقد) مخصوص وتكفر بما سواه فيفوتك خيرٌ كثيرٌ، بل يفوتك الأمر على ما هو عليه. فكن في نفسك هيولى (أي قابلاً) لصور المعتقدات كلِّها، فإنَّ اللَّه تعالى أوسع وأعظم من أن يحصره عقد دون عقد، فإنه يقول: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ} [البقرة: 115]، فالكل مصيب، وكل مصيب مأجور، وكل مأجور سعيد، وكل سعيد مرضيٌّ عنه».. ولهذا فإنَّ ابن عربي يجعل عقيدته الدينية «جميع المعتقدات» وذلك بقوله:
عقدَ الخلائقُ في الإلهِ عقائداً وأنا اعتقدتُ جميعَ ما اعتقدوهُ
وطالما أنَّ عقيدته تلك جامعة لمعتقدات جميع الناس، فهي تشمل إذاً ديانات السماء، وعقائد الأرض كلَّها، بحيث لا يفرِّق بين وثنية قديمة، أو إلحادية جديدة، ولا بين إسلام أو نصرانية أو يهودية، بل هو في آنٍ معاً مؤمن ووثني، ومتديّن وملحد... ثم يؤدي عباداته لأي «ربٍّ» يختاره، ففي كل حين عنده ربٌّ، يراه مرةً في وثنٍ، وأخرى في حيوان، أو يراه راهباً في كنيسة... ثم لِمَ لا يراه في «نفسه» ويعبد «نفسه» طالما أنه يؤمن بوحدة الوجود من ناحية، وفي وجود الخالق بجميع الكائنات من ناحية ثانية؟!....
ومن منطلق هذا المعتقد، يعتبر ابن عربي أنَّ العبادات، والصلاة خاصة يجب أن تكون مشتركة من الناس، ومن اللَّه تعالى فطالما أنَّه (أي اللَّه تعالى) أمرنا أن نصلِّي له وأخبرنا أنه يصلِّي علينا، «فالصلاة منَّا ومنه، فإذا كان هو المصلّي فإنما يصلي باسمه الآخر، وإذا نحن صلينا كان لنا الاسم الآخر فكنَّا فيه».. وعلى هذا فإن المعبود والعابد، عند ابن عربي هما: «إن المعبود هو الجوهر الأزلي القديم المقوِّم لجميع صور الوجود المُفاضة بلا نهاية، أما العابد فهو الصور المتقوِّمة بهذا الجوهر: فكل صورة من الصور ناطقة بألوهية الحق، مسبِّحة بحمده، وكلُّ معبود من المعبودات وجهٌ من وجوهه، وأرقى أنواع العبادة هو التحقُّق بالوحدة الذاتية، بأنك أنت هو وهو أنت.. أنت هو من حيث صورتك، وهو أنت بالعين والجوهر، فإنه هو الذي يفيض عليك الوجودَ من وجوده»..
وهكذا لا يستطيع ابن عربي، حتى في كلامه عن وحدة الأديان، أن يتخلص من فكرة «وحدة الوجود» التي تطغى عليه، فتظهر في كلامه عن المعبود، والعابد، بحيث يكون أيُّ معبود ـــــــ صنم، حيوان، بشري... وجهاً من وجوه الحق ويرتقي في سلَّم العبادة حتى تحصل الوحدة.. وهو يبيِّن لنا كيف استقرَّ عنده الاعتقاد بوحدة الأديان، بعد أن بلغ درجة «العارف» بحيث يكون قلبه «هيكلاً لجميع المعتقدات والعبادات، ومرآة تنعكس عليها صور الوجود الحق» ويؤيد اعتقاده هذا بقوله:
لقد صار قلبي قابلاً كلَّ صورةٍ فمرعىً لغزلان وديرٌ لرهبان
وبيـــــتٌ لأوثانٍ وكعبــــــةُ طــــــــائف وألواحُ توراة ومُصحفُ قرآن
فهل بعدُ أوسع من قلبه ليقدر على استيعاب ذلك كله، دونما فرق بين أن يجعل هذا القلب وعاءً للوثنية، أم وعاء لدين من أديان الرسالات السماوية، أم لها جميعها، طالما أنه بتصوُّفه هذا قد «وصل إلى أعظم درجة في المعرفة، ونظر الوحدة في الكثرة، فوضَعَ الألوهية أو وضع معنى الحق في مكانه، أي في الواحد المعبود في صور جميع الآلهة المعبودين»؟!!...
4 ـــــــ الحقيقة المحمديَّة عند ابن عربي
ومثل فكرة وحدة الأديان، كانت النظرية التي ابتدعها الصوفية حول ما دعوه «الحقيقة المحمديَّة»، التي كان أحد شيوخهم القدامى، وهو الحلاج، أو من أوضح معالمها، عندما اعتبر أن «النور المحمديّ أشرق قبل أن يكون الخلق، ومنه استمد الأنبياء هديهم، والأولياء معارفهم»، ولذلك أطلق على نظريته اسم «النور المحمديّ»..
وتعتبر آراء الحلاج المصدَر الذي نهل منه جميع الصوفية من بعده، ومنهم ابن عربي، الذي اعتنقَ النظرية، وأبدى رأيه فيها، ولكن من دون أن يأتي بشيء جديد عمّا قاله الحلاج، وإنما صاغَها بأسلوبه الخاص الذي يتوافق مع نظريته في وحدة الوجود، وفسَّرها بأنها «النور الإلهي السابق عن كل ما خلق من فيض نوره»، كما سنرى... وللباحث أن يتساءل: لماذا اخترع الصوفية هذه النظرية؟ وهل جاءت أقوالهم فيها متوافقة مع الإسلام، ومع حقيقة محمد(ص) في إنسانيته ونبوَّته؟.
