نبذة عن حياة الكاتب
طريق الإيمان
الطبعة : الطبعة العاشرة
المؤلف : سميح عاطف الزين
فئة الكتاب : فكر معاصر
عدد الصفحات : ٣٣٦
تاريخ النشر : ٢٠١٠

التَطوُّر وَالارتقَاء
1. الديالكتيك.
2. المادية الديالكتيكية والاشتراكية الماركسيّة.
3. البحث في الفكر.
4. البحث في الطبيعة.

نظرية التطور والارتقاء
وهيَ النظرية التي تبنّاها داروين، وتقول: "إن الإنسان من سلالةِ القرودِ أوْ على الأقلّ من سلالةِ حيوانٍ شبيهٍ بالقردِ. ومنذُ مليونِ سنةٍ بدأتْ إحدى سلالاتِ القردةِ تتطوّر تطوّرًا بطيئًا وئيدًا، انتهى بإنجابِ (الإنسان الشبيه بالقردِ) الذي ظَهَرَ منذُ نحو (مئتي ألف سنة) وامتازَ من أجدادِه بقدْرتِهِ على التفكير والابتكارِ، وعلى النطقِ والكلامِ، وعلى المشي مُنْتصبًا على قدميهِ. وبناءُ القرودِ العُليا يُشبِه بناء الإنسانِ، في كثيرٍ منَ الأمورِ التشريحيّةِ".
هيَ استنتاجاتٌ وافتراضات استخلصوها من خلالِ مشاهدتهم للحفريّات والتجاربِ التي أجروها. وهي نظرية غير صحيحة يردها الواقع الذي أخبر الله تعالى به عن خلق آدم أبي البشرية الذي خلقه من تراب ثم نفخ فيه الروح فصار إنسانًا حيًّا عاقلًا مدركًا، وعلمه الله أسماء الأشياء وألهمه معرفة الأعمال والنطق وغير ذلك.
وهذا يعودُ لعدم تمييزهم بينَ الطريقةِ العلميّةِ والطريقةِ العقليّةِ. فكانَ الخطأ أنهم بنوا نظرياتهم وأحكامهم، وأخيرًا عقائدهم، على أساسٍ من الطريقة العلميّةِ وَحْدَها، التي تقوم على الملاحظة والتجربة والاستنتاج.
1 ـــــــ الدّيالكتيك والتطور:
الديالكتيك: كلمةٌ مأخوذةٌ من الكلِمَةِ اليونانيّةِ، (دياليغو) ومعناها "المحادثةُ والمجادلةُ والحوارُ".
والتطورُ لغة: التحوّلُ من طورٍ إلى طورٍ، أو من حالٍ إلى حال. قال تعالى: {وقد خلقكم أطوارًا} (نوح: 14). أي خلقكم طورًا نطفةً، وطورًا علقةً، إلى آخرِهِ.
وكانَ الديالكتيك يعني في عهدَ الأولينَ، التوصل إلى الحقيقةِ، باكتشاف المتناقضاتِ التي يتضمّنها استدلال الخَصْمِ، وكانَ بعضُ الفلاسفةِ الأولينَ يقولون بأن اكتشافَ تناقضاتِ الفكرِ، والمصادمَةَ بينَ الآراءِ، همَا خَيرُ وسيلةٍ لاكتشافِ الحقيقةِ.
أما الفلاسفة المحدثون فإنهم يقولون إنَّ العالَمَ بطبيعته ماديّ، وإنّ حوادثَ العالمِ المُتعدّدَةَ هي مظاهرُ مختلفة للمادّةِ المتحرّكة. والعلاقاتُ المتبادلةُ بينَ الحوادثِ وتكييفُ بعضها بعضًا، كما تُقرّرُ الطريقةُ الديالكتيكيّةُ، هي قوانينُ ضروريةٌ لتطوّرِ المادّةِ المتحركَةِ، والعالــمُ يتطوّرُ تبعًا لقوانين حركةِ المادّةِ، ولا يحتاج إلى خالق.
ولما أنكروا وجودَ خالقٍ مدبّرٍ، لهذه الحياةِ على اختلافِ مظاهرها، بدأوا بالتكهن القائِلِ: "فمن المحتملِ أنَّ أولى الكائناتِ الحيّةِ التي عاشتْ على الأرْضِ كانتْ عبارةً عن جزئيات بسيطةٍ من مادّةِ البروتين"، وهي المادّةُ الأساسيةُ في تكوينِ أجسامِ الكائناتِ الحيّةِ كافّةً.
ثمّ أخذوا يتساءلونَ: "أليسَ منَ الممكنِ أنْ تكونَ جرثومةُ الحياةِ الأولى قد وصلتْ إلى عالمنا الأرضيّ مِن بعضِ الأجْرامِ الفلكيّةِ البعيدة؟" فاللورد كالفن الإنكليزيّ المشهور قالَ: "يُحْتَمَلُ كثيرًا أنْ تكونَ الحياة قد وصلتْ إلى عالمنا الأرضي منْ عوالمَ أخرى" ومثل هذا القولِ، من مثلِ هذا الإنسان المشهور، لم يَدَعْ أيّ لبس عند أيّ مفكر بأنّ كلّ ما وضعوهُ، وركزوا فيه سيرَهُم في حياتهم الدنيا منْ عقائدَ وآراء ومفاهيمَ، كان احتمالاتٍ وتكهّناتٍ فقطْ، ولا أساس له في الواقع.
2 ـــــــ المادية الديالكتيكية والاشتراكية الماركسية:
الاشتراكية الماركسية كانت في أول النصف الثاني من القرن التاسع عشر ـــــــ أيام حياة كارل ماركس الذي توفي عام 1883م ـــــــ في آخر النصف الثاني من القرن العشرين ـــــــ تحتلُّ وجودًا ضخمًا في العالم، وتقوم على أساسها دولة كبرى هي روسيا، وإلى جانبها عدةُ دول تعد بمئات الملايين من البشر تحاول السير في تطبيق هذه الاشتراكية الماركسية، ثم لها دَعاية عالمية واسعة، وأتباعٌ منتشرون، حتى إنه لا تكاد توجد دولة تخلو من اشتراكيين ماركسيين.
