نبذة عن حياة الكاتب
صفات الداعية وكيفية حمل الدعوة

مُقَدّمَة الكِتَاب
سميح عاطف الزين





صفات الداعية




* الشُروطُ التي تُؤهِّلهُ أن يَكونَ دَاعِيَة
* مَعْرِفَة الواقِع الذي يَعيش فيهِ مَعْرِفَة دَقيقَة
* مَعْرِفَة الكيفَيّة التي تُحْمَل بَها الدَعْوَة


قال الله تعالى:
{وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت: 33]. وَقال:{ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125]. وقال:{وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران:104].
هَذِه الآياتُ البَينات تُحدِّد كيفيَّة حَمْل الدَعْوة وَصِفاتِ الدَاعِيَة بِسَبْعِ نِقَاط:
1 ــــــ أنْ تَكُونَ الدَعْوَةُ إِلَى اللَّهِ وَمِنْ أجْلِه.
2 ــــــ أنْ يَقُومَ الدَاعِيَةُ بالأعْمَالِ الصّالِحَة.
3 ـــــــ أنْ يُظْهِرَ إسْلامَه «وَقَالَ إِنْني مِنَ المُسْلِمين».
4 ـــــــ أن تكونَ الدّعَوةُ إِلى سَبيل اللّهِ بالبُرهانِ العَقلي «الحِكْمَة».
5 ـــــــ أَن تكونَ بالتَذْكِير الجَميل «وَالمَوْعِظَةِ الحَسَنة».
6 ــــــــ أَنْ يَجَعْلَهُم الداعِيَةُ يَربطُون أفْكارَهُمْ بالواقع الذي يعَيِشونهُ وَهَذا النوع مِن الجِدَالِ يُعدّ مِنْ أَحْسَن مَراتبِ الحِوَار وأعلاها بحَيثُ يشعرُ المُجادَل بما يَدُورُ حَوْلَهُ عَن طَرِيق البُرهانِ العَقْليْ «وَجَادِلْهُمْ بِالّتي هِيَ أَحْسَنُ».
7 ــــــ أنْ تَحْملَ الدّعوة عَن طريق الجَمَاعة أيْ أن تكونَ مِن مَسْؤوليّاتِ الجَماعَةِ حَتّى يَتحقّقَ لَها النجَاحُ والفَلاحُ لأِنّ الآيَة تُشِيرُ إِلى فلاح الدَّعْوَة عِنْدَما تكونُ الجَماعةَ قَائِمةً بِحَمْلِها وَداعيِةً لهَا «وَأولئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ» صَدَق الله العظيم.


قال رَسُولُ اللَّه صلّى الله عَلَيْهِ وآلهِ وَسَلّم:
«اِنَّكُم عَلَى بَيِّنَةٍ منْ أمْرِكُمْ مَا لم تَظْهَرْ فيكم سَكْرَتان: سَكرةَ الجَهل، وسَكرةَ حُبِّ العَيش». وَإنَّكُمْ تَأمرُونَ بالمَعْروُفِ وَتَنْهَوْنَ عَنَ المُنْكَر. وَتجاهِدُونَ في سَبيل اللَّه. فإذا ظهر فيكمُ حُبُّ الدّنيا لم تأَمُروا بالمعَرْوُف ولَمْ تَنْهَوْا عَن المُنْكَر. وَلم تُجُاهِدُوا في سَبِيْل اللَّهِ القَائِلُون يَوْمَئِذٍ بالكِتابِ وَالسُّنّةِ كالسَّابِقين الأوّلِينَ مِنَ المُهاجِرينَ وَالأنْصَار.

قال عليّ كرّم اللّه وَجْهَهُ
لا تخْلو الأرضُ من قائمٍ للّهِ بحُجّة، إمّا ظاهرًا مَشْهُورًا، واِمّا خائِفًا مَغْمُورًا، لِئَلاّ تَبْطلَ حُجَجُ اللّهِ وبَيّناتُه، وَكَمْ ذَا وأين أولئك؟
أولئِك ـــــــ واللّهِ ـــــــ الأقَلونَ عَدَدًا، والأعظَمُون عِنْدَ اللّه قَدْرًا: يَحْفظ اللَّه بهِمْ حُجَجَه وَبَيّنَاتِه، حَتّى يُودِعُوها نُظَراءَهُمْ، وَيَزْرَعُوهَا في قُلُوب أشْباهِهِمْ. هجَمَ بهِم العِلم عَلَى حَقِيقةِ البَصيرة، وباشَرُوا روحَ اليقين، واسْتلانُوا ما اسْتَوعره المُترفون، وأنِسُوا بما اسْتوحَش مِنْه الجاهِلُون، وصَحِبُوا الدّنْيا بأبْدانٍ أرْواحُها مُعَلّقة بالمحَلّل الأعْلى. أولئِكَ خُلَفاءُ اللّهِ في أرضِه والدّعاةُ إِلى دينهِ، آه آه شوقًا إِلى رؤيتهم!.


بِسم اَللهِ الرَّحمنِ الرحيمِ

مُقَدّمَة الكِتَاب

أتصورُ رجلًا إعرابيًّا جلس جلسةً واحدةً مع النبيّ الأميّ وفارقه بعدها مؤمنًّا بالإِسلامِ داعيًّا له.
كيف حصل هذا؟ قد يكون ما حصل في هذا اللقاء، في جلسة واحدة، يوازي في نظر كلّ مفكر معجزة من المعجزات الكبرى التي أتى على ذكرها القرآن الكريم والتي حدثت مع أنبياء الله المكرمين؛ لأن من اطلع وعرف غزارة مياه المعرفة المتعددة الروافد التي تجري وتتدفقُ من بحر الإسلام، وأحبّ أن يغرفَ غرفة، أو يرتشفَ رشفة، يقفُ فترة تأمل وتفكر، ويجولُ في خاطر هذا السؤال. كيف استطاع هذا الإعرابي أن يفهم الإسلام ويؤمن به ويحمله للناس بعد أن اجتمع بالرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) اجتماعًا واحدًا. ذلك يجيبُ عنه ما حدث لطفيل بن عمرو الدّوْسي عندما قال لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «سمعت منك قولًا حسنًا، فاعرض عليّ أمرك». قال الطفيل: «فعرض عليّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الإسلام وتلا عليّ القرآن فلا والله ما سمعت قولًا أحسن منه ولا أمرًا أعدل منه، فأسلمت بعد هذا الاجتماع وشهدت شهادة الحق، وقلت يا نبيّ الله إني امرؤ مطاع في قومي وإني راجع إليهم وداعيهم إلى الإِسلام».