قبل أن نجيب على هذه الأسئلة، لا بدّ من معرفة ماهية الحقيقة لغةً واصطلاحاً، وكيف نفرّق بين الحقائق وبين الأحداث التي قد تتعلق بها، حتى نصل إلى المفهوم السليم ومن ثمَّ الحقيقة بنظر الصوفية، وكيف تَمَّ تطبيقها على الحقيقة المحمديَّة..
فالحقيقة لغةً هي ما أُقِرَّ في الاستعمال على أصله ووضعه، والمجاز ما كان بعد ذلك..
فحقيقةُ الشيء: خالصُه وكُنهه ومحضُه..
وحقيقةُ الأَمر: يقينُ شأنِه..
وحقيقةُ الرجل: ما يلزمه حفظه والدِّفاع عنه.
والحقيقة في تعاريف الفقهاء، هي اللفظ المستعمل فيما وضع له في أصل اللغة. فعندما نقول «الحق» أي ما أصله المطابقة والموافقة، ولهذا فإنَّ الحق يقال على أوجه:
الأول: يقال لموجِدِ الشيء بسبب ما تقتضيه الحكمة، كمثل «اللَّه هو الحق» لقوله تعالى: {فَذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ} [يونس: 32].
والثاني: يقال للموجَدِ بحسب مقتضى الحكمة، كمثل قول القائل: «فِعْلُ اللَّه تَعالى كلُّهُ حقٌ» لقوله تعالى: {مَا خَلَقَ اللّهُ ذَلِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ} [يونس: 5].
والثالث: يقال في الاعتقاد للشيء المطابق لما عليه ذلك الشيء في نفسه، كمثل الاعتقاد الحق بالبعث، والثواب والعقاب والجنة والنار، لقوله تعالى: {فَهَدَى اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ لِمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ} [البقرة: 213].
والرابع: للفعل والقول الواقع بحسب ما يجب، وبقدر ما يجب، وفي الوقت الذي يجب، كقولنا: فعلك حقٌّ وقوله حقٌّ، لقوله تعالى: {كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ} [يونس: 33]، إلى قوله تعالى: {حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ} [السجدة: 13].
والحقيقة في الاصطلاح مطابقةُ التصوُّر أو الحُكم للواقع. وهي بهذا المعنى اسم لما أُريد به حقُّ الشيء إذا ثبت، و«التاء» فيه للنقل من الوضعية إلى الاسمية..
والحقيقة قد تطلق على الشيء الثابت قطعاً ويقيناً تقول: هذه الشهادة مطابقة للحقيقة، وهذا الرجل يُسدل الستار على الحقيقة، ومن قبيل ذلك الحقيقة التاريخية، وتستعمل في الشيء الذي له ثبات ووجود كقول النبيِّ(ص) لحارثةَ: «لكل حقّ حقيقةً فما حقيقة إيمانك»؟.
والحقيقة هي أيضاً مطابقة الشيء لصورة نوعه أو لمثالِهِ الذي أريد له، أي أنها بهذا المعنى: ما يصير إليه حق الشيء ووجوبه، كأن تقول: لا يبلغ المؤمنُ حقيقة الإيمان حتى لا يعيب إنساناً بعيب هو فيه... أو أن تقول: هذه الصورة مطابقة للحقيقة وتريد بذلك أنها قد بلغت الغاية في تعبيرها عن الشيء...
وأخيراً فإن الحقيقة قد تعني الماهيَّة أو الذَّات، بحيث تكون حقيقة الشيء ما به الشيء هو هو كالحيوان الناطق للإنسان.
هذه مفاهيم الحقيقة والتي قد تستعمل في الاعتقاد، أو في العمل، أو في القول..
وبناءً على هذا فإنَّ الحقيقة هي من حيث مدلولها العقلي والاصطلاحي هي الفكر الذي ينطبق على الواقع المحسوس. وإنَّ الأفكار ـــــــ جميع الأفكار ـــــــ لا يمكن أن تشكّل حقيقةً ما لم يكن هنالك انطباقٌ للفكر على الواقع المحسوس الذي يدلّ عليه، فإنْ وجدت هذه المطابقة كان الفكر حقيقة، وإن لم تكن هنالك مطابقة لم يكن الفكر حقيقة. وعلى هذا فإنَّ التفكير بالحقيقة لا يعني القيام بالعملية العقلية وحسب، بل لا بدّ لإظهار الحقيقة من تطبيق الفكر الذي نتج عن العملية العقلية على الواقع المحسوس، فلا يقال مثلاً: إن هناك أشياءَ لا يمكن معرفة انطباق الواقع عليها لأنها لا تُحسُّ. فلا يقال ذلك لأنَّ شرط التفكير بحقيقة الواقع الإحساس به، فما لم يحصل هذا الإحساس بالواقع لا يمكن أن يتكوَّن الفكر، وبالتالي لا يمكن الوصول إلى الحقيقة.. ومن هنا فإنَّ الإيمان بالله سبحانه وتعالى ليس مجرد فكرة، أو أنه ناتج عن التفكير به عقليّاً وحسب، لأنَّ حقيقة وجود اللَّه سبحانه وتعالى نحسها ونلمسها في كل خلقِهِ، ونستمدها من الواقع الذي يقعُ عليه بصرُنا وسمعُنا، وفي كلِّ ما نفكر به وندركه....
اسمع قوله تعالى: {وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ (20) وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (21) وَفِي السَّمَاء رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ (22) فَوَرَبِّ السَّمَاء وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ} [الذاريات: 21 ـــــــ 23]. وقوله تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ} [آل عمران: 190 ـــــــ 191].
إذن فوجودُ اللَّه سبحانه وتعالى حقيقة مستمدةٌ من الواقع ومن الإحساس بهذا الواقع، أما «ذات اللَّه»، فلأنها لا تقع تحت الحسّ، فإنه لا يمكن الحُكم عليها، بل ولا نستطيع أن نحكم عليها لأننا لا نعرف شيئاً عن حقيقة الذَّات الإلهية. وكلَّما أمعنا فكرنا لنصل إلى حقيقة ذات اللَّه، فإنا لا نقع إلاَّ على جهالة عمياء..
