نبذة عن حياة الكاتب
الثقافة والثقافة الإسلامية
الطبعة : الطبعة الرابعة
المؤلف : سميح عاطف الزين
فئة الكتاب : فكر معاصر
عدد الصفحات : ٧١١
تاريخ النشر : ١٩٩٣
الفهرس (اضغط على الرابط للقراءة)

المقدمة
المفاهيم والمعلومات
السّلوكُ
العقليّة والنفسِيّة
السِّيادَةُ للأمّةِ والأمّةُ مَصدرُ السُّلطاتِ
الشرِكة
التّشريح
صِلةُ الأرحام
تعريف الثقافة والفَرْقُ بينَها وبَيْنَ العِلم والمعرفة
الثقافة الإسلامية
طريق الإسلام في دَرس الثقافةِ الإسلامية
نظرة المسْلمينَ إلى الثقافاتِ الأجنبية
الفَرق بين التأثير والانتِفاع
التفسير
كيف يُفَسَّر القرآن الكريم؟
عِلم الحّدِيث
الحَدِيث
رِواية الحَدِيث وأقسامه
خبر الآحَاد
أقسام خبرَ الآحاد
الفرق بين القرآن والحَديث القدسي
ضعف سند الحديث لا يقتضي ردّه مطلقًا
التاريخ
الفِقه
نشوء الفِقهِ الإسلامي
أثر الخلافاتِ بَين المسلمين
هُبوط الفِقهِ الإسلامي
خرافة تأثير الفِقه الرّوماني في الفِقهِ الإسلامي
الإسْلام ثابت لا يتغيّر ولا يتطوّر بتغيّر الزمان والمكان
الأهداف العُليا لِصيانةِ المجتمع الإسْلاميّ
العقوباتُ في الإسْلام
العقوبَاتُ والبيّنات
العقيدة وخبر الآحاد
السَّبَب
الشرط
المانِع
الصّحَة والبُطلانُ وَالفساد
بعض الأحكام الشرعية
حُمِلَ الإسْلامُ بِثَلاثة بِكِتابِ اللهِ و سُنَّةِ رَسُولِه وَاللغَةِ العَرَبيَّة
ما لم يعمل به من مفهوم المخالفة
النهي عن التصرفات والعقود
التخصيص بالأدلة المنفصلة
أفعالُ الرّسول صلى الله عليه وآله وسلم
النصُّ والظَّاهِر
السنة
الإجْمَاع
القياس والعِلّة المنصوصة
القياس
العِلّة
شرعُ من قبْلَنَا هل هو شرعٌ لنا؟
القاعدة الكلية
الاصطلاح والتقديرُ والعُرف
الأصلُ في الأفعَالِ التقيُّد وفي الأشياء الإباحة
الخاتمة

العِلّة
العلة هي الشيء الذي من أجله وجد الحكم، أو بعبارة أخرى هي الأمر الباعث على الحكم، أي الباعث على التشريع لا على القيام بالحكم وإيجاده، ومن هنا كان لا بدّ أن تكون وصفًا مناسبًا أي وصفًا مفهمًا، بمعنى أنه لا بد أن يكون الوصف مشتملًا على معنى صالح لأن يكون مقصودًا للشارع من تشريع الحكم. فلو كانت العلة وصفًا طرديًّا، أي غير مشتمل على معنى صالح لأن يكون مقصود الشارع من تشريع الحكم بل كان إمارة مجردة، فالتعليل به ممتنع لأنه حينئذ يكون إمارة على الحكم أي علامة عليه، فلا فائدة منه سوى تعريف الحكم، والحكم في الأصل معروف بالخطاب لا بالعلة المستنبطة منه، ولذلك كان من الخطأ تعريف العلة بأنها المعرفة للحكم، لأن هذا يعني أنها إمارة مجردة، مع أن واقعها أنها ليست إمارة بل هي الباعث على التشريع، وأنه وإن كانت العلة دليل الحكم، فإن هناك فرقًا بينها وبين الخطاب في كونه دليلًا.
فالخطاب دليل على الحكم وهو علامة عليه ومعرِّف له، والعلة كذلك أيضًا، ولكن العلة إلى جانب ذلك هي الأمر الباعث على الحكم، فهي الأمر الذي من أجله شرِّع الحكم، ففيها إلى جانب التعريف العلية، أي الدلالة على الشيء الذي من أجله صار شرع الحكم، ولذلك كانت معقول النص. فالنص إن لم يشتمل على علة كان له منطوق، وكان له مفهوم، وليس له معقول، فلا يلحق به غيره مطلقًا، ولكنه إن كان مشتملًا على علة بأن اقترن الحكم فيه بوصف مفهم، فإنه يكون له منطوق ويكون له مفهوم ويكون له معقول، فيلحق به غيره، فوجود العلة جطعل النص يشمل أنواعًا أخرى وأفرادًا أخرى من الحوادث لا بمنطوقه ولا بمفهومه بل بطريق الإلحاق لاشتراكها مع ما جاء فيه من العلة.
فالعلة إذن فيها شيء جديد زيادة على الدلالة على الحكم وهو الأمر الباعث على تشريع هذا الحكم...
فتعريفها بأنها المعرّفة للحكم غير سديد لأنه قاصر عن الدلالة على ماهيتها. ولهذا تعرف بأنها الباعث على الحكم، فيفهم منه أنها المعرفة له كذلك.
ثم إن العلة قد تأتي في دليل الحكم، فيكون الحكم قد دل عليه الخطاب ودلت عليه العلة التي تضمنها الخطاب، كقوله تعالى: {مَّا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاء مِنكُمْ} (سورة الحشر: الآية 7).
ثم قال: {لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ} الآية. فالآية دلَّت على الحكم وهو إعطاء الفيء للفقراء المهاجرين. ولذلك أعطى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ذلك الفيء الذي نزلت في حقه الآية «وهو ما غنم المسلمون من بني النضير» للمهاجرين فقط، ولم يُعط الأنصار سوى رجلين تحقق بهما الفقر، وكذلك العلة التي جاءت في قوله: {كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاء مِنكُمْ} (سورة الحشر: الآية 7) أي كي لا يبقى متداولًا بين أيدي الأغنياء بل ينتقل إلى غيرهم، دلت على الحكم، وكانت هي الباعث على تشريعه.
وقد روي عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه سئل عن جواز بيع الرُّطب بالتمر فقال: أينقص الرُّطب إذا يبس؟ فقالوا: نعم، فقال: فلا، إذًا.
فالحديث دل على الحكم وهو عدم جواز بيع الرُّطب بالتمر، وكذلك العلة التي جاءت في الحديث وهي كون الرُّطب ينقص إذا يبس دلت على الحكم وكانت هي الباعث على تشريعه ففي هذين المثالين جاءت العلة في دليل الحكم.
وقد يأتي الدليل دالًا على العلة وكان المقصود دلالته عليها، فيكون الحكم قد دلت عليه العلة وكانت الباعث على تشريعه، فحكم الغصب ردُّ العين المغصوبة عملًا بعموم قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «على اليد ما أخذت حتى تؤديه» فإنه دليل على أنه يجب على الإنسان رد ما أخذته يده من مال غيره بإعارة أو إجارة أو غصب حتى يرده إلى مالكه. ولكن إذا تلفت العين المغصوبة فإن على الغاصب رد مثلها أو قيمتها لما روي عن أنس أنه قال: أهدت بعض أزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم طعامًا في قصعة، فضربت عائشة القصعة بيدها فألقت ما فيها فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «طعام بطعام وإناء بإناء» وفي رواية ابن أبي حاتم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم «من كسر شيئًا فهو له وعليه مثله» فهذا دليل على حكم المتلف ومنه تلف العين المغصوبة، والتلف علة لرد القيمة أو المثل، فيكون دليلًا على العلة.
وأيضًا حكم مال الفرد فإنه محترم ولا يؤخذ من الشخص إلا بطيب نفسه عملًا بعموم قول الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: «لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس» ولكن إذا كان منعه يؤدي إلى ضرر يؤخذ جبرًا عنه، فقد روي عن ابن عباس أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «لا ضرر ولا ضرار، وللرجلِ أن يضع خشبه في حائط داره» فالحديث يدل على أنه لا يحل للجار أن يمنع جاره من غرز الخشب في جداره ويجبر الحاكم إذا امتنع، مع أن الجدار ملك للشخص فله أن يمنع جاره، غير أن منع جاره من غرز خشبه يضره، فإزالةً للضرر أُجبر على أن يسمح لجاره، فالعلة هي الضرر، فهذا دليل على منع الضرر، والضرر علة لإجبار المالك على التنازل عن ملكه، فيكون دليلًا على العلة. فالتلف في المثال الأول والضرر في المثال الثاني كل منهما علة شرعية، وقد جاء الدليل دالًا على كل منهما. وعلى ذلك فإنه ليس شرطًا أن يكون دليل العلة هو دليل الحكم بل قد يكون دليلها دليل الحكم وقد يكون دليلها مقصودًا فيه الدلالة عليها. ومعرفة العلة غير متوقفة على الحكم لكونها ثابتة بالنص فلا تتوقف على الحكم ولكنها متوقفة على وجود الدليل. فالحكم وحده «ولو جاء دليل يدل عليه» فإنه لا يدل على العلة لأنها غير الحكم، ولأنه لا يصلح دليلًا عليها. ومن هنا لا يأتي قياس حكم على حكم لمجرد التشابه بين الوظيفتين، بل لا بدّ من أن تكون هناك علة قد دل الدليل الشرعي عليها.
وعليه فإن الحكم والعلة شيئان مختلفان، وكل منهما يحتاج إلى دليل من كتاب أو سنة أو إجماع يدل عليه... فدلالة الدليل على الحكم لا تكفي للدلالة على وجود العلة، بل لا بدّ من أن يكون هناك دليل يدل عليها، سواء في دليل الحكم نفسه بنص خاص بالدلالة عليها، أو في دليل مقصود به الدلالة على العلة، ولكن العلة نفسها تكون دليلًا على الحكم، ولا يحتاج إلى دليل آخر، لأنها هي نفسها دليل، إذ إنها معقول النص، فهي كمنطوق النص وكمفهومه. ومن هنا كان تعريفها بأنها الباعث على الحكم من أدق التعاريف لها.
ولما كان تعريف العلة بأنها الشيء الذي من أجله وُجد الحكم يُوجِدُ اشتباهًا بينها وبين السبب، ويُوجدُ اشتباهًا بينها وبين المناط، لذلك كان لا بدّ من بيان الفرق بين العلة والسبب والفرق بين العلة والمناط.
الفرق بين العلة والسبب
السبب هو ما يلزم من وجوده وجود، ومن عدمه العدم، ولم يكن هو الباعث على تشريع الحكم، فالسبب متعلق بوجود الحكم في الواقع وليس متعلقًا بتشريع الحكم لمعالجة الواقع، كمشاهدة هلال شهر رمضان الذي هو سبب لوجوب الصوم على من شاهده. فالسبب دل على وجود الوجوب لا على الباعث على الوجوب أي لا على سبب الوجوب، ووجود الوجوب غير سبب الوجوب. وهذا بخلاف العلة فإنها الشيء الذي من أجله وُجد الحكم أي شُرع، أي هي الباعث على تشريع الحكم، فهي متعلقة بتشريع الحكم لا بوجوده بالفعل، فهي سبب لوجوب الحكم وليست سببًا لوجوده. والسبب يأتي قبل وجود الحكم، فإذا وجد أصبح وجود الحكم الواجب المشرَّع واجبًا. وقبل أن يوجد السبب يكون الحكم المشرَّع واجبًا على المكلف.
ولكن وجود هذا الوجوب يتوقف على وجود السبب، بخلاف العلة فإنها تصاحب تشريع الحكم إذ هي الباعث على شرع الحكم.
فمثلُ رؤية هلال شهر رمضان الذي ضربناه سابقًا، يُظهر السبب لوجود وجوب الصوم، فهي سابقة على الصوم، بخلاف شلالات المياه العامة التي تولد الكهرباء مثلًا، فإنها على لجعل الكهرباء ملكية عامة، فهي مصاحبة لتشريع الحكم، وكون الشلالات ملكية عامة مصاحب لحكم الكهرباء المتولدة منها، وهو الباعث على الحكم. وأيضًا فإن السبب خاص بما كان سببًا لوجوده ولا يتعداه إلى غيره فلا يقاس عليه، وهذا بخلاف العلة فإنها ليست خاصة بالحكم الذي شرع لأجلها بل تتعداه إلى غيره ويقاس عليه ويقاس عليها. فمثلًا حلول وقت صلاة المغرب سبب لوجوب أداء صلاة المغرب وهو لا يصلح سببًا لغير صلاة المغرب فلا يقاس عليه. ولكن كون الإلهاء عن الصلاة علة لتشريع حكم تحريم البيع عند أذان الجمعة كما دل على ذلك قوله تعالى:
{إِذَا نُودِي لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} (سورة الجمعة: الآية 9). ليس خاصًا بالبيع بل متى تحققت في غير البيع تعدى الحكم لهذا الغير فبواسطتها يقاس على الحكم فتحرم الإجارة والسباحة والكتابة وغيرها عند أذان الجمعة.
فالعلة هي الباعث على تشريع الحكم والسبب هو الباعث على إيجاد الحكم بالفعل أي على القيام به.
وعلى هذا فقوله تعالى: {أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} (سورة الإسراء: الآية 78) ليس علة وإنما هو سبب، إذ دلوك الشمس سبب لإقامة الصلاة وليس علة.
وما روي عن سلمة بن الأكوع أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يصلي المغرب إذا غربت الشمس وتوارت بالحجاب ليس علة وإنما هو سبب، إذ غروب الشمس وتواريها بالحجاب سبب لإقامة صلاة المغرب وليس علة لها. فهذا كله وأمثاله من قبيل الأسباب وليس من قبيل العلل لأن دلوك الشمس وغروبها كل منهما سبب لوجود الحكم بالفعل وليس سببًا لوجوبه، أي هي سبب لإيجاده من المكلف المعيَّن وليست سببًا لتشريعه. ومن هنا يتبيّن أن ما ورد في العبادات من كونها أسبابًا وليست عللًا يجعل العبادات توقيفية لا تعلل ولا يقاس عليها. لأن السبب خاص بما كان سببًا له، وهو القيام بالحكم وليس تشريعه.
الفرق بين العلة والمناط
العلة هي الشيء الذي من أجله وجد الحكم أو بعبارة أخرى هي الأمر الباعث على الحكم، أي هي الشيء الدال على مقصود الشارع من الحكم، وهذه لا بدّ لها من دليل شرعي يدل عليها حتى يفهم أنها هي مقصود الشارع من الحكم. أما المناط فهو ما أناط الشارع الحكم به وعلقه عليه، أي هو المسألة التي ينطبق عليها الحكم وليس دليله ولا علته.
والمناط اسم مكان الإناطة، والإناطة التعليق والإلصاق، قال حبيب الطائي:
بلاد بها نيطت عليَّ تمائمي وأول أرض مسَّ جلدي ترابها
أي عُلِّقت على الحُروز بها، وهذا المعنى اللغوي هو المقصود من كلمة المناط بالنسبة للحكم، إذ لم يرد لها معنى شرعي غيره فيكون معناها اللغوي هو الذي يجب أن تفسر به وأن يكون هو المقصود.
وعلى هذا فإن كلمة المناط يراد منها الشيء المتعلق به الحكم.
ومعنى نيط به: أي ارتبط الحكم به وتعلَّق، ولا يوجد للمناط معنى آخر مطلقًا، وبناءً على ذلك فإن تحقيق المناط هو النظر في واقع الشيء الذي جاء الحكم لأجله لمعرفة حقيقته، أي أن الحكم الذي جاء قد عُرف دلبله وعُرفت علته، ولكن هل ينطبق على هذا الشيء بذاته أم لا؟
فالنظر في انطباق الحكم المعروف دليله وعلته على فرد من الأفراد هو تحقيق المناط، فمناط الحكم هو الناحية غير النقلية في الحكم الشرعي.
