نبذة عن حياة الكاتب
طريق الإيمان
الطبعة : الطبعة العاشرة
المؤلف : سميح عاطف الزين
فئة الكتاب : فكر معاصر
عدد الصفحات : ٣٣٦
تاريخ النشر : ٢٠١٠

الفكر
1. معنى الفكر وعوامله
2. العملية الفكرية
3. الفكر والتمييز الغريزي
4. الطريقة العقلية والطريقة العلمية
5. أقسام الفكر








الفكر - العقل - الإدراك
(بمعنى واحد)
إن معرفة معنى "الفكر" تستدعي البحث في ثلاث نقاط هي:

1. الفكر وعوامله.
2. الفكر وعمليته.
3. أقسام الفكر.


1. معنى الفكر وعوامله:
الفكر: هو قدرة الإنسان العاقل المدرك على إصدار الحكم على الشيء، وذلك بناء على ما تحصله الحواس الخمس من أحاسيس ومدارك تجعل الإنسان قادرًا على إعطاء الحكم على الأشياء.
فلذلك كانت الحواس الخمس وهي: السمع والبصر واللمس والشم والذوق داخلة في تكوين الإنسان. وكان لديه أيضًا الدماغ المنطوي على قدرة ربط المعلومات، وعلى قابلية التمييز، وهذه القدرة على الربط والتمييز هي خاصّية رئيسة لدى الإنسان، وهذه الخاصية هي العقل الذي خصه الله به على سائر الكائنات الأرضية الحية وجعله فيه مناط التكليف الدنيوي، والحساب والجزاء في الآخرة.
فالأشياء موجودة قطعًا، والإنسان يتعرَّفها بوساطة حواسه الخمس، وبوساطة الدماغ لديه... فهو يرى كل ما تقع عليه عينه، ويشمُّ كل ما ينبعث من روائح، ويسمع كل ما يحدث حوله من أصوات، ويتحسس ويشعر بكل ما يقع عليه لمسه أو ذوقه... وعلى هذا فإنَّ كل الأشياء التي هي في متناوَلِه أو تحيط به، أو تقع عليها حواسه، تكوِّن واقعًا محسوسًا بالنِّسبة إليه... فالرغيف، مثلًا، أو القلم، أو الفيجن ، هي من الأشياء التي تقع تحت الحواس، وهي بالتالي من الأشياء المحسوسة التي تنبثق عن الواقع المحسوس... ولكن لماذا نحكم على الرغيف أو القلم، وما هما، ولا نستطيع الحكم على الفيجن؟!... إنَّ المعلومات التي تكوَّنت لدينا عن الرغيف أو القلم بصورة كافية، جعلتنا نكوِّن الصورة الصحيحة عن ماهية كل منهما، ولذلك صار لدينا التمييز وبالتالي الحكم على الرغيف أو القلم، أي معرفة كل منهما بصورة تامة... وهذا بخلاف الفيجن عندما نراه لأول مرة، فنحن نجده نباتًا بصفةٍ معيَّنة، وتنبعث منه رائحة معيَّنة، ولكن على الرغم من رؤيته هذه، وشم رائحته تلك، فإننا لا نقدر على إعطاء حكم صحيح عليه، أي إننا لم نصل بعد إلى معرفته بصورة تامة. والسبب في ذلك أنه ما زال ينقصنا عاملٌ مهم لهذه المعرفة، وهذا العامل يتمثَّل بالمعلومات السابقة عن الفيجن، التي لم تكن قد تكوَّنت لدينا بعدُ.
إذن فأمامنا واقعٌ محسوسٌ جديدٌ طرأ على عوامل فكرنا: هو الفيجن، وقد عرفنا أنه نبات معيَّن، ولكن لم نعرف جميع خصائصه... فإلى هنا تكون قد تكوَّنت لدينا ثلاثة عوامل بالنسبة إليه، هي: الواقع (وجود الفيجن) والإحساس بالواقع (النظر إليه وشمّ رائحته) والتمييز (إدراكنا بأنه نبات معيَّن يختلف عن غيره من النباتات الأخرى)... ويبقى أن نعطي صورة فكرية عن الفيجن، أي أن نحكم عليه... فإذا توافرت لنا المعلومات بأنه نبات ورقه كالصعتر، وينبت في أحوال مناخية ما... ويعطي رائحةً معينةً ما... وله طعم كذا... وله فائدة كذا... فهذه المعلومات التي حصلنا عليها، إذا أضيفت إلى العوامل الثلاثة الأولى، تمكِّننا جميعها من إعطاء حكم على الفيجن... فإذا رأينا الفيجن مرة أخرى، صارت لدينا القدرة على معرفته، وبالتالي صرنا نُميِّزه بخصائصه من سائر النباتات الأخرى...
وهكذا الأمر بالنسبة إلى الأشياء والمسائل، والأمور كافة... إذ يقتضي توافر أربعة عوامل من أجل الحكم عليها هي:
1. الواقع.
2. الإحساس بالواقع.
3. تمييز الواقع من غيره.
4. توافر المعلومات السابقة عنه.
ولكي نوضح الشرح أكثر، نُعْطي مَثَلًا كلمتي: وليمة ووضيمة...
فأنت لو سُئلت أيها القارئ عن معنى كلمة: وليمة، وكنت تعرف بصورةٍ مسبقة ما الوليمة فإنك تجيب على الفور: إنها دعوة إلى الطعام في الأفراح... ولكن لماذا أجبت بهذه السرعة؟ لأنَّ العوامل الأربعة التي تمكِّنك من الإجابة متوافرة لديك بالنسبة إلى معنى هذه الكلمة...
ولكن إذا سُئلت ما معنى كلمة "وضيمة"، ولم تكن قد تكونت لديك معلومات سابقة عنها، فإنك تقف حائرًا وتجيب: لا أدري... ففي هذه الحالة، وبعد أن سُئلت عن كلمة "وضيمة" توافرت لديك ثلاثة عوامل: الواقع (فما دمت قد سُئلت عنها فإنها باتت واقعًا بالنسبة إليك، أي شيئًا موجودًا)، والإحساس بالواقع (التقاط سمعك لها وإحساسك بواقعها عن طريق السمع)... ثم بعد أن اختلط الواقع بالإحساس، نُقِل هذا الواقع إلى الدماغ فانطبع فيه، ومن ثم قام بعملية تميِّزه من سائر الانطباعات الأخرى لديه، أي إنه صار لدى الدماغ انطباع جديد عن واقع يقال له: "وضيمة"... فإلى الآن حصلت العملية الفكرية التي جمعت بين العوامل الثلاثة الأولى، ولكن على الرغم من حصول هذه العملية الفكرية، فإنك أيها القارئ، لم تصل بعد إلى إعطاء حكم واضح عن كلمة "وضيمة"... ولا بد من أن تتوافر لك معلومات سابقة عنها حتى يحصل عندك الفكر، أي تكتمل العملية الفكرية... فإذا قيل لك: إن كلمة "وضيمة" تعني الدعوة إلى الطعام في الأتراح، فإنه بات في إمكانك، في أي وقت، بعد ذلك، أن تدرك حقيقة تلك الكلمة، أي أن تعطي حُكمًا صحيحًا عليها، وذلك بعد أن توافرت لك المعلومات السابقة عنها...
لكن السؤال يُطرح: ما هذه المعلومات السابقة؟ وما قياسها؟ وما الدليل عليها؟
ولكي يمكن الإجابة عن ذلك، ينبغي معرفة عوامل الفكر، وهي أربعة:
ـــــــ عاملان يدخلان في تكوين الإنسان وهما: الحواسُّ الخمس، والدماغ الذي هو مركز التمييز.