وهكذا نصل إلى نتيجة حتمية وهي أن الحقيقة لا يمكن أن تكون حقيقة ما لم يجر التفكير بها عن طريق العقل أولاً، ثم يأتي هذا الفكر منطبقاً على الواقع المحسوس الذي يدلُّ عليه أو يتناوله، وهذا أمرٌ هامٌ لا بدَّ أن يعيَهُ الناسُ جميعاً، أفراداً وجماعات وأمماً، وخاصة أولئك الذين يتحمَّلون مسؤوليات، أيّاً كانت هذه المسؤوليات، صغيرة أم جسيمة، لأنَّ الأفكار كثيراً ما تكون سبباً للخطأ وللانحراف عن الحقيقة، بل والوقوع في مغالطات. وهذه المغالطات إما أن تحصل في الحقائق، وإما أن تصرف عن الوصول إلى الحقائق..
فالمغالطات في الحقائق تحصل من جراء التشابه الذي لا يمكن التفريق معه بين حقيقة وحقيقة، ومن ثَمَّ اتخاذ هذا التشابه أداةً لطمس الحقيقة الرئيسية، أو باستعمال حقيقةٍ معيَّنةٍ لطمس حقيقة أخرى، أو بالتشكيك في حقيقة ما على أنها ليست حقيقة، أو باعتبارها حقيقةً في ظرفٍ وغَير حقيقةٍ في حال تغيرُّ هذا الظرف...
فلو قلنا: إن اليهود أعداء للمسلمين، فهذا حقيقة.. وإن قلنا: إن اليهود أعداء لأهل فلسطين هو حقيقة أيضاً.. ولكنَّ التشابه والتداخل في هاتَين الحقيقتَين أديَّا إلى المغالطة التي جعلت حقيقة العداء بين اليهود وأهل فلسطين هي البارزة والظاهرة، مما أدَّى إلى أن تطمس حقيقة العداء بين اليهود والمسلمين؛ ولعلَّ هذا الطمس، أو تعمّده هو الذي جرَّ إلى وجود علاقات ـــــــ بشكل أو بآخر ـــــــ بين دولة اسرائيل وبعض دول المسلمين..
أما المغالطات التي تصرف عن الحقائق فهي تكون إما أفكاراً صارفة أو أعمالاً صارفة.. فمثلاً كون الأمة ـــــــ أية أمة ـــــــ لا تنهض إلاَّ بالفكر هو حقيقة؛ ولكنْ بتطبيق هذه الحقيقة على واقع الأمة الإسلامية ولكي تصرف عن التفكير الذي يراعي وجودها السليم ويحافظ عليه نجد أنَّ هنالك تشجيعاً في ديارها للأعمال المادية التي تقوم على الثورات المسلحة أو الاحتجاج عن طريق الإضرابات أو المظاهرات بحيث غدت هذه الأمور وأمثالها مشكلات معوِّقة للنهوض، مما جعل المسلمين يشتغلون بها، ويبتعدون عن التفكير أو عن إيجاد نهضة فكرية.. وهكذا طُمست الحقيقة الأولى التي تقول بأن الأمة لا تنهض إلاَّ بالفكر، وحلَّ محلها عند المسلمين: أنَّ أمتهم لا تنهض إلاَّ بهذه الأساليب الواهية، بالثورة المادية.. أي الثورة التي يسهل القضاء عليها حال تحرُّكها، أو تفجيرها من الداخل قبل نضوجها..
فالمغالطات في الحقائق خطيرة، ولذا كان لا بدّ من الانتباه لهذه المغالطات لكي يمكن تلافي محاذيرها، ومن ثَمَّ التمسك بالحقائق، بل والقبض على الحقيقة بيدٍ من فولاذ، وهذا لا يكون إلاَّ نتيجة للتعمق في التفكير، والإخلاص في هذا التفكير، ثم اعتماد الواقع ـــــــ إنْ لتغييره أو لتحسينه ـــــــ أساساً لجعل الأفكار الناتجة مطابقة عليه.. ومن هنا كانت ضرورة الانتفاع بحقائق التاريخ، ولا سيما الحقائق الأساسية منها وعدم الخلط ما بين حقائق التاريخ الثابتة، وبين أحداث التاريخ التي تكون وليدة ظروف معينة، والتي لا يصح أن تطبق في ظروف مختلفة عن ظروفها، مما يبعد بها عن معنى الحقائق..
فمثلاً كون المسلمين لم ينهزموا مرةً في التاريخ عندما كانوا يقاتلون بإخلاص في سبيل الإسلام هي حقيقة تاريخية؛ وكون فكرة القومية هي التي زعزعت كيان المسلمين هي أيضاً حقيقة تاريخية.. ولكن انهزام العثمانيين في أوروبا وفي الحروب التي خاضوها تحت لواء القومية العثمانية، هي من أحداث التاريخ.. فالذي حصَلَ أنه كانت هنالك نظرة واحدةٌ إلى حروب العثمانيين بحيث أهملت فيها حقائق التاريخ حتى اختلطت بالأحداث التي رافقتها؛ وبحيث لم نعد نفرِّق بين انتصار العثمانيين كمسلمين وكدولة إسلامية وهي الحقيقة، وبين انهزام تركيا عندما قاتلت على أساس قوميٍّ، وهو الحدث التاريخي... على أن التفكير بالحقائق يجب ألاَّ يقتصر على حقائق التاريخ وحدها ـــــــ وإن كانت هي من أغلى ما لدى الإنسان ومن أعلى أنواع الأفكار ـــــــ بل يجب أن ينصبَّ على جميع الحقائق التي تكون لها آثارها الهامة في حياة الأفراد والشعوب والأمم.. ولذلك لا بدّ من التفكير بالحقائق، ولا بدّ من القبض على الحقائق بيدٍ من فولاذ...