فالمناط «إذن» هو ما سوى النقليات والمراد به الواقع الذي يطبَّق عليه الحكم الشرعي. فإذا قلت: الخمر حرام، فإن الحكم الشرعي هو حرمة الخمر. أمَّا تحقيق كون الشراب المعيَّن خمرًا أو ليس بخمر ليتأتى الحكم عليه بأنه حرام أو ليس بحرام فهو تحقيق المناط. ولا بدّ من النظر في كون الشراب خمرًا أو غير خمر حتى يقال عنه إنه حرام. وهذا النظر في حقيقة الشراب هل هو خمر أم لا؟ هو تحقيق المناط، وإذا قلت: الماء الذي يجوز منه الوضوء هو الماء المطلق، فإن الحكم الشرعي هو كون الماء المطلق هو الذي يجوز منه الوضوء.
فتحقيق كون الماء مطلقًا أو غير مطلق ليتأتى الحكم عليه بأنه يجوز منه الوضوء أو لا يجوز، هو تحقيق المناط، فلا بدّ من النظر في كون الماء مطلقًا أو غير مطلق حتى يقال إنه يجوز الوضوء منه أو لا يجوز، وهذا النظر في حقيقة الماء هو تحقيق المناط.
وإذا قلت: إن المحْدِث يجب عليه الوضوء للصلاة، فإن الحكم الشرعي هو كون المحدث يجب عليه الوضوء للصلاة، فتحقيق كون الشخص مُحْدِثًا أو ليس بمُحدِث هو تحقيق المناط، وهكذا. فتحقيق المناط في هذه الأمثلة هو تحقيق كون الشراب المعيَّن خمرًا أو ليس بخمر، وتحقيق كون الماء مطلقًا أو غير مطلق، وتحقيق كون الشخص مُحْدِثًا أو ليس بمُحدِث.
فالمناط فيها هو الشراب والماء والشخص، وتحقيق المناط هو الوقوف على حقيقة هذه الأشياء من حيث كون الحكم الشرعي المتعلق بها ينطبق عليها أم لا؟ فتحقيق المناط «كما أصبح واضحًا» هو النظر في معرفة وجود الحكم الشرعي في آحاد الصور بعد معرفته من الدليل الشرعي أو من العلة الشرعية. فجهة القبلة هي مناط وجوب استقبالها، ووجوب استقبالها هو الحكم الشرعي، وهو معروف من قبل قد دل عليه قوله تعالى: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ} (سورة البقرة: الآية 144) وكون هذه الجهة هي جهة القبلة هو المناط، فتحقيق هذا في حالة الاشتباه هو تحقيق المناط، فتحقيق المناط هو تحقيق الشيء الذي هو محل الحكم.
وعليه فإن المناط غير العلة، وتحقيق المناط غير العلة، لأن تحقيق المناط هو النظر في حقيقة الشيء الذي يراد تطبيق الحكم عليه كالنظر في الشراب هل هو خمر أم لا؟ والنظر في الماء هل هو مطلق أم لا؟ والنظر في الشخص هل هو مُحْدِث أم لا؟ والنظر في الجهة هل هي القبلة أم لا؟ وهكذا. أما تحقيق العلة فهو النظر في الباعث على الحكم كالنظر في قوله صلى الله عليه وآله وسلم: أينقص الرُّطب إذا يبس؟ حين سئل عن بيع الرُّطب بالتمر، وقال: فلا، إذن. هل يفيد العلية أم لا؟ وكالنظر في قوله تعالى: {كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاء مِنكُمْ} (سورة الحشر: الآية 7). هل يفيد العلية أم لا؟ وكالنظر في قوله تعالى: {إِذَا نُودِي لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} (سورة الجمعة: الآية 9) مع قوله تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ} (سورة الجمعة: الآية 10). هل يستنبط منها علة أم لا؟ وكالنظر في قوله تعالى: {وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ} (سورة التوبة: الآية 60). هل يدل على علة أم لا؟ وهكذا... فتحقيق المناط يرجع إلى العلم بما لا يُعرف ذلك الشيء إلا به، فهو يرجع إلى غير النقليات، إلى العلوم والفنون والمعارف التي تعرف ذلك الشيء، فبواسطة المراصد والحساب نحدد المواقيت، وبواسطة البوصلة نحدد وجهة القبلة، ولذلك لا يُشترط في من يحقق المناط أن يكون مجتهدًا. وهذا هو الفرق بين العلة والمناط، وبالتالي الفرق بين تحقيق العلة وتحقيق المناط.
وحين يتعلق الاجتهاد بتحقيق المناط فلا يفتقر ذلك إلى مجتهد مستوفٍ شروط الاجتهاد الشرعية حتى يعلم منه تحقيق المناط أي حتى يحقق المناط بمعنى أنه لا يفتقر إلى معرفة بالأدلة الشرعية ولا إلى معرفة بالعربية، لأن المقصود من هذا الاجتهاد هو العلم بالموضوع على ما هو عليه، أي بالشيء الذي يراد تطبيق الحكم الشرعي عليه، وإنما يفتقر فيه إلى العلم بما لا يُعرف ذلك الموضوع إلا به من حيث قُصدت المعرفة به، فلا بدّ أن يكون ذلك الشخص عالماً بهذه المعارف التي تتعلق بذلك الشيء ليعطي الحكم الشرعي على وفق ذلك المقتضى، سواء أكان ذلك الشخص هو المجتهد أم كان شخصًا آخر غيره يرجع إليه المجتهد لمعرفة الشيء، أم كان كتابًا شرح ذلك الشيء؟ فتحقيق المناط لا يشترط فيه ما يشترط في الاجتهاد من علم بالأمور الشرعية وعلم بالعربية، بل يكفي فيه أن يعرف الموضوع المراد تطبيق الحكم عليه ولو كان جاهلًا كل الجهل في سواه كالمحدِّث العارف بأحوال الأسانيد وطرقها وصحيحها من سقيمها وما يحتج به من متونها مما لا يحتج به. فهذا يُعتبر علمه فيما هو متعلق بالحديث، سواء كان عالماً بأمور الشريعة أم لا، وعارفًا بالعربية أم لا؟ ومثلُه الطبيب في العلم بالأدواء والأمراض، والصانع في معرفة عيوب الصناعات، وعُرفاء الأسواق في معرفة قِيَمِ السِّلع ومداخل العيوب فيها، والماسح في تقرير الأرضين ونحوها، وعالم اللغة في معرفة اللفظة ومعناها، والمخترع للآلات والعالم في الذرة، والخبير في علوم الفضاء ونحو كل هذا وما أشبهه مما يُعرف بواسطته مناط الحكم الشرعي ولا يشترط فيه أن يكون مجتهدًا حتى ولا أن يكون مسلمًا، لأن المقصود من تحقيق المناط هو الوقوف على حقيقة الشيء، وهذا لا دخل له في الاجتهاد ولا بالمعارف الشرعية ولا باللغة العربية، بل القصد منه محصور بأمر معيَّن وهو معرفة الشيء.
وتحقيق مناط الحكم أي الشيء المراد تطبيق الحكم عليه أمر لا بدّ منه قبل معرفة الحكم، ولا يمكن معرفة الحكم إلّا بعد تحقيق مناطه، فإن كل دليل شرعي مبني على مقدمتين: إحداهما راجعة إلى تحقيق المناط، والأخرى ترجع إلى نفس الحكم الشرعي. فالأولى عقلية بحتة أي تثبت بالفكر والتدبر وهي ما سوى النقلية، والثانية نقلية أي تثبت بفهم النص الشرعي الذي صح نقله وهو الكتاب والسنة والإجماع.
فالمجتهد عليه أولًا أن يتفهم حقيقة الحادثة أو الواقعة أو الشيء الذي يريد بيان الحكم الشرعي بشأنه. وبعد أن يقف عليه ينتقل لفهم النقليات، أي لفهم النص الشرعي المراد استنباط الحكم منه لتلك الحادثة أو الواقعة أو الشيء، أو لفهم الحكم الشرعي المراد تطبيقه على تلك الحادثة أو الواقعة أو الشيء. أي لا بدّ أن يلاحظ حين استنباط الأحكام وحين تبنِّيها فهم الواقع والفقه فيه ثم فهم الواجب في معالجة هذا الواقع من الدليل الشرعي وهو فهم حكم الله الذي حكم به في هذا الواقع، ثم يطبق أحدهما على الآخر، وبعبارة أخرى أن يتوصل بمعرفة الواقع والتفقه فيه إلى معرفة حكم الله.
شروط العلة
بعد هذا البحث المستفيض عن العلة والفرق بينها وبين السبب وبينها وبين المناط نأتي إلى بيان شروطها وأدلتها، وبذلك نكون قد استكملنا البحث فيها وبيَّنا كل ما يتعلق بخلفياتها وبكل ما أُبهم منها.
فالعلة يشترط فيها ثمانية شروط:
الشرط الأول: لا بدّ أن تكون العلة بمعنى الباعث، أي أنها لا بدّ أن تكون مشتملة على معنى صالح لأن يكون مقصود الشارع من تشريع الحكم. فلو كانت وصفًا طرديًّا لا يظهر فيه أنه مقصود الشارع من تشريع الحكم، فإن التعليل به ممتنع، لأنه حينئذ يكون أمارة على الحكم أي علامة عليه، فلا فائدة فيه سوى تعريف الحكم، والحكم معروف بالخطاب لا بالعلة المستنبطة منه، ولذلك يشترط في العلة أن تكون هي الباعث على الحكم.
الشرط الثاني: أن تكون وصفًا ظاهرًا منضبطًا مشتملًا على معنى مناسب. أي أن يكون وصفًا مفهمًا للتعليل، إذ ترد في النصوص الشرعية أوصاف متعددة، فلا يعني ذلك أن هذه الأوصاف علل شرعية لمجرد أنها جاءت في الأدلة الشرعية بل هي مجرد أوصاف كسائر الأوصاف، والذي يجعلها صالحة لأن تكون علة هو وضعها في الجملة على وضع معيَّن وكونها وصفًا معينًا، ولذلك لا بدّ من إدراك الوصف نفسه ما هو، وإدراك وضعه في التركيب في الجملة حتى يصح جعله علة، وحتى يجوز التعليل به.
ولذلك اشترط في العلة أن تكون وصفًا واشترط في الوصف أن يكون ظاهرًا جليًّا عاريًا عن الاضطراب، واشترط أن يكون وضعه في الجملة مفيدًا للعلية، أي أن يكون وصفًا مفهمًا.
الشرط الثالث: أن تكون مؤثرة في الحكم فإن لم تؤثر فيه لم يجز أن تكون علة، ومعنى كون العلة مؤثرة في الحكم أن يغلب على ظن المجتهد أن الحكم حاصل عند ثبوتها، أي لأجلها دون شيء سواها. فقوله تعالى: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ} (سورة الحج: الآية 28) لا يفيد العلية لأن الوصف وهو شهود المنافع لم يؤثر في الحكم فلا يكون علة، وقوله تعالى: {كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاء مِنكُمْ} (سورة الحشر: الآية 7) يفيد العلية لأن الوصف وهو عدم الدُّولة بين الأغنياء قد أثر في الحكم. وحصل الحكم عند ثبوته.
ومن هنا كان لا بدّ أن تكون العلة مؤثرة في الحكم.
الشرط الرابع: أن تكون سالمة فلا يردها نص من كتاب أو سنة أو إجماع.
الشرط الخامس: أن تكون مطَّردة، أي كلما وُجدت وجد الحكم.
الشرط السادس: أن تكون متعدِّية، فلو كانت قاصرة لم يصح، لأن فائدة العلة إنما هي في إثبات الحكم بها، والعلة القاصرة غير مثبتة للحكم في الأصل لكونه ثابتًا بالنص أو الإجماع، ولأنها مستنبطة فتكون فرعًا عليه، فلو كانت مثبتة له لكان فرعًا عليها، وكذلك العلة القاصرة غير مثبتة للحكم في الفرع لعدم تعديها ولذلك لا تكون صحيحة.
الشرط السابع: أن يكون طريق إثباتها شرعيًا، كالحكم الشرعي سواء بسواء، أي أن تثبت بالكتاب أو السنة أو الإجماع، وإذا لم تثبت بواحد من هذه الأدلة الثلاثة لا تعتبر علة شرعية.
الشرط الثامن: أن لا تكون حكمًا شرعيًّا، فلا يعلل الحكم الشرعي بالحكم الشرعي، لأنه لو كان الحكم علة الحكم فإما أن يكون بمعنى الأمارة المعرفة أو بمعنى الباعث، فإن كان بمعنى الأمارة المعرفة لم يصح به التعليل لأن العلة ليست أمارة وعلامة وإنما هي الباعث على تشريع الحكم، وإن كان بمعنى الباعث فإنه يستحيل الوقوع، لأنه يقتضي أن يكون الحكم باعثًا لنفسه، أي أن يكون قطع يد السارق باعثًا على قطع يد السارق وهذا لا يكون، ولذلك لا يصح أن تكون العلة حكمًا شرعيًّا.
ولا يجوز أن تؤخذ العلة إلّا مما يُعتبر أنه قد أتى به الوحي، أي من الكتاب أو السنة أو الإجماع. لأن الكتاب جاء به الوحي لفظًا ومعنى، والسنة جاء بها الوحي معنى، وإجماع الصحابة يكشف عن دليل أي عن أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم قاله أو فعله أو سكت عنه، فيعتبر مما يُقِرُّه الوحي. فإذا وردت العلة في واحد من هذه الثلاثة كانت على شرعية، وإن لم تأتِ من واحد منها لا تعتبر علة شرعية ولا قيمة لها شرعًا.
ويتبيّن من استقراء النصوص الشرعية في الكتاب والسنة أن النص الشرعي يدل على العلة إما صراحة أو دلالة أو استنباطًا، ولا توجد أي دلالة على العلة الشرعية من الشرع أي من النصوص المعتبرة نصوصًا شرعية سوى هذه الأحوال ليس غير. فالنص الشرعي إما أن يدل على العلة صراحة في النص، أي أن ألفاظ النص أو تركيبه أو ترتيبه يدل عليها، أو تستنبط استنباطًا من النص الواحد أو النصوص المتعددة المعينة التي يُفهم من مدلولها المعيَّن ـــــــ لا من مجموعها ـــــــ كون الشيء علة. أو إجماعًا من الصحابة كعلة أخرى يمكن أن تكون قد وردت بالكتاب أو السنة أي بالنص، لاشتمالها على ما كان سببًا لاعتبار الشرع العلة علة لأجله. أي أن هذه العلة التي لم يرد بها النص تحتوي على الشيء نفسه الذي اعتبره الشارع باعثًا على كونها علة، أي أن وجه العلية فيها هو عين وجه العلية الذي في العلة الوارد بها النص.
أما العلة الدال عليها النص صراحة فهي العلة التي تفهم من منطوق النص أو مفهومه، وهو أن يذكر دليل من الكتاب أو السنة على التعليل بالوصف بلفظ موضوع له في اللغة من غير احتياج فيه إلى نظر واستدلال، وهو قسمان:
الأول: ما صرح فيه بكون الوصف علة الحكم، مثال ذلك قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «إنما جعل الاستئذان لأجل البصر» أي إنما شُرع عند الدخول إلى دار الغير لئلا يقع النظر على ما حَرُم النظر إليه. وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: «إنما نهيتكم عن ادِّخار لحوم الأضاحي لأجل الدافة ألا فادَّخروها» والدافة جماعة يذهبون مهلًا لطلب الكلأ في سنة القحط مأخوذ من الدفيف وهو الدبيب، والمراد بالحديث القافلة السيارة، أو الدافة الجيش يدفون نحو العدوّ أي يدبون نحوه. وكقوله تعالى: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ} (سورة المائدة: الآية 32).
الثاني: ما ورد فيه حرف من حروف التعليل كاللام، وكي، وإن، والباء. أما «اللام» فلقوله تعالى: {لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} (سورة النساء: الآية 165).