ـــــــ وعاملان يخرجان عن تكوين الإنسان وهما: حقيقة الواقع، واسمُه.
وتنطلق العملية الفكرية من اجتماع هذه العوامل الأربعة: ونقطة الانطلاق تكون دائمًا من الواقع المحسوس. وهذا الواقع قد تُنقل عنه معلومات صحيحة وصادقة، أو قد تُنقل عنه معلومات خاطئة ومشوهة... فإذا قيل لنا: في محلة كذا شُيِّد بناءٌ ضخمٌ جديدٌ من عشرات الطوابق، وذهبنا ووجدنا البناء كما أُعلمنا عنه، كانت المعلومات صادقة. ولكن إذا قيل بأن المطار قد احترق، وذهبنا لنتأكد من صحة الخبر، فوجدنا المطار سليمًا، كانت المعلومات خاطئة... إلَّا إنَّ الذهاب إلى المطار ومعاينته بواقعه، قد أثبت لنا حقيقة هذا الواقع. وهذه الحقيقة هي التي نفت التشويه والتلفيق والتضليل... فمقياس المعلومات السابقة، والدليل على صحتها أو كذبها، إنما يكون في حقيقة الواقع الموجود... وبناء على حقيقة الواقع يكون إدراك معنى الأشياء مثل: ما تعني هذه اللفظة، وما طعم هذه الفاكهة، وما اسم ذلك الشيء، وما ينفع هذا أو ماذا يضرّ، وما يقدِّم هذا الأمر أو ماذا يؤخِّر، وما يُثبت هذا القول أو ماذا يَنفي، ومن حضر أو من غاب؟. وهلمَّ جرًّا بالنسبة إلى جميع الأشياء، والأمور، والشؤون، والقضايا، والحالات، والمسائل... التي تشكل وقائع مادية أو غير مادية... والتي لا بد من توافر معلومات سابقة عنها، تجتمع مع العوامل الأخرى، حتى يصير في الإمكان الربط، وبالتالي التمييز بين شيء وآخر... لكنَّ العبرة ليست في إعطاء المعلومات أو الحصول عليها فحسب، بل العبرة بربطها حتى يمكن أن تتم العملية الفكريَّة، ويحصل بالتالي الفكر... وإنَّ التدريب على الرَّبط منذ الصغر، هو الذي يجعل العوامل الأربعة تتضافر لإيجاد الفكر، أي الحُكم على الواقع. ولذلك فإن المعلومات السابقة إذا كانت صحيحة، يكون الحكم على الواقع صحيحًا، وإن كانت كاذبة ومشوهة، يكون الحكم غير منطبق على واقعها، بل ربما جاءَ خلافه تمامًا.
إن الرَّبط بين عوامل الفكر الأربعة التي ذكرناها يتأتَّى عنه التمييز بين الأشياء، وبهذا التمييز تتم العمليَّةُ الفكريَّةُ التي عنها تصدر الأحكام على الأشياء...
فما هذه العملية الفكرية؟
2 - العملية الفكرية:
لا بد من أجل تمام العملية الفكرية من وجود الواقع والإحساس به، وتوافر المعلومات السابقة، كما لا بد من تمييز الواقع من غيره.
وأما ما قيل: من أن الإنسان الأول قد اصطدم بالأشياء فانعكست عليه فصار بالحسِّ يعرف أن هذه الثمرة تؤْكلُ وهذه لا تؤكل، وصار يعرفُ أن هذا الحيوان يؤْذيه فيتجنبه وهذا لا يؤذيه فيستخدمه. وصار يعرفُ من الحسِّ والتجربة أن الخشب يطفو على الماء فأخذ يستعمله لقطع البحارِ والأنهارِ... إلى غير ذلك، فغير صحيح، لأن الإنسان منذ خلقه الله تعالى كان مفكرًا، وقد علَّم الله آدم الأسماء كلها، واكتسبت ذريته ذلك بالتعلم والبحث والتفكر.
نعم: يقال إنه قد يحصلُ أن يعطى شخص آلة معقدة، وليست لديه معلوماتٌ سابقةٌ عنها، ثم يُطْلَب منه حلُّها وتركيبُها، فيأخذها الشخصُ ويحاول إجراء تجارب متعددة عليها فيَصِل من هذه التجارب إلى حلّها ثم إلى تركيبها. وبذلك فإنه يكون قد وصل إلى فكر من دون حاجة إلى معلومات سابقة. والجوابُ عن ذلك هو أن لدى هذا الشخص معلوماتٍ متعددةً، فأخذ بتجاربه الكثيرة يربط المعلومات التي لديه بالواقعِ الذي بين يديهِ، وبالمعلومات بعضها مع بعض، حتى توصل إلى معلوماتٍ يفسر بوساطتها حلّ الآلة وتركيبها، أي إنه بهذه المعلومات التي استنتجها أمكنه التوصل إلى الفكر. لكن هذا الشخص لا يؤتى به مثالًا لأنّ لديه معلوماتٍ، وإنما المثال الذي يؤتى به هو الطفلُ الذي لا توجد لديهِ معلوماتٌ إطلاقًا، أو الرجل الذي ليس لديه معلومات يمكن أن يستعين بها على استنتاج معلومات يفسر بها الواقعَ، كأن تأتي بأعرابيٍّ وتدخله مختبرًا وتتركه يجرِّب، أو أن تأتي بعالم من علماء الاقتصاد وتضعه في مختبر الذرَّة وتطلب منه التوصّل إلى سر القنبلة الذرية، فمثل هؤلاء، ومن دون معلومات لديهم، لا يمكنهم التوصل إلى الفكر. فالمثال هنا أسلم وأدق من ذلك الشخص الذي لديه معلوماتٌ وكان في إمكانه أن يستعمل هذه المعلومات حتى نشأ عنها الفكر.
والحاصل أن الحواسَّ تنقُلُ صورةً عن الواقع المادي إلى الدّماغ، وهذِهِ الصّورة تَتْبَع الحاسَّة التي نَقَلَتِ الواقعَ، فإن كانتْ بَصرًا نَقَلَتْ صورَةَ الجسْمِ، وإنْ كانَتْ سَمْعًا نَقَلَتْ صُورَةَ صوتِهِ، وإنْ كانَتْ شَمًّا نَقَلَتْ صورَةَ رائِحَته، وهكذا فإنّ الواقع يرتسم، كما نقل، في الدماغِ، أي بحسَبِ الصّورَةِ التي نُقِلَتْ، وبذلِكَ يَتِمّ الإحساسُ بالواقع فَقَطْ، ولا يَنْشَأ عنْ ذلكَ تفكيرٌ بل تَمَيّزٌ غَريزي فَقَطْ مِنْ حَيْثُ كوْنه يُشْبعُ أوْ لا يُشْبعُ، يُؤلِمُ أوْ لا يُؤلمُ، يُفرِحُ أوْ لا يُفْرِحُ، يَلَذّ أوْ لا يَلَذّ. ولا يَحْصُل أكثرُ منْ ذلكَ. فإن كانتْ هنالِكَ معلوماتٌ سابقَةٌ ورَبَطَتْها قُوَّةُ الرّبطِ الدماغيّةُ بالواقعِ المحسوس الذي ارْتَسَمَ في الدماغِ، فعندئذٍ تتمّ العمليّةُ الفكريَّةُ، وينتجُ إدْرَاكُ الشّيء، ومعرفَةُ ما هو، وإلا يَبْقَى الأمر عِنْدَ حَدّ الإِحساسِ أو عندَ حد التّمييز الغريزيّ فقطْ. وأمَّا ما يتم من محاولات التّفكير مع عَدمِ توافر الواقع المحسوسِ، ومع عدمِ توافر المعلومات السّابقة، فلا يتعدّى تَخَيّلاتٍ فارغةً تُسيطر على صاحبها بعدَ بُعْدِه من الواقعِ المحسوسِ، ممّا يؤدي إلى الوقوع في الأوهام والضلالِ، وربما أدّى إلى إجهادِ الدماغ، فيُصابُ بأمراض الخَلَلِ والصرعِ وما شاكل ذلكَ.