تلك هي مجمل المفاهيم المتعلقة بالحقيقة فما مدى انطباق هذه المفاهيم على معتقدات الصوفية عامة وعلى «الحقيقة المحمديَّة» بصورة خاصة؟.
إن الحقائق في نظر الصوفية ثلاث:
الأولى: حقيقة مطلقة، فعَّالة، واحدة، عالية، واجبة الوجود بذاتها، وهي حقيقة اللَّه تعالى.
والثانية: حقيقة مقيَّدة، متعدِّدة، سافلة «بمعنى هابطة»، قابلة الوجود من الحقيقة الواجبة بالفيض والتجلِّي، وهي حقيقة العالم.
والثالثة: حقيقة أحديَّة، جامعة بين الإطلاق والتقيُّد، والفعل والانفعال، والتأثير والتأثُّر، أي أنها مطلقةٌ من جهة ومقيَّدةٌ من جهة أخرى؛ فعَّالةٌ من ناحيةٍ، ومنفصلة من ناحية أخرى، ونجد تطبيقها عندهم في «الحقيقة المحمدية»...
إذن، وبمقتضى هذا التقسيم، نظروا إلى الحقيقة المحمديَّة على أنها «نور إلهي» أو أنَّ محمداً (ص) يجمع بين صفات الإله وصفات المألوه، ولذلك يقول أحد شيوخهم القدامى عن النبيِّ (ص): «اعلم أن أنوار المكنونات كلها عرش وفرش، وسماوات وأراضي، وجنات وحجب، وما فوقها وما تحتها، إذا جمعت كلها وجدت بعضاً من نور النبيِّ. وأن مجموع نوره (ص) لو وضع على العرش لذاب، ولو وضع على الحجب السبعين التي فوق العرش لتهافتت؛ ولو جمعت المخلوقات كلها، ووضع ذلك النور العظيم لتهافتت وتساقطت»!!...
ونظرة ابن عربي، لا تختلف عن هذا كثيراً، وهي تتلخص بأنَّ اللَّه تعالى عندما «بدأ الخلق من الهباء كان أول موجود فيه الحقيقة المحمديَّة الرحمانيَّة، الموصوفة بالاستواء على العرش الرحمانيِّ، وهو العرش الإلهي، لا يحصرها (أَيْنٌ) لعدم التميّز، ووجدت في الهباء على المثال القائم بنفس الحق المعبَّر عنه بالعلم به، وقد وجد لإظهار الحقائق الإلهيَّة التي أوجدتها الحقيقة المحمديَّة»!!..
ويوضح ابن عربي نظريته تلك عندما يقول: «إن محمداً (ص) لما أبدعه اللَّه تعالى حقيقةً مثليَّة، وجعله نشأةً كليَّة، حيث لا أَينَ ولا بَيْنَ، قال له: أنا الملك وأنت الملك، وأنا المدبِّر وأنت الفلك، وسأقيمك فيما يتكوَّن عنك، سايساً ومدبراً، وناهياً وآمراً، تعطيها مما قد أعطيتك، وتكون فيها كما أنا فيك؛ فلست سواك، كما لست سواي، فأنت صفاتي فيهم وأسمائي؛ فتفصَّد (أي النبيَّ عليه وعلى آله أفضل الصلاة والسلام عندما سمع هذا القول) عرقاً، فكان ذلك العرق الطاهر ماءً، وهو الماء الذي نبَّأ به الحق تعالى في صحيح الأنباء، فقال سبحانه: {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء}!!.
ويمضي ابن عربي في هذا التصوُّر الخادع، لما يدّعيه الحقيقة المحمديَّة، فيقول: «ثم انبجست منه صلى اللَّه عليه وآله وسلم عيونُ الأرواح، فظهر الملأ الأعلى وهو بالمنظر الأجلى، فكان محمد (ص) الجنيس العالي لجميع المخلوقات، والأب الأكبر لجميع الموجودات والناس. فخلق اللَّه من ذلك النور المنبعث منه العرشَ، وجعله مستواه، وجعل الملأ الأعلى وغيره محتواه»..
وبمقتضى ما ذهب إليه ابن عربي، نجد أن للنبيِّ (ص) صفتَين: فمن ناحية له مقام الألوهيَّة وعنه انبثق الكون بكل ما فيه، بل أعطي الأمرَ والنهيَ، ومن ناحية ثانية أنه مخلوق للَّه تعالى، لأنه نشأ عن الحق...
وعندما يريد أن يتطرق إلى المخلوقات، يقول: «قال اللَّه تعالى للنبيِّ (ص): فأنت صفاتي فيهم وأسمائي» ثم يختار ابن عربي من هذه المخلوقات الأنبياء والأولياء حتى يصل إلى النتيجة التي يريدها وهي أن يجعل الوليّ في مرتبة تتقدم، بل وتعلو على مرتبة النبيّ.. ولذلك فهو يقول: «وليس هذا العلم ـــــــ أي علم الكشف عند الصوفية ـــــــ إلاَّ من مشكاة الرسول الخاتم، كما أنه لا يراه أحدٌ من الأولياء إلّا من مشكاة الوليِّ الخاتم؛ حتى أنَّ الرسل لا يرونه إلاَّ من مشكاة خاتم الأولياء... والرسالة تنقطع والولاية لا تنقطع أبداً. والمرسلون من حيث كونهم أولياء لا يرون ما ذكرناه إلاَّ من مشكاة خاتم الأولياء، وفي الحديث: «كنت نبياً وآدم بين الماء والطين»..