فكونه لا يكون حجة، وصفًا، وقد دخلت عليه اللام فدل ذلك على أنها علة لإرسال الرسل، لأن الوصف هو الذي يعلل به لا الاسم، ولتصريح أهل اللغة بأن اللام للتعليل وقولهم في الألفاظ حجة. ولذلك يكون التعليل بالوصف الذي دخلت عليه اللام علة شرعية. وأما (كي) فكقوله تعالى: {كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاء مِنكُمْ} (سورة الحشر: الآية 7) أي كي لا يبقى تداول الأموال حاصلًا بين الأغنياء فقط، بل ينتقل إلى غيرهم. أي أن العلة في إعطاء المهاجرين دون الأنصار كي لا يتداوله الأغنياء من الأنصار. وكقوله تعالى: {لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ} (سورة الأحزاب: الآية 37) أي علة تزويج الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بزينب مطلَّقة زيد كانت من أجل أن لا يتحرَّج المؤمنون في تزوُّج مطلَّقات من يتبنّونه.
وأما «إن» فلقوله صلى الله عليه وآله وسلم في قتلى أُحد: «زمِّلوهم بكُلومِهم فإنهم يُحشرون يوم القيامة وأوداجهم تشخب دمًا، اللون لون الدم والريح ريح المسك» فعلة عدم تغسيل الشهيد كونه يحشر يوم القيامة وجرحه يشخب دمًا. وكقوله صلى الله عليه وآله وسلم في حق محرم وقصت به ناقته:
«لا تخمِّروا رأسه ولا تقربوه طيبًا فإنه يبعث يوم القيامة ملبِّيًا» .
وكقوله في شأن الهرة من حيث طهارتها: «إنها من الطوافين عليكم والطوافات» وكقوله: «لا تشتروا السمك في الماء فإنه غرر» .
وأما (الباء) فكقوله تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ} (سورة آل عمران: الآية 159) جعل الباء وما دخلت عليه علة لليِّن المنسوب للنبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم وكقوله تعالى: {جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (سورة السجدة: الآية 17).
فهذه هي الصيغ الصريحة في التعليل، إلّا أن إفادة الصيغة للتعليل إنما تكون إذا تحقق فيها ثلاثة أمور: أحدها: أن يكون الحرف نفسه قد وضع في اللغة للتعليل. والثاني: أن يكون ما دخلت عليه وصفًا. والثالث: أن يكون هذا الوصف مناسبًا للحكم، والحكم ثابت على وفقه، ومعنى كونه مناسبًا هو أن يكون وصفًا ظاهرًا منضبطًا يلزم من ترتيب الحكم على وفقه حصول ما يصلح أن يكون مقصودًا من شرع ذلك الحكم مع عدم الخروج عن وضع اللغة. فإذا اجتمعت هذه الأمور الثلاثة أفادت الصيغة للتعليل ووجب أن يعلل الحكم الوارد فيه النص. وإذا لم تجتمع هذه الأمور فإنه لا تكون الصيغة للتعليل.
فاللام في قوله تعالى: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ} (سورة الحج: الآية 28) وفي قوله تعالى: {لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً} (سورة القصص: الآية 8) ليست للتعليل بل للعاقبة، لأن الحرف وإن كان قد وضع للتعليل في اللغة ولكنه لا يلزم من ترتيب الحكم على وفقه حصول ما يصلح أن يكون مقصودًا من شرع الحكم، فالحج لم يُشرع لشهود منافع، بل شُرع ليكون فريضة على المكلَّف المستطيع وهو فرض من فروض التعبد لله سبحانه وتعالى وفرعون وامرأته لم يأخذا موسى لأجل أن يكون لهما عدوًا بل ليكون لهما قرَّة عين. وإن في قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَآقُّواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ} (سورة الأنفال: الآية 13). وفي قوله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ} (سورة المائدة: الآية 91) ليست للتعليل، وذلك لأن الحرف وإن كان قد وضع للتعليل في اللغة ولكنه لم يدخل على وصف مناسب فانتفى منه كونه للتعليل.
وأما العلة الدال عليها الدليل دلالة، وهو ما يسمى بالتنبيه والإيماء فهو قسمان:
الأول: أن يكون الحكم مسلطًا على وصف مفهم، بحيث يكون له مفهوم موافقة أو مفهوم مخالفة، ففي هذه الحال يعتبر الوصف علة ويعلل له الحكم، وذلك كقوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ} (سورة التوبة: الآية 60) فإن المؤلفة قلوبهم أشخاص مسلمون ضعفاء الحال وضعفاء العقيدة تتألف قلوبهم بإعطاء الزكاة، فهو ليس اسمًا هو وصف مناسب لحكم إعطاء الزكاة. فعلة إعطائهم تأليف قلوبهم، ومثل ذلك الفقراء والمساكين والعاملين عليها فإن علة إعطائهم كونهم فقراء وكونهم مساكين وكونهم عاملين عليها، أي اتِّصافهم بهذه الأوصاف. وكذلك قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «القاتل لا يرث» فإن كلمة «القاتل» وصف مفهم، فدل على أنه علة لعدم الإرث، أي أن علة عدم توريثه هي كونه قاتلًا.
وكقوله صلى الله عليه وآله وسلم: «لا ضمان على مؤتَمن» فإن علة عدم الضمان كونه مؤتَمنًا، لأن لفظ مؤتَمن وصف مناسب لحكم عدم الضمان فكان علة، ومثله قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «الكافر لا يرث» . فإنه يدل على أن علة عدم توريثه كونه كافرًا. وكقوله صلى الله عليه وآله وسلم: «من أسلف فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم» فالعلة في جواز السلف كونه مكيلًا أو موزونًا، لأن كلمة كيل وصف مناسب لحكم جواز السلف فكان كونه مكيلًا معلومًا ووزنًا معلومًا علة، وهكذا.
الثاني: أن يكون التعليل لازمًا من مدلول اللفظ وضعًا، لا أن يكون اللفظ دالًا بوضعه على التعليل وهو خمسة أنواع:
أحدها: ترتيب الحكم على الوصف بفاء التعقيب والتسبيب، وذلك كقوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا} (سورة المائدة: الآية 38) وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: «إذا اشتريت فقل لا خلابة» والخلابة الخديعة، وكقوله صلى الله عليه وآله وسلم: «من أحيا أرضًا ميتة فهي له» . وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: «ملكت نفسكِ فاختاري» . فإذا دخلت الفاء في أي جملة يترتب فيها الحكم على الوصف فإنه يفيد التعليل، سواء دخلت على الحكم أو دخلت على الوصف، وذلك لأن الفاء وضعت في مثل هذه الصور للتسبيب فتفيد العلية. أما ورودها في اللغة بمعنى الجمع المطلق، وورودها بمعنى ثم في إرادة التأخير والمهلة، فإن هذا غير ظاهر فيها، علاوة على كونه يكون في حال وجود قرينة تمنع التعقيب والتسبيب، ولهذا فالأصل فيها إفادة التعليل، والجمع والتأخير خلاف الأصل، وذلك أن الفاء موضوعة في اللغة للترتيب والتعقيب، ففي قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «من أحاطَ حائطًا على أرضٍ فهي له» يدل الترتيب على العلية لأن الفاء هنا للتعقيب، وحينئذ يلزم أن يثبت الحكم عقيب ما رتب عليه فيلزم سببيّته للحكم. فالفاء في وضعها للترتيب والتعقيب أفادت التسبيب فأفادت العلية، فإذا استعملت في غير ذلك كان استعمالها على غير الأصل.
ثانيها: ما لو حدثت واقعة فرفعت إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم: فحكم عقيبها بحكم، فإنه يدل على كون ما حدث علة لذلك الحكم. وذلك لما روي أن أعرابيًا جاء إلى النبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم فقال: هلكت وأهلكت، فقال له النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم: ماذا صنعت؟ فقال: واقعت أهلي في نهار رمضان عامدًا فقال صلى الله عليه وآله وسلم: «أعْتِقْ رقبة» فإنه يدل على كون المواقعة علة للعتق، وذلك لأنا نعلم أن الأعرابي إنما سأل النبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم عن واقعة لبيان حكمها شرعًا، وأن النبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم إنما ذكر ذلك الحكم في معرض الجواب له، لا أنه ذكره ابتداءً منه، لما فيه من إخلاء السؤال عن الجواب وتأخير البيان عن وقت الحاجة. وكل ذلك وإن كان ممكنًا إلّا أنه على خلاف الظاهر. وإذا كان ذلك جوابًا عن سؤاله فالسؤال الذي عنه الجواب يكون ذكره مقدرًا في الجواب في كلام المجيب فيصير كأنه قال: واقعتَ فكفِّر.
ثالثها: أن يذكر الشارع مع الحكم وصفًا لو لم يقدر التعليل به لما كان لذكْره فائدة، ومنصب الشارع مما يتنزه عنه، والنصوص التشريعية عادة يكون لكل ما يذكر فيها اعتبار تشريعي، ولذلك يعتبر هذا الوصف علة، ويكون النص معلِّلًا. مثل ما إذا كان الكلام جوابًا على سؤال، سواء أكان الوصف في محل السؤال، أو عدل عن محل السؤال في بيان الحكم إلى نظير لمحل السؤال، وذلك كما روي عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أنه سئل عن جواز بيع الرُّطب بالتمر، فقال النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم: «أينقص الرُّطب إذا يبس؟ فقالوا: نعم، فقال: فلا، إذًا». فاقتران الحكم بوصف النقصان في جوابهم أن الرُّطب ينقص إذا يبس لا يمكن أن يكون عبثًا، بل لا بدّ أن يكون لفائدة. واقتران جواب الرسول عن بيع الرطب بالفاء في قوله: «فلا، إذًا» وهي من صيغ التعليل، دلالة على أن النقصان علة امتناع بيع الرُّطب بالتمر من ترتيبه الحكم على الوصف بالفاء واقترانه بحرف «إذًا». وفي هذا المثال كان الوصف الذي ذكر واقعًا في محل السؤال، ومثال ما إذا كان الوصف في غير محل السؤال، وهو أن يعدل في بيان الحكم إلى ذكر نظير لمحل السؤال، وذلك كما روي عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه لما سألته الجارية الخثعمية وقالت: يا رسول الله إن أبي أدركته الوفاة وعليه فريضة الحج، فإن حججت عنه أينفعه ذلك؟ فقال صلى الله عليه وآله وسلم: «أرأيتِ لو كان على أبيك دينٌ فقضيتِه أكان ينفعه ذلك؟ فقالت: نعم، قال: فَدَيْنُ الله أحق بالقضاء» . فالخثعمية إنما سألت عن الحج، والنبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم ذكر دين الآدمي، فذكر لها نظيرًا للمسؤول عنه وليس جواب المسؤول عنه نفسه، ولكنه ذكَره مرتِّبًا للحكم الذي سألت عنه عليه، فاقتران الحكم بوصف، وهو الدَّين، لا يمكن أن يكون عبثًا، بل لا بدّ أن يكون لفائدة. وذكر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لهذا الوصف مع ترتيب الحكم عليه، يدل على التعليل به، وإلَّا كان ذكْرُه عبثًا.
رابعها: أن يذكر في النص حكم أمر من الأمور، ثم يعقب على ذكره بذكر التفرقة بينه وبين أمر آخر يشمله الحكم لو لم تذكر هذه التفرقة بينهما، كقوله صلى الله عليه وآله وسلم: «لا تبيعوا البر بالبر» إلى قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «فإذا اختلف الجنسان فبيعوا كيف شئتم يدًا بيد» فقد ذكر حكم بيع البر بالبر بالنهي عنه خوفَ الرِّبا، ثم عقب على ذلك بأنه إذا اختلف الجنسان من الحبوب كالبر والشعير فإنه يجوز. فهذه التفرقة بين الحكمين تدل على أن اتحاد الجنسين هو علة النهي عن البيع بدليل إباحته للبيع في حال اختلافهما. وهذه التفرقة تكون في هذا النوع بألفاظ متعددة تفهم معنى التفرقة بين الأشياء، فمنها ما تكون التفرقة بلفظ الشرط والجزاء مثل «فإذا اختلف الجنسان فبيعوا» ومنها ما تكون فيه بالغاية، كقوله تعالى: {وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّىَ يَطْهُرْنَ} (سورة البقرة: الآية 222) وكقوله صلى الله عليه وآله وسلم: «لا تبيعوا الثمار حتى يبدوَ صلاحُها» وكنهيه عن بيع العنب حتى يَسوَدَّ وعن بيع الحب حتى يشتدَّ، ومنها ما يكون بالاستثناء كقوله تعالى: {فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إَلاَّ أَن يَعْفُونَ} (سورة البقرة: الآية 237) ومنها ما يكون بلفظ الاستدراك كقوله تعالى: {لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَـكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأَيْمَانَ} (سورة المائدة: الآية 89)، ومنها أن يستأنف أحد الشيئين بذكر صفة من صفاته بعد ذكر الآخر، كقوله صلى الله عليه وآله وسلم: «وللراجل سهم وللفارس ثلاثة أسهم» .
خامسها: أن يذكر الشارع مع الحكم وصفًا مفهمًا أنه للتعليل ومفهمًا وجه العلية فيه، وذلك كقوله صلى الله عليه وآله وسلم: «لا يقضي القاضي وهو غضبان» فقد ذكر الشارع مع النهي عن القضاء حالة الغضب، والغضاب وصف مفهم أنه للتعليل، ومفهم أنه كان علة للنهي عن القضاء لما فيه من تشويش الفكر واضطراب الحال، فدل ذلك على أن الغضب علة. وهكذا كل وصف مفهم أنه للتعليل ومفهم وجه العلية فيه إذا ذكر في النص الشرعي مع الحكم كان علة الحكم يدور مع المعلول وجودًا وعدمًا.
وأما العلة التي تستنبط من النص الواحد أو النصوص المتعددة المعينة استنباطًا فذلك أن يكون الشارع قد أمر بشيء أو نهى عن شيء في حالة إما مذكورة معه في النص أو مفهومة فيه من قرائن واقعية تعيَّن وجودُها فعلًا. ثم ينهى عما أمر به أو يأمر بما نهى عنه لزوال تلك الحالة. فيفهم حينئذ أن الحكم معلَّل بتلك الحالة أو بما تدل عليه، وذلك كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} (سورة الجمعة: الآية 9). فالآية سبقت لبيان أحكام صلاة الجمعة لا لبيان أحكام البيع، فالنهي عن البيع حصل في حالة النداء للجمعة، ثم جاء النص يقول: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ} (سورة الجمعة: الآية 10) فأمر بالانتشار في الأرض والابتغاء من فضل الله في حالة زوال تلك الحالة، وهو إذا قُضيت صلاة الجمعة جاز البيع عند انتهائها.
فيستنبط من ذلك أن علة منع البيع حال أذان الجمعة هو الإلهاء عن الصلاة، وهو ما دلت عليه تلك الحالة. وكقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «المسلمون شركاء في ثلاثة: في الماء والكلأ والنار» وثبت عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه سكت عن ملك الناس للآبار في أراضيهم وملكية الأفراد للماء في المدينة والطائف. ولكن وجود الآبار التي سمح الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بملكيتها للأفراد كان لزراعة البساتين وغيرها ولم تكن للجماعة فيها حاجة، فدل السماح بها في هذه الحال على أن الشركة في الماء إنما تكون فيما للجماعة فيه حاجة. فيستنبط من هذا أن وجود الحاجة للجماعة في الماء هو علة الشراكة فيه، أي كون الماء من مرافق الجماعة هو علة الشراكة فيه، أي علة كونه من الملكية العامة.
وهكذا كل نص سيق الحكم فيه لحالة أو وصف ثم ورد نص آخر في الأمر بحكم يخالف ذلك الحكم فإنه يستنبط من النَّصّيْنِ أن تلك الحالة علة أو تدلُّ على علة الحكم. ومن ذلك أن ينهى الشارع عن أمرٍ نهيًا عامًّا ثم يبيحه في حالة ما من حالتي ذلك الأمر، فيستنبط من إباحته في إحدى حالتيه مع وجود النهي العام أنَّ علة النهي هي الحالة المقابلة للحالة التي أُبيح فيها.