هذا هو تعريفُ الفِكر، وهذه العمليّةُ تحصُلُ للمفكّرِ الذي ينتجُ الفكرَ لا لمَنْ يُنْقَلُ إليه الفكرُ. أما مَن يُنْقَلُ إليه الفكرُ فلا تحصل لهُ هذه العمليّةُ، لأنّ الفِكْرَ نَتَجَ وانْتهى، فيعطيه مُنتجُهُ للنّاسِ، وينقلُهُ الناسُ إلى بعضِهِمْ، ثم يُعبّرونَ عنهُ باصطلاحات اللّغة. والفكرُ المنقولُ إلى الآخرينَ يُنظرُ فيهِ، فإن صارَ له واقعٌ وتصوّرهُ المنقولُ له كما نقل، كأنهُ أحسّهُ، وسلّمَ به، فَهُوَ، في هذه الحالة، قدْ أدرَكَهُ وأصبحَ هذا الفِكْرُ مفهومًا من مفاهيمه، كما لو نتجَ هذا الفكرُ منه بالذّات. وإنْ لم يكن لهذا الفكر واقع عند الشخص الذي نُقِلَ إليه، بل فهِمَ الجُمْلَةَ، وفَهِمَ الفِكر والمراد منه، ولكنْ لمْ يتكوّنْ لهُ واقعٌ في ذهنِه، لا حِسًّا، ولا تصديقًا ولا تسليمًا، كان معلوماتٍ فقط أي مجرّد معارف عن أشياء. ولذلك فإن المعلومات لا تؤثر في الأشخاص بل المفاهيمُ هي التي تؤثرُ، لأنها أفكارٌ لها واقع في ذهنِ مَن أدركها. ولهذا السببِ لم يكن بُدّ مِنْ أن يعرف المفكر واقع ما يفكر فيه، وما تأثيره، وكيف يؤثر، حتى يمكنه أن ينقل فكره إلى غيره، وإلّا فإنه لا يكون قد نقل فكره إلى الناس، بل نقل إليهم معلومات جمعها فيصبحون بها متعلّمين لا مفكرين.
3 - الفكري والإدراك الغريزي:
لا بد قبل التفريق بين الفكر والتمييز الغريزي من الإشارة إلى أن لدى الإنسان طاقة هي الطاقة الحيوية، وهي مكوّنة من الغرائز والحاجات العضوية.
الطاقة الحيوية :
... فللإنسان طبائعُ خاصةٌ عليه أن يفقهها، أو أن يعرفها، ولكنْ لا يكفي أن يعرفها بفطرته التي فطر عليها، وبما عنده من غرائز وحاجات عضوية، بل بشيءٍ من العمق والتفصيل اللّذيْنِ يعطيانه عنها فكرة صحيحة تطلعه على ماهياتها وحقيقة وظائفها. وإنَّ من مقوّمات هذه الطبيعة، الطاقةَ الحيويةَ، التي تدفعه للبحث والتنقيب عن مختلف الوسائل التي ترويها وتُشبعها...
أما الغرائز فهي ثلاث: غريزة النوع، وغريزة التدين، وغريزة حب البقاء... في حين أن الحاجات العضوية تتمثل أكثر ما تتمثل في الإحساس بالجوع والعطش والنوم...
ومن مظاهر غريزة النوع: الحنان والعطف والميل الجنسي... ومن مظاهر غريزة التدين: التقديس، والخشوع، والتقرّب إلى الله تعالى أو أيّ قوة غيبيَّة، أو حتى أيِّ شيءٍ، يمكن أن يجعله الإنسان مصدرًا لغريزة التديُّن... ومن مظاهر غريزة حب البقاء: التملُّك، والحرص، والأمل والطمع إلخ...
وتتبدّى مظاهر الحاجات العضوية بتناول الطعام والشراب والإغفاء...
والغرائزُ والحاجاتُ العضويةُ كلُّها تحتاج إلى إشباع... فالإحساس بالجوع يدفع الإنسانَ إلى البحث عن الطعام حتى يَشبع، والإحساسُ بالعطش يدفعه للتفتيش عن الماء حتى يَرتوي... وكما أن مَيْلَ الإنسان إلى الاقتناء والإثراء أساسه حب التملك، كذلك فإن رغبته في تحقيق الأمان الذاتي أو السلام النفسي، هي التي تشدّه إلى التعبُّد والخشوع... ومثل ذلك نزعتُه إلى الأنس والاجتماع، وإلى تحقيق قيمته الإنسانية، فهي التي تزيّن له الزواجَ والإنجاب... وهكذا الحال في كل ما يتعلق بإشباع أيِّ غريزة من غرائز الإنسان أو أيِّ حاجة عضوية لديه... وإنَّ السعيَ لتحقيق هذا الإشباع، واعتمادَ الوسائل والأساليب كافة في سبيله، إنَّما يؤلِّف السلوك الذي ينتهجه الإنسان إن بالفعل أو القول... ومن هنا يمكن القول بأن السلوك هو التعبير عن الطاقة الحيوية الكامنة في الإنسان، أي الطاقة التي تنبعث من غرائزه وما لديه من حاجات عضوية. فالطاقة الحيوية هي التي تدفع إلى الحركة، والحركة غالبًا ما تظهر بالسلوك، وهذا السلوك غايته الإشباع؛ ولذلك فإنَّ الذي يعيِّن السلوك عادةً هو المفهوم وليس الفكر فقط، وما ذلك إلَّا لأن للأفكار معاني، فإن أدرك الإنسان واقع هذه المعاني، وآمن بها، تصبح الأفكار مفاهيم بالنسبة إليه، في حين أنه إن لم يدرك أيّ معانٍ للأفكار، أو أنه أدرك معانيَها ولكن لم يؤمن بها أي لم يصدِّقْها تصديقًا جازمًا، فإنَّ تلك الأفكار تكون بالنسبة إليه مجرّد معلومات، وهذه المعلومات لا تؤثِّر على السلوك بشيء... فالذي يؤثر على السلوك إذًا هو المفاهيم، ولذا كان من الواجب علينا أن نُميِّز ما بين الأفكار والمعلومات والمفاهيم في أثناء البحث عن سرِّ وجودنا في هذه الحياة...
فالإنسان عندما يحمل أفكارًا معينة، فإنَّ في إمكانه أن ينقل هذه الأفكار إلى غيره، فإن أخذها الغيرُ منه وآمن بها وصدّقها، فإنها ترتبط بطاقته الحيوية، وتصبح مفهومًا لديه، أما إن لم يُصدِّقْها التصديق الجازم، فذلك يعني أنها لم ترتبط بطاقته الحيوية، ولذلك فهي تبقى مجرد معلومات، ولا تتخذ معنى المفاهيم. لذا يمكن القول بأن المفاهيم هي معاني الأفكار لا معاني الألفاظ، أي إنها المعاني التي يُدْرَكُ لها واقعٌ في الذِّهن، سواء كان واقعًا محسوسًا، أو واقعًا مسلَّمًا به على أنه موجود، ولذلك كانت المفاهيم هي التي تؤثر في السلوك، وكان القولُ بأن سلوك الإنسان يكون بحسب مفاهيمه، هو قولٌ يقيني غير قابل للشك. ولما كانت المفاهيم نابعةً من التصديق الجازم بالفكر، فإنه يصبح ثابتًا أن هذا الفكر لا يؤثر في السلوك إلَّا إذا ارتبط هذا بالطاقة الحيوية، أي أصبح مفهومًا، وبالتالي فإنَّ التصديق بالفكر المرتبط بالطاقة لا يمكن للسلوك إلَّا أن يكون وفقًا له أو بحسبه...