ولا أريد أن أزيد شرحًا لهذا الموضوع لأنه ليس هو المقصود أن يكون في المقدمة بل في الكتاب علني بحول الله وقوته أن أكون قد اهتديت إلى معرفة سر من أسرار هذا اللقاء الذي تم في جلسة واحدة جلسها الإعرابي مع الرسول الأعظم.
فالواقع يشهد أن الإنسان عندما يؤسس ويقيم حدودًا معينة لا بد من أن يقصد من وراء هذا التحديد الإنشاء والارتقاء، ولا يمكن أن يُقْدِمَ الإنسانُ على وضع أسس معينة محددة إلا إذا كان عازمًا على أن ينشئ ويبني على هذه الأسس المحددة وسواء أكان هذا التحديد مادّيًّا كوضع الأساس للبناء ضمن حدود، فإن الناظر إليه يتبين بوضوح أن المقصود منه الإِنشاء أي إقامة البنيان المطلوب، أم كان هذا التحديد معنويًّا كأن يحدد الإِنسان علاقاته في ما قبل الحياة وما بعدها، ويقصد من وراء ذلك أن ينشئ ويرتقي على أساس هذه النظرة المحددة.
ولقد نظر الإسلام النظرة المحددة فقال: إنَّ كل شيء يحسه الإِنسان ويشعر به ويفعله فهو مادة فإذا انبثق هذا الفعل أو هذا الشعور أو هذا الإِحساس عن أوامر الله ونواهيه يكون التحديد هنا مزج المادة بالروح أي بأن يحكم الإِنسان أن الله هو قبلَ هذه الحياة وأنه هو وحده جل شأنه وعظمت قدرته سيكون بعدها، وهو الذي طلب من الإِنسان أن يفعل ما أمر به بأوامر ونواهٍ، وأن هذه الأوامر والنواهي هي الناحية الروحية.
والأمثلة على هذا المزج بين المادة والروح لا تحصى.. فالنظر إلى الشجرة من حيث الحواس يظهرها مادة. لكن النظر إليها على أنها مخلوقة لخالق فهذه الناحية الروحية. كذلك القيام بالصلاة فهو عمل مادي، ولكن إذا كان القيام بالصلاة ممزوجًا بأوامر الله عز وجل، فهنا الناحية الروحية؛ ومثله إنفاق النقود على الفقراء فالنقود مادة، فإذا لم يكن الإنفاق بدافع من الشريعة الإسلامية فيبقى الإنفاق الذي قام به هذا الإنسان مادة، ولكن إذا كان الإِنفاق ممزوجًا بأوامر الله فهنا يكون قد مزجَ المادةَ بالروح وهكذا بالنسبة إلى كل فعل يقوم به الإِنسان.
وبناء على هذا التحديد أيضًا، فإن نظرة الإِسلام إلى الحكم تقوم على الناحية الدينية (الروحية) وعلى الناحية المادية (الدولة) أي بانبثاق الدولة عن الدين، وذلك بعكس الاشتراكية الشيوعية المحددة والتي تقوم على أساس الإيمان بالمادية الأزلية وإنكار الدين أي إنكار الروح، وبعكس الديمقراطية الرأسمالية المحددة والتي تقوم على أساس فصل الدين عن الدولة أي فصل المادة عن الروح.
وانطلاقًا من هذا التعريف للتحديد فإن المسلم الذي يحمل الفكر الأساسي المحدد يحاول أن يكون دائم الإنشاء والارتقاء.
والإنشائي هو الذي ينشئ شيئًا جديدًا:
إما فكرًا جديدًا.
أو علاجَ أمرٍ جديد.
أو شرحَ فكرٍ قديم.
أو انطباقَ فكرٍ أو عدمَ انطباقهِ على واقع جديد... وبعد الإِنشاء يكون الارتقاء...
والارتقائي هو الذي يسير بشكلٍ دائم في طريق تصاعدي بالتفهم والتأثير ووضوح الرؤيا، وإثبات الوجود.
ولهذا فإن الذي يحمل الأفكار المحددة لا يكتفي بحملها، بل يعمل على نشرها ويسعى إلى تطبيقها وبذلك فهو حامل دعوة، وتنطبق عليه صفات الداعية، ويجب أن نفرق بينه وببين المفتي، والعالم، والواعظ، والمعلم.
فالمفتي: هو الذي يتصدى للفتيا فيقصده الناس لسؤاله عن الحكم الشرعي في أعمال معينة حصلت منهم أو من أشخاص آخرين.
والعالم: من يجعل عمله التنقيب عن المعرفة في الكتب ولا يتصدر للفتوى، لكنه إذا سئل عن مسألة يجيب عنها كمسألة، لا كحكم معين على حادثة معينة.
والواعظ: هو الذي يذكر الناس بالآخرة وبعذاب الله وبالجنة وبيوم الحساب، وينصح باتباع السلوك الذي يضمن للإِنسان الفوز في الآخرة والنجاة من عذاب الجحيم.
والمعلم: هو الذي يعلّم الأفراد المعارف المجردة بغضّ النظر عن واقعها وعن أوضاعها وعن العمل بها. وقد تجتمع في الشخص الواحد بعض مزايا الآخر إلاَّ إنه يبقى لكل منهم صورته الخاصة به، حتى ولو كان لديه الصفات الأربع. أما حامل الدعوة فهو يختلف عن هؤلاء لأنه سياسي يرعى شؤون الناس بأحكام الشرع وتكون غايته رضوان الله سبحانه وتعالى ولذلك لا توجد لديه صفة المفتي، لأنه لا يتصدر للفتوى ولا يبحث عن أفعال الأفراد بصفتهم أفرادًا ليعطي الحكم الشرعي بشأنها، وهو لا توجد فيه صفة العالم، لأن عمله ليس التنقيب عن المعرفة في الكتب، وإن كان يراجع الكتب لطلب المعرفة، فالتنقيب عن المعرفة ليس عمله وغايته، بل التنقيب عن المعرفة هو وسيلة لعمله الذي هو السياسة. كذلك حامل الدعوة ليس واعظًا يذكِّر الناسَ بالآخرة ويصرفهم عن الدنيا. بل هو يرعى شؤونهم ويبصرهم بالدنيا لتكون لهم سيادتها، ويجعل غايتهم من الدنيا العمل الصالح الذي يُكسبهم رضوان الله في الآخرة. وهو أيضًا ليس معلمًا، وإن كان يثقف الناس بالأفكار والأحكام. فتعليم المعارف المجردة ليس عمله ولا يعني نفسه بها بل العمل بالأفكار والأحكام المجردة هو ما يهدف إليه، فيعطي المعارف مربوطة بواقعها وظروفها كسياسة لا كعلم، وكرعاية شؤون لا كتعليم. ولما كانت السياسة أعمالًا وليست مجرد ثقافة، فإننا أحوج ما نكون إلى أعمال، لا إلى مجرد مناقشات أكاديمية. ولذلك فإن هذا الكتاب، الذي نقدمه بين يدي القارئ الكريم، كان من أجل تحديد صفات الداعية وكيفية حمل الدعوة..