وأما العلة التي تؤخذ بالقياس فهي العلة التي لم يرد بها دليل شرعي ولكن ورد النّصُّ الشرعي بمثلها عينًا وجنسًا، فإنه تقاس العلة التي لم يرد بها دليل شرعي على العلة التي ورد بها النص الشرعي، لأن وجه التعليل فيها قد ورد به النص الشرعي. إلا أنه يشترط في العلة التي يقاس عليها أن تكون مأخوذة من نص مُفْهِم أنه للتعليل، ومفهم وجه العلية فيه، حتى يكون وجه العِلِّية قد ورد فيه النص وذلك حتى تعتبر أنها مما جاء به الوحي. فيكون قد ورد الوحي بوجه العلية وهو الذي جعلها تقاس على العلة التي جاء بها الوحي، وجاء بوجه العلية فيها.
هذه هي الحالة الوحيدة التي يجوز فيها قياس علة على علة وما عداها لا يجوز فيه قياس علة على علة مطلقًا. وذلك لأن قياس علة على علة هو كقياس حكم لم يرد له دليل شرعي على حكم ورد له دليل شرعي، فكما أنه لا يجوز قياس حكم على حكم إلّا إذا كان الحكم المقيس عليه معللًا بعلة شرعية دلَّ عليه الشرع، ولا يجوز قياس حكم على حكم لمجرَّدِ المشابهة بين الوظيفتين، فكذلك لا يجوز قياس علة على علة إلّا إذا كانت العلة المقيس عليها معللًا كونها علة ببيان وجه العلية من قبل الشرع، وإذا لم يبيّن ذلك لا يجوز القياس عليها. وبالاستقراء لا يوجد ذلك إلا في حالة واحدةٍ، وهي أن تكون العلة مأخوذة من وصفٍ مُفْهِمٍ أنهُ للتعليل، ومفهم وجه العلية فيه، وما عداها لا يجوز القياس في العلة مطلقًا فلا يقاس على العلة المستنبطة، ولا على العلة المأخوذة من وصف غير مفهم، ولا يقاس على الاسم الجامد لأنه ليس بوصف، وهو لا يتضمن معنى العلية فلا يعلل حتى يقاس عليه. ومثال الوصف الذي ذكره الشارع مع الحكم وكان لفظه مفهمًا حسب وضع اللغة وجه العلية فيه قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «لا يقضي القاضي وهو غضبان» فالغضب علة النهي عن القضاء، فهو علة مانعة من القضاء، ولفظ الغضب يفهم منه أن كونه غضبًا كان علة للنهي عن القضاء، والذي جعله علة هو ما فيه من تشويش الفكر واضطراب الحال، فإنه يقاس على هذه العلة كل ما يحصل فيه تشويش فكر واضطراب حال كالجوع مثلًا، فلا يقضي القاضي وهو جائع.
فالغضب هو العلة التي اتخذت أصلًا للقياس عليها، وبالتدقيق فيها يتبين أنها وصف مناسب يفهم السبب الذي جعله علة، أي هي وصف مفهم أنه للتعليل ومفهم وجه العليّة فيه ولذلك صح القياس عليها.
وهكذا كل أمر لم يرد من الشارع دليل على اعتباره علة ولكن فيه ما في الوصف الذي جاء من الشارع. دليل على اعتباره من وجه العلية فيه، فإنه يجوز اعتبارهُ علة قياسًا، ويكون حكمه حكم ما ورد النص الشرعي على كونه علة مثل الغضب الذي يحقق تشويش الفكر واضطراب الحال للقاضي، فكذلك الجوع والخوف يحققان ذلك أيضًا، وهكذا يكون الغضب هو العلة التي اتخذت أصلًا للقياس عليها. ولا بد أن يلاحظ دائمًا أن ذلك لا يكون إلا إذا كان الأصل الذي قيس عليه وصفًا مفهمًا أنه للتعليل ومفهمًا وجه العلية فيه.
والحاصل يشترط في العلة القياسية أن تكون العلة التي اتخذت أصلًا للقياس قد اجتمع فيها ثلاثة شروط:
الأول: كونها وصفًا ليس جامدًا.
الثاني: كونها وصفًا مفهمًا أي دالًا على معنًى آخر غير دلالة اللفظ، أي دالًا على أنه للتعليل.
والثالث: أن يكون دالًا على وجه العلية فيه. ولذلك لا يدخل التعليل الألفاظ الجامدة مطلقًا. وعليه فإن قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «الذهب بالذهب مثلًا بمثل، والفضة بالفضة مثلًا بمثل، والتمر بالتمر مثلًا بمثل، والبر بالبر مثلًا بمثل، والملح بالملح مثلًا بمثل، والشعير بالشعير مثلًا بمثل، فمن زاد أو ازداد فقد أربى» . هذا الحديث لا يعلل ما جاء فيه مطلقًا، لأنَّ هذه الأشياء ألفاظٌ جامدةٌ وليست وصفًا فلا تشعر بالعلِّية، ولا يفهم منها التعليل لا لغة ولا شرعًا، فينحصرُ تحريم الربا بهذه الأشياء الستة، وتكون الأموالُ الربوبية محصورةً في هذه الستة فحسب، فلا يقال حُرم الربا في الذهب لأنه موزون، أو لأنه معدن نفيس، فتجعل علة تحريم الربا فيه كونه ذهبًا أو فضة، وتجعل العلية فيه كونه موزونًا، أو كونه معدنًا نفيسًا، لأن كلمةَ الذهب والفضة اسم جامد وليس وصفًا، فلا يصحُّ أن يكون علةً مطلقًا فلا يقاس عليه، وهو أيضًا لا يتضمن أي تعليل ولا يدل على وجه العلية فيه، فلا يقاس على علته، فهو لا يقاس عليه قياس حكم لأنه ليس علة، ولا يقاس عليه قياس علة لأنه لا يدل على وجه العلية فيه فوق كونه ليس علة. ولا يقال: حُرِّم الربا في الحنطة والشعير والتمر والملح لأنه مكيل فتجعل علة التحريم فيه كونه حنطة أو شعيرًا أو ملحًا، ويجعل وجه العلية فيه كونه مكيل جنس أو كونه طعامًا، لأن كلمة الحنطة والشعير والتمر والملح أسماء جامدة وليست أوصافًا فلا يصح أن تكون علة مطلقًا فلا يقاس عليها، وهي أيضًا لا تتضمن أي تعليل ولا تدل على وجه العلية فيها فلا يقاس عليها، فهي لا يقاس عليها قياس حكم لأنها ليست علة، ولا يقاس عليها قياس علة لأنها لا تدل على وجه العلية فيها فوق كونها ليست علة.
ولا يقال: إن العلَّةَ فيه هي الزيادة وهي تتحقق في كل جنس من الأجناس فيحرم تبادل جنس واحد مطلقًا، أي مطلق جنس يحرم لوجود الزيادة، لا يقال ذلك لأن قوله في الحديث: «مثلًا بمثل» هو وصف وليس علة للتحريم، ولا يمكن أن يفهم منه كونه علة لا لغة ولا شرعًا، ولذلك يبقى الحكم مسلطًا على اللفظ الجامد، ولهذا قال في نهاية الحديث: «فمن زاد او ازداد فقد أربى» أي من زاد أو ازداد في هذه الأشياء المنصوص عنها، فالزيادة محصورة، في هذه الأشياء للنص عليها، ولأن قوله: «مثلًا بمثل» وقوله: «فمن زاد أو ازداد فقد أربى» جاء وصفًا لهذه الأشياء الستة، ولذلك كرر هذا الوصف مع كل واحد منها حتى تتحقق فيه الوصفية وأكد بقوله: «فمن زاد أو ازداد فقد أربى» ومن هنا لا يعتبر تبادل الجواهر النفيسة كالماس والجوهر ونحوه ربًا، ولو زاد أو ازداد لعدم النص عليه. وعليه فلا ربا في الزيتون ولا في البصل أو الليمون أو التفاح أو الحديد أو النحاس أو التراب أو الإسمنت أو غير ذلك لعدم النص عليه. وعلى ذلك أيضًا فإن قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «إذا كانت لك مائتا درهم وحال عليها الحول ففيها خمسة دراهم وليس عليه شيء يعني في الذهب حتى يكون لك عشرون دينارًا فإذا كانت لكل عشرون دينارًا وحال عليها الحول ففيها نصف دينار» هذا الحديث لا يعلل ما جاء فيه مطلقًا لأن هذه الأشياء ألفاظ جامدة وليست وصفًا فلا تشعر بالعلية ولا يفهم منها التعليل لا لغةً ولا شرعًا فتنحصر الزكاة من النقد بالذهب والفضة، فلا يقال الزكاة تجب فيها لأنها مال فيقاس عليها كل مال، لا يقال ذلك لأن كلمة الذهب والفضة اسم جامد فلا تصلح أن تكون علة ولذلك لا يقاس عليه، وهو لا يتضمن أي تعليل ولا يدل على وجه العلية فيه فلا يقاس على علته. ولذلك لا تجب الزكاة على الحديد ولا على النحاس ولا على الفولاذ ولو حال عليها الحول عند الشخص، وكذلك لا تجب الزكاة في الماس أو الجوهر ولو حال عليها الحول عند مالكها، وكذلك لا تجب الزكاة في البيوت المعدة للإجارة أو في السيارات المعدَّة للإجارة سواء أكانت سيارات ركاب أو سيارات شحن بحجة أن كلًّا منها مال قياسًا على الذهب والفضة، لأنَّ كون الذهب والفضة مالًا ليس علة لوجوب الزكاة فيهما، ولم يعلل وجوب الزكاة فيهما مطلقًا، وهما لفظان جامدان فلا يكونان علة ولا يتأتى التعليل فيهما، وبالطبع لا يقاس عليهما، ولا يدعى أن لهما علة ويقاس عليها. ومثل ذلك زكاة النعم لا تجب إلا فيما ورد النص فيه لأنه لفظ جامد، وكذلك زكاة الحبوب لا تجب إلا فيما ورد النص فيه لأنه لفظ جامد فلا يعلل ولا تفهم منه العلية لأنها محصورة في الوصف المفهم أنه للتعليل والمفهم لوجه العلية فيه، وهذا غير موجود فيما نصت الأحاديث على وجوب الزكاة فيه فضلًا عن كون الشارع قد بيَّن نِصَابَ كل نوع مما تجب فيه الزكاة وعينه بلفظه الجامد.
وكذلك قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} (سورة المائدة: الآية 3) لا يصح القياس عليها لأن الميتة ليست وصفًا مفهمًا للتحريم لأنها اسم جامد فلا يقاس عليها، ولا تدل على وجه العلية فيها فلا يدعى أن لها علة ويقاس على علتها.
ومثل هذا جميع النصوص التي جاء فيها اسم جامد. وأيضًا لا يدخل التعليل الوصف غير المفهم لأنه لا يشعر بالعلية ولا يتضمن أي تعليل لا لغة ولا شرعًا، فقول الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: «من ابتاع نخلًا بعد أن يؤبر فثمرتها للذي باعها إلّا أن يشترط المبتاع» خاص بالنخصل ليس غير ولا يقاس عليه، لأن التأبير عمل معين، وكلمة التأبير وإن كانت وصفًا إلا أنها ليست وصفًا مفهمًا لعلة الحكم فلا يتضمن التعليل، ولذلك لا يقاس عليه ولا يلحق به. وهكذا كل وصف غير مفهم لا يتخذ أصلًا للقياس.
وعليه فقياس العلة محصور بالعلة التي تثبت بالوصف المفهم ليس غير.
هذه أدلة العلة من الكتاب والسنة والقياس.
أما الإجماع فهو أن يروي الصحابة إجماعهم على اعتبار شيء معين علة، فيكون حينئذ علة شرعية، لأن إجماعهم يكشف عن أن هناك دليلًا عليه. وقد أجمع الصحابة على اعتبار العدالة علة للشهادة، وعلى اعتبار الصغر علة للولاية على الصغير فكانت كل واحدة منهما علة شرعية لأنها ثبتت بإجماع الصحابة وهي كالعلة الثابتة بالكتاب والسنة سواء بسواء.

جلبُ مَصَالح وَدَرءُ المفاسِد
ليسا علة للشريعة بوصفها كلًّا
ولا علة لأي حكم بعينه
يقول بعض علماء أصول الفقه: المقصود من شرع الحكم إما جلب مصلحة، أو دفع مضرة، أو مجموع الأمرين بالنسبة إلى العبد لتعالي الرب عن الضرر والانتفاع.
وربما كان ذلك مقصودًا للعبد لأنه ملائم له وموافق لنفسه، ولذلك إذا خُيِّر العامل بين وجود ذلك وعدمه اختار وجوده على عدمِهِ.
وإذا عرف أن المقصود من شرع الحكم إنما هو تحصيل المصلحة أو دفع المضرة، فذلك إما أن يكون في الدنيا أو في الآخرة، أي لا يخلو المقصود من شرع الحكم إما أن يكون من قبيل المقاصد الضرورية أو من قبيل المقاصد غير الضرورية. فإن كان من قبيل المقاصد الضرورية فإما أن يكون أصلًا أو لا يكون أصلًا. فإن كان أصلًا فهو الراجع إلى المقاصد الخمسة التي لم تخل من رعايتها ملة من الملل ولا شريعة من الشرائع، وهي: حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال، فإن حفظ هذه المقاصد من الضروريات. وأما إن لم يكن أصلًا فهو التابع المكمل للمقصود الضروري، وذلك كالمبالغة في حفظ العقل بتحريم شرب القليل من المسكر الداعي إلى الكثير وإن لم يكن مسكرًا.
وأما إن لم يكن من المقاصد الضرورية، فإما أن يكون من قبيل ما تدعو حاجة الناس إليه، أو لا تدعو الحاجة، فإن كان من قبيل ما تدعو لاليه الحاجة فإما أن يكون أصلًا أو لا يكون. فإن كان أصلًا فهو القسم الثاني الراجع إلى الحاجات الزائدة، وذلك كتسليط الولي على تزويج الصغيرة، وإن لم يكن أصلًا فهو التابع الجاري مجرى التتمة والتكملة للقسم الثاني، وذلك كرعاية الكفاءة ومهر المثل في تزويج الصغيرة.
وأما إن كان المقصود ليس من قبيل الحاجات الزائدة فهو القسم الثالث وهو ما يقع مواقع التحسين والتزيين ورعاية أحسن المناهج في العبادات والمعاملات. وخلاصة هذا أن المصالح عند هذا الفريق من علماء أصول الفقه خمسة أقسام هي:
1 ـــــــ المقاصد الضرورية التي هي أصل مثل المقاصد الخمسة.
2 ـــــــ المقاصد غير الضرورية التي ليست أصلًا مثل تحريم شرب القليل من المسكر.
3 ـــــــ المقاصد غير الضرورية التي هي من قبيل ما تدعو إليه الحاجة ويكون أصلًا مثل تسليط الولي على تزويج الصغيرة.
4 ـــــــ المقاصد الضرورية التي هي من قبيل ما تدعو الحاجة إليه، وهو ليس بأصل مثل رعاية الكفاءة.
5 ـــــــ المقاصد غير الضرورية التي هي من قبيل ما تدعو الحاجة إليه ولا يكون أصلًا بل من قبيل الحاجات الزائدة، وهو ما يقع موقع التحسين والتزيين ورعاية أحسن المناهج من العادات والمعاملات مثل سلب المرأة أهلية الحكم.
ويقول هؤلاء: إن الأحكام إنما شُرّعت لمقاصد العباد. ودليلُهم على ذلك النص والإجماع. أما الإجماع فإن أئمة الفقه مجمعون على أن أحكام الله تعالى لا تخلو من حكمة ومقصود، وإن اختلفوا في كون ذلك بطريق الوجوب كما قالت المعتزلة أو بحكم الاتفاق والوقوع من غير وجوب كما يقول بعض أهل السنة.
وأما النص فإن الأحكام الشرعية هي مما جاء به الرسول، فكانت رحمة للعالمين لقوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} (سورة الأنبياء: الآية 107). فلو خلت الأحكام من حكمة عائدة إلى العالمين ما كانت رحمة بل نقمة. ومثل قوله تعالى أيضًا: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} (سورة الأعراف: الآية 156).