وهكذا يصل إلى تحديد الوليِّ، وما له من منزلة لا يبلغُها النبيُّ، فيقول عن النبيِّ محمَّد (ص) كما جاء في الحديث الشريف عن جابر بن عبد اللَّه عن رسول اللَّه (ص) قال: «إنما مثلي في الأنبياء كمثل رجل بنى داراً فأكملها وحسنّها إلا موضع لبنة، فكان من دخل فيها فينظر إليها قال: ما أحسنها إلا موضع هذه اللبنة، قال: (ص): فأنا موضع اللبنة ختم بي الأنبياء» حديث صحيح أورده البخاري ومسلم في الصحيحين.
غير أن ابن عربي قال: إن محمداً (ص) لا يراها إلاَّ لبنة واحدة.. وأما خاتم الأولياء فلا بدّ له من هذه الرؤية، فيرى ما مثَّل به رسول اللَّه (ص) ويرى في الحائط موضع لَبنتَين، فلا بدّ أن يرى نفسه تنطبع في تلكما اللَّبنتَين، فيكمل الحائط، فإنه يرى الأمر على ما هو عليه؛ فإنه آخذ من المعدن الذي أخذ منه الملك الذي يوحى بواسطته إلى الرسول»...
وهذا يعني ـــــــ في نظر ابن عربي ـــــــ أنه هو اللَّبنة الثانية وأنَّ الولي لا يأخذ علمه، ولا دينه، عن النبيِّ متابعةً له، ولكنه يأخذ عن اللَّه تعالى مباشرةً، حتى دون وساطة جبرائيل عليه السلام. وهذا هو مفهوم العلم اللَّدُني، الذي قال به بعض شيوخ الصوفية، معتبرين أن اللَّه تعالى فضَّلهم به على النبيِّين والمرسلين، وهم يتلقَّون هذا العلم عنه تعالى مباشرةً، في حين أن النبيين والمرسلين يتلقَّون عن طريق الوحي، وبواسطة جبرائيل عليه السلام أو غيره من الملائكة!!... ويرى ابن عربي أنَّ اللَّه تعالى خصَّ أولياء الصوفية بالعلم اللَّدُني حتى يكونوا هم خلفاؤه في الأرض، ولذا فهو يقول: ـــــــ أي الأولياء ـــــــ «من يأخذ عن اللَّه فيكون خليفة من اللَّه بعين ذلك الحُكم»!!..
ويتفاوت شيوخ الصوفية في نظرتهم إلى الحقيقة المحمديَّة، وذلك عندما يعتبر بعضهم أنَّ الأولياء أعلى مرتبة من الأنبياء، بينما يعتبر البعض الآخر أن الأنبياء والأولياء، وإن كانوا متفاوتين في الكمال، بحيث يكون منهم الكامل والأكمل، إلاَّ أنه لم يتعينَّ أحدٌ منهم بما تعينَّ به محمد (ص) في الوجود من الكمال الذي قطع له بانفراده منه.. ولكنهم يعودون ويلتقون جميعهم على أن (القطب) عندما يبلغ مرتبة الولي، فإنه يصبح قادراً على أن يتصرف في العالم كلِّه، لأنه يستمد قدراته من «الرسول الولي» الذي هو في نظرهم الرسول الأعظم (ص).. ولذلك ذهب ابن عربي في مقدمة كتابه (فصوص الحكم) إلى أنه اجتمع بالنبيِّ وهو الذي أعطاه كتاب الفصوص، كما يزعم قائلاً: «أما بعد، فإني رأيت رسول اللَّه (ص) في مبشرة (أي بشرى) أُريتها في العشر الأخير من محرم سنة سبع وعشرين وستماية بمحروسة دمشق وبيده كتابٌ، فقال لي: هذا كتاب فصوص الحكم خذه واخرج به إلى الناس ينتفعون به. فقلت: السمع والطاعة للَّه ولرسوله، ولأولي الأمر منَّا، كما أُمرنا؛ فحققت الأمنيَّة وأخلصت النيَّة، وجرَّدت القصد والهمَّة إلى إبراز هذا الكتاب كما حدَّه (أي بيَّنه) لي رسول اللَّه (ص)، من غير زيادة ولا نقصان: فمن اللَّه فاسمعوا، وإلى اللَّه فارجعوا»..
وليس هذا الادِّعاء من ابن عربي، بأنَّه تلقّى كتاب (فصوص الحكم) عن النبيِّ، بلا زيادة ولا نقصان، إلاّ وكأنه «كتاب سماوي» أنزلَهُ اللَّه تعالى عليه بواسطة رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وآله وسلَّم، وإلاَّ فما معنى قوله: «فَمِنَ اللَّه اسمعوا»؟!.. أوليس في هذا خروج فاضحٌ على الدِّين؟!.
وكيف يستقيم هذا الادعاء مع إعلان اللَّه تعالى لنبيّه وللمسلمين وسائر العالمين بأنه أكمل دينه وأتَمَّ نعمته بهذا الإكمال العزيز المهيب وذلك بقوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً} [المائدة: 3].
وهل يعني ادعاؤه ذاك، غير أن شريعة اللَّه تعالى لم تكتمل في القرآن، فأوحى إليه ذلك الكتاب الذي أقلُّ ما يقال فيه إنه يناقض القرآن نصّاً وروحاً، ويدعو إلى الفسق والإلحاد والنفاق؟!..
ثم مَن هو هذا المدَّعي المنافق المجدِّف على اللَّه تعالى ورسوله(ص) الساخر بدينه وبوحيه وكتابه، حتى يكون له ذلك المقام، وتلك المكانة الرفيعة عند اللَّه تعالى حتى يجتبيه دون جميع صحابةِ رسول اللَّه (ص) وأهل بيته، الذين رضي اللَّه تعالى عنهم ورضوا عنه، فكانوا الأجلاء، الأتقياء، والمجاهدين، الحامدين، الداعين للعقيدة والدين. أليسوا هُمُ الذين حملوا هذا الدين القويم وجاهدوا في سبيل إيصاله لنا من بعد الرسول الكريم (ص) بكل أمانة وإخلاص؟ هؤلاء الصحابة الكرام لم يقل أحدٌ منهم أبداً بأنه خُصَّ بعد رسول اللَّه (ص) بعلمٍ أو بفضلٍ يعلو على علم الرسول الأعظم وفضله؟! ومع ذلك، أتى هذا الغجري الذي قيل إنه ابن عربي، في القرن السابع الهجري يقول: إن رسول اللَّه (ص) أعطاه كتاب (فصوص الحكم) حتى يخرج به إلى الناس كي ينتفعوا به!!...