أيها القارئ الكريم: لقد اخترت لك بعض المواضيع الحية المبنية على الفكر الأساسي المحدد، والتي تم على أساسها الإِنشاء:
1 ـــــــ تكوين الشخصية الذي يتم بالتفريق بين المفاهيم والمعلومات، وبفهم السلوك، وبالتمييز بين العقلية والنفسية..
وهذا الموضوع يعطيك نموذجًا حيًّا عن عملية إنشاء الفكر الجديد.
2 ـــــــ نظرية السيادة للأمة والأمة مصدر السلطات. وهذا الموضوع يدلك على الكيفية التي تعالج بها أمرًا جديدًا بالفهم والتدبير.
3 ـــــــ واقع الشركة في النظامين الديمقراطي والإسلامي..
وهذا الموضوع يدل على انطباق فكر قديم على واقع جديد من بعض نواحيه وعلى عدم انطباقه من نواح أخرى.
4 ـــــــ صلة الأرحام.
وهذا الموضوع الرابع والأخير يقتصر شرحه على واقع فكر قديم.
وإلى جانب هذه المواضيع هنالك مواضيع أخرى تهدف إلى وضع الأسس التي يبني عليها الداعية فكره، حتى يمكنه أن ينشئ، ونتيجة لهذا الإِنشاء الذي يقوم به الداعية، بصفته صاحب فكر محدد، يظهر تأثيره القوي، وتفهمه للأمور، وإثبات وجوده، ووضوح رؤيته.
والله ولي التوفيق


المفَاهيمُ والمَعْلومَات

المفاهيم: معاني الأفكار لا معاني الألفاظ، فاللفظُ كلام دل على معان، قد تكون موجودة في الواقع وقد لا تكون، فالشاعر حين يقول:
وأخفتَ أهل الشِّرك حتى إنه لَتخافك النطفُ التي لم تخلقِ
لكن المعنى في الشطر الثاني غير موجود مطلقًا. فهذه المعاني للجمل، تشرح وتفسر ألفاظها. أما معنى الفكر فيتلخّص في أنه إذا كان لهذا المعنى الذي تضمنه اللفظ واقع يقع عليه الحس أو يتصوره ويصدقه الذهن كشيء محسوس فإنه يكون مفهومًا عند من يحسه ويتصوره ولا يكون مفهومًا عند من لا يحسه ولا يتصوره، فعلى المتلقي أن يفهم معاني الجمل كما تدل عليه من حيث هي، لا كما يريدها لافظها، وأن يدرك، في الوقت نفسه واقع هذه المعاني في ذهنه، إدراكًا يشخص له هذا الواقع، حتى تصبح هذه المعاني مفاهيم. فالمفاهيم هي المعاني المدرك لها واقع في الذهن، سواء كان واقعًا محسوسًا في الخارج، أم واقعًا مسلمًا به أنه موجود تسليمًا مبنيًا على واقع محسوس، وما عدا ذلك من معاني الألفاظ والجمل لا يسمى مفهومًا، بل مجرد معلومات، وتتكون هذه المفاهيم من ربط الواقع بالمعلومات أو من ربط المعلومات بالواقع.
وأفكار الإسلام يجب أن تصير جميعها مفاهيم عند الذي آمن بالدين الإِسلامي، وألّا تبقى مجرد معلومات للمعرفة كما نشاهد اليوم عند كثير من الذين يدّعون أنهم مسلمون. وكون أفكار الإِسلام يجب أن تكون مفاهيم فلأن لها مدلولات واقعة في معترك الحياة، وليست مجرد شرح للأشياء التي يفرض المنطق المجرد وجودها.. فكل فكر له واقع يمكن للإِنسان أن يضع إصبعه عليه، سواء أكان فكرًا عميقًا يحتاج إلى إدراك مستنير أم كان فكرًا ظاهرًا يمكن فهمه بسهولة..
والأفكار قد تكون محسوسة بالحواس كالمعالجات والآراء العامة، أو قد تكون غيبية كالملائكة والجنة والنار التي نقلها القرآن الكريم وأخبرنا عنها، فهذه كلها مدلولات واقعة ذهنًا على شكل قطعي جازم، لأنه يقينًا قد قطع العقل حسًّا بصدق القرآن الكريم.
السلوك
الأصل في السلوك هو الطاقة الحيوية. والطاقة الحيوية هي الغرائز والحاجات العضوية، فهذه الغرائز والحاجات العضوية تدفع وتطلب الإشباع، فيقوم الإِنسان بالتحرك بالقول أو العمل من أجل الإشباع. إلا إن الذي يعين هذا السلوك هو المفهوم وليس الفكر فقط. فالفكر لا يؤثر في السلوك إلا إذا صدقه الإِنسان وارتبط هذا التصديق بالطاقة، فأصبح مفهومًا من مفاهيم الشخص. فالقول بأن سلوك الإِنسان بحسب مفاهيمه قول يقيني، وغير قابل للشك، لأن التصديق بالفكر إذا ارتبط بالطاقة لا يمكن أن يكون السلوك إلا بحسبه. إلا إن هناك أفكارًا ارتبط التصديق بها بالطاقة ارتباطًا متينًا، بحيث يكون من الصعب عند التصديق بفكر آخر إزالتها أو إزالة آثارها إلا بعد مرور زمن. في هذه الحالة يبقى الفكر غير متحول إلى مفهوم، أو يتحول تحولًا ممزوجًا متقطعًا. وأكثر ما يكون هذا في مفاهيم الأعماق ولذلك يحتاج إلى معاناةٍ أكثر وزمن أطول.
والفكر نتيجة العقل وهو غير السلوك، والسلوك نتيجة الطاقة وهو غير الفكر، وإذًا فإن التفكير غير الميل وإن العقلية غير النفسية. هنالك طاقة تتطلب الإِشباع وهنالك عقل يفكر. وهما أمران مختلفان، وإذا لم يرتبطا وظلا منفصلين كانت هناك ميول وكانت هناك أفكار، إلا إن مخالفة السلوك للفكر أكثر ما تكون في بعض الجزئيات. ولا يؤثر ذلك في الشخصية بل يؤثر في بعض التصرفات أحيانًا.