وفي البلاد الإسلامية كلها لها دعاةٌ ومحبِّذون، ولا سيما في أندونيسيا والهند، فقد استهوت الاشتراكية الشعبَ فكريًّا، واتَّخذها النزرُ القليل عقائديًّا، وأكثرهم ـــــــ للأسف ـــــــ من أبناء المسلمين. فكان لا بد من النقاش مع هذه الاشتراكية المدَّعاة، ولا بد من الوقوف معها في عروضٍ علمية، لنكشف فيها عن وجه الحق، ولنعرض إلى صواب الرأي، باثين بعمق وتوضيح، ومناقشين بهدوءٍ، حتى تنجليَ الحقائقُ ويبرزَ زيفُ الباطل، آملين من محبِّذي ومعتنقي هذه الفكرة البالغة الخطر على الإنسان، أن يبصروا النور، ويثوبوا إلى الحق، ويسيروا في طريق الهدى، ويدركوا مدى ما كانوا فيه من ضلال ما بعده ضلال، وليروا أن واجبهم الحقَّ كان ينبغي أن يكون حربَ هذا الكفر والإلحاد.
فالاشتراكية الماركسية ـــــــ بحقيقتها ـــــــ عقيدة إلحادية يقبلها من كان يعيش في فراغ من العقيدة، لأن فيها قابلية التطبيق لما فيها من أحكام وضعوها لمعالجة مشاكل الحياة، بشكل مثاليّ، كما يزعمُ دعاتها.
وهي أيضًا فكرة وطريقة، أي عقيدة لها أحكام لمعالجة مشاكل الحياة، تبين كيفية تنفيذ العقيدة، وكيفية تنفيذ معالجات الحياة. ولذلك كانت فيها قابلية جمع رأي عام من حولها، لما فيها من تزيين القول، ودغدغة آمال الفقراء والمساكين، وضِعافِ الحال.
ومن هنا كان خطرها أفظع من خطر الرأسمالية.
غير أن القول بوجود رأي عام لها، والقول بإمكانية تطبيقها، لا يعنيان أنها صحيحة، بل هي، في الحقيقة، مبدأ باطل في فكرته وطريقته. ولأجل إدراك ذلك إدراكًا كامل الوضوح، لا بد من إعطاء صورة واضحة عن واقع هذه الاشتراكية الماركسية كما وردت في الكتب الاشتراكية والشيوعية أولًا، ثم نقضها من أساسها بالنقاش العلميِّ والبرهان الساطع ثانيًا.
تقوم الفكرة الاشتراكية الماركسية على ما يسمّى: بالمادية الديالكتيكية، والمادية التاريخية.
أما المادية الديالكتيكية فقد سمِّيت كذلك لأنها تقوم على الأسلوب الجدلي في النظر إلى حوادث الطبيعة، أي إن طريقتها في البحث والمعرفة هي اكتشاف تناقضات الفكر والمصادمة بين الآراء بالنقاش، فهي جدلية. ولأن تعليلها لحوادث الطبيعة وتصوُّرها لهذه الحوادث ماديّ فقد كانت نظرتها إلى الكون والكائنات مادية بحتة، ولذلك جمعت الوصفين: المادية والديالكتيكية.
وأما المادية التاريخية، فهي توسع نطاق أفكار المادية الديالكتيكية حتى تشمل دراسة الحياة في المجتمع، وتطبق هذه الأفكار على حوادث الحياة في المجتمع، أي إنها تطبِّق أفكار المادية الديالكتيكية على درس المجتمع ودرس تاريخ المجتمع.
وتقوم المادية الديالكتيكية على أن الحياة والإنسان والكون مادةٌ تتطور من نفسها تطورًا ذاتيًّا. وفي نظر أصحابها أنه لا يوجد خالق ولا مخلوق، وإنما التطور الذاتي في المادة هو الذي أوجد الكون والكائنات.
تلك هي النظرية المادية، التي قال بها كارل ماركس. وهو يفصّل قواعد نظريته هذه بشكل جدَلي، ولذلك سمِّيت بالـــــــ "ديالكتيكية". والأساس الذي تقوم عليه هو أن اكتشاف تناقضات الفكر والمصادمة بين الآراء، هما خير وسيلة لاكتشاف الحقيقة. وعندما طبّق هذا الأسلوب الديالكتيكي في التفكير في ما بعد على حوادث الطبيعة، أصبح هو الطريقة الديالكتيكية لمعرفة الطبيعة... وبما أن حوادث الطبيعة تبدو دائمًا متحركة ومتغيرة، فقد عُدَّت هذه الفلسفة، تطور الطبيعة ونتيجة تطوُّرِ تناقضاتها، نتيجةً للفعل المتبادل بين القوى المتضادة في الطبيعة.
وعلى هذا الأساس تقول المادية الديالكتيكية: إن العالم يتطوَّر تبعًا لقوانين حركة المادة، وإنه ليس في حاجة إلى أيِّ عقلٍ كلّي، وإنه واحد لم يخلقه إله!
إن تلك الفلسفة وكل ما تقوم عليه باطل قطعًا... فكونُ الأشياء المدرَكة المحسوسة موجودةً أمرٌ قطعيّ، لأنها مشاهدة بالحس. وكونُ هذه الأشياء المدرَكة المحسوسة محتاجةً إلى غيرها، أي لها وصف الاحتياج أمرٌ قطعيّ أيضًا، لأنها بالمشاهدة لا تستطيع التصرُّف والانتقال من حال إلى حال إلَّا بسبب خارج عنها، أو بشيء غيرها.
فالنار تُحرق أيَّ مادة أخرى إذا كان في هذه المادة قابلية الاحتراق، وإذا لم تكن فيها قابلية الاحتراق لا تحرقها النار مع وجود خاصية الإحراق في النار.
وبعض الأحماض تذيب بعض العناصر ولا تذيب غيرها.
وبعض العناصر تتَّحد مع عناصر أخرى وتتفاعل معها ولا تتفاعل مع غيرها.
فالنار لا تستطيع الإحراق إلَّا بوجود المادة القابلة للاحتراق. وهي من أجل أن تُحرق محتاجة إلى المادة القابلة للاحتراق.
والأحماض لا تستطيع أن تذيب إلَّا عناصر معينة فيها قابلية الذوبان، فهي محتاجة إلى العناصر التي فيها قابلية الذوبان حتى تستطيع الاتحاد والتفاعل بوجود تلك العناصر القابلة للتفاعل والاتحاد. ولا يقال لشيءٍ إنه محتاج إلى ما هو فيه، بل يكون محتاجًا حين يفتقر إلى زيادة كمية على ما هو فيه، ومن ثم فهو محتاج إلى من يوجد له هذه الكمية، أي إنه يكون محتاجَهُ له، ومفتقرًا إليه...
وهذا دليلٌ قطعيٌّ على أن الأشياء المدرَكة المحسوسة محتاجة إلى غيرها، أي لها وصف الاحتياج.