ومن هنا كان التمييز واضحًا ما بين السلوك والفكر، وكان التفكير هو غير الميل، والعقلية غير النفسية... أي إنَّ هنالك عقلًا يفكر، وطاقةً تتطلب الإشباع، وهما شيئان مختلفان. فإن حصل الارتباط بينهما، وكان السلوك متوافقًا مع الفكر، كان نتاج ذلك تكوين الشخصية فنقول: هذه شخصية إسلامية، أو شخصية ديمقراطية، أو شخصية اشتراكية شيوعية. في حين أنَّ عدم ارتباطهما، وبقاءَهما منفصلين، يجعل هنالك ميولًا مختلفة، كما يجعل هنالك أفكارًا متناقضة، وبالتالي يكون انعدامُ السلوك المميّز وانعدام تكوين الشخصيَّة المميَّزة بحيث لا نستطيع أن نقول: هذه شخصية إسلامية سلوكها إسلامي، أو شخصية ديمقراطية أو اشتراكية شيوعية ـــــــ إلخ...
وقد تكون الميولُ مخالفةً للأفكار، فيأتي السلوك مخالفًا للفكر فنقول: هذه شخصية فوضوية لأن سلوكها يكون مخالفًا لأفكارها؛ إلَّا إن مخالفة السلوك للفكر غالبًا ما تكون في بعض الجزئيّات، ولذا فإنَّ تأثيرها، يكون أحيانًا، على بعض التصرفات ومن دون أن يؤثر ذلك في الشخصية المميَّزة...
وتأثير السلوك يكون في الشخصية الفردية، ويكون أيضًا في الشخصية الجماعية، وإنْ كانت الآثار التي ينتجها في حياة الفرد هي غيرها في حياة الجماعة. إذًا فانفصال السلوك عن الفكر في بعض الأحيان ـــــــ وهو ما يحصل في الجزئيات ـــــــ لا يكون له تأثيره الكبير على الشخصية. ومن هنا فإنَّ القول بأنَّ للإنسان وجهتَي نظر في الحياة ـــــــ واحدة تنبع من الفكر، وأخرى تتعلق بالسلوك ـــــــ هو قولٌ خاطئ، لأنه لا يمكن أن يكون للإنسان في الحياة إلّا فكر واحدٌ أساسي، وهو الذي يتحوَّل إلى مفهوم،ٍ فإنْ وُجِدَ فكرٌ غيره، فإنه يكون ثانويًّا، ولذا يبقى مجردَ فكرٍ، ولا يتحوَّل إلى مفهوم. فنستنتج مما تقدَّم أن السلوك مصدره الطاقة الحيوية، وهي لدى الإنسان الغرائز والحاجات العضوية. والغرائز تكون عادة أقل خطرًا على حياة الإنسان من الحاجات العضوية، وعلى الرغم من ذلك فإنَّ خطرها يبقى شديدًا على هذه الحياة... فالحاجات العضوية، تحتاج إلى إشباع، وإن لم يسارع الإنسان إلى تأمين هذا الإشباع، فإنها تؤدي به إلى الفناء. أما الغرائز فإنَّ عدم إشباعها قد لا يؤدي إلى الموت، وإنما قد يقذف بالإنسان في أحضان الشقاء. ولذا كان حتمًا على الإنسان أن يسعى لإشباع غرائزه وحاجاته العضوية... إلَّا إن هذا الإشباع يجب ألَّا يحصل بطريقة فوضوية غير منظَّمة، لئلا تسيطر الغرائز، والحاجات العضوية عليه، وتضعفه، فكان لا بدَّ إذًا من تنظيم الإشباع، وهذا التنظيم يحتاج إلى فكرٍ... وهنا يظهر وجوب التفريق ما بين الفكر والتمييز الغريزي.


الفرق بين الفكر والتمييز الغريزي
كثيرًا ما يَخْلطُ الناسُ الفِكرَ بالتمييز الغريزيّ، ويَعْجِزُونَ عنِ التفريق بينهُما. ومن هُنا كان الوقوعُ في أخطاء مضحكة حينًا ومُضلّلةٍ أحيانًا، فمنهم مَنْ جَعَلَ للطفل منذُ ولادتِهِ عقلًا وفِكرًا، ومنهم مَنْ جَعَلَ للحيوان فكرًا، ولهذا كانت معرفةُ الاهتداء الغريزيّ مهمة كمعرفةِ الفكرِ، أو العقلِ، أو الإدراك.
يتمّ الاهتداءُ الغريزيّ عندَ الحَيَوانِ منْ تكرارِ إحساسه بالواقع، لأنّ لَدى الحيوان دماغًا، ولديه حواسّ كما هي الحال في الإنسان، لكنّ دماغَ الحيوان عاجزٌ عنِ الرّبط، لأنَّ كلّ ما فيه مَرْكزٌ للإحساسِ فَقَطْ، فليس لديه معلوماتٌ سابقةٌ يربطها بالواقعِ، أو بالإحساس، بل كلّ ما لديه انطباعاتٌ عنِ الواقعِ، ويستعيد، هذه الانطباعات حينَ الإحساس بالواقع. وهذه الاستعادة، ليست ربطًا بل هي تحرّكٌ لمركز الإحساس، وهي ناشئةٌ عن الإحساسِ بالواقعِ الأول أو بواقعٍ جديدٍ يتصل بالواقع الأول، فيحصلُ عندئذٍ للإحساس تمييزٌ غريزيّ، وهو الذي يُعيّنُ سلوكَ الحيوان، وتحرّكَهُ نحوَ إشباعِ الغريزة أو الحاجة العضويّةِ.
ويكونُ هذا السلوكُ فقطْ للإشباع، أو عدمِ الإشباع؛ فإذا قدِّمَ لهرٍّ ـــــــ مثلًا ـــــــ لحْمُ وعنَبٌ، عَرَفَ بغريزته أيّهما يُؤكَلُ وأيهما لا يُؤْكَلُ، فيقبل على ما يُؤْكَل ويُعْرِضُ عمّا لا يؤكَلُ، والأمرُ كذلِكَ إذ قُدّمَ لحصانٍ شعيرٌ وتُرابٌ... إنّهُ يحاولُ أن يختبرَ أيّهما فيه إشباعٌ، فإذا وجدَ ذلكَ في الشعيرَ، لا في التّرابِ، تركَّز عنده الإحساس بأنّ الشعيرَ يُشْبعُ حاجَتَهُ، والتّرابَ لا يُشبعُها، وعندئذٍ يَترُكُ التّرابَ لمجرّدِ الإحساس به، ويأخُذُ الشّعير لمجرّدِ الإحساس به إذا كانَ جائعًا، وهكذا بالنسبة إلى كلِّ حيوانٍ. والطفلُ حينَ الولادةِ كالحيوان، فإنّ دماغَهُ وإنْ كانَ فيهِ قابليَّة الرّبطِ، إلا إنه ليسَ لديهِ معلوماتٌ يربطها بالإحساس بالواقعِ الجديد حتى يميّزَهُ. ومن هنا لا يكونُ عنده فِكْرٌ، بَلْ فقط تمييز أو اهْتداءٌ غريزيّ للشيء من حيثُ كَونه يُشْبع أوْ لا يُشبع، وليستْ عندَهُ أيضًا معرفَةٌ عن حقيقة الشيء الذي مَيّزَ الإشباعَ به، فهوَ لا يعرفُ ما الشيء الذي أشبَعَ، ولا الشيء الذي لم يُشْبعْ، فإذا عُرِضَتْ على الطفلِ تمرةٌ وفحمةٌ جرّبَ إحداهُما فإن وجد فيها الإشباع أكلها ورمى الأخرى.