فلو كان شرع الأحكام في حق العباد لا لحكمة، لَكانت نقمة لا رحمة، وأيضًا قوله عليه السلام: «لا ضرر ولا ضرار في الإسلام» . فلو كان التكليف بالأحكام لا لحكمة عائدة إلى العباد لَكان شرعها ضررًا محضًا وكان ذلك بسبب الإسلام وهو خلاف النص.
وإذا ثبت أن الأحكام إنما شرعت لمصالح العباد فإذا رأينا حكمًا مشروعًا مستلزمًا لأمر مصلحي فلا يخلو إما أن يكون ذلك هو الغرض من شرع الحكم أو يكون الغرض من شرع الحكم لم يظهر لنا. فأما كون الغرض من شرع الحكم لم يظهر لنا فإنه يجعل شرع الحكم تعبدّيًا، وهو خلاف الأصل، لأن الأصل في شرع الحكم هو أن يكون لحكمة، فلم يبق ألا أن يكون الحكم مشروعًا لما ظهر، وعليه فالأحكام إنما شرعت لمصالح العباد.
هذه خلاصة ما يقوله بعض الأصوليين في كون الشريعة جاءت لجلب مصلحة أو درء مفسدة، ولكنهم يقولون إن هذه المصلحة لا بدّ أن يدل عليها الدليل حتى تعتبر في الحكم علة له، فإن لم يدل عليها دليل لا تعتبر، فهم يقولون إن الشريعة جاءت لجلب المصالح ودرء المفاسد، وإن كل حكم شرعي معيَّن لا بدّ فيه من دليل يدل على المصلحة حتى تعتبر، ولذلك قالوا: إن جلب المصالح ودرء المفاسد هما علة الأحكام الشرعية جملة، وهما علة كل حكم شرعي بعينه، إلا أنهم يقولون: تعيين العلة في كل حكم بعينه وإن كان هو جلب المصلحة ودرء المفسدة لكنه لا بدّ أن يُتلقى من الشارع نصًّا. فهؤلاء يجعلون العلة التي بَيَّنَها الشارع جلبَ مصلحة أو دفع مفسدة. فمثلًا علة تحريم الرِّبا في الذهب والفضة وجميع المال وغيره هي الضرر الحاصل من جراء المراباة، وعلة الرخصة في السفر المشقة، وعلة حرمان القاتل من الإرث كونه قاتلًا وهكذا. فهذه مصالح دلَّ عليها نص الشارع فاعتبرت عللًا شرعية.
وهناك فريق آخر من علماء أصول الفقه يقولون: إن المقصود من شرع الحكم هو إما جلب مصلحة أو دفع مفسدة أو مجموع الأمرين معًا. فإن وضع الشرائع إنما هو لمصالح العباد في العاجل والآجل معًا. وقالوا: وقد وقع الخلاف فيها في علم الكلام، وزعم الرازي أن أحكام الله ليست معللة بعلة البتة كما أن أفعاله كذلك، وأن المعتزلة اتفقت على أن أحكام الله معللة برعاية مصالح العباد. وقالوا: إنا استقرأنا من الشريعة أنها وضعت لمصالح العباد استقراءً لا يُنازع فيه الرازي ولا غيره، فإن الله تعالى يقول في بعثة الرسول وهو الأصل: {رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} (سورة النساء: الآية 165). {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} (سورة الأنبياء: الآية 107). وقال في أصل الخلق: {وَهُوَ الَّذِي خَلَق السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} (سورة هود: الآية 7) {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (سورة الذاريات: الآية 56) {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} (سورة الملك: الآية 2). وأما التعاليل لتفاصيل الأحكام في الكتاب والسنة فأكثر من أن تحصى كقوله بعد آية الوضوء: {مَا يُرِيدُ اللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَـكِن يُرِيدُ لِيُطَهَّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ} (سورة المائدة: الآية 6) وقال في الصيام: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (سورة البقرة: الآية 183) وفي الصلاة: {إِنَّ الصَلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ والْمُنْكَرِ} (سورة العنكبوت: الآية 45) وقال في القبلة: {فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ} (سورة البقرة: الآية 150) وفي الجهاد {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا} (سورة الحج: الآية 39) وفي القصاص: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ} (سورة البقرة: الآية 179) وفي التقرير بالتوحيد: {أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} (سورة الأعراف: الآية 172) والمقصود التنبيه... وإذا دل الاستقراء على هذا، وكان في مثل هذه القضية مفيدًا للعلم، فنحن نقطع بأن الأمر مستمر في جميع تفاصيل الشريعة.
وقالوا: تكاليف الشريعة ترجع إلى حفظ مقاصدها في الخلق، وهذه المقاصد لا تعدو ثلاثة أقسام:
أحدها: أن تكون ضرورية.
والثاني: أن تكون حاجية.
والثالث: أن تكون تحسينية.
فأما الضرورية فمعناها أنها لا بدّ منها في قيام مصالح الدين والدنيا بحيث إذا فقدت لم تجرِ مصالح الدنيا على استقامة بل على فساد. ومجموع الضروريات خمسة وهي حفظ الدين والنفس والنسل والمال والعقل. وأما الحاجيات فمعناها أنها مُفْتَقَرٌ إليها من حيث التوسعة ورفع الضيق المؤدِّي في الغالب إلى الحَرج والمشقة اللاحقة بفوت المطلوب، وهي جارية في العبادات والعادات والمعاملات والجنايات. ففي العبادات كالرُّخَص المخفِّفة بالنسبة إلى لحوق المشقَّة بالمرَض والسفَر وفي العادات كإباحة الصيد والتمتع بالطيبات مما هو حلال وفي المعاملات كالقراض والمساقاة والسَّلم. وفي الجنايات كالحكم بالقسامة وكضرب الدية على العاقلة. وأما التحسينات فمعناها الأخذ بما يليق من محاسن العادات وتجنب الأحوال المدنسات التي تأنفها العقول الراجحة ويجمع ذلك قسم مكارم الأخلاق. وهي جارية في العبادات والعادات والمعاملات والجنايات. ففي العبادات كإزالة النجاسة، والطهارات كلها وستر العورة والتقرب بنوافل الخيرات من الصدقات والقربات. وفي العادات كآداب الأكل والشرب ومجانبة المآكل النجسة، والمشارب المستخبثة، والإسراف والإقتار. وفي المعاملات كالمنع من بيع النجاسات وفضل الماء والكلأ وسلب المرأة منصب الإمامة. وفي الجنايات كمنع قتل النساء والصبيان والرهبان في الجهاد.
وقالوا: إن كون الشارع قاصدًا المحافظة على القواعد الثلاث الضرورية والحاجية والتحسينية. والدليل على ذلك هو أن القواعد الثلاث لا يرتاب في ثبوتها شرعًا أحد ممن ينتمي إلى الاجتهاد من أهل الشرع.
وإن اعتبارها مقصود للشارع، ودليل ذلك استقراء الشريعة والنظر في أدلتها الكلية والجزئية وما انطوت عليه من هذه الأمور العامة على حدِّ الاستقراء المعنوي الذي لا يثبت بدليل خاص بل بأدلة مضاف بعضها إلى بعض مختلفة الأغراض بحيث ينتظم من مجموعها أمر واحد تجتمع عليه تلك الأدلة على حدّ ما ثبت عند العامة من جود حاتم وشجاعة علي عليه السلام وما أشبه ذلك! فلم يعتمد الناس في إثبات قصد الشارع في هذه القواعد على دليل مخصوص، ولا على وجه مخصوص، بل حصل لهم ذلك من الظواهر والعمومات والمطلقات والمقيّدات والجزئيات الخاصة في أعيان مختلفة ووقائع مختلفة. وقالوا: إن الأصل في العادات الالتفات إلى المعاني، وذلك أننا «بالاستقراء» وجدنا الشارع قاصدًا لمصالح العباد والأحكام العادية تدور معها حيث دارت، فترى الشيء الواحد يمنع في حال لا تكون فيه مصلحة، فإذا كان فيه مصلحة جاز، كالدرهم إلى أجل يمنع في المبايعة ويجوز في القرض، وبيع الرطب باليابس يمنع حيث يكون مجرد غرر، وربا، ويجوز إذا كان فيه مصلحة راجحة. وقال تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ} (سورة البقرة: الآية 179) وفي الحديث: «لا يَقْضي القَاضي وهو غضبان» إلى غير ذلكَ مما لا يُحصى وجميعه يشير بل يصرح باعتبار المصالح للعباد. وإن الإذن دائر معها أينما دارت، فدل ذلك على أن العادات مما اعتمد الشارع فيها الالتفات إلى المعاني، وفهمنا من ذلك أن الشارع قصد اتِّباع المعاني لا الوقوف مع النصوص، وقد توسع بعضهم حتى قالوا: إن كل مصلحة يتلقاها العقل بالقبول ولا يشهد لها أصل خاص من الشريعة بإلغائها، أو اعتبارها، تكون معتبرة عندهم وأن الشريعة مناسبة لكل زمان ومكان، وذلك أن المصلحة إن دل عليها دليل جزئي فهي علة شرعية ودليل شرعي،وإن لم يدل عليها دليل جزئي فإن نصوص الشريعة بوجه كلِّيٍّ قد دلت عليها إما بالدليل الكلي أو بمجموع الأدلة.
أما الفريق الأول الذي اعتبر جلب المصالح ودرء المفاسد علة شرعية للشريعة الإسلامية بوصفها كلًّا، وعلة شرعية لكل حكم شرعي بعينه، واشترط في كل حكم بعينه أن يدل الدليل الشرعي على المصلحَة، فالجواب على هذا الفريق هو: أن اعتبار جلب المصالح ودرء المفاسد علة، فإنه لا يخلو إما أن يكون بدليل دلَّ عليها عقلًا وإما بدليل دلَّ عليها شرعًا. ولكن هذا الموضوع ليس الإيمان بأن الله عادل، وعدله يقضي بأن يكون شرعه بوصفه كلًّا وكل حكم بعينه جاء لجلب مصالح العباد ودرء المفاسد عنهم، بل الموضوع هو الأحكام الشرعية وعللها، فهو متعلق بتشريع الأحكام بالإيمان بالشريعة. فموضوع الإيمان شيء وموضوع التشريع شيء آخر، لأن الإيمان هو التصديق الجازم، وهو لا يؤخذ إلا عن يقين، بخلاف الأحكام الشرعية فإن استنباطها يعني فهمها من النصوص الشرعية، وهذا ليس بتصديق ولا تكذيب بل هو فهم واستنباط، وهو لا ضرورة لأن يؤخذ عن يقين بل يجوز أن يؤخذ عن ظن كما يؤخذ عن يقين. وما ذكره علماء التوحيد من أبحاث في هذا الموضوع لا محل له هنا في استنباط الأحكام ولا في أدلتها ولا في عللها. وصحيح أن علماء التوحيد قد بحثوا هذا الموضوع، فقال فريق منهم: إن الله عادل {وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} (سورة الكهف: الآية 49) وأنه حكيم لا يفعل فعلًا إلَّا لحكمةٍ وغرض: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ} (سورة الأنبياء: الآية 16). فأفعال الله معللة بأنها لنفع الناس لتعاليه سبحانه عن الضرر والانتفاع. فالله يقصد من أعماله غايةً هي نفع العباد، فهو يقصد صلاح العباد، فتكون شريعته ودينه وكل أوامره ونواهيه لجلب المصالح للعباد ودرء المفاسد عنهم. وعلماء التوحيد هؤلاء الذين يقولون: إن أفعال الله معللة وإنه يقصد صلاح العباد انقسموا إلى قسمين: قسم يقول: بأنه يجب على الله رعاية ما هو الأصلح، وقسم يقول: إن ذلك لا يجب على الله، فلا يجب على الله أن يعمل ما فيه صلاح لعباده وإنما هذا هو النظام أو القانون الذي يقصد الله إليه في عمله. فهؤلاء جميعًا يرون أن أعمال الله معللة، ويقصد منها غاية معينة وهي نفع العباد. واختلافهم إنما هو في كونه يجب على الله أم هو سنته وقانونه ولن تجد لسنة الله تبديلًا.
وهناك فرق آخر من علماء التوحيد يرون أن أفعال الله ليست معللة بغرض، فليس الباعث لله على العمل هو الغاية: {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ} (سورة الأنبياء: الآية 23) و{إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} (سورة يس: الآية 82). وهذا البحث كله يتعلق بالعقائد لا بالأحكام، ويتعلق بصفات الله لا بالشريعة التي أنزلها. ولذلك لا محل له في علم أصول الفقه ولا في الفقه ولا علاقة له بالعلة الشرعية ولا بالأحكام الشرعية. فالاستدلال به على أن جلب المصالح ودرء المفاسد علة للشريعة وعلة للأحكام الشرعية استدلال باطل من أساسه، لعدم انطباقه، ولتباين الموضوعين: موضوع صفات الله وموضوع العلة الشرعية والأحكام الشرعية.
أما استدلالهم على أن جلب المصالح ودرء المفاسد علة بالقرآن والحديث والإجماع فهو استدلال باطل أيضًا.
أما بالنسبة للقرآن والحديث فإن الآيات التي استشهدوا بها لا تدل على العلية لا بالصيغة ولا بالواقع. فقد استشهدوا بقوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} (سورة الأنبياء: الآية 107) وبقوله: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} (سورة الأعراف: الآية 156) وبقوله صلى الله عليه وآله وسلم: «لا ضرر ولا ضرار» . وهذه لا دلالة فيها على دعواهم. أما بالنسبة للآية الأولى فإن كون الرسول صلى الله عليه وآله وسلم رحمة لا يعني نصًا أنه لجلب المصالح ودرء المفاسد، وإنما يدل دلالة الالتزام على ذلك، إذ يلزم من كون إرساله رحمة أن تكون رسالته لجلب المصالح ودرء المفاسد عن العباد، فيكون معنى الآية أن الغاية من إرسال الرسول صلى الله عليه وآله وسلم هو أن تكون رسالته رحمة للعباد، ويلزمُ من كونها رحمة أن تكون لجلب المصالح لهم ودرءِ المفاسد عنهم، فإذن الغاية من الشريعة الإسلامية بوصفها كلًّا هو جلب المصالح ودرء المفاسد، وليس جلب المصالح هو علة الشريعة الإسلامية بوصفها كلًّا ولا هو الغاية من كلِّ حكمٍ بعينه من أحكام الشريعة ولا علة لكل حكم بعينه، لأنَّ النص يدلُّ على أن غايةَ الشريعة الإسلامية هي جلب المصالح ودرء المفاسد ولا تدل على غير ذلك. وهذا يعني أن النتيجة التي تترتبُ على الشريعة هي جلبُ المصالحِ ودرء المفاسد وليس جلب المصالح ودرء المفاسد هو الباعثُ على تشريع الشريعة. فهما نتيجة الشريعة التي يهدفُ إليها الشارع من تشريعها وليس السبب الذي من أجله شرَّعت، وفرق بين النتيجة والسبب، لأن النتيجة تحصلُ من جراء تطبيق الشريعة فهي تترتب على تطبيقِ الشريعة، أما السبب فإنَّهُ يحصل قبل تشريع الشريعة ويصاحبها بعد وجودها ولا يترتب على تطبيقها.
فالموضوع هناك غاية وهناك دافع، والدافعُ غير الغاية، ولذلك فإن كونَ الشريعة بوصفها كُلًّا كان الغاية من تشريعها جلب المصالح ودرء المفاسد لا يعني مطلقًا أنها الدافع لتشريعها والباعث عليه، ولذلك فهما ليسا علة لتشريعها.