والطريقة الديالكتيكية الماركسية من حيث هي، تأخذ ناحيتين في البحث:
إحداهما: ناحية البحث في الفكر.
والثانية: ناحية البحث في الطبيعة.
3 ـــــــ البحث في الفكر:
يرى الماركسيون أن الفكر هو: انعكاس الواقع على الدماغ.
أي إن القضية في نظرهم هي قضية واقع، وليست قضية فكر. ويفسرون ذلك بالقول إن الواقع موجود أولًا، وهذا الواقع عندما يعكس على الدماغ يولد الفكر.
هذا في نظر ماركس، في حين أن هيغل يناقضة في الرأي، عندما يُعدّ أن الفكر هو الذي يولّد الواقع. وفي هذا يقول ماركس: "إن طريقتي في التفكير لا تتفق مع الطريقة الهيغلية من حيث الأساس فحسب، بل هي ضدها تمامًا. فحركة الفكر هي في نظر هيغل التي توجد الواقع وتصنعه، كون الواقع ما هو إلا الشكل الحادثي للفكرة. أما في نظري فعلى العكس، إذ ليست حركة الفكر سوى انعكاس الحركة الواقعية منقولة إلى دماغ الإنسان ومستقرة فيه".
هذا ما يقول به هيغل وكارل ماركس، أما ما يقول به الشيوعيون المحدثون فكل شيء يقوم على المادة. فالمادة هي الأصل للإحساس، وهي الأصل للتصورات، وهي الأصل للفكر، أي إنها منبع هذه الأمور الثلاثة. وفي هذا الصدد يقول أنجلز: "إن مسألة علاقة الفكر بالكائن، وعلاقة العقل بالطبيعة، هي المسألة العليا في كل فلسفة. وكان الفلاسفة تبعًا لإجابتهم عن هذه المسألة ينقسمون معسكرين كبيرين: فالذين يؤكدون تقدُّم العقل على الطبيعة يؤلفون معسكر المثالية، والآخرون الذين كانوا يقررون تقدُّم الطبيعة ينتمون إلى مختلف المدارس المادية".
ويقول أنجلز أيضًا: "إن العالم المادي الذي تدركه حواسنا، والذي ننتمي إليه، هو الواقع الوحيد. أما إدراكنا وفكرنا ، مهما ظهرا رفيعين ساميين، فليسا سوى نتاج عضو مادي جسدي هو الدماغ. وإن المادة ليست من نتاج العقل، بل إن العقل ليس سوى نتاج المادة الأعلى".
ويقول لينين: "إن الإدراك ليس إلا انعكاس للكائن المادي الموضوعي، وهو في أحسن الحالات انعكاس صحيح تقريبًا".
ويقول في ما بعد: "المادة هي نتاج الإحساسات بالتأثير في أعضاء حواسنا... والمادة هي واقع موضوعي تعطينا إياه الإحساسات... والمادة والطبيعة والكائن والموجود الفيزيائي هي العنصر الأول... في حين أن العقل والإدراك والأحساسات والموجود النفسي هي العنصر الثاني"...
هذه هي الناحية الأولى في الطريقة الديالكتيكية، وهي أن كل شيء مبني على المادة، وأن المادة والطبيعة والكائن والموجود الفيزيائي هي العنصر الأول، في حين أن العقل والإدراك والإحساسات والموجود النفسي هي العنصر الثاني.
ونحن لا يمكن أن نقرّ بصحة ما تقوم عليه الفلسفة المادية، لأن من المقطوع به أنه لا يمكن أن يحصل فكر إلا بوجود معلومات سابقة يمكن بوساطتها تفسير الواقع. لأن التعريف الصحيح للفكر هو: أنه نقل الواقع بوساطتها الإحساس إلى الدماغ، وعقله بوساطة معلومات سابقة تفسّر هذا الواقع.
فالواقع وحده لا يمكن أن يحصل من الإحساس به أي فكر، وإن كان يمكن أن يحصل به إدراك شعوري يتعلق بالغرائز، وأن يحصل به استرجاع للحس، وأن تحصل به معرفة بما أُحسَّ به. أما أن يحصل حكم عليه، أي أن يحصل فكر، فلا يمكن ذلك مطلقًا.
ولا يَرِدُ هنا أن الواقع قبلَ الفكر، أو أن الفكر قبل الواقع، لأن البحث ليس مقصودًا فيه أيٌّ يسبق منهما غيرَه. وإنما البحث محصورٌ في تعريف الفكر، فلا دخل للقبْلية والبَعْدية فيه. وإذا قيل إن الفكر موجود قبل الواقع، وإن الفكر هو خالقُ الواقع وصانعُه كما يقول هيغل، فإن ذلك خطأ، لأن الفكر هو الحكم على الواقع بما فيه، ولا يتأتى إصدار الحكم إلَّا على موجود حين الإصدار، فلا يكون الواقع موجودًا حين التفكير فيه.
فالواقع إذن ليس من خلقِ الفكر ولا من صُنعِه، بل كان موجودًا عندما وُجِدَ الفكر، أي عند التفكير فيه. ولا يتأتى وجود فكر إلا إذا كان واقعه موجودًا حين وجوده. وما لا واقع له ليس فكرًا مطلقًا، بل هو تخيلات وتخريف. أما قول هيغل بأنّ الخالق للواقع، الموجد له من العدم، موجود قبل الواقع فصحيح، لأن الواقع حادث والخالق أزليّ، فالخالق موجود قبل الواقع حتمًا.
والظاهر أنه ـــــــ أي هيغل ـــــــ لم يقصد ذلك، بل قصد من الفكر التفكير ولذلك كان قوله خطأ. ومثلُه القول: إن الواقع قبل الفكر، وإن العقل ليس سوى نتاج المادة الأعلى، كما يقول أنجلز، فإن ذلك أيضًا خطأ، من حيث إن الفكر هو الحكم على الواقع، ولا يتأتَّى الحكم إلا بوجود معلومات سابقة عن الواقع.
فالمعلومات جزء جوهري يستدعي وجودَ الفكر، ويكون وجوده متوقفًا على وجود المعلومات. فالبحث من حيث وجود الفكر قبل الواقع أو بعد الواقع لا بد من أن يذهب إلى المعلومات السابقة التي بها أمكن أن يوجد فكر: هل هي قبل الواقع أو بعده؟ لأن هذه المعلومات نفسها هي تَفكُّر.