ولكن إذا كانت لديهِ المعلوماتُ السابقة فإنه يبادر إلى استعمالها طبيعيًّا، لأنّ الرّبطَ جُزْءٌ مِنْ تكوينِ دماغِهِ. وبناءً على ذلكَ فإنّ التمييزَ أوِ الاهتداءَ الغريزيّ لا يتعدّى الإحساس بالواقعِ الذي يؤدّي إلى كونِ الشّيء يُشبعُ، أوْ لا يُشْبعُ... بخلاف الفِكرِ... فالفكرُ إذًا هو الحكمُ على الشيء، والعملية التي يَتِم بها هي حتمًا العملية الفكرية، وهذه العملية تحصل بإحدى طريقتين:
ـــــــ الطريقة العقلية وهي تحتاج إلى ملاحظة واستنتاج.
ـــــــ الطريقة العلمية وهي تحتاج إلى ملاحظة وتجربة واستنتاج. ولكي يصبح الفكر حقيقة علمية فإنه لا بد من أن يمر في ثلاث مراحل:
ويمكن أن نبيّن ذلك بالبحث التالي:
المرحلة الأولى: الفرض.
المرحلة الثانية: الملاحظة.
المرحلة الثالثة: التحقُّق.
أي: أن نفترض الحقيقة العلمية افتراضًا، ثم نشاهدها، ونلاحظها، ثم ندرس من خلال مظاهرها الخارجية خصائصها ومميزاتها لنتبين صدقها من كذبها، وهذا التَّبَيُّن هو التحقُّق المطلوب.


4 - الطريقة العقلية والطريقة العلمية وصلاحيةُ كلٍّ منهما:
تُعرَّف الطريقة العقلية بأنها منهجٌ معيَّنٌ للبحث يُتَّبع للتوصُّول إلى معرفة حقيقة الشيء الذي يُبحث عنه، عن طريق نقل الحس بالواقع ـــــــ بوساطة الحواس ـــــــ إلى الدماغ، الذي يفسر هذا الواقع بوساطة معلومات سابقة عنه موجودةٍ لديه، ثم يصدر الحكم عليه، وهذا الحكم هو الفكر أو الإدراك العقلي لهذا الواقع... وتصلح الطريقة العقلية في بحث المواد المحسوسة، كالكيمياء والفيزياء، وفي بحث الأفكار، كالعقائد والتشريع، وفي فهم الكلام، كبحث الأدب والفقه... وهذه الطريقة تُعدّ طريقة طبيعية في التوصُّل إلى الإدراك العقليّ من حيث هو، وعمليتُها هي التي يتكوَّن بها "عقلُ الأشياء" أي إدراكها، وهي نفسها تعريف للعقل، وعلى منهجها يصل الإنسان، من حيث هو إنسان إلى إدراك أيّ شيء، سبق أن أدركه، أو يريد أن يدركه.
وأما الطريقة العلمية فتعرّف بأنها منهجٌ معيَّن في البحث - أي مثل الطريقة العقلية - يُتَّبَعُ للـتوصُّل إلى معرفة حقيقة الشيء الذي يبحث عنه، ولكن عن طريق إجراء التجارب على هذا الشيء. وهي بذلك لا تكون إلا في بحث المواد المحسوسة، لا في بحث الأفكار، ولا تكون إلّا بإخضاع المادة لظروف وعوامل غير ظروفها وعواملها الأصلية، وملاحظة المادة والظروف والعوامل الأصلية التي أُخضعت لها، ثم يستنتج من هذه العملية على المادة حقيقة مادية ملموسة، كما هي الحال في المختبرات... وتفرض هذه الطريقة التخلّي عن جميع الآراء السابقة عن الشيء الذي يُبحث، لأنها تقتضي أن يمحوَ الباحث من رأسه كل رأي، وكل تصور سابق في هذا البحث، وأن يبدأ بالملاحظة والتجربة، ثم بالموازنة والترتيب، ثم بالاستنباط القائم على هذه المقدمات العلمية؛ فإذا توصّل إلى نتيجة من ذلك، كانت نتيجة علمية أي حقيقة علمية خاضعة للبحث والتمحيص، لكنها تظل حقيقة علمية، ما لم يثبت البحث العلمي تسرّب الخطأ إلى ناحية من نواحيها.
وبناء على هذا التعريف للطريقة العلمية، وعلى ما سبق من تعريف للطريقة العقلية، تكون الطريقة العقلية هي الطريقة الوحيدة التي يجري عليها الإنسان، من حيث هو إنسان، في تفكيره، وحكمه على الأشياء وإدراكه لحقيقتها وصفاتها، كما أنَّ المنهج المباشر هو الأسلم للسير عليه، وذلك حتى يكون التفكير صحيحًا، وتكون نتيجة التفكير قريبةً إلى الصواب في ما هو ظنيّ، وقاطعةً بشكل جازم في ما هو قطعي، لأن المسألة كلها متعلقة بالتفكير، وهو أثمن ما لدى الإنسان، بل أثمن شيء في الحياة...
5 - أقسام الفكر
يكون الفكر إما فكرًا سطحيًّا، وإما فكرًا عميقًا، وإما فكرًا مستنيرًا:
(أ) فالفكر السطحيُّ هو النظر إلى الشيء، والحكم عليه من دون فهم.
(ب) والفكر العميق هو النظر إلى الشيء، وفهمه، ثم الحكم عليه.
(ج) أما الفكر المستنير فهو النظر إلى الشيء، وفهمه، وفهم ما يتعلق به، ثم الحكم عليه.
ويمكن التدليل على هذه الأقسام الثلاثة للفكر بمثال معين، كأن ينظر الإنسان إلى شجرة من المشمش مورقة مثمرة، فإنه يجدها تتألف من ثمر وورق وخشب، ثم يعيد النظر إلى الورق الأخضر الذي يكسو الشجرة فيحكم بأنَّ النفع الورقيَّ محصور بالزينة... إنَّ هذه النظرة العابرة الخالية من التأمل إلى الورق، أدت إلى إعطاء حكم سريع، كان بالتأكيد حكمًا سطحيًّا.
أما إذا أتى بورقة المشمش، وأخذها إلى المختبر، وأجرى عليها الاختبارات اللازمة، فسيرى أنَّها تحتوي على رئة تنفسيَّة تأخذ الكربون من الهواء، وعلى حبيبات صغيرة ـــــــ تدعى اليخضور ـــــــ تدور ضمن الورقة كما يدور محرِّك السيارة، وعلى عروق صغيرة تصل الورقة بالغصون، كي تستمدَّ منها نموًّا... ثم إنه سيجد بنتيجة تفاعل العوامل المتحدة في الورقة، والدائبة في تأدية وظيفتها، ما يزوِّد حبة المشمش بالسكر والنشاء... فإجراء مثل هذا الاختبار الدقيق على الورقة، أدَّى إلى إعطاء حكم عميق عنها... فهذا، إذًا هو الحكم العميق...