ففي غزوة بني المصطلق تنادى الأنصار ضد المهاجرين وتنادى المهاجرون ضد الأنصار حين تحركت في الفريقين النعرة العصبية. في هذه الحالة انفصل السلوك عن الفكر مع أن المفهوم واحد عند الفريقين. إلا إن هذا المفهوم في هذا الوقت لم يعد مفهومًا لأنه انفصل عن الارتباط بالطاقة فتصرف كل فريق بحسب ميوله لا بحسب أفكاره أي تحركت لديه مفاهيم الأعماق. من دون أن يؤثر ذلك بشيء في شخصية الأنصار أو شخصية المهاجرين لأن الفريقين ما لبثا أن عادا إلى المفهوم. وهكذا فانفصال السلوك عن الفكر في بعض الأحيان لا يؤثر في الشخصية. والقول بأن للإنسان وجهتي نظر في الحياة قول خاطىء إذْ لا يكون للإِنسان إلا فكر أساسي واحد عن الحياة تحول إلى مفهوم، فإذا وجد غيره فإنه يبقى مجرد فكر وليس بمفهوم.
العَقْلِيَّة وَالنَفْسِيَّة
عندما تتكون المفاهيم من ربط الواقع بالمعلومات، يتبلور هذا التكوين بحسب القاعدة أو القواعد التي يجري عليها قياس المعلومات والواقع حين الربط، ثم توجد بذلك للشخص عقلية تفهم الألفاظ والجمل، لتدرك المعاني بواقعها المشخص. وتصدر حكمها عليه.
فالعقلية إذًا: هي الكيفية التي يُربَطُ فيها الواقع بالمعلومات، بقياسها إلى قاعدة واحدة معينة، ومن هنا يأتي اختلاف العقليات كالعقلية الإسلامية، والعقلية الشيوعية، والعقلية الرأسمالية، والعقلية الفوضوية، والعقلية الرتيبة.
النفسية: هي الكيفية التي يجري عليها إشباع الغرائز والحاجات العضوية، وبعبارة أخرى هي الكيفية التي تربط فيها دوافع الإِشباع بالمفاهيم، فهي مزيج من الارتباط الحتمي الذي يجري طبيعيًّا في داخل الإِنسان، أي بين دوافعه والمفاهيم الموجودة لديه عن الإِشباع مربوطة بمفاهيمه عن الحياة.
الشخصية: ومن هذه العقلية والنفسية تتكون الشخصية، فالعقل أو الإِدراك، وإن كان فطرة، ووجوده حتمي لدى كل إنسان، لكنه تكوين يجري بفعل الإِنسان. والميول لإِشباع الغرائز والحاجات العضوية، وإن كانت فطرية في الإِنسان فإن وجودها حتمي أيضًا لدى كل إنسان. لكن التكون النفسي يجري بفعل الإِنسان، فإن كانت هذه القاعدة أو القواعد التي يجري عليها تكوين العقلية هي القاعدة نفسها أو القواعد التي يجري عليها تكوين النفسية، فقد وجدت عند الإِنسان شخصية متميزة بلون خاص، وإن كانت القاعدة أو القواعد التي يجري عليها تكون النفسية، منفصلة عن القواعد التي يجري عليها تكوين العقلية، كانت عقلية الإِنسان غير نفسيته، لأنه حينئذٍ يقيس ميوله على قاعدة أو قواعد موجودة في الأعماق، فيربط دوافعه بمفاهيم غير المفاهيم التي تكونت بها عقليته، لأنه يفهم الألفاظ والجمل، ويدرك الوقائع على وجهٍ يختلف عن ميله للأشياء.
الشخصية الإسلامية: عالج الإِسلام أعمال الإِسلام الصادرة عن حاجاته العضوية وغرائزه، بالأحكام الشرعية المنبثقة عن هذه العقيدة نفسها، معالجة صادقة تنظم الغرائز ولا تكبتها، وتنسقها ولا تطلقها، وعلى هذا نجد أن الإِسلام يكون الشخصية الإِسلامية بالعقيدة الإِسلامية، فيها تتكون عقليته، وبها نفسها تتكون نفسيته.. إن جعل الإِسلام مقياسًا لجميع الأفكار عمليًّا وواقعيًّا يجعل عند الإِنسان عقلية إسلامية ونفسية إسلامية. وهما اللتان تجعلان ميولهما كلها على أساس الإِسلام، فيكون الإِنسان حينئذٍ بهذه العقلية وهذه النفسية شخصية إسلامية، بغض النظر عن كونه عالمًا أو جاهلًا، لأن كل من يفكر على أساس الإِسلام، ويجعل هواه تبعًا للإِسلام يكون شخصية إسلامية. والإِسلام أمر بالاستزادة من الثقافة الإسلامية، لتنموَ هذه العقلية، وتصبح قادرة على قياس كل فكر من الأفكار، وأمر بأشياء ونهى عن أشياء لتقوى هذه النفسية، وتصبح قادرة على ردع كل ميلٍ يخالف الإِسلام، ومن هنا يأتي تفاوت الشخصيات الإِسلامية، وتفاوت العقليات الإِسلامية وتفاوت النفسيات الإِسلامية. لذلك يخطئ كثيرًا أولئك الذين يتصورون الشخصية الإِسلامية بأنها ملك سماوي، فهم يبحثون عن الملك بين البشر، فلا يجدونه مطلقًا، بل لا يجدونه في أنفسهم، فييأسون وينفضون أيديهم من المسلمين، وهؤلاء الخياليون يبرهنون بتصورهم على أن الإِسلام خيالي، وأنه مستحيل التطبيق مع أن الإِسلام جاء ليطبق عمليًّا، وهو واقعي أي يعالج واقعًا لا يصعب تطبيقه وفي متناول كل إنسان مهما بلغ تفكيره من الضعف ومهما بلغت غرائزه وحاجاته العضوية من القوة، فإنه يمكن له أن يطبق الإِسلام على نفسه بسهولة ويسر. المسلم عندما يطبق الإِسلام على نفسه يصبح شخصية إِسلامية، ويصبح مؤهلًا للجندية والقيادة في آن، جامعًا بين الرحمة والشدة والزهد والنعيم، يفهم الحياة فهمًا صحيحًا، فيستولي على الحياة الدنيا بحقها، وينال الآخرة بالسعي لها.
ولذا لا تغلبُ عليه صفة من صفات عباد الدنيا، ولا يأخذه الهوس الديني ولا التقشف الهندي، وفي الوقت الذي يكون سريًّا يكون متواضعًا، ويجمع بين الإمارة والفقه، وبين التجارة والسياسة، وأسمى صفة من صفاته أنه عبد لله تعالى خالقه وبارئه.