والبحث يجب أن ينصرف إلى المعلومات أولًا ما دام قد ثبت بأنه لا يوجد فكر إلَّا بمعلومات سابقة. والمعلومات ليس حتمًا أن تكون بعد وجود الواقع، فقد تكون قبل وجوده وقد تكون بعد وجوده. لأنه إذا ثبت أن المادة أزليّة فيجب أن تكون المعلومات قد وجدت بعدها حتمًا، وبالتالي يكون الفكر أو العقل من حيث وُجد بعد المادة. أما إذا ثبت أن المادة ليست أزلية، وأنها مخلوقة لخالق، فإنه حينئذٍ يجب أن تكون أول معلومات عن أول فكر، موجودة قبل المادة، لأنها تكون ممن خلق المادة. فالله الخالق هو الذي أنزل أول معلومات، وهي سابقة لأول فكر حصل في الوجود. وقد جاء في القرآن الكريم: {وعلم آدم الأسماء كلها} (البقرة: 31)... أي إن الله سبحانه وتعالى أعطى الإنسان الأول ـــــــ أكرم مخلوقات الله عز وجل ـــــــ المعلومات السابقة الأولى.
4 ـــــــ البحث في الطبيعة:
يتلخص البحث في الطبيعة من زاوية النظرة الديالكتيكية، بحسب آراء الشيوعيين في أربع نقاط:
النقطة الأولى: أن الطبيعة كلٌّ واحدٌّ متماسكٌ ترتبط فيه الأشياء والحوادث في ما بينها ارتباطًا تامًّا.
النقطة الثانية: أن الطبيعة ليست في حالة سكون، بل هي في حالة تطوّر وتغير دائمين.
النقطة الثالثة: أن حركة التطور تقوم على الانتقال من تغيرات ضئيلة وخفية إلى تغيرات كيفية بشكل سريع وفجائي.
النقطة الرابعة: أن كل الأشياء وحوادثها تحوي تناقضات داخلية.
وسوف نوضح كلًّا من هذه النقاط ونردُّ عليها.
النقطة الأولى:
ترى الديالكتيكية أن الطبيعة ليست تراكمًا عرضيًّا للأشياء، وحوادثها ليست منفصلة بعضها عن بعض، أو مستقلة إحداها عن الأخرى ومنعزلة عنها. بل إن الطبيعة تراكم واحد متماسك، ترتبط فيه الأشياء والحوادث ارتباطًا عضويًّا، ويتعلق أحدها بالآخر، ويكون بعضها شرطًا لبعض بصورة متقابلة.
لذلك يذهب الشيوعيون في اعتقادهم إلى أن أي حادث من حوادث الطبيعة لا يمكن فهمه إذا نظر إليه منفردًا أو بمعزل عن الحوادث المحيطة به، لأنه في حال عزله عن الشروط المحيطة به ينقلب إلى عبث فارغ، ولا معنى له. وعلى العكس من ذلك يمكن فهم أي حادث وفي أي ميدان من ميادين الطبيعة، وتبريره، إذا نظر إليه من حيث ارتباطه ارتباطًا لا ينفصم بالحوادث المحيطة به، أي إذا نظر إليه كما تحدده وتكيّفه الحوادث التي تحيط به.
وهذا يعني أن الشمس مرتبطة ارتباطًا لا ينفصم بحركتها وبحركة الكواكب المحيطة بها. ويعني أن الإنسان مرتبط بالبلد الذي يعيش فيه ارتباطًا لا ينفصم.
وهكذا فإنه لا يمكن فهم الشيء إلا بالحادثة التي تكتنفه، ولا يمكن فهم الحادثة إلا بالشيء أو الأشياء التي تكتنفها. فيكون الشيء، بنظرهم، كما تحدده الحوادث أو الأشياء المحيطة به، وليس كما تحدده ماهيته.
الرد على النقطة الأولى:
إن القول بأن الطبيعة كلٌّ واحدٌ متماسكٌ ترتبط فيه الأشياء والحوادث في ما بينها ارتباطًا تامًّا ليس إلَّا مجرد فروض... ذلك أن الطبيعة يمكن أن تشكل الكون كله، كما يمكن أن يطلق وصفها على أي جرم أو نجم أو كوكب في هذا الكون بصورة منفردة.
فإذا أخذنا مثلًا كوكب الأرض التي نعيش عليها نجد أنَّ لها قوانينها التي تسيّرها من حيث ارتباطها بالكون من ناحية، ومن حيث ذاتيتها هي من ناحية أخرى. وهكذا الأمر بالنسبة إلى أي جرم أو أي كوكب أو أي شيء له ذاتية خاصة به... فالأرض إذًا في أشيائها وقوانينها الخاصة بها، غير مرتبطة بغيرها، وهي تعيش في وسط يتعلق بها وحدها (وإن كان ذلك لا يجري إلا ضمن الإطار العام الجامع للكون). وحتى الأشياء التي على الأرض فإن لكل شيء قوانين خاصة به، وهو غير مرتبط بغيره، إلّا إنه مع ذلك يبقى مرتبطًا بقوانين الأرض، ومن ثم بقوانين الكون.
إذًا فالقاعدة الثابتة هي أن لكل شيء من أشياء الطبيعة قوانينه الخاصة به التي تجعله يجري بذاتية معينة ومستقلة عن ذاتية الأشياء الأخرى، كما أنَّ له قوانين أخرى تجعله مرتبطًا بغيره من الأشياء التي تكوِّن الطبيعة ككل عام أي الكون بأسره. وقد ثبت وجود تلك القوانين بشكل ملموس بعد رحلات الفضاء، حيث ينعدم الوزن عند وصول القمر الصناعي إلى مكان تعادل الجاذبيات، إذ في هذا المكان لا يعود لجاذبية الأرض أي تأثير عليه، لأنه في النقاط التي تتعادل فيها جاذبية كوكبين أو أكثر تنعدم الجاذبية، وبخروج القمر الصناعي من جاذبية الأرض يكون قد خرج من حكم قانون جاذبيتها، وهذه الجاذبية هي المثال الحي على القوانين الخاصة بالأرض التي تقيم توازن الأشياء عليها، في حين أن لا وجود لهذه الجاذبية على سطح القمر بالنسبة إلى الإنسان مثلًا الذي ينزل على سطحه، إذ تحكمه عندئذٍ قوانين خاصة بالقمر...