على أن نص الآية في صيغتها لا تدل على التعليل ولا تُشعِرُ بالعلية مطلقًا، فهي تقول: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} (سورة الأنبياء: الآية 107) وهذا لا يفيد العلية فهو كقوله تعالى في شأن آل فرعون مع موسى: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً} (سورة القصص: الآية 8) وقوله في إمداد الله للمسلمين بالملائكة: {وَمَا جَعَلَهُ اللّهُ إِلاَّ بُشْرَى} (سورة آل عمران: الآية 126) وقوله في شأن القرآن: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} (سورة النحل: الآية 89). وقوله: {فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللّهِ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} (سورة البقرة: الآية 97) وهذه الآيات وأمثالها لا تفيد التعليل وإنما تفيد الغاية. فآية {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً} (سورة الأنبياء: الآية 107) ليس فيها أي دلالة على التعليل. وذلك أنَّ النصَّ الذي يدل على التعليل هو أن يكونَ التعليلُ بالوصف بلفظ موضوع له في اللغة، بأن يكون الوصف مناسبًا، وذلك بإدخال حرفٍ من حروف التعليل على هذا الوصف المناسب مثل {كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاء} (سورة الحشر: الآية 7) أو بوضعه في الجملة على وجه يفهم العلية مثل: «القاتلُ لا يرث» . «لا يقضي القاضي وهو غضبان» . «في الغنم السائمة زكاة» وغير ذلك: فإن هذا يُفْهم العلية، فيكون ما أتى فيه علة للحكم، بخلاف ما لو لم يكن اللفظ وصفًا، أو وصفًا غير مناسب فإنه لا يفيد العلِّية ولا يفهم منه التعليل، ولذلك لا يكون علة، مثل قول الشاعر: «لدوا للموت وابنوا للخراب» ومثل قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ} (سورة الفرقان: الآية 48) وقوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (سورة الذاريات: الآية 56) فإنها لا تفيد العلية فلا يكون ما أتى فيها علة، ومثلها تمامًا قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} (سورة الأنبياء: الآية 107) فهو لا يفيد العلِّية، فلا يكون علة لتشريع الشريعة، وبالطبع لا يكون علة لكل حكمٍ بعينه من أحكام الشريعة من باب أولى.
ولذلك لا يقاس عليه مطلقًا فالآية لا دلالة فيها على العلية مطلقًا.
وأما قوله تعالى: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} (سورة الأعراف: الآية 156) فهو ليس من هذا الباب ولا في موضوع الشريعة، فهو يتحدث عن سعة رحمة الله لا عن إرسالِ الرسول ولا عن شريعته، فلا دلالة فيها على هذا الموضوع.
وأما قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «لا ضرر ولا ضرار في الإسلام» فإنه ينفي الضرر عن الدين الإسلامي، ونفي الضرر عنه لا يستلزم أن فيه نفعًا لأنه لا يلزم من عدم وجود الضرر وجود المنفعة، بل هو يدل على أن الضرر منفي عن الإسلام فلا يحصل منه ضرر، ومفهومه أن ما يحصل منه ضرر لا يكون من الإسلام، وعلى أي حال فإنه لا يدل على النفع في الإسلام لا منطوقًا ولا مفهومًا فلا يكون علة تشريع الشريعة ككل ولا علة أي حكم بعينه من أحكام الشريعة.
على أن هذا الحديث قد روي بدفع الضرر عن الناس ولم تذكر فيه كلمة «في الإسلام». عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «لا ضرر ولا ضرار»، وللرجل أن يضع خشبه في حائط جاره، وإذا اختلفتم في الطريق فاجعلوه سبعة أذرع . فلا يكون الحديث في موضوع الشريعة وإنما في ضرر الناس، فلا دلالة فيه على هذا الموضوع.
وعلى ذلك فإن نصوصَ القرآن والحديث وإن دلت على أن النتيجة التي تحصل من الشريعة هي جلب المصالح ودرء المفاسد ولكنها لا تدل على أن جلب المصالح ودرء المفاسد علة لتشريع الشريعة ولا علة لكل حكم شرعي بعينه، ألا ترى أن القانون الذي يسنُهُ البشرُ كقانون العقوبات مثلًا إنما يسنونه لمصالح الناس، فالأصلُ في القانون والغاية من تشريعه هو مصالح الناس، ولكن سن كل حكم بعينه من أحكام القانون أو كل مادة بعينها من مواد القانون إنما يجري حسب مقتضى القانون نفسه لا حسب مصالح الناس، أي يجري حسب الناحية التشريعية التي تقتضيها أفكار القانون وقواعده والوجه التشريعي فيه وليس حسب المصالح التي للناس في هذا الحكم بعينه، وبهذا يظهر أنَّ كونَ الشريعة جاءت لينتج عنها مصالح العباد لا يعني أن كل حكم معين من أحكامها هو لمصالح العبَاد، لأن هناك فرقًا بين تشريع الشريعة من حيثُ هي وبين كل حكم معيّن من أحكامها، أو كل نص معين من نصوصها، فلا تعطى نتيجة الشريعة بوصفها كلًّا لكل حكم من أحكامها، لأنها شُرِّعت لغاية بوصفها كُلًّا، بخلاف كل حكم معين من أحكامها فإنه شرع حسب ما يقتضيه التشريع في هذه الشريعة وليس حسب النتيجة التي كانت غاية الله في تشريعها. والغاية من الشريعة الإسلامية، وهي جلب المصالح ودرء المفاسد إنما تتحقق من الشريعة بوصفها كلًّا، أما بالنسبة لكل حكم بعينه فقد تتحقق وقد لا تتحقق، وقد يتحقق من التمسك به وحده ضرر للمسلم يشاهد عيانًا.
فمثلًا كالمجتمع الرأسمالي في البلاد الإسلامية في هذه الأيام يشاهد أن الربا وهو حرام بالنص القطعي صار جزءًا من حياة البلاد الاقتصادية والمالية والتجارية، فأي تاجر أو صانع لا يتعامل بالربا في معاملاته يصيبه ضرر في اقتصاده وفي تجارته فيتحمل في سبيل تمسُّكه بدينه خسائر فادحة ويكون كالقابض على الجمر.
فأين هي المصلحة للناس في هذه الحالة وهو حكمٌ شرعي، مع أنه لا خلاف في أنَّ نتيجةَ الشريعةِ هي جلب المصالح ودرء المفاسد، ولكن هذا لا يعني أنه نتيجة كل حكم من أحكامها.
هذا من جهة انتفاء ما كان للشريعة بوصفها كلًّا أن يكون لكل حكمٍ بعينه، أمَّا من جهة قولهم أن يكون الحكم مشروعًا لما ظهر فيه من مصلحة، فمن أين ظهرت هذه المصلحة؟ هل ظهرت للعقل وهو لا قيمة له في الدلالة عليها لأنها تتعلقُ بالأحكام الشرعية لا بالعقيدة، أم ظهرت من النص، والنص لا يدل عليها، أم أنَّه حين لم يدل عليها النص تصيَّد العقلُ لها مدلولًا فقال: إنَّ هذا هو المصلحة من هذا الحكم؟ فلِمَ هذا التكلف البعيد عن الواقع؟ ولِمَ لا يكون الحكم تعبُّدِيًا إذا لم يرد له أي تعليل؟ أليس الذي دلَّ عليه هو النص ولم يعلل فمن أين نأتي بالعلة؟
فالحق أننا إذا رأينا حكيمًا مشروعًا فإنه لا يستلزمُ المصلحة لكون الشريعة جاءت لمصالح العباد، إذْ لا يلزم هذا من ذاك، ولذلك لا ضرورةَ لتصيد مصلحة لهذا الحكم سواء ظهرت أم لم تظهرْ، فيكون جلبُ المصالحِ ودرءُ المفاسدِ ليس نتيجةً لكل حكم بعينه حتى يتصيَّد في كل حكم، وبالطبع ليس هو علة لكل حكم بعينه كما أنَّه ليس علة للشريعة بوصفها كلًّا.
بقيت مسألة المصالح التي يأتون بها لكل حكم بعينه، ويأتون بأدلة على كل منها، فإن هذه المصالح هي نتيجةٌ للحكم الشرعي وليست جزءًا منه ولا علةً له، ولا يعتبر الحكم الشرعي دليلًا عليها، لأنَّ الحكمَ الشرعي ليس دليلًا شرعيًا من جهة، ولأن هذه المصلحة قد تحصل نتيجة للحكم الشرعي وقد لا تحصل هذه النتيجة، فهي ليست من مدلوله ولا من مدلول دليله، وبالطبع ليست علة له، فتكون المسألةُ مسألةَ حكمٍ شرعيٍّ دلَّ عليه الدليلُ الشرعي بغض النظر عما إذا كان لهذا الحكم نتيجة من جلب مصلحة أو دفع مفسدة أو ليس له شيء من ذلك، وعليه فالقضية قضية أحكام شرعية تستنبط من أدلَّةٍ شرعية وليست قضية مصالح للعباد، فالأمرُ فيها هو حكمٌ شرعي ودليل شرعي وليس مصلحةً شرعيةً أو مصلحة غير شرعية.
أما نتيجة تطبيق هذا الحكم أو ما يدل عليه هذا الحكمُ فذلك شيءٌ آخر لا علاقةَ له بالاستنباط فحشرها في علم أصولِ الفقه وبحثها في استنباط الأحكام وإدراجها في العلل الشرعية لا محل له، ولا مبررَ لوجوده، وهو ليس إقحامًا فحسب، بل ولا خلطًا فقط وإنما هو يتناقضُ مع الشرع، ومع التشريع، ومع الاستنباط، وهو خطأٌ فاحشٌ يُبْعِدُ الناسَ ولا سيما المسلمين عن دِقَّةِ التَّقيُّدِ بالأحكام الشرعية، ويُوجِدُ التساهل في هذا التقيد، ويوجد كذلك الخطأ والخلط في التشريع والاستنباط.
فإنَّ حصولَ الملكِ من أحكام البيع، وحصول المنفعة من أحكامِ الإجارة، وحصول حفظ النفس الإنسانية من أحكام القصاص، وحصول إكمال مصلحة النكاح من اشتراط الشهادة ومَهْرِ المثْلِ، وحصول الثواب من الصلاة، كلُّ ذلك نتائج لتطبيق هذه الأحكام، وليس جزءًا منها ولا علةً لها، وليست من مدلولاتها، قد تحصلُ كالمنفعةِ من الإجارة، وقد لا تحصل، فقد يستأجرُ ولا ينتفع، فالمسألة فيها مسألة حكم البيع دلَّ عليه قوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ} (سورة البقرة: الآية 275) وحكمُ الإجارة دلَّ عليه قوله تعالى: {فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} (سورة الطلاق: الآية 6). وحكمُ القتل دلَّ عليه قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «من قُتِلَ له قتيلٌ فهو بخير النظرين إما أن يفتدي وإما أن يقتل» . وهكذا... وليست المسألة حصول الملكِ وحصول المنفعة وحصول حفظ النفس إلى آخره... فأي محل لها في استنباط الحكم أو في علته أو في دلالة دليله أو غير ذلك. فَلِمَ تُحْشَرُ في بحثِ الأحكام الشرعية من حيثُ هو فضلًا عن بحثِ العلل والاستنباط؟
وأيضًا فإن إفضاءَ الحكمِ بصحَّة التصرف بالبيع إلى إثبات الملك، وكون القصاص في القتل العمدِ يؤدي إلى صيانة النفس، وكون شرع الحد على شرب الخمر ينتج عنه حفظ العقل، وإفضاء الحكم بصحة النكاح إلى مقصود التوالدِ والتناسل فإنَّ ذلك كله قد يحصل وقد لا يحصلُ، وعلى فرض حصوله فهو كذلك نتائج للعمل بالأحكام وليس هو جزءًا من تشريعها ولا علةً لها، ولا ملاحظًا عند استنباطها، بل لا يجوزُ أن يلاحظَ ولا أن يكون له أي اعتبار عند الاستدلالِ والاستنباط، فلماذا تحشر في بحثِ العللِ، ويُطلقُ عليها مصالح شرعية، مع أنها كما تحصلُ من أحكام الشريعة الإسلامية قد تحصل من أحكام غير أحكام الشريعة الإسلامية، فما هو الذي يُبرِّرُ حشرها في مجالات العلل وفي أبحاث الاستنباط؟ ثم ما دخل المصالح من حيثُ واقعها من ضرورية وغير ضرورية في بحث الأحكام الشرعية والعلل الشرعية، فإنَّ هذه المصالح من حيثُ ذاتُها واقعية ولكن من حيثُ كونها نتيجة لأحكام معينة تختلف باختلافِ وجهات النظر، وهي أيضًا قد تتخلف فلا يصحُّ أن يُنظرَ إليها نظرةً عامة ولا يصح أن تجعل أمرًا لازمًا للأحكام فيترتب على ذلك جعلها جزءًا من تشريع الحكم أو علة له، فمثلًا المقاصدُ الخمسة التي يقولون إنها لم تخل من رعايتها ملة من الملل ولا شريعة من الشرائع وهي: حِفْظُ الدينِ والنفس والعقل والنسل والمال فهذه الخمسة ليست كل ما هو ضروري للمجتمع، فإن حفظ الدولة وحفظ الأمن وحفظ الكرامة الإنسانية هي أيضًا من ضرورات المجتمع، فالضرورات إذن في واقعها ليست خمسة وإنما هي ثمانية.
أما بالنسبة للأحكام الشرعية التي شرعت لها، فإنَّ الأديانَ تختلف في النظرة إلى بعضها، فمثلًا النصرانية لا ترى أن حفظ العقل يأتي من تحريم الخمر، بل على العكس هي تقول:
«قليلٌ من الخمر يفرح قلبَ الإنسان» فكيف تكون هذه مقاصد كل ملة من الملل؟
على أنه لو فرضنا حصول هذه المقاصد فإنها تحصل نتيجة للحكم الشرعي، فلا علاقة لذلك في استنباط الحكم ولا في الاستدلال عليه ولا في تعليله.
أما المقاصدُ غير الضرورية فإنها كذلك نتائج للأحكام، فدوام النكاح الذي يقولون: إنه المصلحة الناتجة عن رعاية الكفاءة ومهر المثل، وعدم فوات الكفء الراغب الناتج عن حكم تسليط الولي على تزويج الصغيرة، كلُّ ذلك نتائج فلا دخلَ لها في العلة الشرعية.
أما المصالحُ التي يقولون: إنها علة الأحكام الشرعية، ويجعلونها باعثًا وليست نتيجة، فإن هذه إن دلَّ عليها العقل وليس لفظ النص فلا قيمة لها، وذلك كقولهم: إن سلب العبيد أهلية الشهادة هو لأنَّ العبد نازل القدر والمنزلة لكونه مستسخرًا للمالك مشغولًا بخدمته، فهذه المصلحة جعلوها علة الحكم وهو عدم أهلية العبيد للشهادة، فهذا لا قيمة له، لأن هذه المصلحة لم يدل عليها الشرع، وهي استنباط في حال العبد وليست استنباطًا من الدليل الشرعي ولذلك لا تعتبر، فلا قيمة لها لا في الاستنباط ولا في التعليل. أما التي دل عليها دليل شرعي مثلًا كون المال متداولًا بين الأغنياء علة لتوزيع الفيء بين جميع الفقراء من المسلمين وكون البترول معدنًا يشبه الماء العدّ علة جعله من الملكية العامة، فذلك ليس مصلحة وإنما هي علة شرعية دل عليها الشرع. وذلك أن هذه العلة تظهر للمسلم أنها مصلحة وقد لا تظهر لغير المسلم، وقد تظهر للمسلم عند تطبيقِ الشريعة كلها ولا تظهر له عند تطبيق حكم معين دون سائر أحكام الشريعة.