السّيَادَة للأمَة
وَالأمَّة مَصْدَر السلطَات
إن نظريَتَيْ: السيادة للأمة والأمة مصدر السلطات هما نظريتان غربيَّتان من نظريات النظام الديمقراطي، وقد ظهرتا في أوروبا بعد الصراع الدامي الذي اجتاحها في القرون الوسطى واستمر عدة قرون. ذلك أن أوروبا كان يحكمها ملوكٌ، وكانت تتحكم في أوروبا نظرية الحق الإلهي، وهي أن للملك حقًّا إلهيًّا على الشعب، فالملك بيده التشريع والسلطان والقضاء. والشعب هو رعية الملك فلا حقّ له لا في التشريع ولا في السلطة ولا في القضاء. والناس بنظر الملك عبيد لا رأي لهم ولا إرادة بل عليهم التنفيذ والطاعة. وقد استبد هؤلاء الملوك بالشعوب أيما استبداد، فضج الناس في كل مكان وقامت الثورات، لكن الملوك كانوا يخمدونها بالقوة. إلّا إن هذه القوة كانت تقضي على الثورات قضاء مؤقتًا، لأن الثورات كانت من الشعب كله ولا سيما العلماء والمفكرين، وصارت الثورات ثورات فكرية تنجم عنها ثورات دموية، وفي هذه الأثناء برزت نظريات متعددة للقضاء على الحق الإلهي الذي يدعيه الملوك، وكان من أهمها النظريتان موضوع هذا البحث: «والسيادة للأمة والأمة مصدر السلطات». لأنهم رأوا أنه لا بد من إلغاء الحق الإلهي إلغاء تامًّا وجعل التشريع والسلطة للأمة، فصارت البحث في أن الشعب سيد وليس عبدًا وأنه هو الذي يختار الحاكم الذي يريد، فنشأت نظريتا: السيادة للأمة والأمة مصدر السلطات، ووجد النظام الجمهوري تحقيقًا لذلك.
أما نظرية السيادة فقد قالوا إن الفرد يملك الإِرادة ويملك التنفيذ، فإذا سلبت إرادته وصار تسييرها بيد غيره كان عبدًا، وإذا سير إرادته بنفسه كان سيدًا. والشعب يجب أن يسير إرادته بنفسه لأنه ليس عبدًا للملك بل هو حر، وما دام الشعب هو السيد، ولا سيادة لأحد عليه، فهو الذي يملك التشريع وهو الذي يملك التنفيذ.
فالعبودية تعني أن يسير بإرادة غيره، ولتحرير الشعب من العبودية لا بد من أن يكون له وحده حق تسيير إرادته: له الحق أن يسن القانون الذي يريد، وأن يلغي أو يبطل الشرع الذي يريد. وقد شبت نيران ثورات التحرير ونجحت، وأزيل الملوك وزال معهم الحق الإلهي الذي كانوا يدعونه، ووضعت نظرية «السيادة للأمة» موضع التطبيق، وصار الشعبُ هو الذي يشرع، ثم وجدت المجالس النيابية لتنوب عن الأمة بمباشرة السيادة. لذلك تسمعهم يقولون: مجلس النواب سيد نفسه أي ليس عبدًا، لأنه يمثل الشعب، والسيادة للشعب.
والسيادة تعني تسيير الإرادة وتنفيذها. إلا إن الشعب إذا استطاع أن يباشر السيادة بإيجاد وكلاء عنه لمباشرة التشريع، فإنه لا يستطيع أن يباشر السلطة بنفسه، لذلك لا بد من أن ينيب عنه من يباشر السلطة، فأوكل أمر التنفيذ لغير الشعب، على أن يقوم الشعب بإنابته عنه، فوجدت من ذلك نظرية: الأمة مصدر السلطات. أي إنها هي التي تنيب عنها من يتولى السلطة فيها، أي من يتولى التنفيذ. والفرق بين السيادة والسلطة، هو أن السيادة تشمل الإرادة والتنفيذ، أي تشمل تسيير الإرادة وتشمل القيام بالتنفيذ، بخلاف السلطة فإنها خاصة بالتنفيذ ولا تشمل الإرادة. لذلك كان التشريع للأمة بوساطة نواب عنها، ومن هنا لا يقال إن الأمة مصدر التشريع، بل يقال إن التشريع للأمة لأنها هي التي تباشره بنفسها. أما السلطة فإن الأمة لا تستطيع مباشرتها بنفسها لتعذر ذلك عمليًّا فكان لا بد من أن تعطي التنفيذ لغيرها ليباشره نيابة عنها، ومن هنا لم تكن السلطة للأمة بل السلطة يباشرها الحاكم والقاضي بتفويضٍ منها وإنابة عنها فكانت هي المصدر للسلطة.
وهذا الواقع للأمة في الغرب من حيث كونها سيدة نفسها يخالف واقع الأمة الإسلامية، فالأمة الإسلامية مأمورة بتسيير جميع أعمالها بأحكام الشرع. فالمسلم عبد لله، لا يسير إرادته ولا ينفذ ما يريد، وإنما تسير إرادته بأوامر الله ونواهيه، وهو المنفذ. لذلك فالسيادة ليست للأمة بل هي للشرع، أما التنفيذ، أي السلطان فهو وحدة للأمة، ولما كانت الأمة لا تستطيع مباشرة السلطان بنفسها كان لا بد لها من أن تنيب عنها من يباشره. وجاء الشرع وعين كيفية مباشرتها له بنظام الخلافة، ومن هنا كانت السيادة للشرع والسلطان للأمة.
الشركة
الشركة معاملة من المعاملات، سواء أسارت بحسب النظام الرأسمالي أم بحسب النظام الإِسلامي. فلكي يعرف الحكم الشرعي بشأنها لا بد من أن يفهم واقعها أولًا فهمًا صحيحًا لأنه مناط الحكم أي لأنه متعلق به الحكم، وفهمه لا يكون بحسب تصورنا أو بحسب تأويلاتنا، بل بحسب النظام الرأسمالي كونها معاملة من معاملاته وحكمًا من أحكامه.
فأول خطوة إذن لمعرفة الحكم الشرعي في واقع الشركات في النظام الرأسمالي تكون بفهم الواقع أولًا ومن ثم فهم كيفية معالجته من الدليل الشرعي.