ولكن إذا قام الباحث، بعد إجراء العمل المخبري على ورقة المشمش، بالبحث عن علاقتها بما يحيط بها، بحيث لا يترك ناحية من نواحي هذه العلاقة إلَّا وأجرى عليها الاختبار وعرفها، فإنه ينتهي إلى حكم آخر، يظهر له دقة صنع هذه الورقة، وكم فيه من إتقان وإحكام وتنظيم، حتى استوت هذه الورقة على النحو الذي هي فيه، وأدّت الوظيفة المعهودة إليها... ومثل هذا الحكم لم يكن ليصدر إلَّا عن التفكير المستنير...
أما إذا توقف الإنسان عند الإعجاب بجمال الورقة، وما تبديه من زينة على أمها الشجرة، فإنه بذلك لا يصل إلى ما توجبه النظرة العميقة، ولذلك يبقى عند حدود التفكير السطحي، ومن الطبيعي ألَّا يكون لديه فكرٌ مستنيرٌ، لأنَّ هذا الفكر المستنير يجب أن تسبقه النظرة العميقة أو الفكر العميق.
والتفكيرُ السطحيُّ: يجري بنقل الواقع فقط إلى الدماغ من دون محاولة إدراك ما يتصل به، وربط هذا الإدراك بالمعلومات المتعلقة به، من دون محاولة البحث عن معلومات أخرى تتعلق به. وهذا ما يغلب على الجماعات المتخلفة، وعلى الأغبياء، وعلى غير الأذكياء من المتعلمين والمثقفين.
ويمكن معالجة السطحيَّة أو إزالتها أو تخفيفها، أو جعلها نادرة، من خلال معالجة الأفراد، وذلك:
أولًا: بإزالة عادة التفكير السطحي الموجودة لديهم، وبتعليمهم أو تثقيفهم، ولفت نظرهم إلى سخافة تفكيرهم، وإلى سطحية أحكامهم.
وثانيًا: بإكثار التجارب لديهم أو أمامهم، ويجعلهم يعيشون في وقائع كثيرة، ويحسّون بواقع متعدّد، ومتجدّد ومتغيّر...
وثالثًا: بجعلهم يعيشون مع الحياة، ويسايرون الحياة... وهؤلاء الأفراد الواعون، كلما كثروا في الأمة، كان الأخذ بيدها إلى النهوض أسهل وأقرب للتحقيق، لأنهم يتصورون وقائع الحياة الراقية تصورًا واقعيًّا، وذلك عن طريق تقبل الأفكار الصادقة، وقبول الآراء الصحيحة، واعتناق الأفكار القطعيّة، والتمييز بين مختلف الآراء، فيكونون أكثر إدراكًا للأمور، أي يكون تفكيرهم تفكيرًا متميّزًا من غيرهم، فيتكوّن لديهم الإحساس الفكري. ولذلك كان علاج السطحية، من خلال معالجة الأفراد، حتى يكون لدى الأمة مفكرون تعتمد عليهم، وتأخذ ما توصّلوا إليه من فكر في سبيل تقدمها وعزّتها.
والتفكيرُ العميق: هو التعمُّق في التفكير، أي التعمُّق بالإحساس بالواقع، والتعمق بالمعلومات التي تُربَط بهذا الإحساس لإدراك الواقع. فصاحب الفكر العميق لا يكتفي بمجرد الإحساس، وبمجرد المعلومات الأولية لربط الإحساس، كما هي الحال عند صاحب التفكير السطحيّ، بل يعاود الإحساسَ بالواقع، ويحاول أن يحسَّ به أكثر مما أحسَّ، إما عن طريق التجربة، وإما بإعادة الإحساس... ويعاود البحث عن معلومات أخرى مع المعلومات الأوليَّة، ويعاود ربط المعلومات بالواقع، أكثر مما جرى ربطُه، إمَّا بالملاحظة وتكرارها، وإمَّا بإعادة الرَّبط مرة أخرى، فيخرج من هذا النوع من الإحساس، وهذا النوع من الربط، وهذا النوع من المعلومات، بأفكار عميقة، سواء كانت حقائق أو لم تكن حقائق. وبتكرار ذلك وتعوّده يوجد التفكير العميق... وعلى هذا، فالتفكير العميق هو عدم الاكتفاء بالإحساس الأوليّ، وعدم الاكتفاء بالمعلومات الأولية، وعدم الاكتفاء بالرَّبط الأَوَّليِّ... هو إذًا الخطوة الثانية أو المرتبة التي تعلو التفكير السطحيّ... وهذا هو تفكير العلماء، والموصوفين بالمفكرين.
وهكذا: التفكير العميق هو التعمُّق في الحسِّ والمعلومات والربط.
أما التفكير المستنير: فهو التفكير العميق نفسه، مضافًا إليه التفكير بما حَوْل الواقع وما يتعلق به للتوصل إلى النتائج الصادقة... وينشأ التفكير العميق من التعمق بالفكر، في حين أن التفكير المستنير هو أن يكون إلى جانب التعمق بالفكر، التفكير بما حوله، وما يتعلّق به، من أجل غاية مقصودة، وهي التوصّل إلى النتائج الصادقة... ولذلك فإن كل فكرٍ مستنير هو تفكير عميق، وبالتالي لا يمكن أبدًا أن يأتي التفكير المستنير من التفكير السطحي...
على أنه ليس كل تفكير عميق تفكيرًا مستنيرًا، إذ إن التفكير العميق عندما يظل في إطاره من حيث هو تفكير عميق، ولا يحاول أن يربط الموضوع، الذي فيه يبحث، بكل ما يتعلق به، فإنه يحافظ على كيانه كتفكير عميق، ولا يكون تفكيرًا مستنيرًا.
فعالم الذرّة حين يبحث عن شطر الذرّة، وعالم الكيمياء حين يبحث عن تركيب الأشياء، فإنهما وأمثالهما حين يبحثون الأشياء والأمور، يبحثونها بعمق، وعن طريق هذا التفكير العميق استطاعوا التوصل إلى النتائج الباهرة، التي توصلوا إليها... ولكِنْ لو أن عالم الذرّة لا يكتفي بالبحث في شطر الذّرة أو تفتيتها، بل أخذَه العجب حين البحث، وقادَهُ فكره إلى معرفة علاقة هذه الذرة بالكون، وبتكوين الأشياء، وما ينجم عن تلك العلاقة وهذا التكوين، وما يترتب عليهما من مفاعيل، هنا في هذا الوضع، يصبح عالم الذّرة صاحب تفكير مستنير، ولم يعد فقط صاحب تفكير عميق... ومن هنا فإنه ليس كل تفكير عميق تفكيرًا مستنيرًا... كما أن التفكير العميق لا يكفي وحده لإنهاض الإنسان ورفع مستواه الفكري، وهي التي توجد الارتفاع الفكري الذي يؤدي بدوره إلى النهوض.
والاستنارة، وإن كانت غير ضرورية في التوصل إلى نتائج صحيحة في الفكر، كالعلم التجريبي، والقانون، والطب، ونحو ذلك، إلا إنها ضرورية لرفع مستوى الفكر لدى المفكرين. ولذلك فإنه لا يكفي لنهوض الأمة وجود العلماء في العلم التجريبي، ولا وجود الفقهاء والقانونيين، ولا وجود الأطباء والمهندسين... بل لا بد، في الأساس، من أن تكون لديها استنارة في التفكير، أي أن يكون لديها المفكرون المستنيرون.