إذًا فكل شيء في الطبيعة يكون مرتبطًا مع غيره بقوانين، ومنفصلًا عن غيره بقوانين خاصة به. وهذا الأمر يتعلق بالأشياء والحوادث على الأرض بالذات، فإذا أصاب زلزال مثلًا تركيا فإن هذا الزلزال لا يؤثر في لبنان أو في بلدان أخرى غيرها. والبراكين في جهة ما لا تتأثر بها جهة أخرى. وما يجري على الحيوان لا يجري على الإنسان، فالحيوان يمشي على أرجل متعددة، ويفقد الإدراك العقلي، ويعيش بحسب الطاقةِ الحيويةِ من غرائز وحاجاتٍ عضويةِ، أما الإنسان فيمشي على رجليه ويستعمل يديه على خلاف استعمال رجليه، ويملك الإدراك العقلي، وسلوكه في الحياة إنما هو بحسب مفاهيمهِ وليس بحسب غرائزهِ وحاجاتِهِ العضوية فقط. وما عليه الجمادات غير ما عليه الكائن الحيّ، فالجمادات لا تحتاج إلى غذاء والكائن الحي يحتاج إلى غذاء، والجمادات لا تحسّ، وبعض الكائنات الحيّة تحس، والجمادات ليس لديها طاقة حيوية من غرائز وحاجات عضوية. ثم إن الإنسان نفسه يسير في الحياة من حيثُ الخلقُ على قوانينَ واحدةٍ، لكنه يسير في معيشتِهِ وعلاقاتِهِ على أنظمةٍ مختلفةٍ، وهو يتمتّعُ بالاختيار التامّ لما يريدُ من نظامٍ، ومن تفكيرٍ، ومن عيش، وليس مرتبطًا بالطبيعةِ ارتباطًا جبريًّا، وليست هي التي تسيّره في عيشِهِ، بل هو الذي يسير في نفسه مختارًا. ومن هنا كانت هذه النقطة مجرّد فرض. فإنهم لما رأوا أن الكون متماسك الأجزاء من حيث سيرُهُ ضمن قوانين معينة، وأن كوكب الأرض متماسك الأجزاء من حيث سيره ضمن قوانين معينة، قالوا إن الطبيعة كلّ متماسك الأجزاء، ونسوا أن هذه الكلية إنما هي في الكلية أي من حيثُ الكونُ كلّهُ، أما من ناحية الأمور الخاصةِ بالأشياء فإن كل شيء متميّز من غيره، ومنفرد عنه. فالأرض متميزة من الزهرة، ومنفردة عنها، وغير مرتبطة ارتباطًا حتميًّا بقوانينها الخاصة، والحديد متميِّز من الزئبق، ومنفرد عنه، وغير مرتبط به ارتباطًا حتميًّا في قوانينه الخاصّةِ، مع أنّ كلًّا منهما معدن، والإنسان متميز من الحيوان وغير مرتبط به ارتباطًا حتميًّا بقوانينه الخاصة، مع أنَّ كلًّا منهما حيوان وهكذا.
فالارتباطُ الحتميّ في كلّ شيء بين أجزاء الكون وما يحويه غير موجود، بل الموجود هو الارتباط العام فقط.
وعلى هذا يكونُ من الخطأ القولُ بأنّ الشيء إنما يكون كما تحدّده الحوادثُ والأشياءُ التي تحيط به، في حين أن الأشياء والحوادث تحددها ماهيتها وليس الأشياء المحيطة بها. وبهذا كلّه يظهر خطأ النقطة الأولى.
النقطة الثانية:
أما النقطة الثانية فإنهم لا يُعدّون الطبيعة في حالةِ سكون واستقرار، بل يعدّونها في حالة حركة وتغير دائمين. ففيها دائمًا شيء يولد ويتطور، وشيء ينحلّ ويضمحلّ، ولهذا لا يصحّ أن يكتفى بالنّظر إلى الحوادثِ من حيث علاقاتُ بعضِها ببعض، ومن حيث تكييفُ بعضِها في بعض، بل يجب أن ينظر إليها أيضًا من حيثُ حركتها، من حيث تغيرها وتطورها، من حيث ظهورها واختفاؤها. يقول أنجلز: "إنَّ الطبيعة بأجمعها، من أضأل الأجزاء إلى أكبرِ الأجسامِ، من حبّةِ الرّملِ إلى الشّمسِ، من الخلية الحيّةِ إلى الإنسانِ، هي في حركةٍ دائمةٍ من النشوء والاضمحلال، هي في مدّ لا ينقطع، في حركة وتغير مستمرين أبديين". ويقول أيضًا: "ينظر بالدرجة الأولى إلى الأشياء، وإلى انعكاسها العقلي من حيث علاقاتها المتبادلة، من حيثُ تسلسُلها، من حيثُ حركتُها، من حيثُ نشوؤها واضمحلالُها". وهذا يعني أنه يجبُ أن ينظرَ إلى الشمس مرتبطةً بحركتها، وأن ينظر إليها بصفتها مادة تتغير وتتطور فتفنى فيها ذرّات وتحيا فيها ذرات، وكذلك الإنسان فهو ليس مرتبطًا ببعضه ارتباطًا لا ينفصم فحسب، بل إنه إلى جانب هذا الارتباط يعيش في عملية حياة وفناء، بمعنى أن بعض ذراته تفنى، وتحيا فيه ذرات غيرها.
وهكذا الأمر بالنسبة إلى الحياة، بارتباطها بحركتها، وارتباطها بعملية الحياة والفناء الدائرة فيها.


الردّ على النقطة الثانية:
وأما النقطةُ الثانيةُ فصحيحٌ أن العالم في حالة تغيّر دائم، لكنه ليس بصحيح أن كلّ شيء فيه يحوي أمرين معًا: هما الولادةُ والفناءُ، أي ليس بصحيح أنّ كلّ شيء فيه يتجدّد. ذلك أن في العالم أشياء يكون في تغيرها حالة تجدد فعلًا وأشياء تولد وتموت، مثل الكائنات الحية ومنها الإنسان، وأشياء يكون في تطوّرها حالة فناء كالشجرةِ الآخذةِ بالاضمحلال وكالشيخ الهرم.
فالادعاءُ بأنّ كلَّ شيء في العالم فيه شيء يولد ويتطور، وشيء ينمو ويضمحل، ادعاء باطل يكذبه واقع الأشياء الموجودة في العالم. بل إن الشيوعيين أنفسَهُم يقولون: إن الشيء الذي يبدو في لحظة معينة ثابتًا مستقرًّا، وهو في الواقع آخذٌ في الفناء، ليس مهمًّا ولا جديرًا بالاعتبار، بل المهمّ والجديرُ بالاعتبارِ هو الشيء الذي يولد ويتطور. ويرتبون على ذلك أنه لا يصحّ أن يؤسسوا عملهم على الفئات التي توقفت عن التطور، بل على الفئاتِ التي تتطور. ومن هذا يتبين أنَّ القول بأنَّ كلّ شيء في العالم هو في حركةٍ دائمةٍ من النشوء والاضمحلال قولٌ خاطئ مخالف للواقعِ، وبذلك يظهرُ فسادُ النقطةِ الثانية.