واقع الشركة في النظام الرأسمالي هو أنها ليست كالبيع والإجارة تتم بين طرفين، بل هي كالوقف والوصية تتم من طرف واحد، فهي التزام فردي من شخص، بحسب الشروط المسجلة في ورقة الاتفاقية المسماة عقد الشراكة والتي بموجبها يساهم الشخص في مشروع مالي بتقديم حصة من مال أو عمل لاقتسام ما قد ينشأ عن هذا المشروع من ربح أو خسارة. فهي عندهم تعرف بأنها من طرف واحد أي هي بحسب مقاييسهم تعبيرًا عن إرادةٍ منفردة. وهذا يعني أنه ليس فيها إيجاب ولا قبول ولا طرف عقد، وليس اتفاقًا بين اثنين أو أكثر، بل هي اتفاقية معينة بشروط معينة تكتب وتعرض، فالفرد الواحد، بغض النظر عن أي شخص آخر، يلتزم بما في هذه الاتفاقية، فيصبح بهذا الالتزام شريكًا في هذه الشركة. فيصبح بهذا الالتزام شريكًا في هذه الشركة. هذا هو واقع الشركة في النظام الرأسمالي والحكم الشرعي في الشركة هي أنها عقد بين اثنين فأكثر يتفق فيه المتعاقدون على القيام بعمل مالي بقصد الربح، ويجري العقد بإيجاب وقبول في مجلس واحد. ولكي تكون الشركة منطبقة على الحكم الشرعي لا بد من أن يحصل فيها الاتفاق بين المتعاقدين. ولا بد إذًا من أن يكون فيها متعاقدان، ولا بد من أن يحصل العقد بإيجاب وقبول بينهما في مجلس واحد. هذا هو الحكم الشرعي في الشركة، وهو لا ينبطق على واقع الشركة في النظام الرأسمالي لأنه ليس فيها متعاقدان بل ملتزم واحد، وليس فيها اتفاق بين متعاقدين بل اتفاق مطلق، يلتزم فيه من أراد التزامًا فرديًّا، وليس فيها إيجاب وقبول، وليس فيها مجلس تعاقد، فهي بذلك خالية من جميع الشروط الشرعية، وباطلة شرعًا لأنه لم يحصل فيها عقد شرعي.
أما الشركة المساهمة فإنها على الرغم من كونها داخلة تحت تعريف الشركات في النظام الرأسمالي، فإنها نوع من المشاريع المالية البحتة التي لا دورَ للعنصر الشخصي فيها، لأن الشركات في النظام الرأسمالي قسمان:
1 ـــــــ شركات الأشخاص.
2 ـــــــ شركات الأموال.
فشركات الأشخاص هي التي يدخل فيها العنصر الشخصي ويكون له أثر كبير في الشركة وفي تقدير الحصص، مثل شركة التضامن، فإن المعتبر فيها شخص الشريك لا من حيث كونه بدنًا فحسب أي متصرفًا، بل من حيث مركزه وتأثيره في المجتمع. وهذه قد يشتبه في أن تكون شركة صحيحة من وجهة النظر الشرعية لوجود البدن فيها، أي الشخص المتصرف، لولا خلوها من باقي الشروط ومنها العقد بين اثنين بإيجاب وقبول.
أما شركات الأموال فلا يكون للعنصر الشخصي فيها أي أثر، بل هي قائمة على انتفاء وجود العنصر الشخصي، وانفراد العنصر المالي في تكوين الشركة وفي سيرها. فشرطها في الأساس انعدام وجود البدن أي انعدام وجود المتصرف في تكوين الشركة وفي سيرها. ومن هذه الشركات شركات المساهمة.
يحصل الاكتتاب في الشركة المساهمة بوسيلتين:
الأولى: يختص فيها المؤسسون بأسهم الشركة يوزعونها بينهم من دون عرضها على الجمهور. وذلك بتحرير الاتفافية التي تقوم بحسبها الشركة، أي بكتابة القانون النظامي الذي يتضمن الشروط التي تسير عليها الشركة. ثم يجري التوقيع عليه بصفةٍ فردية وكل من يوقع يُعدّ مؤسسًا وشريكًا. وعندما يتم توقيع الجميع تكون الشركة قد تأسست. وهذه الشركة محصورة بهؤلاء الموقعين وحدهم أي بالمؤسسين. ولا يسمح بدخول غيرهم فيها.
الثانية: أن يقوم بضعة أشخاص بتأسيس الشركة وذلك بتحرير القانون النظامي الذي يتضمن الشروط التي تسير عليها الشركة وموافقة كل واحد منهم بمفرده عليه.
ثم يطرحون الأسهم مباشرة على الجمهور للاكتتاب العام في ما بعد تحديد مدة معينة لنهاية الاكتتاب. وحين ينتهي أجل الاكتتاب في الشركة تدعى الجمعية التأسيسية للشركة المؤلفة من الأشخاص المؤسسين. ويتم تعيين مجلس الإدارة لها. وتبدأ الشركة أعمالها بعد انتهاء الزمن المحدد لإقفال الاكتتاب. على هذا الوجه تنشأ شركة المساهمة، وبهذه الكيفية توجد، فيكون واقع شركة المساهمة بأي وسيلة من الوسيلتين المذكورتين وجدت، هو أنها التزام فردي من قبل طرف واحد. ففي الوسيلة الأولى يجري التفاوض والاتفاق على الشروط بين المؤسسين، ولا يعدّون هذا عقدًا ولا يلتزمون به، وهو في واقعه تفاوض وليس بعقد ثم ينفض مجلسهم بعد ذلك، وفي مجلس آخر، يأتي كل منهم منفردًا فيوقع، ولا يُعدّ شريكًا إلا بعد إبراز إرادته المنفردة، وذلك تصرف فردي.
وفي الوسيلة الثانية يجري التفاوض بين عددٍ محدود من الناس، ثم تطرح الأسهم على جميع الناس، فمن يكتتب بسهم أو أكثر يصبح شريكًا في الشركة. فالشريك هو من يكتتب بالأسهم، واكتتابه يكون بتصرف منفرد، أي بإرادة فردية.