فهي إذن مصلحة لكونها مدلول الدليل الشرعي، وليست مصلحة لأن الإنسان جلب نفعًا له فيها، أو دفع عنه ضررًا بها، فهي في حقيقتها مدلول الدليل فقط لا مدلول ما يراه الإنسان مصلحة. فتسميتها مصلحة وصف واقع بالنسبة للمسلم كما رآها هو لا بالنسبة لدلالة الدليل، فكونها مصلحة ليس جزءًا من الدليل ولا جزءًا من دلالته، ولا مدلول الدليل بأنها مصلحة، أي لم يقل الدليل إنها مصلحة، ولا ملاحظة عند الاستنباط من الدليل، فتكون المسألة علة شرعية دل عليها الدليل بغضِّ النظر عما إذا كان ما دل عليه يجلب نفعًا أو يدفع ضررًا عن المسلم، أم لا يجلب شيئًا ولا يدفع شيئًا؟
فالنفعية ليست ملاحظة في الدليل ولا في مدلوله، فكون الرطب ينقص إذا يَبسَ علة شرعية لعدم جواز بيع التمر بالرطب، وهذا النقصانُ في الرطبِ ليس مصلحةً شرعيةً أو غير شرعيةٍ، وإنما هي ما يستنبط من الحديث، وهو أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: سئل أيجوزُ بيع الرطب بالتمر؟ فقال: «أينقص الرطب إذا يبس»؟ فقيل له نعم. فقال: «فلا إذًا». فهذا الدليلُ أفادَ العلية فاستنبطت منه هذه العلة بغض النظر عما إذا كانت تجلب نفعًا أو تدفع ضررًا أو لم تكن، بل إن ذلك لم يلاحظ مطلقًا عند استنباط العلة من الدليل.
وعليه فإنَّ جلبَ المصالحِ ودرءَ المفاسدِ لا وجودَ لها في الأحكام الشرعية، لا من حيث استنباطها ولا من حيث تشريعها، وليس هما علة للأحكام ولا بوجهٍ منَ الوجوه، حتى العلل الشرعية المستنبطة من أدلة شرعية ليست هي مصالح العباد وإنما هي المعاني التي دل عليها الدليل الشرعي بغض النظر عن المصالح والمفاسد.
وأما الفريقُ الثاني الذي يعتبرُ جلبَ المصالحِ ودرء المفاسد علة شرعية لكل حكم بعينه كما هو علة شرعية للشريعة بوصفها كلًّا، والذي يقطعُ بأنَّ جلبَ المصالحِ ودرء المفاسد جاء في تفاصيل الشريعة كلِّها وأن تكاليف الشريعة وكل حكم من أحكامها إنما ترجع إلى مقاصدها وهي جلب المصالح ودرء المفاسد.
أما هذا الفريق فإنه بنى كلامه على ثلاثة أشياء هي:
أولًا: إنَّ استقراءَ الشريعة يفيدُ اليقين بكون جلب المصالح ودرء المفاسد علة شرعية.
ثانيًا: إن الأصلَ في العادات الالتفات إلى المعاني، وجاءت الآيات والأحاديث تشيرُ بل تُصَرِّحُ باعتبار المصالح للعباد.
ثالثًا: إنَّ المصالحَ التي دل عليها الشرعُ لا كلام في اعتبارها علة لدلالة الشرع عليها، وأما المصالح التي لم يدل عليها الشرع فإنها وإن لم يكن لها دليل جزئي يدل عليها ولكن دلت على اعتبارها نصوص الشريعة بوجه كلي، فتبنى على أساسها الأحكام الجزئية عند فقدان النص الشرعي في الحادثة أو فيما يشبهها. وعليه تكون المصلحة هي الدليل إذا دل عليها دليل جزئي من الشارع، وتكون مجموع الأدلة والأدلة الكلية دلت عليها.
والجواب على قولهم هذا هو:
أولًا: إنَّ الاستقراءَ الذي يقولون: إنه دل على كون الشريعة جاءت لمصالح العباد لا توجد فيه دلالة على ذلك، لا دلالة مطابقة ولا دلالة تضمن ولا دلالة التزام. وذلك أن استقراء الشريعة يدل على أنه توجد في الشريعة أحكام معللة، ولا يدل على أنَّ جميعَ أحكامِ الشريعةِ جاءت معللة، وفوق ذلك فإنَّ تعليلَ الأحكامِ التي جاءت معللة لم يأت بأن جلب المصالح ودرء المفاسد هو علتها، ولا علة أي حكم منها، وإنما جاء التعليل لكل حكم معلل بمعنى معين، مثل تداول المال بين الأغنياء، ومثل الإلهاء عن صلاة الجمعة، وما شاكل ذلك.
وكل معنى من هذه المعاني الذي جعله الشارع علة لحكم معين يختلف عن غيره من المعاني المعللة بها أحكام أخرى.
فلكل منها معنى غير الآخر وليس فيها أنه جلب مصلحة أو درء مفسدة، لا فيها جميعها ولا في أي واحد منها، أما نظرةُ المسلمِ إلى هذه المعاني بأنه وجدها بالاستقراء أنها لا تخرجُ عن كونها جلب مصلحة ودرء مفسدَة فإنَّ هذا إطلاقٌ للمسلمِ عليها لا أن الله قال فيها أو عن كل واحد منها إنه مصلحة، أي أن المسلم سماها من عنده مصلحة، وأما الشرع فإنه لم يسمها مصلحة ولم يطلق عليها مصلحة، وتسمية المسلم لها بأنها مصلحة لا قيمة لها، لأن المعتبر هو إطلاق الشارع أي دلالة الدليل. وما دام الشارعُ لم يقلْ عنها إنها مصلحة فلا تكون هناك مصلحة لعدم اعتبار أي إطلاق سوى إطلاق الشارع.
وفوق ذلك فإن الذي يقول عنها إنها مصلحة هو المسلمُ في المجتمع الإسلامي، أما غير المسلم فيرى أنَّ شركاتِ المساهمة والربا وشرب الخمر وحفلات الرقص وصحبة البنات مع الشباب في خلوة ونزهة وغير ذلك يراها مصالح للناس ويراها المسلمون مفاسد.
فالنظرةُ إلى الحكم أو إلى علة الحكم بأنه مصلحة أو مفسدة هي نظرةُ المسلمِ بحسب وجهة نظره في الحياة وليست هي نظرة الإنسان من حيث هو إنسان، ولذلك تختلف النظرة إليها باختلاف وجهات النظر، فإطلاقُ المصلحة على الأحكام الشرعية وعلى العلل الشرعية إطلاقٌ خاصٌّ بالمسلم. هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإنه إطلاق للمسلم من عند نفسه وليس استنباطًا من دليل شرعي، لأن الله تعالى لم يقل إن هذا الحكم الذي هو مثلًا تحريم شرب الخمر أو غير ذلك فيه مصلحة لكم أو دفع مفسدة عنكم، كما لم يقل أن هذه العلة التي هي مثلًا الإلهاء عن صلاة الجمعة أو غير ذلك فيها مصلحة لكم أو دفع مفسدة عنكم. ولذلك لا تعتبر مصلحة شرعية، لأنَّ الشرعَ، لم يقل عنها إنها مصلحة والشيء الوحيد فيها هو أن المسلم قال من عنده إنها مصلحة. وقول المسلم المجرد من الدليل لا قيمة له، وعليه فإن الاستقراءَ لا يدلُّ على كون الشريعة جاءت لمصالح العباد، لا استقراء النصوص ولا استقراء الأحكام ولا استقراء العلل. فاستقراء النصوص دلَّ فقط على أنه يوجد في الشريعة أحكام معللة لا أنها جاءت لمصالح العباد، واستقراء الأحكام دل فقط على معانٍ معينةٍ هي حكمُ الله في المسألة ولم يدل على أن هذه الأحكامَ هي مصالحُ العباد لا منطوقًا ولا مفهومًا، واستقراء العلل الشرعية دل على معان معينة هي علل لأحكام معينة ولم يدل على أن هذه العلل هي مصالح العباد، فلم يرد دليل على أن هذه العلة المعينة هي لمصلحة العباد، ولا أن العلل من حيث هي إنما جاءت مصالح للعباد. وعلى ذلك فإن الاستدلال بالاستقراء على أن الأحكام الشرعية والعلل الشرعية هي جلب المصالح ودرء المفاسد استدلال باطل، ولا ينطبق على واقعِ النصوصِ، ولا على واقعِ الأحكامِ، ولا على واقعِ العللِ، ولذلك يسقط الاستدلال به.
على أنَّ النصوصَ التي أوردوها وقالوا إنها تدلُّ على أن الشريعةَ جاءت لمصالح العباد لا تدل على ذلك، فإنها تدل على أن النتيجة التي تحصل من تطبيق الشريعة بوصفها كلًّا هي مصالح العباد، لا أن كل حكم معين من أحكام الشريعة هو مصلحة للعباد، ولا أن كل علة معينة من العلل الشرعية هي مصالح للعباد، ولا أن المصلحة هي العلة الشرعية لكل حكم بعينه من أحكام الشريعة. فقوله تعالى: {لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} (سورة النساء: الآية 165) هو تعليل لإرسالِ الرسل وليس تعليلًا للأحكام الشرعية ولا للشريعة وهو يدل على أنه توجد في الشريعة نصوصٌ معللةٌ لا أن جلب المصالح ودرء المفاسد علة الشريعة. وقوله: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} (سورة الأنبياء: الآية 107) يدل بطريق الالتزام على أن الغاية من الشريعة هي جلب المصالح ودرء المفاسد، أي أن النتيجة التي تحصل من تطبيقها هي مصالح العباد، لا أنَّ مصالحَ العبادِ علةٌ لها أو علة لكل حكم معين من أحكامها. {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} (سورة هود: الآية 7) هو بيان للغاية من خلق السماوات والأرض بأنها اختبار الناس وابتلاؤهم، فهو يدل على حكمة من حكم الله، لا على علة لفعله تعالى. والحكمة غير العلة، لأن الحكمة هي النتيجة التي تحصل من الفعل، وقد تحصل وقد لا تحصل، فهي الغاية من الفعل، ولكن العلة هي الباعث على الحكم أو على الفعل، فلا دلالة في الآية على أن علة الشريعة هي أنها جاءت لمصالح العباد. وكذلك قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (سورة الذاريات: الآية 56) وقوله تعالى: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} (سورة الملك: الآية 2) وقوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (سورة البقرة: الآية 183). فكلها تدل على الغاية لا على العلة، ولا دلالة فيها على أن جلب المصالح ودرء المفاسد علة الشريعة. ولا على كل حكم بعينة من أحكامها، بل إنه لا دلالة فيها على وجود نصوص معللة، لأنها ليست للتعليل ولا تفهم العلِّية ولا بوجه من الوجوه.
نعم هناك نصوصٌ أخرى جاءت معللة ولكن هذه النصوصَ المعللة لم تأت لتعليل الشريعة كلها، إذ لم يأت ولا نص واحد يعلِّلُ الشريعة كلها بوصفها كلًّا بعلة من العلل، وإنما أتت نصوص تعلل أحكامًا بعينها، فتعلل هذه الأحكام فقط ولا يعلل غيرها. والنصوص التي جاءت وعللت بعض الأحكام لم تأت وتعلل كل حكم من أحكام الشريعة بل جاءت وعللت بعض الأحكام، وهناك نصوص أخرى دلت على أحكام لم تعلل، فتكون العلة قاصرة على الحكم الذي جاء النصُّ بتعليله ولا يتعداه إلى غيره.
فلا يكون كل حكم من أحكام الشريعة معللًا بعلة، ولا تكون الشريعة كلها معللة بعلة، وإنما يكون في الشريعة أحكام معللة ولا يدل على غير ذلك.
ثانيًا: إن قولهم إن الأصل في العادات الالتفات إلى المعاني، وإن الآيات والأحاديث جاءت تشير بل تصرح باعتبار المصالح للعباد، هو قول غير مطابق للواقع لأن الموضوع ليس هو العادات أو العبادات بل الموضوع هو النصوص الشرعية.
فالأصل في النصوص الشرعية هو اتباع المعاني لا الوقوف عند حدِّ النص، لأن هذه النصوص نصوص تشريعية، ويراد بها المعنى الذي تضمنه النص، ولذلك لا يصح الوقوف عند حدِّ النص بل لا بدّ من فهم مدلوله، إما في الجملة وحدها، أو مع اقترانها بغيرها من الجمل الأخرى، فالبحث هو في النص من حيث دلالته وليس البحث في مدلول النص ما هو.
فالنصوص الشرعية كلها كتابًا كانت أو سنة يجب أن تتبع فيها المعاني ولا يجوز الوقوف عند حدِّ النصِّ بألفاظهِ وحدها، أو به وحده، بل لا بدّ من اتباع المعاني أينما وجدت، سواء أكانت في النص وحده أو فيه مع غيره، وعلى ذلك فالمسألة ليست مسألة عادات وعبادات بل هي مسألة نصوص، وفهم هذه النصوص، فلا محل إذن لموضوع جلب المصالح ودرء المفاسد في كون النص يتبع فيه المعنى ولا يوقف عند حدّ اللفظ.
والجوابُ على ذلك نقول: نعم إنه يتبيّن من تتبع النصوص واستقرائها أن النصوصَ التي دلت على أحكامِ العبادات لم تعللْ بأية علة وإنما اشتملت على أسباب، والسبب غير العلة، وأن النصوص التي دلت على المعاملات جاء كثير منها معللًا كما جاء بعضها غير معلل، فيقال إن العبادات جاءت غير معللة بعلة، وإن المعاملات جاء كثيرٌ من أحكامِها معللًا بعلة، وهذا يتعلق بالتعليل بالعلة الشرعية ولا يتعلق بالمعاني.
ولكن لا يقال: إنَّ الأصلَ في العادات الالتفاتُ إلى المعاني.
وعلى ذلك فإن الالتفات إلى المعاني إنما يكون في النصوص لا في الأحكام، سواء أكانت أحكام عبادات أم أحكام معاملات.
فالنصُّ هو الذي ينظر فيه إلى المعنى وليس الحكم، أما الحكم فينظر فيه إلى انطباقه على ما جاء حكمًا له أو عدم انطباقه. فكون الشركة جائزة مرتبطٌ بالدليلِ الذي دل عليها، وكون الجواز هو للشركة التي جرى فيها إيجاب وقبول وليس للشركة التي لم يجرِ فيها إيجاب وقبول وهو من انطباق الدليل على الحكم ومن انطباق الحكم على ما جاء له، فلا ينظر لجواز الشركة من حيث كونها مصلحة أو ليست مصلحة. فالأحكامُ لا محلَّ فيها للنظر إلى المعاني كما أنه لا محل فيها للنظر إلى المصالح والمفاسد في تقريرها أو عدم تقريرها، حتى ولا في نتائج الحكم المعين، إلا إذا دل النص على النتيجة كالحج والصوم، فالمصالح والمفاسد في استنباط الحكم المعين، أو في انطباقه، أو في تطبيقه، لا وجود له مطلقًا، بل المعتبرُ هو دليله، والواقع الذي دل عليه وجاء لبيان حكم الله فيه.
هذا من جهة قولهم: إن الأصلَ في العادات هو اتباع المعاني.
أما قولهم: إن الآيات والأحاديث جاءت تشير بل تُصَرِّحُ باعتبار المصالح للعباد، فإنه قولٌ مجرد بلا دليل، والواقع يدل على خلافه. فلا توجد أي آية أو حديث يدل على اعتبار المصالح للعباد علة شرعية للأحكام، بل الآيات والأحاديث يدل استقراؤها وتتبع جميع أفرادها على أربعة أمور:
أحدها: يدل على أن الغايةَ من الشريعة هي رحمةٌ للعبادِ، ويدل بطريق الالتزام على أنها لجلب المصالح ودرء المفاسد، فهي تدل على نتيجة الشريعة لا على علتها ولا على علة كل حكم بعينه.
ثانيها: يدل على غاية كل حكم بعينه في بعض الأحكام لا في كلها، فهي تدل فيما دلت عليه من أحكام على نتيجة هذا الحكم وحده لا على علته ولا على نتيجة غيره من الأحكام، وبالطبع لا تدل على علل غيره من الأحكام.
ثالثها: إن مجموع النصوص تدل على أن النصوص الشرعية جاءت معللة، فيراعى فيها اتباع المعاني لا الوقوف عند حدِّ النص، وهذا متعلقٌ بفهم النص لا بالمصالح والمفاسد، وهو متعلق بالنص نفسِه لا بالحكم.