النقطَة الثالثة:
وأما النقطةُ الثالثةُ، فإنهم يُعدّون أن حركةَ التطورِ هي تطور ينتقل من تغيّرات كميّة ضئيلةٍ وخفيّةٍ إلى تغيّرات ظاهرةٍ أساسيّة، أي إلى تغيرات كيفيّة. وهذه التغيرات الكيفية ليست تدريجية، بل هي سريعةٌ، فجائيةٌ، وتحدثُ بقفزاتٍ من حالة إلى أخرى. وليست هذه التغيراتُ جائزةَ الوقوعِ بل هي ضرورية، وهي نتيجة تراكم تغيرات كمية غير محسوسة وتدريجية. أي إن التغيرات الكمية التي تحدث في الماء من جرّاء الحرارة هي تغيرات كمية، وهي تغيرات غيرُ محسوسةٍ، وهي أيضًا تغيرات تدريجيّة، لكنها حين تصلُ إلى نقطةِ الحرج أي إلى وضعٍ معيّن يحصل التغيرُ الكيفي بقفزةٍ، فيتحوّل الماء إلى بخار وينتقل من حالة إلى أخرى، وهذا الانتقالُ ليس جائزًا بل هو ضروري. ولذلك يؤكد الشيوعيون أنَّ من الواجب فهمَ حركةِ التطورِ، لا من حيثُ هي حركة دائرية، أو تكرارٌ بسيطٌ من نفسه، بل من حيثُ هي حركةٌ تقدميّةٌ صاعدةٌ، وانتقال من الحالة الكيفيّةِ القديمةِ إلى حالةٍ كيفيّةٍ جديدةٍ وتطور ينتقل من البسيط إلى المركب، من الأدنى إلى الأعلى. أي لا يصحّ أن ينظر إلى حركةِ التطوّر بأنها عملية حياةٍ وفناءٍ فحسب، أو عملية نشوء واضمحلال فقط، بل يجب أن ينظر إلى أن الفناء والحياة، أو الاضمحلالَ والنشوء، إنما يحدث في طريق تصاعديّ فينقلُ المادةَ من حالٍ إلى حالٍ غير الحالة الأولى وأحسن منها، فحركتها تصاعديّةٌ وتطورها ارتقائيّ... يقول أنجلز: "إن الطبيعة هي محكّ الاختبار للديالكتيك، ولا بدّ من القولِ إن علومَ الطبيعةِ الحديثة قد وفرت لهذا الاختبار موادّ غنيّة إلى أقصى حدّ، وهذه المواد تزداد كلّ يوم. هكذا برهنت هذه العلومُ أن الطبيعة تعمل في النتيجة، بصورةٍ ديالكتيكية لا بصورة ميتافيزيقية (علم ما وراء المادة أو العلم الغيبي)، وأنها لا تتحركُ في دائرةٍ تبقى هي ذاتها دائمًا وتتكرّر إلى الأبد، بل إن لها تاريخًا واقعيًّا. وبهذه المناسبة ينبغي أن نذكر بالدرجةِ الأولى داروين الذي وجه ضربةً قاسيةً إلى الفهم الميتافيزيقي للطبيعة، بإثبات أن العالم العضويّ بأسرِه كما هو موجودٌ اليومَ، أي النباتات والحيوانات وبالتالي الإنسان أيضًا، هي كلّها نتاجُ تطورٍ يجري منذ ملايين السنين".
ويبين أنجلز أن التغيرات الكمية تنقلب إلى تغيرات كيفيّة في التطوّر الديالكتيكي فيقول: "في الفيزياء، كل تغيرٍ هو انتقال من الكمية إلى الكيفية، هو نتيجةُ التغير الكلي لكمية الحركة ـــــــ كيفما كان شكلها ـــــــ سواء أكانت ملازمة للجسم من داخله أم مضافة إليه من خارجه. فإن حرارة الماء مثلًا ليس لها في بادئ الأمرِ تأثيرٌ في حالته من حيث هو سائل، ولكن إذا زيدت حرارةُ الماء أو نقصت جاءت لحظة تعدلت فيها حالةُ التماسكِ التي هو فيها، وتحول الماء إلى بخار في إحدى الحالات، وإلى جليد في حالة أخرى. وكذلك نرى أن شريطًا من البلاتين يحتاجُ إلى تيار ذي قوة معينة لكي يصبح مضيئًا، ونرى أيضًا أن لكل معدن حرارة ذوبان، وأن لكل سائل موضوع تحت ضغط معين حدًّا معيّنًا للتجمد والغليان، وذلك بمقدار ما تسمح لنا وسائلنا بالحصولِ على درجات الحرارةِ اللازمة، ونرى أخيرًا أنّ لكلّ غازٍ نقطة حرارة حرجة يمكن فيها تحويله إلى وسائل ضمن شروط معينة من الضغط والتبريد. فالنقاط الثابتة كما يُقالُ في الفيزياء ليست على الغالب سوى النقاط العقدية التي تؤدي فيها زيادةُ الحركةِ أو إنقاصُها إلى حدوثِ تغيّرٍ كيفيّ في جسم ما. أي إنها النقاط التي تتحولُ فيها الكميّةُ إلى كيفية". ويقول عن الكيمياء: "يمكن القولُ إن الكيمياء هي علمُ التغيّرات الكيفيّة الناشئة في الأجسام عن تغيرات كمية".
أي إن أنجلز يبرهن بوساطة الفيزياء والكيمياء على التغيّر الذاتي الذي يحصل في الطبيعةِ من انتقال الأشياء من حالة إلى حالةٍ أخرى أحسنَ من الحالة الأولى. ويحصل الانتقال من كمّ إلى كيفٍ، ومن كيف إلى كيف بوساطة الكم، فزيادة الذرات في الجزئية من اثنتين إلى ثلاث أعطت كيفية أخرى غير الأولى، تمامًا كما هي الحال في الفيزياء من زيادة الحرارة في الماء التي جعلته بخارًا، وهذا يعني أن حركة التطور التي تحصلُ في الطبيعة ليست حركة بسيطةً تدورُ حولَ نفسها بل هي حركة تصاعدية تنتقل بزيادة الكم أو نقصانه إلى حالة أخرى.