إنَّ هذه الافتراءات والادعاءات والمغالاة هي التي جعلته عرضةً للنقد والاتِّهام بالزندقة والكفر. فمن الذين حملوا على ابن عربي، لَمِا أورده في كتابه (فصوص الحكم) ما ذكره العالم برهان الدين البقاعي في كتابه (مصرع التصوف) من أنَّ العلاَّمة جمال الدين بن هشام (صاحب المغني) الذي كتب نسخة من فصوص الحكم (كما يورد البقاعي) ما نصه:
هـــذا الــــذي بضلالـــه ضلَّت أوائل مع أواخر
من قال فيـــــه غيرَ ذا فلينأَ عني، فهـــو كافــــر
هذا كتاب فصوص الظلم، ونقيض الحكم، وضلال الأمم. كتاب يعجز الذم عن وصفه، وقد اكتنفه الباطل من بين يدَيه ومن خلفه. لقد ضلَّ مؤلفه ضلالاً بعيداً، وخسر خسراناً مبيناً لأنه مخالف لما أنزل اللَّه به رسلَهُ، وأنزلَ كتبَهُ، وفطر عليه خليقته»...
نعم، إنَّ ابن عربي، قد ضلَّ فعلًا بمعتقداته الصوفية التي جاءت مخالفة لكتاب اللَّه، وسنَّة رسوله... وليست نظرته إلى الحقيقة المحمديَّة، إلاَّ من باب التفلسف الصوفي، الذي لا ينطبق بتاتاً على حقيقة محمد (ص) من حيث كونه بشراً سويّاً، ورسولاً من اللَّه، وخاتماً للنبيين.. فما دامت حياة محمد (ص) حقيقةً ثابتة في زمانه، وسيرةً دائمة في أمته؛ وما دام كتاب اللَّه، يبيَّن من هو محمد (ص) وما هي المهمَّة التي نُدبَ إليها من ربِّه...؟ ما دام ذلك كله ثابتاً وواضحاً عند جميع الناس، مسلمين وغير مسلمين، فلماذا كانت تلك النظرة الصوفية إليه، التي هي في ظاهرها مدح له ورفع لمكانته ـــــــ مع أنها في الواقع لا تحيد عن المغالاة التي تخرجها عن حدّ المعقول، وتشوّه صورة هذا الإنسان الكامل، والنبيِّ العظيم، حتى تخرجه من بشريته، ونبوَّته، لتضعه في مقام «الألوهيَّة»، فيكون في وحدة مع ذات اللَّه عزَّ وجلَّ؟!... بل يكون نور اللَّه الذي تفيض منه الموجودات كلها؟...
لا، لم يكن محمد (ص) على هذا الشكل، ولم تكن له تلك الصورة، التي رسمها له الصوفية... فما محمد(ص) ـــــــ كما عرفَهُ أهل زمانه، وكما حفظ ذكره القرآن، وكما روَى سنته أصحابُهُ وأهل بيته ـــــــ إلاَّ بشرٌ، يأكل الطعام، ويمشي في الأسواق، ويتزوج، وينجب... بحيث يخضع لسنن الحياة التي خلقها اللَّه تعالى، كما يخضع لها سائر هؤلاء البشر، ويعيش مثلهم، ويموت مثلهم...
صحيح أنَّ محمداً (ص) كانت له صفات وشمائل رفعته في أنظار أهل مجتمعه إلى مرتبة لم يصلها غيره من حيث خُلُقِهِ، واستقامته، وصدقه وأمانته، ومن حيث مناقبيته وصلاح نفسه؛ ولكنَّ ذلك لم يخرجه عن طبيعته البشرية، بل هيَّأته لحمل الأمانة الكبرى، وجعلته مؤهلاً للدعوة الخالدة فشملته عناية اللَّه ورعايته حتى يكون المثَلَ الصالح والأسوة الحسنة، ويكون فيما يصيبه من أفراح وأتراح مثالاً للآخرين يقتدون به، فلا تغرَّنهم زينة الحياة الدنيا بغرورها، ولا ييأسوا ولا يقنطوا من رحمة اللَّه إذا حلَّت بهم النوائب، وذلك كله مصداقٌ لقوله تعالى فيه، وهو يخاطب الناس: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} [الأحزاب: 21].
وإذا كان اللَّه سبحانه وتعالى قد اختاره نبيّاً ورسولاً لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً (45) وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُّنِيراً} [الأحزاب: 45 ـــــــ 46]. فإنَّ ذلك لا يعني خروجه عن طبيعته البشرية، ولا ابتعاده عن صفاته الإنسانية بل هو تأكيدٌ لبشريته ولرسالته على حدٍّ سواء، وذلك لقوله تعالى: {قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إَلاَّ بَشَراً رَّسُولاً} [الإسراء: 93] وما إلى ذلك من الآيات الكريمة، التي تبيِّن حقيقة محمد (ص)، هذه الحقيقة التي لا تتعدى حالتين:
ـــــــ حالته في جنسه البشري.
ـــــــ وحالته في نبوَّته ورسالته.
فهل يجوز إذاً أن نتقوَّل على اللَّه وعلى رسوله، وأن نستنبط النظريات، ونبتدع الأفكار التي تخالف الحقيقة والواقع؟ وهل الحقيقة المحمديَّة وواقعها إلاَّ ما يشهد به تاريخُ محمد (ص) وسيرتُه الشريفة، وما يؤكّده كتابُ اللَّه المبين الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه!...