هذا هو واقع شركة المساهمة، وهذا الواقع حين يطبق على حكم الله في الشركة لا ينطبق عليه. فحكم الله في الشركة أنها عقد بين اثنين فأكثر، أحد طرفي العقد بدن أي متصرف بذاته، وأن هذا العقد يتم بإيجاب وقبول يحصلان معًا في مجلس واحد، ويكون منطوقًا على القيام بعمل بقصد الربح. فالحكم الشرعي في شروط صحة انعقاد الشركة، أن تكون عقدًا من العقود الشرعية لا تصرفًا من التصرفات، فلا بد فيها من طرفي عقد، ولا بد من أن يحصل بين الطرفين إيجاب وقبول، ولا بد من أن يحصل الإيجاب والقبول معًا في مجلس واحد وأن يتم العقد بالإيجاب والقبول قبل تفرق المجلس، ولا بد من أن يكون أحد الطرفين بدنًا أي شخصًا متصرفًا بغضّ النظر عن كونه له مال في الشركة أو ليس له مال. فهذه الشروط التي اشترطها الشارع لصحة انعقاد الشركة غير متوافرة في شركة المساهمة، فهي شركة أموال خالية من البدن بل شرطها أن تكون خالية من البدن. وهذا وحده كاف لبطلانها، وفضلًا عن ذلك فهي إرادة منفردة، أي تصرف منفرد من طرف واحد وليس فيها طرف ثان، وخالية من الإِيجاب والقبول في مجلس واحد. لذلك كانت باطلة شرعًا، فلم تنعقد مطلقًا ولم يتوافر فيها أي شرط من شروط الشركة في الإِسلام. ولكي يدرك واقع بطلانها إدراكًا أوضح نلفت النظر إلى أن المعاملات من حيث واقعها قسمان:
قسم لا يتم إلا من طرفين كالبيع والإجارة والوكالة وما شابه ذلك، وقسم يتم من طرف واحد ولا حاجة فيه إلى طرفين كالوقف والوصية وما شاكل ذلك. فما كان مما لا يتم إلا بطرفين لا ينعقد إلا إذا وجد فيه طرفان فإذا حصل من طرف واحد لا ينعقد مطلقًا، ولا يصح إلا إذا توافر فيه الطرفان. وما يتم من طرف واحد ينعقد بمجرد صدوره من طرف واحد ولا حاجة فيه طرف ثان. فالبيع لا ينعقد إلا إذا صدر من طرفين اثنين. والوقف ينعقد من طرف واحد ولا حاجة فيه إلى وجود طرف آخر. هذا هو واقع المعاملات في جميع الأنظمة، إلا إن هناك اختلافًا بين الأنظمة في اعتبار المعاملات من طرف واحد أو طرفين. وبحسب ذلك يجري اعتبار المعاملة منعقدة أو غير منعقدة. فالنظام الرأسمالي يُعدّ البيع والإِجارة والوكالة والكفالة مثلًا من المعاملات، لا تتم من طرف واحد، بل لا بد فيها من طرفين اثنين. فإذا لم يتوافر فيها طرفان اثنان كانت باطلة ولم تنعقد، ويُعدّ الوقف والوصية والشركة والوعد بجائزة مثلًا، من المعاملات التي تتم من طرف واحد ولا مجال فيها لطرفٍ ثان، ويسميها الإِرادة المنفردة. فالشركة في النظام الرأسمالي، ومنها شركات المساهمة، هي إرادة منفردة، تتم من طرف واحد ولا مجال فيها لطرفين. فهي عندهم كالوقف والوعد بجائزة سواء بسواء. لكنّ الإِسلام يُعدّ الشركة من المعاملات التي لا تتم إلا بطرفين، فهي في حكم الشرع مثل البيع والإِجارة والوكالة سواء بسواء. فالرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) قال « يد الله على الشريكين»: وفي حديث آخر يقول عن الله عز وجل : «أنا ثالث الشركين».
والشركات التي حصلت في أيامه وأقرّها كلها فيها طرفان.
إننا لا نستطيع أن ننكر أن في الإِسلام معاملات لا تتم إلا من طرفين كالبيع والإِجارة ويقال لها العقود، إلا إن الشرع لم يُعدّ الشركة من التصرفات وإنما عدّها من العقود، فيكون واقع شركة المساهمة بحسب النظام الرأسمالي، من حيث كونها إرادة منفردة، واقعًا باطلًا في الإسلام، لأن الشركة في الإِسلام عقد ولا تتمّ إلا من طرفين.
وعلى هذا فشركات المساهمة من المعاملات الباطلة شرعًا، وتنطبق عليها أحكام المعاملات الباطلة، والبطلان هو ما يقابل الصحة، فالصحة في المعاملة هي موافقة أمر الشارع، فتطلق ويراد بها ترتب آثار العمل في الدنيا، فيقال معاملة صحيحة أي بيع صحيح، وشركة صحيحة. وتطلق ويراد بها ترتب آثار العتمل عليها في الآخرة، وهذا لا فرق فيه بين المعاملات والعبادات وإن كان لا يلاحظ عادة إلا في العبادات، أما البطلان فهو عدم موافقة أمر الشارع، فيطلق ويراد به عدم ترتب آثار العمل في الدنيا بمعنى لم يجزئ ولم يبرئ للذمة، فيقال معاملة باطلة أي بيع باطل، وشركة باطلة، وصلاة باطلة، بمعنى أنها غير مجزئة وغير مبرئة للذمة وغير مسقطة للقضاء. فالبيع إذا لم يستوفِ جميع شروطه يكون بيعًا باطلًا، والصلاة إذا ترك ركن من أركانها تكون باطلة، والشركة إذا فقد شرطُ من شروطها تكون باطلة. ويطلق البطلان ويراد به ترتب العقاب عليه في الآخرة، وهذا لا فرق فيه بين المعاملات والعبادات.
فالمعاملة الباطلة فيها أمران:
أحدهما: أنها حرام فيعاقب الله فاعلها.
الثاني: أنها لا تجزئ وتلغى وتُعدّ كأنها لم تكن والدليل على ذلك، أي على هذين الأمرين، أن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) قال «من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو ردٌّ».
وفي رواية «من أدخل في ديننا ما ليس منه فهو رد».
والمراد ليس بصحيح ولا مقبول وقوله (صلى الله عليه وآله وسلم) «وما نهيتكم عنه فانتهوا» والشارع قد نهى عن مخالفة الشرع نهيًا جازمًا عن مخالفة الأوامر والنواهي، ونهى عن مخالفة ما جاء به فيما يتعلق بالمعاملات والعبادات من الأركان والشروط. إلا إنه إن كان العقد فاسدًا فإنه متى استوفى الصفة الناقصة يتم، كالنكاح من دون مَهر، بخلاف العقد الباطل فإنه يُلغى ويُعدّ كأن لم يكن.
وبناءً على هذا فإن شركات المساهمة حرامٌ مباشرة عقدها والاشتراك بها، وحرام الانتفاع بما ينجم عنها، وذلك لأنها شركة باطلة والعقد باطل لا تحل مباشرته ولا يحل الانتفاع به.
إلا إن المسلم إذا اشترى السلعة التي صنعتها شركةُ المساهمة من غير الشركة بعقد صحيح، أي غير باطل، فإنه يحل له الانتفاع بالسلعة، لأن المالَ الحرام ليست عينه هي الحرام بل كيفية ملكه. فمثلًا بائع الدخان حين يشتري من شركة الدخان المساهمة يكون قد أخذه حرامًا لأن العقد الذي ملكت به كان عقدًا باطلًا فحرم عليه بيعه وحرم عليه الانتفاع به. أمّا الرجلُ الذي يشتري الدخان من بائع الدخان فإنه يأخذه حلالًا لأن العقد الذي ملك به عقد شرعي تم بين طرفين، فيكون شراؤه وبيعه والانتفاع به حلالًا.