الردّ على النقطة الثالثة:
وأما النقطةُ الثالثة، فليس بصحيح أن التغيّر الذي يحصل في الأشياء هو تغيرٌ من أدنى إلى أعلى ومن سيئ إلى حسنٍ، هذا مجرّدُ فرضٍ، إذ لا يُعد هذا التغير انتقالًا من حالٍ إلى حال أحسن، ولا من حال حسنة إلى حال سيئة، بل هو تغير ليس غير. ففي غير الكائن الحي ـــــــ من الجمادات ـــــــ تختلف التغيرات. فتعفّن الخبز، وتفتّت الأحجار، انتقال من حال حسنة إلى حال سيئة، وفي الكائن الحيّ، ينتقل الطفل في النمو من حال حسنة إلى حال أحسن، ومثله نبتة الزرع، وصغار الحيوان. لكن انتقال الإنسان من الشباب إلى الهرم انتقال من حال حسنة إلى حال سيئة. فالتغيّر موجود في غير الكائن الحي وفي الكان الحيّ، لكنه مجرد انتقال من حال إلى حال، بغض النظر عن الانتقال إلى الحسن أو إلى السيئ.
فالقولُ بأن الحركة تقدمية صاعدة، وأن التغير يكون صاعدًا وإلى أحسن قول ظاهر البطلان. والماءُ نفسه الذي جاؤوا به للتدليل على نظريتهم هذه يكذب هذه النظرية، فإن الماء عندما يتحول إلى بخار يمكن أن يكثف ويبرد وبذلك يرجعُ إلى كيفيته الأولى. وهذا ليس تغيرًا صاعدًا، ولا إلى أحسن، بل رجوعٌ إلى الصورة الأصليةِ أي إلى الماء.
وعليه فإن الجديد لا يكون دائمًا حسنًا، كما لا يكون دائمًا سيّئًا. والقديم لا يكون دائمًا سيّئًا، كما لا يكون دائمًا حسنًا. فالهرمُ جديد والشبابُ قديم، والعجين قديم والخبز جديد، والنطفة قديمة والطفل جديد، وهكذا ملايين الأشياء المتغيرة ليست جميعها حركةً صاعدةً ولا حركة نازلة. بل قد تكون صاعدةً كالماء يتحول إلى بخارٍ والغرسة تصبح شجرة وما شاكل ذلك. وقد يكون تغير الأشياء حركة نازلة كالبخار حين يتحول إلى ماء، والشباب حين يصبح هرمًا، والخبز حين يتعفّن، وما شاكل ذلك.
وعليه فإن التغير هو مجرد تغيرٍ لا يوصف بالصعودِ ولا بالنزولِ، لأن الصعودَ ليس خاصيّةً للحركةِ ولا خاصيّةً للتغير، وكذلك النزولُ ليس خاصيّةً للحركةِ ولا خاصيّةً للتغير، فلا يكون أيّ منهما ملازمًا له.
ولذلك فإن التطور من حيث هو بمعنى التجدد والانتقال إلى أحسن ليس هو الصفة الملازمة للأشياء في العالم. بل الصفة الملازمة للعالم ولكل شيء هو التغير فقط، سواء إلى الأمام أي إلى أحسن أم إلى الخلف كالانتكاس، أم إلى حالة أخرى سيئة لم تكن موجودة من قبل كالتغير من الشباب إلى الهرم.
ثم إنَّ التغير في الأشياء ليس حتميًّا أن ينقلها إلى أشياء أخرى غير الأولى، بل هو قد ينقلها إلى أشياء غير الأولى، وقد تبقى، على الرغم من التغير، هي عينها الأشياء الأولى، لم تتغير ويستحيل أن تتغير، مهما حصل فيها من عوامل التغيير. فمثلًا يمكن في عملية كيميائية أن يُغيّر الشيء تغييرًا كليًّا فيصبح غير الشيء الأول. وقد ضرب أنجلز مثلًا على ذلك الأوكسيجين، فإذا جمعنا في جزئيته ثلاثَ ذرّات عوضًا عن اثنتين، كالعادة، حصلنا على جسمٍ جديد هو الأوزون الذي يختلف اختلافًا بينًا برائحته وتأثيراته عن الأوكسيجين العادي.
أما الأشياء التي تبقى هي عينها ويستحيل أن تصبح أشياء أخرى غيرَ ما هي عليه ماهيتُها فلا تُعد ولا تحصى. فمثلًا الحديد لا يمكن لأيِّ عملية أن تحوله إلى ذهب، والخروف إلى غزال، ونطفة الرجل إلى طفل إذا ما وضعت في القردة أو الناقة أو في أي كائن حي غير المرأة. والحجر لا يمكن لأي عملية أن تحوله إلى كائن حيّ... وهكذا ملايين الأشياء التي يستحيل أن تتحول إلى شيء آخر غير ماهيتها. وعليه فإن القولَ بأن النباتات والحيوانات وبالتالي الإنسان هي كلّها نتاج تطوّرٍ يجري منذ ملايين السنين، هذا القولُ فاسدٌ يكذّبه الواقع. فإنه إذا كان تراكم الأتربة والهواء والماء على شجرة قد جعلها على مرّ السنين تتحجر، كما هو موجود حاليًّا في الولايات المتحدة الأميركية في ولاية كاليفورنيا مثلًا، فإن نبتة القمح منذ عرف الإنسان القمح حتى الآن لم تتغيّر ماهيتُها، وإن الفَرَسَ منذ عرف الإنسان هذا الحيوان حتى الآن لم تتغير، وإن الإنسان من ذكر وأنثى لم يوجد فيه أدنى تغير في إنسانيته وفي حيوانيته، ولا في طاقته الحيويّةِ، ولا في خاصية دماغه التي هي الربط للحكم على الأشياء. أما ما يحصل من صغر حبة القمح وكبرها، ومن صغر الفرس وكبرها، ومن صغر حجم الإنسان أو حجم عظامه وجمجمته أو كبرها أو شكلها، فإن هذه كلها تغيرات في الشكل لا في الماهية. فالتغير يحصلُ حتمًا وقد يكون حصوله في الحجم أو في الشكل، أما التغير في الماهية فليس حتميًّا. وعليه فإن من الخطأ القول إن هذه الأشياء التي هي موجودة في العالم اليوم هي غيرُ الأشياء التي كانت فيه من قبلُ، وبذلك يظهرُ فساد ما ذهب إليه داروين من أن العالم العضوي بأسره، كما هو موجود اليوم، نتاجٌ تطوري يجري منذ ملايين السنين، أي هو غيرُ العالمِ الأول قبلَ ملايين السنين.