إنَّ هذه ولا ريب هي حقيقة محمد (ص)، فلِمَ يذهبُ ابن عربي، ومتفلسفة الصوفية إلى أبعد من هذه الحقيقة، حتى ينسجوا نظريات تخرج بهم عن دين اللَّه الحق، وتنأى بهم عن الحقيقة المحمديَّة، كما حدَّدها القرآن، وكما شهدها ألوف الناس على حياة عينه (ص)؟...
إذن فمن حيث كون محمد (ص) بشراً، أمرٌ لا خلاف فيه، ولا يقبل العقل أيَّ جدالٍ حولَه؛ وكذلك بالنِّسبة إلى كونه رسولاً، وحاملاً رسالة الإسلام، فهذه أيضاً حقيقة أخرى لا تقبل الشك، ودليلُها حقيقة القرآن بين ظهرانينا، والأمة الإسلامية في وجودها كله...
والرسالة التي حملَها محمد (ص) كانت مهمَّةً محدَّدة له من اللَّه تعالى، يبلِّغها إلى الناس دون زيادة أو نقصان. وقد حمل الأمانة وأدَّاها (ص) فعلاً وقولاً، وعمل على نشرها بكل إخلاص وتفانٍ، فأرضى اللَّه ربَّهُ وصلّى اللَّه تعالى عليه في عليائه. حتى أنَّه أمر جميع عباده المؤمنين بالصلاة والسلام عليه وذلك بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب: 56] .
أما المعجزات التي رافقت حمله الرِّسالة، فإنها كانت كسائر المعجزات التي رافقت حملَ غيره من النبيِّين والمرسلين لرسالات اللَّه إلى العباد... فإنَّ ضَرْبَ محمد (ص) الصخرة، يوم الخندق، في واقعة الأحزاب وظهور نورٍ تحت ضرباته تلك، أضاء كل ما حوله، حتى رأى النبيُّ (ص) من خلالi أنَّ اللَّه ـــــــ عزَّ وجلَّ ـــــــ فتح عليه بلاد اليمن، وبلاد الشام والمغرب، وظهرت له قصور قيصر وقصور كسرى، التي سيفتحها المسلمون من بعده... إنَّ هذه المعجزة هي مثل معجزة إنزال المائدة من السماء إلى المسيح عيسى ابن مريم عليهما السلام ومثل معجزة فلق البحر وشقِّه بعصا موسى عليه السلام، وغيرها من المعجزات التي أوتيت للأنبياء ـــــــ بإذن اللَّه تعالى ومشيئته ـــــــ من أجل تدعيم الرِّسالة التي يحملها كلُّ نبيٍّ ودفع الناس للإيمان بما يدعوهم إليه... وتشكل الرِّسالات السماوية التي حملها الأنبياء والمرسلون الحقائق التاريخية، في حين أن تلك المعجزات التي كانت تحصل، والتي كانوا يظهرونها للناس، إنما تشكل أحداثاً تاريخية رافقت ظروف كلِّ دعوة، وأجواءها التي كانت تحيط بها...
هذا هو المفهوم الصحيح الذي يجب أن ندرك به حقيقة محمد (ص)؛ أما أن نعتمد تلك المفاهيم المغلوطة التي قال بها الصوفية، فهو الخطأ بعينه، ولعلَّ استجابة الكثيرين من الناس للمغالطات الصوفية، إنما كان بسبب الانحطاط الفكري الذي بلغ أشدَّه عند المسلمين منذ القرن السادس الهجري، عندما كثر التأويل للآيات القرآنيَّة، والأحاديث النبويَّة، بتحميل المعنى أكثر من طاقته وبإخراجه عن حقيقته اللغوية والشرعية، وذلك كي يتسنى، لأولئك العابثين بالمعاني الإسلامية، التوفيق بين الأفكار الإسلامية والأفكار الصوفية والفلسفات الأجنبية... وهذا ما أدى إلى ظهور المغالطات وصرف الناس عن الحقائق التاريخية واستمرارها إلى يومنا هذا، بحيث ما تزال تفعل فعلها في التأثير على المسلمين، وإبعادهم عن حقائق عقيدتهم الإسلامية...
ولم تكن محاولات ابن عربي في تفسير «الحقيقة المحمديَّة» إلاَّ ضرباً من المغالطة التي تصرفُ المسلمين عن حقيقة النبيِّ الرسول، والإنسان المخلوق، بحيث تجعله نموذجاً آخر، يختلف كلَّ الاختلاف عن خلْقه الذي أراده اللَّه تعالى عليه... إلاَّ أن الحقيقة من حيث هي، تبقى حقيقة دامغة، ولا يمكن للتأويلات أو المغالطات أن تشوِّهها أو أن تحرِّفها أو تطمسها... ولذا وجدنا عند أهل العلم، من الشرق ومن المغرب، مَن عرف حقيقة محمد(ص) فأبانهَا بوضوح وصراحة، لا ليؤكّد هذه الحقيقة ـــــــ لأنها لا تحتاج إلى تأكيد ـــــــ بل ليدحض آراء الصوفية، ويسفّه أحلامهم وأحلامَ كل من ينحون نحوهم، وأحد أهل العلم هؤلاء كان المؤرخ فيليب حتي الذي لم يتوانَ عن اتِّهام الصوفية بالدَّس على رسول اللَّه(ص) عندما يقول في كتابه (تاريخ العرب ـــــــ الجزء الأول ـــــــ ص 177): «والعقيدة الثابتة في باب الإيمان عند المسلمين، هي أن محمداً رسول اللَّه، وخاتم النبيين؛ وفي علم الإلهيات القرآني ليس محمد إلّا بشرًا لم يتم اللّه على يده من العجائب غير إعجاز القرآن... إلاَّ أن التقاليد والأساطير التي اصطنعها العامة من بعده بدسائس الصوفية ـــــــ نسجت حول هامة الرَّسول هالة من النور الإلهي»... ويأتي رأي صادق من الغرب، ليدحض الخرافات التي أشاعها الصوفية حول النبيِّ (ص) وحول الأولياء، عندما يقول المستشرق هينوش بيكر: «من الثابت أن الغنوص (أي الغباء والجهل) قد أثر في إيجاد هذه الصورة التي صورتها العصور الوسطى الإسلامية المتأخرة لمحمد، وكان ذلك سبباً في إيجاد ما يشبه عبادة محمد... وهذه العبادة، وتلك الصورة مخالفتان لما كان عليه الإسلام الأول كل المخالفة...