رابعها: إن هناك نصوصًا معينة في أحكام معينة جاءت معللة بعلة معينة، وهذه تعتبر العلة التي جاء بها النص فقط بغض النظر عن كونها مصلحة أو مفسدة، ولا تلاحظ فيها المصلحة والمفسدة، وهي إنما تُعْتَبَرُ في النص الذي جاءت فيه وحده لا في غيره، وفي الأحكام التي جاءت تعللها لا في غيرها من الأحكام.
هذه هي الأمور التي جاءت بها الآيات والأحاديث، ولا يوجد فيها ما يشير ولا ما يصرح باعتبار المصالح للعباد، وعليه فإنَّ دليلَهُمْ الثاني على اعتبار المصالح علة شرعية خطأ لمخالفته للواقع، ولأن الآيات والأحاديث دلت على خلافه.
ثالثًا: يقولون إن المصالح دلت عليها الشريعة، فمنها ما دل عليه دليل جزئي خاص به فجاء الشارعُ وقال المصلحة كذا، ومنها ما دلت على اعتباره الشريعة كلها بوجه كلي فتبنى على أساسها الأحكام الشرعية الجزئية عند فقدان النص الشرعي في الحادثة أو ما يشبهها. وهذا القول في منتهى البطلان والرد عليه هو من عدة وجوه:
أحدها: إن الشريعةَ لم تدلَّ على المصالح، وإنما كانت المصالح الغاية التي قصدها الشارعُ من تشريع الشريعة، وفرقٌ بين كونِ الشريعة هي التي دلت على المصالح وبين كون المصالح كانت الغاية من تشريع الشريعة: والشريعة إنما دلت على أفكار وعلى أحكام، بغض النظر في الدلالة عن كون هذه الأفكار والأحكام هي لمصالح العباد أم ليست لمصالحهم.
فالشريعة دلت على أن البيعَ حلالٌ، والربا حرامٌ، والجهادَ فرضٌ، وصدقة التطوع مندوب، ولإضاعة المال مكروه، وما شاكل ذلك، ولم تدل على أن عقد المعاهدات مصلحة، وأن نصب خليفة مصلحة، وأن الكذب مفسدة، والتولي يوم الزحف مفسدة، أو ما شاكل ذلك، فهي دلت على الحكم ولم تدل على المصلحة، بل لم تراع المصلحة وعدم المصلحة في الدلالة، ولا يجوز أن تجعلَ المصلحة أو المفسدة محل اعتبار في دلالة الشريعة على الحكم، وعلى ذلك فالمصالحُ لم تدل عليها الشريعة، فكان الاستدلالُ من أساسه باطلًا.
ثانيها: إن الأدلةَ الجزئيةَ التي يُقالُ: إنها دلت على مصالح فكانت هذه المصالح مصالح شرعية بدلالة الدليل الجزئي عليها هي أدلة على الأحكام أو على العلل وليست أدلة على المصالح. فقطع يد السارق ثبت بقوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا} (سورة المائدة: الآية 38) وعقوبة قطاع الطرق ثبتت بقوله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ} (سورة المائدة: الآية 33). وقتل المرتد ثبت بقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «من بدَّل دينهُ فاقتلوه» وعقوبة الزنى ثبتت بقوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ} (سورة النور: الآية 2) وتحريم الميتة ثبت بقوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} (سورة المائدة: الآية 3) وهكذا.
فالأدلة الجزئية دلت على أحكام معينة ولم تدل على مصالح، وكذلك قوله تعالى: {كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاء مِنكُمْ} (سورة الحشر: الآية 7) وقوله: {لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ} (سورة الأحزاب: الآية 37) وقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «لا يقضي القاضي وهو غضبان» وغير ذلك إنما دلت على علل معينة، ولم تدل على المصلحة، ولا على أنها جاءت للمصلحة.
وعلى ذلك فلا توجد أدلة جزئية دلت على مصالح، ولا على أنها جاءت لأجل المصالح، ولا على أن الأحكامَ التي جاءت بها أو العلل التي تضمنتها هي مصالح.
وإنما دلالتها محصورة في الأحكام أو العلل ليس غير، فيبطل القول أن هناك مصالح دلت عليها أدلة جزئية.
ثالثها: إن القول بأنَّ من المصالح ما دلت عليه الشريعة بوجه كلي قول فاسد، ولا أصل له مطلقًا. لأن الدليلَ الكلي إما أنْ يكونَ دليلًا خاصًا دل على مصلحة كلية خاصة، وإما أنْ يكونَ مجموع أدلة خاصة أو مجموع الأدلة الشرعية كلها.
فإن كان المرادُ دليلًا كليًا خاصًا دل على مصلحة كلية فإن ذلك غير موجود، لأن الأدلة كلها تدل على أحكام، ولا توجد أدلة تدل على مصالح.
هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن الكليةَ والجزئيةَ بالمعنى المنطقي لا قيمةَ لها في بحثِ أصول الفقه فلا محل لها ولا اعتبار. أما الكلية والجزئية في دلالة الألفاظ في اللغة فإنها من دلالات المفرد لا من دلالات المركب فلا محل لها في دلالات التركيب، أي في دلالات الجمل، فلا يوجد في المركب كلي وجزئي مطلقًا. ومن هنا لا يصح أن يقالَ: إن في الأدلةِ من حيثُ تركيبُها ما يفيد الكلية والجزئية لعدم وجود ذلك لا لغة ولا شرعًا: وأما الكلية والجزئية في الاسم فهي أن الاسم إن كان بحيث يصح أن يشترك في مفهومه كثيرون فهو الكلي مثل الحيوان والإنسان والكاتب والشمس، أو ما شاكل ذلك، وإن كان بحيث لا يصح أن يشترك في مفهومه كثيرون فهو الجزئي مثل زيد علمًا على رجل ومثل الضمائر كهو وهي. والكلي قسمان: متواطئ مثلُ الإنسانِ والفرسِ، ومشكِّكٌ مثل الوجود والأبيض. والكلي كذلك نوعان: جنس مثل الفرس والإنسان، ومشتق مثل الأسود والفارس. والجزئي نوعان: علم وضمير. هذا هو موضوع الكلي والجزئي في اللغة، وهذا لا محل له هنا في دلالة الشريعة ولا في دلالة النصوص وإنما محلهُ في المفردات ولهذا فإنه لا يرد هنا، وعليه فإن الأدلة إما أن تفيد العموم أو تفيد الخصوص، ولا يوجد فيها ما يفيد الكلية أو الجزئية، والعموم إنما يشمل أفراده التي يدل عليها ولا يشمل غيرها، وبذلك يتبيّن أنه لا يوجد دليل كلي خاص يدل على مصلحة كلية.
وأما جعل السرقة لملكية الفرد علة لتشريع عقوبة للمحافظة على الملكية الفردية، فغير صحيح لأن السرقة علة لقطع اليد، وليست علة للمحافظة على الملكية الفردية، فهي علة عقوبة معينة لا علة مطلق العقوبة للمحافظة على ملكية الفرد، ولذلك هي علة خاصة لحكم خاص، وليست علة عامة لعقوبات المحافظة على الملكية الفردية، فلا يصح أن تجعل علة كلية ويبنى عليها حكم كلي تتفرع أجزاء. فالآية تقول: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا} (سورة المائدة: الآية 38) فالسارق وَصْفٌ مُفْهِم، وهو مناسب للقطع، فيكون القطع من أجل السرقة، ولذلك صلح أن يكون علة لقطع اليد، ولكن كونه علة إنما يفيد التعليل فقط ولا يفيد وجه العلية، ولذلك لا تصلح عليته للقياس، فلا يقال: إن السرقةَ كانت علةً لأنها اعتداء على الملكية الفردية، فيجعل كون السرقة اعتداءً على الملكية الفردية علة لكونها علة للقطع، لأن النهب اعتداء على الملكية الفردية ولا قطع فيه، والغصب اعتداء على الملكية الفردية ولا قطع فيه، فإذن لم تجعل السرقة علة لقطع اليد لكونها اعتداءً على الملكية الفردية، وإنما جعلت علة لأنها سرقة فقط لا لشيء آخر بدليل وجود شروط معينة لا بدّ من وجودها حتى يحصل القطع، فلو سرق دون النصاب، أو من غير حرز المثل، أو طعامًا مهيأً للأكل أو ما شاكل ذلك، لا يقطع ولو كان اعتداءً على الملكية الفردية، وعلى ذاك فالسرقة علة لقطع اليد، هكذا واقعها، فلا يقالُ عنها علة كلية أو على جزئية، حتى ولا علة عامة، وإنما هي علة معينة لحكم معين، وهي ليست من العلل التي يقاس عليها.
وعلى ذلك فقطع اليد ليس علته المحافظة على الملكية الفردية وإنما علته السرقة لكونها سرقة، فالمحافظة على الملكية الفردية ليست علة مطلقًا.
وعلى هذا فلا يقالُ: إن المتهمَ بالسرقة تشرع له عقوبة لضربه عند الإنكار حتى يقر، محافظةً على الملكية الفردية أخذًا من الدليل الكلي وهو قطع يد السارق، لا يقال ذلك لأنه لا يوجد دليل يدل على جواز الضرب، والمحافظة على الملكية الفردية ليست علة لقطع اليد، ولا علة لإيقاع عقوبة السرقة فلا تتخذ علة لتشريع عقوبة لمعاقبة المتهم بالسرقة، فوق أن المتهم بريء حتى يثبت عليه شيء من سرقة أو نهب أو غصب فتوقع عليه حينئذ العقوبة الشرعية التي شرعها الشارع لهذا الذنب الذي يثبت سواء أكانت حدًّا أم تعزيرًا، ولا يجوز أنْ تُوقعَ عليه عقوبة قبل ثبوت الذنب، ولا أنْ توقعَ عليه عقوبة للذنب غير العقوبة التي شرعها الشارع. وعليه فالمتهم بالسرقة لا يضرب، ولا يصح أن يؤخذ من دليل قطع اليد دليل على جواز ضربه لأنه لا يدل على ذلك.
قد يقالُ: إن تشريعَ الشارع لعقوبة السارق والناهب والغاصب وما شاكل ذلك يفهم منه أنه إنما شرعها للمحافظة على الملكية الفردية فمن مجموع ذلك يؤخذ أن المحافظة على الملكية الفردية علة لتشريع عقوبة لها.
والجواب على ذلك: إنَّ المحافظةَ على الملكية الفردية إما أن تكون علة للحكم وإما أن تكون غاية الشارع التي يهدف إليها من تشريع الحكم، وكلاهما لا بدّ له من نص يدل عليه، ولا يوجد نص يدل على أنها علة للحكم كما لا يوجد نص يدل على أنها غاية الشارعِ من تشريع الحكم، ولذلك لا يصح أن يُقالَ عنها إنها علة الحكم أو حكمةُ الله من تشريع الحكم، ولهذا فإنه لا يوجد في الشرع أي أصل لاعتبارها في العقوبات مطلقًا فلا تعتبر ولا بوجهٍ من الوجوه. أما إذا نظرنا إلى واقعِ هذه العقوبات نجدُها كلها تدل على المحافظة على الملكية الفردية، ولكن هذا الواقعَ هو نتائجٌ تلمس، وقد تحصل وقد لا تحصل، ولكن هذا لا يدل على أن الشارعَ قد بيّن ما يدل على أنها غايته، ولذلك تكون وصف واقع يشرح كما يشرح أي واقع ولكن لا على أساس أنه مدلول الشارع ولا على أنه علة الحكم.
ألا ترى أنَّ إباحة الزواج بأكثر من واحدةٍ تقضي على الخليلات في المجتمع، وأنَّ منعَ الزواج بأكثر من واحدةٍ يُكْثِرُ من الخليلات في المجتمع، ولكنَّ هذه النتيجةَ التي تُشاهدُ هي وصف لواقع، فليست هي علة الحكم ولا هي مقصود الشارع من تشريع الحكم، فلا تبحث من ناحية شرعية، وكذلك المحافظة على الملكية الفردية وما شابهها من الضروريات.
وعلى ذلك لا يوجد دليل كلي خاص يدل على مصالح كلية.
أما وجود مجموعة معينة من الأدلة تدل على مصالح فهو غير موجود مطلقًا، وما وجد من مجموعة أحكام يدلُّ واقعها على أمرٍ معينٍ مثل السرقة والغصب والنهب والسلب، في أنها كلها تحافظ على الملكية الفردية.
فإنَّ هذا وصف واقع وليس دلالة على علة، ولا على مصلحة تتخذ علة للتشريع. على أنه لو زعم أنه مدلول مجموعة هذه الأحكام، فإنه يكون حينئذ من قبيل دلالة الأحكام على معانٍ وليس دلالة أدلة، فليس هو حتى على هذا الاعتبار مجموعة معينة من الأدلة تدل على مصالح وعلى ذلك لا يوجد في الشريعة مجموعة معينة من الأدلة تدل على مصالح معينة تتخذ علة للأحكام.
وأما دلالة مجموع الشريعة فهذا كلام يسقط عن درجة الاعتبار، لأن الدلالة إنما تكون لنصوص معينة، والقول بدلالة مجموع القرآن ومجموع السنة قول فاسد، لأن هذا المجموعَ لا دلالة فيه كله على شيء معين، ولكن في كثيرٍ من نصوصه دلالة على شيء، ونصوص أخرى دلالة على شيء، فيكون من قبيل نصوص معينة تدُلُّ على شيء معينٍ، وأما أن مجموع الشريعة تدل على شيء معين فذلك أمر ليس له وجود. وعلى ذلك لا توجدُ مصلحة دلت على اعتبارها الشريعة كلها بوجه كلي، ولا بنصوص كلية، ولا بمجموعة نصوص ولا بمجموع الشريعة، فيكون اعتبار المصلحة علة شرعية أمرًا باطلًا من أساسه، إذ لا يوجد في الشرع مصلحة تُعْتَبرُ علة للتشريع لا مصلحة شرعية ولا مصلحة غير شرعية...


المصادر
168 كنز العمال الجزء العاشر رقم 29815 عن سمرة.
169 أحمد بن حنبل رقم 6.
170 ابن ماجة رقم 14 باب الأحكام.
171 صحيح مسلم رقم 35 القيامة.
172 ابن ماجة رقم 2377 جزء ثاني.
173 البخاري رقم 1370 الجزء الثالث.
174 صحيح مسلم رقم 1971.
175 كنز العمال رقم 250.
176 بخاري رقم 30 الجنائز.
177 الدارمي صفحة 28 الطهارة.
178 أحمد بن حنبل رقم 288.
179 ابن ماجة رقم 2645 جزء ثاني الديات.
180 ابن ماجة رقم 2401 جزء ثاني.
181 الترمذي صفحة 257 جزء رابع عن جابر.
182 كنز العمال رقم 15526.
183 صحيح مسلم رقم 1533 البيوع.
184 البخاري صفحة 140 جزء ثالث.
185 كنز العمال رقم 27896.
186 البخاري صفحة 140 الجزء الثالث.
187 البخاري صفحة 30 الإيمان.
188 أبو داود رقم 73 البيوع.
189 البخاري صفحة 101 جزء ثالث.
190 البخاري صفحة 101 جزء ثالث
191 كنز العمال رقم 1503.
192 كنز العمال رقم 9637.
193 كنز العمال رقم 15030.
194 كنز العمال رقم 9796 عن عبادة بن الصامت.
195 الترمذي رقم 10 الزكاة.
196 صحيح مسلم رقم 50 البيوع.
197 ابن ماجة رقم 2342 جزء ثاني.
198 كنز العمال رقم 15030 حم خ.د.
199 ابن ماجة الجزء الثاني رقم 2342 عن لؤلؤة.
200 ابن ماجة رقم 2735 جزء ثاني.
201 كنز العمال رقم 15030.
202 كنز العمال رقم 10959.
203 ابن ماجة رقم 2432 جزء ثانٍ.
204 ابن ماجة رقم 2432 جزء ثانٍ.
205 ابن ماجة رقم 2624 الديات الجزء الثاني.
206 كنز العمال رقم 386.
207 كنز العمال رقم 15030.
مقدمة الكتاب
القسمُ الأوّل
القِسم الثاني
القِسم الثالِث
القسم الرابع
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