وبناء على ذلك، نستطيع القول بشكل جازم ويقينيّ: إن الطريق القويم المستقيم الذي يجب أن يسير عليه الإنسان، والذي يجب أن ينطلق من قاعدته، هو طريق الفكر المستنير، وهو وحده الذي يحقق النهضة الفكرية الصحيحة.

جولة فكريَّة على أساس الفكر العميق

1. الحياة على الأرض
2. الماء والحياة
3. الهواء والحياة
4. عالم النبات
5. سر الورقة الخضراء
6. عالم الحيوان
7. تكامل نظام الحياة على الأرض
8. صورة الكون
9. تأملات في الإنسان

جولة فكرية تأملية
على أساس الفكر العميق
أول واجب على الإنسان المكلف، كما بيّنا آنفًا، هو الإيمان بالخالق عزّ وجلّ، وعدم الإشراك به، وأن يعرفه معرفةً تليق بشأنه سبحانه وتعالى.
ولمساعدة الإنسان على ذلك أرسل الله تعالى المرسلين مبشرين ومنذرين، ونصب الدلائل والآيات البينات في مخلوقاته لتكون عبرة لأولي الألباب، وأمر هؤلاء بالتفكر والتأمل ليعلموا أن الله هو الحق فيؤمنوا به إيمانًا صحيحًا لا يشوبه شرك.
وها نحن نقوم بجولة فكرية تأملية في خلق السماوات والأرض، لنرى ما فيها من عجائب الصنع، وبديع التكوين... فتعالَ معنا أيها القارئ، نَقُمْ بجولة مفيدة، نتأمل فيها ونتفكر، من خلال نظرة عميقة إلى الحياة والإنسان والكون، لنتعرف بعض ما توصّل إليه العلم من اكتشاف، حيث نجد أن العلم والاكتشاف لا ينيران لنا مُعميات الوجود، وخفايا الكون فحسب، بل يدلاننا على مدى الإحكام في الحق، والحكمة في التدبير، بحيث لا يمكن للإنسان ـــــــ مهما بلغ علمًا ومعرفة ـــــــ أن يحاكيها، أو أن يَقْدِرَ على مثلها... وعلى هذا فالعلم الذي يبحث في نزول المطر وحركته، وإنبات النبات ومراحل نموّه... وعلومُ الفيزياء والكيمياء، وعلمُ الفلك... وعلومُ الطب، والطير والحيوان... كلها ـــــــ إذا ما درسَها الإنسانُ أو عَرَف بعض جوانبها ـــــــ أظهرتْ له العجائب، وأنبأت بالغرائب، ودلَّت على وجود الخالق العظيم المستحق وحده للألوهية وهو الله عزّ وجلّ.
وإنه لمن الثّوابت التي لم تعد تقبل الجدَلَ، توافق الاكتشافات العلمية مع الإيمان، وتلازمهما في إدراك الحقائق. وانطلاقًا من هذه الحقيقة كانت دعوتنا إلى جولة في بطون كتب العلم، نستقي منها نظرتنا العميقة، لتكون سبيلَنا إلى الهدى، والإيمان بالله تعالى عن طريق الفكر المستنير... وسوف يكون تركيزُنا في بعض الجوانب التي رأينا أنها توصل إلى الغاية المرجوة، لأنه لا يمكن احتواء كل ما توصّلت إليه البحوث والاكتشافات، ما دامت تستغرق ملايين المجلدات، وتغصُّ بها الدور والمكتبات على تعددها وتنوعها... فإلى النظرة العميقة المستنيرة هيّا بنا أيها القارئ الكريم...
1 - الحياة على الأرض:
إن الإنسان ـــــــ مهما بلغ من دقة الفهم وسعة العلم، أو مهما كان عنده من صلابة الإرادة وحسن النية، وأيًّا كانت نظراته إلى البعيد ـــــــ يظلُّ مرتبطًا بالأرض ـــــــ ولا حياة له أو استقرار على غيرها {منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى} (طه: 55).
فالأرض هي وحدها، في النظام الشمسي، صالحة للحياة، في حين أن الكواكب الأخرى في ذلك النظام، وهي: الزهرة، والمريخ، والمشتري، وزحل، وأورانوس، ونبتون، وبلوتو، لا تصلح لحياة كائنات حية... وقد أثبتت البحوث التي وضعت، والأرصاد التي أجريت، حتى الآن، أن الأحوال المؤاتية للحياة التي نعرفها على سطح كوكب الأرض، من حرارة وبرودة، ورطوبة وجوٍّ مناسب، غير متوافرة على الكواكب الأخرى في النظام الشمسي، باستثناء المريخ الذي كان موضوع نقاش علمي مستفيض منذ أواخر القرن الماضي، ولا يزال، بين القائلين بوجود أحياء عاقلين على سطحه، والذاهبين إلى احتمال وجود أحياء، ولكن من طبقة الأحياء النباتية الدنيا فحسب... وإذا لم يحسم هذا الموضوع بعد، فإنَّ الاستقصاء بالمراقب الكبيرة والتصوير، والحلّ الطيفي والسوابر الفضائية ما زال مستمرًّا... على أن رأي المحققين من العلماء يميل إلى الاعتقاد الجازم بأن المريخ لا يصلح للحياة، وبراهينهم على ذلك ما عرفوا من أحواله... فهو يدور حول الشمس مرةً كل 687 يومًا، ويبعد منها 142 مليون ميل، وحرارته في النهار هي بضع درجات فوق الصفر، في حين أنها تنزل في الليل إلى سبعين (70) درجة تحت الصفر، وسطحه بَرٌّ لا بحرَ فيه، ولا وجود للماء على الرأي المرجّح، وهواؤه مؤلف من غاز من الأوكسجين، وجاذبيته ثلث (3/1) جاذبية الأرض فلا تكفي لحفظ الأوكسجين في هوائه... ولهذه الأسباب رأوا أنه لا يصلح للحياة أبدًا.
أما الخصائص التي جعلت الأرض ـــــــ وحدها في النظام الشمسي ـــــــ صالحة للحياة، فأبرزها أنها أكثف السيارات في هذا النظام، بل أكثف من الشمس نفسها، إذ تبلغ كثافة الشمس ربع (4/1) كثافة الأرض، بما يجعل الثقل النوعي للحجم في الشمس أخف من الثقل النوعي للجسم نفسه وهو على الأرض... كما أنها تدور حول نفسها لتولّد ليلًا ونهارًا في مدة متقاربة أو متوازية، وهي المدة الصالحة لراحة الإنسان وقيامه بالسعي، وأن دورتها حول الشمس التي تتم خلال مدة تبلغ ثلاثمئة وخمسة وستين يومًا وربع اليوم في العادة، يتأتَّى عنها تولُّد الفصول الأربعة: الشتاء، والربيع، والصيف، والخريف، وما يكون لكل فصلٍ منها من خصائص تساعد على استمرارية الحياة...
ويقول العلماء: لو كان حجم الأرض (الذي هو أصغر من حجم الشمس بمليون و300 ألف مرة) أكبر مما هو أو أصغر، أو كان وزنها (الذي هو أقل من وزن الشمس بـــــــــــــ 332 ألف مرة تقريبًا)، أو كانت كثافتها، أقل أو أكثر، لأختلَّ أمرُ الحياة أو تغيَّر وتشوَّه... فحجمها متناسب مع سرعتها ومع دورانها، وثقلها متناسب مع قوة جذبها، ولو زاد الحجم أو نقص لكانت السرعة أو المدة قد تغيّرت، كما أنه لو قلَّ جذبها لكان أَفْلَتَ منها الأوكسيجين، ولو زادت سرعة دورانها حول نفسها على ألف ميل في الساعة أو قلَّت عن ذلك، بحيث كانت مثلًا مئة ميل في الساعة، لأصبح طول النهار مئة وعشرين ساعة، واحترقت معه زروعنا في لهيب النهار، وذوت في زمهرير الليل. إنَّ هذه السرعة. لا تزال ثابتة، لم يطرأ عليها تبديل، ولو في ثانية واحدة، منذ آلاف السنين. وما يقال عن السرعة، يمكن أن يقال عن الجاذبية، إذ لولا الجاذبية التي تربطنا بالأرض، والتعادل ما بين هذه الجاذبية وقوة البعد في مركز الأرض لما كان لنا وجود، ولطار كل شيء موجودٍ على ظهرها، ولذهب كل أثر فوقها لإنسانٍ، أو لجبلٍ، ولكانت بحارنا قد زحلت من وسط الأرض إلى القطبين.