أما الأولياء في الإسلام ـــــــ عند الصوفية ـــــــ فهم في مقابل الأرواح القدسية في الهلينية (معتقدات في الكائنات الروحية يدعون أنها تتوسط بين الذات الإلهية والذوات الأخرى). حتى أن محمداً ـــــــ وهو نموذجهم الأعلى ـــــــ ينتهي بأن يصبح هو العقل الموجود منذ الأزل، وأن يكون هو الرَّحيم المخلص القدير... وعن طريق هذا المذهب، انقلبت فكرة الوحي التي كانت موجودة في الإسلام الأول إلى ضدها»...
هذا وغيره، مما قاله بعض علماء المسلمين وغير المسلمين، في معتقدات بعض الصوفية، وخاصة فيما يعود منها إلى «الحقيقة المحمديَّة»... وكأنَّ محمداً (ص) كان بحاجةٍ إلى أولئك الواهمين، العابثين، المنافقين، لكي يظهروا حقيقته، في حين أنه (ص) ملأ سمع الدنيا وبصرها؛ ببشريته وإنسانيته، ونبوَّته ورسالته... ويكفي أن يكون القرآن ـــــــ كتاب اللَّه الدائم ـــــــ هو الناطق بالحق على حقيقة محمد، حتى تخرس ألسنة اولئك الغاوين، وتتوارى ضلالاتهم الشاذة... إذ لا يمكن لمن ملأ الكفرُ قلبَه، واحتوى الوهمُ فكرَه، وتلبَّس ادِّعاء إدراكه أن يعي الحقيقة، في أيَّة صورة كانت هذه الحقيقة، وأيّاً كان المجال الذي تعنيه... وليس الصوفية إلاَّ جُهَّال للحقيقة على ما يبدو، فقد شاؤوا أن يتفلسفوا في ادّعاء حبهم للنبيِّ(ص) فجاء هذا الحبُّ في نطاق ذلك الادِّعاء ضرباً من الكفر، يمقته اللَّه تعالى، ويمجّه العقل الرزين، وينكره الرسول الأمين ويشجبه جميع المؤمنين الصادقين...
هذه فكرة محيي الدين بن عربي حول «الحقيقة المحمديَّة»، وتلك آراؤه حول غيرها من المذاهب الصوفية، التي جهد في أن يكون محورها «وحدة الوجود» على أن تتفرع من هذا المحور نظريات أخرى عديدة، تدور في مجملها حول المعرفة، أو وحدة الأديان، وما إلى هنالك من مقولات صوفية، كانت في ظاهرها نوعاً من محاولات التوفيق بين الإسلام والفلسفات الأجنبية، بينما هي في حقيقتها ضروب من الكفر والإلحاد، حتى أن أحد أقطابهم وهو التلمساني لم يتورَّع عن الإدلاء بكل جرأة ووقاحة بقوله: «القرآن كله شرك، والتوحيد في كلامنا»...
فإلى الذين تستهويهم آراء ابن عربي، ويسيرون على منهجه ويرون شفاعته يوم القيامة؛ وإلى أولئك الذين يتعبدون (بفصوص حِكمِه) وبفتوحاته المكِّية، أو بديوان شعره، وما ترك من مخلَّفات إلى هؤلاء نقول، كما قال الأستاذ عبد الكريم الخطيب في كتابه (التصوف والمتصوفة في مواجهة الإسلام): «انظروا فيما أنتم فيه، مما امتلأت به رؤوسكم من مخلفات ابن عربي، ثم ردُّوا هذا إلى كتاب اللَّه، وإلى سنَّة رسول اللَّه (ص)، وما كان عليه الصحابة والتابعون من أخذهم بالكتاب والسنَّة، في عباداتهم ومعاملاتهم، فإن وجدتم شيئاً مما يقوله ابن عربي يستند إلى صريح كتاب اللَّه وسنة ورسوله (ص) وسيرة صحابته، فاقْبَلُوه وإلاَّ فردُّوه، واطلبوا السلامة لأنفسكم مما أنتم فيه، وإلاَّ فاقطعوا صلتكم بالإسلام، ولا تقولوا إنكم مسلمون، بل قولوا إنكم صوفيون على دين ابن عربي ومَن كان على شاكلته!!...


المصادر
(11) من الملاحظ عند ابن عربي أنه عندما يتكلم عن المسلمين ـــــــ في سورة نوح عليه السلام ـــــــ يصفهم بالمحمديين، وكأن المسلمين يعبدون محمداً ولا يعبدون اللَّه تعالى، ربَّ محمد (ص) وربَّ العالمين أجمعين، وهذا الخطأ شائعٌ بين الناس.
(12) نوح: 25 والآية هي: {مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَاراً فَلَمْ يَجِدُوا لَهُم مِّن دُونِ اللَّهِ أَنصَاراً}.
(13) نوح: الآيتان 26 و27 {وَقَالَ نُوحٌ رَّبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً (26) إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِراً كَفَّاراً}.
مقدمة الكتاب
القسمُ الأوّل
القِسم الثاني
القِسم الثالِث
القسم الرابع
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