هذا إذا كان أصحاب شركات المساهمة مسلمين تطبق عليهم أحكام الإِسلام، أما إذا كانوا من غير المسلمين أو من الذين يعتقدون بالنظام الرأسمالي كالشركات الأوروبية والأميركية فإنه لا يحرم التعامل معهم، بل يحل للمسلم أن يباشر معهم جميع التصرفات والعقود.
وعلى ذلك لو أن مسلمًا أراد أن يسافر، فإنه يجوز له أن يركب طائرة تملكها شركة مساهمة من الشركات الأوروبية، ولا يحل له أن يركب طائرة تملكها شركة مساهمة أصحابها مسلمون. ومن الواجب الشرعي على كل مسلم أن يتحرى في معاملاته أمر شركات المساهمة لأنه يحرم التعامل معها إذا كان أصحابها مسلمين.
صِلَة الأرحَام
صلة الأرحام واجبة. روي عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أنه قال:
«من أحب أن يبسط له في رزقه وأن يُنسأ له في أجَله فليصل رحمه».
وقال: «لا يدخل الجنة قاطع رحم».
وقال: «إن أعمال أمتي تعرض عشية الخميس ليلة الجمعة فلا يُقبل عمل قاطع رحم».
هذه الأحاديث دليل على صلة الأرحام، وقد اقترنت بالمدح واقترنت بالوعيد فكان ذلك قرينة على أن الطلبَ طلب جازم، والطلب الجازم هو الفرض، فصلة الأرحام فرض، وقطيعة الرحم حرام، فقد ورد في الصلة أمر جازم فكانت فرضًا وورد في القطيعة نهي جازم فكانت حرامًا.
أما الأقارب فهم المقصودون في قوله تعالى: {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ} [الإسراء: 26]. فالأقارب صلتهم مندوبة، والإنفاق عليهم فرض على المستطيع، وأما ذوو الأرحام فهم كل من أولى للشخص بسبب، وهم الخال والخالة، والجد لأم، وولد الأخت، وولد البنت، وبنت الأخ، وبنت العم، والعمة، والعم لأم، وابن الأخ لأم، ومن أولى بأحد منهم، هؤلاء ذوو الأرحام المقصودون في قوله تعالى: {وَأُوْلُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} [الأنفال: 75] وهم الذين ينصرف إليهم المعنى حين يقال: وأولوا الأرحام أو ذوو الأرحام. منهم من هو رحم محرم كالخالة ومنهم من هو رحم غير محرم كبنت العم. هذا بالنسبة إلى الأرحام، أما بالنسبة إلى صلة الأرحام فإنها خاصة بالرحم المحرم، ولا تشمل الرحم غير المحرم. وعليه فإن صلةَ بنت العم وبنت الخال غير واجبة لأنها غير محرَم. والدليل على أن صلة الأرحام لا يدخل فيها الرحم غير المحرم أمران:
أحدهما : أن من كانت من الرحم غير المحرم فقد حرم الله على الرجل الخلوة بها، وحرم عليه أن يختلط بها، وهذا ينافي أعمال الصلة من الزيارة والهدية والمخالطة والجلوس، فوجود التناقض في واقع الصلة غير المحرم وبين ما حرمه الله بجعل الصلة خاصة بالرحم المحرم. وهذا ليس من قبيل تخصيص العام، بل من قبيل مدلول النص، فمدلول الصلة في صلة الرحم يعني صلة غير من حرم الله عليه بعض أعمال الصلة.
والأمر الثاني : هو أن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) نهى عن الجمع بين المرأة وعمتها وبين المرأة وخالتها أي زواجهما من رجل واحد في آنٍ؛ وقال «إنكم إن تفعلوا ذلك تقطعوا أرحامكم» فوصف نكاح المرأة مع عمتها أو خالتها بأنه قطع للرحم. فتحريم عمة الزوجة وخالتها وهي غير محرم على الرجل لأن كلًّا منهما من أرحام الزوجة معناه أن جواز نكاح الأرحام يوجد قطيعة. وهذا قرينة على أن ذات الرحم هي من لا يجوز نكاحها. وهذان الأمران يدلان على أن المراد بالصلة في قوله (صلى الله عليه وآله وسلم) «وصلوا الأرحام» الرحم المحرم فقط.
وصلة الأرحام تكون بعدة أشياء. منها الزيارة في الأعياد والمناسبات، ومنها تفقد ذوي الرحم وتفقد أحوالهم، ومنها التغافل عن زلاتهم ولو كثرت، ومنها الاهداء إليهم في الأعياد والمناسبات وفي غير الأعياد والمناسبات، ومنها الدفاع عنهم وعمن يهمهم أمرهم، ومنها قضاء حاجاتهم وحاجات أبنائهم. ومجمل القول هو فعل ما يقدر المرء عليه من الخير لهم! سواء أكان من فعل الخير أم من دفع الأذى فإنه لا يكون قد قام بصلة الأرحام. وأما قطيعة الرحم فهي أن لا يتفضل على رحمه، ولا يقبل تفضلًا منهم، كالزيارة والهدية وغير ذلك.
فمن لا يصل رحمه لا يكون قاطعًا، فالقطيعة هي الإساءة إلى الرحم، مهما قلَّت.
هذه هي بعض النماذج التي أتيت على ذكرها في المقدمة، والتي يحتاج، إلى فهم أمثالها، الإِنسان المؤمن في القرن العشرين، كي يعرف حكم الله فيها وتمييز كل شخصية من الأخرى ويزول التشويش وينتفي التأويل والتحريف.






يجبُ عَليْنَا كَمُسْلِمين
أنْ نَتحقّق مِنْ وَاقِعِنَا في الوَقتِ الحَاضر بوُضُوح
حتى نَكُونَ عَلى يقينٍ منْ مَوقعِنَا
لأنّ الرُؤيا الوَاضحِة تُكوِّنُ أسَاسًا صَلبًا لانطلاقةٍ سَليمَةٍ
مَبْنيَّةٍ عَلى أسُسِ المعرفَةِ اليَقينيَّة
فإلَيْكَ أيُّهَا الداعِيَة
شرْحًا وَافِيًا عَن الوَاقِع الذي نَعيشُ فيهِ
وعَن مَوقع الإسْلام وَالمُسْلِمين المنضَوِينَ إلى لِوَائِه
وَعَن مَوقفِ الإسْلام منْ ذَلِكَ الوَاقعِ
وَأخِيرًا
مَا يَجبُ عَلَيْنا عَمَلهُ في أثنَاءِ السَّيْر

مقدمة الكتاب
القسمُ الأوّل
القِسم الثاني
القِسم الثالِث
القسم الرابع
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