فإن الحديدَ والماء والترابَ والهواء وما شاكلها هي نفسها مهما تقادم عليها العهد، وإن الناقة والأسد والدجاجة وغيرها من الحيوان هي نفسها مهما تقادم عليها العهد، وإن الإنسان هو نفسه منذ أن عرف وجوده على وجه الأرض لم يحصل فيه أدنى تغيير في ماهيَّتِهِ. فالعالم يتغير، ما في ذلك شك، ولكن لا يعني تغيره خروجه عن ماهيته، ولا يعني تغير الأشياء فيه خروجها عن ماهيتها التي وجدت عليها.
ومن هذا كلّه يتبين أن التطورَ الذي يعنونه من حيث كونه حركة تقدمية صاعدة، وانتقالًا من الأدنى إلى الأعلى، ومن سيئ إلى حسن أو من حسن إلى أحسن، ومن حيث كونه ينقل الشيء إلى شيء آخر، هذا التطوّر بهذا المعنى ليس خاصية من خواص التغير، وليس ضروريًّا أن يحصل. فالعالمُ يتغيّرُ، لكنّ تغيّرُه هذا لا يعني التطورَ الذي يعنونه، وهذا التطور الذي يعنونه ليس حتميًّا أن يحصل في الأشياء، وعلى هذا يكون الادعاء بأنه ملازم للتغيرِ لا ينفك عنه، والادعاء بحتميّة حصوله في الأشياء، ادعاءً باطلًا يكذّبه الواقع. وبذلك يظهر فسادُ النقطةِ الثالثةِ.
النقطة الرابعة:
وأما النقطةُ الرابعةُ: فهي أن كلّ أشياء الطبيعةِ وحوادثها تحوي تناقضاتٍ داخلية، لأن لها جميعها جانبًّا سلبيًّا وجانبًا إيجابيًّا، ماضيًا وحاضرًا، وفيها جميعها عناصر تضمحل وعناصر تتطور، فنضال هذه المتضاداتِ، أي النضال بين القديم والجديد، بين ما يموت وما يولد، بين ما يفنى وما يتطور، هو المحتوى الداخلي لحركة التطور، هو المحتوى الداخلي لتحول الكمية إلى تغيرات كيفية. أي إن انتقال الماء بزيادةِ الحرارةِ إلى بخار، أو بنقصانها إلى جليد، لا يتم بوساطة تناسق الذرات في المادة، بل يتم بوساطة تشادّ هذه الذرات مع بعضها، وهذا يعني أنه يحصل بوساطة التناقضات. فالاصطدام الذي يحصل بين الذرات في المادة هو الذي يوجد هذا التحول، وهذا هو معنى قولهم: إن كلّ أشياء الطبيعةِ وحوادثها تحوي ذراتٍ سالبةً وموجبةً، فيحصل الاصطدام مع بعضها فينتج من هذا الاصطدام التحول، وهذا هو ما يدعى التناقضات... ولهذا تُعدّ الطريقةُ الديالكتيكية أنّ حركةَ التطوّرِ من الأدنى إلى الأعلى لا تجري وفقًا لتطورِ الحوادث تطورًا تدريجيًّا متناسقًا، بل بظهورِ التناقضات الملازمة للأشياء والحوادث، وبنضال الاتجاهات المتضادة التي تعمل على أساس هذه التناقضات. يقول لينين: "إن الديالكتيك، بالمعنى الخاص للكلمة، هو درسُ التناقضات في ماهيةِ الأشياء نفسِها" ويقولُ: "التطورُ هو نضال المتضادات".
الرد على النقطة الرابعة:
وأما النقطةُ الرابعةُ، فليس بصحيحٍ أنّ كلّ أشياء الطبيعةِ وحوادثها تحوي تناقضات. إنَّ هذا مجرد فرض نظري. إذ ثبت أنه ليس كل شيء يوجد فيه حياة وفناء معًا، وهذا وحده يثبت أنه ليس كل شيء يحوي تناقضات. وأيضًا فإن كونَ الأشياءِ تولدُ وتموتُ، وتفنى وتوجد، لا يعني أن هذا تناقضٌ ملازمٌ لها. ففي الجسم الحيّ خلايا تولد وخلايا تموت، غيرَ أن ذلك لا يعني وجود تناقضٍ في الجسم الحي، ثمّ إن الأجسامَ غيرَ الحيّةِ يحصل فيها فناءٌ، ولكن لا تحصلُ ولادة، أي لا يحصلُ وجود.
ولهذا فإنّ ما يسمّى بالتناقضاتِ ليس ملازمًا للأشياء والحوادثِ.
فأما بالنسبةِ إلى الأشياء فعدم وجود التناقض ظاهر في هذه الأجسام غير الحية، والدليل على ذلك أن الماء إذا تُرك كما هو قد ينقص، لكنه لا يزيد، ولا يحصل فيه لا سالبٌ ولا موجبٌ، ولا تحصل فيه تناقضات. والرمل إذا ترك كما هو لا يلاحظ عليه وجودُ تناقضات.
وأما بالنسبة إلى الحوادث فإن عملياتِ البيع مثلًا تجري دونَ حصولِ أيّ تناقضٍ إذا كان في إجراء العقد إحكام ودقة. وعملية الصلاة تحصل من دون أي تناقض فيها. فالادعاء بملازمة التناقضات للأشياء والحوادث ادعاء باطل. فإذا كانت الاتجاهاتُ متضادةً ولم يحصل بينها توفيقٌ فإنه حينئذٍ يحصل التصادم أو ما يسمى بالتناقضِ ويسري ذلك على الجسم الحيّ كما يمكن حصوله في المجتمع. لكن الاتجاهات المتضادة إذا حصل بينها توفيق فإن من شأن ذلك أن يرفع التضادّ ويزيل التناقض. فالقولُ بحتميَّةِ حصولِ التناقضاتِ قولٌ خاطئٌ، لأنها ليست حتميّةً في جميعِ الأشياء وليست حتميّة في المجتمع.
فلو فرضنا أن حصل نضال المتضادات في أشياء أو في أجزاء من العالم، فإنه ليس حتميًّا أن يحصلَ في أشياء أخرى أو في أجزاء أُخرى من العالم. وبهذا يثبت أن التطورَ، بالمعنى الذي يريدونه، وهو الانتقال إلى حال أحسن وإلى حال غير الأولى، ليس حصولُهُ في العالم أمرًا حتميًّا.
وبنقض هذه النقاط الأربع يظهر فساد رأي الشيوعيين في الطبيعة.

مقدمة الكتاب
القسمُ الأوّل
القِسم الثاني
القِسم الثالِث
القسم الرابع
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