ومجمل القول: إن الإنسان إذا تأمل مليًّا في شكل هذا الكوكب الذي نعيش عليه، وفي تركيب أجزائه وعناصره، وكان تأمله عميقًا وبصيرته صافية، فإنه سيقتنع حتمًا بأن هذه الدلائل الواضحة تُثبت أن كل ذلك كان بإرادة خالق عظيم هو الله سبحانه وتعالى...
2 - الماء والحياة:
إن قوله تعالى: {وجعلنا من الماء كل شيء حي} (الأنبياء: 30)... حقيقة ثابتة، لا شك فيها، فالكائنات الحية من أدقها وأصغرها، إلى أضخمها وأكبرها، خلقت من الماء.
وليس أدلَّ على ذلك من مراقبة خلية حية بالمجهر الضوئي، فإننا نرى فيها مادة في حركة دائمة وتغيُّر لا يكفَّان، ففي داخل جدار هذه الخلية أو غشائها، نجد مادة مائعة، شفيفة، هي الجِبِلَّةُ، أو المادة الحية الأساسية... ولقد أفضت بحوث الكيمياء الحياتية إلى أنَّ في الجبلَّة عناصر كيماوية كثيرة ومتعددة، بحيث تكوِّن هذه العناصر مزيجًا يعطي موادَّ معقدةً ومتفاعلةً للبناء، وأن الماء هو أكثر هذه المواد نسبة في الجبلة، لأنه يؤلِّف، ما بين (70%) إلى (90%) من وزن المادة الأساسية كلها... ومن هنا فإنه لا حياة لأي كائن حي من دون مادة الماء، التي تشكل العنصر الأهم، من بين سائر العناصر الأخرى، التي يتألف منها الجسم...
هذا بالنسبة إلى تكوين الخلايا الحية، أما بالنسبة إلى سائر مظاهر الحياة الأخرى على الأرض، فإنَّ جميعها يُنبئ بضرورة الماء لاستمرار الحياة... فالماء يتبخر بفعل طاقة الإشعاع الشمسي، ويرتفع بخارًا مائيًّا في الهواء ثم يهطل على شكل مطر أو بَرَد أو ثلج، ويعود معظمه إلى مصادره الأولى الرئيسية، أي الأقسام التي تغطيها المياه من الكرة الأرضية والتي تشكل ثلثي مساحة الأرض... وما يتساقط منه على اليابسة يتسرب بعضه إلى طبقات الأرض كي يُغَذِّيَ الخزانات الجوفيَّة التي تتفجر على شكل ينابيع أو آبار ارتوازية؛ وبعد أن يأخذ الإنسان حاجاته المتنوعة من الماء، يعود الباقي إلى البحار والمحيطات... وهكذا فإنَّهُ ما بين التبخُّر والعودة، تحصل الدورة المائية على سطح الأرض بفعل الشمس... ولولا توزيع سطح الماء بين القارات، وعلى تلك المساحة الشاسعة، لما حدثت عملية التبخرّ، ولما كان للأرض ماؤها الذي يمدُّها بالحياة.
وبالإضافة إلى عملية التبخر هذه، هناك مصدر آخر لتوليد الماء، وهو النبات... فالنباتات عامل مائي مهم بما تُطلِق من مقادير كبيرة من بخار الماء في الهواء. ومثال ذلك نبات الذرة في مساحة فدان (أيكر)، فإنه يُطلق نحو أربعة آلاف غالون من الماء في اليوم الواحد...
ومن الخصائص التي عُرف بها الماء أنه عندما يسقط مطرًا، أو ينبع من تجاويف الأرض، فإنه يكون عذبًا، حلوًا... ولكنْ ما إن يعود إلى البحار والمحيطات حتى يختلط بمياهها وتصبح كلها مالحة، فما الحكمة من هذه الملوحة؟ إنها الحكمة التي تدهش حقًّا عقول الناس. فلو أنَّ مياه البحار والمحيطات جُعِلتْ عذبة، لكان الفسادُ، ولكي تكون البحار مليئة بالأسماك، ولكي تكون هذه الأسماك من أعظم الأغذية للإنسان، بل ومن أعظم مخازن طعامه وأبقاها على الدهر، من أجل ذلك كله جعلت مياه البحار والمحيطات مالحة... فلنتأملْ...
وليس هذا فحسب، بل إنَّ جريان الفلك على سطح المياه، وسبح الأسماك والحيوانات فيها، قد دلَّ العلماء، على أنهما يحدثان بمقتضى القانون المعروف (بقانون أرخميدس). وهو القانون الذي يقول بأنَّ كل جسم يغطس في الماء، يتلقى من أسفل إلى أعلى، دفعًا عموديًّا، يعادل وزن الماء الذي حلّ الجسم محلّه، فإذا رجح وزن الجسم على وزن الماء المعادل له غرق الجسم، وإن نقص عنه طفا.
وعلى هذا الأساس تسير السفن الضخمة الناقلة لآلاف الأطنان من الأثقال على سطح البحر بإذن الله تعالى، والتي إليها يشير قوله عزّ وجلّ: {وله الجوار المنشئات في البحر كالأعلام} (الرحمن: 24)، فالجواري جمع "جارية" وهي السفن التي تمخر عباب البحر، والأعلام جمع "عَلَم" وهي الجبال، وهذا بيان لضخامتها وكبر حجمها الذي يدل على ثقل وزنها.
وإنَّ من العوامل أيضًا التي تؤثر في توزيع المياه على سطح الأرض، وجود الجبال، التي يقول العلماء إنهُ لولاها لما كانت الينابيع الدائمة، والأنهار الدائبة، التي نستقي منها ونسقي زروعنا... إذ لو كان سطح الأرض كله عبارة عن مهادٍ منخفضة أو مبسوطة، لسقط المطر من الغمام، وتجمَّع في المنخفض من الأرض، أو تفرق مبدَّدًا مشتتًا في المبسوط منها... فلا سبيل له إلى أن يجري فيها ينابيع وأنهارًا تصب في البحر، وإذ ذاك يختل سقي الأرض، بل ربما اختلت عملية المطر من أساسها... ولكن الذي يحول، دون ذلك، انتصابُ الجبال، وانخفاض الوهاد، وانبساط السهول... فأي تكوين عجيب، إذًا، لهذه الأرض، فلا تكون جبالًا كلها، ولا سهولًا كلها، ولا أودية كلها؟...
3 ـــــــ الهواء والحياة:
ما قدّمناه عن السرِّ في كيفية تركيب الماء، يقال هو نفسه، بالنسبة إلى تركيب الهواء...
فالهواء يتألف من الأوكسيجين بنسبة (21%) ومن النيتروجين بنسبة (78%) ومن بعض الغازات الأخرى بنسبة (1%). والأوكسيجين عنصر طيار، سريع الانفلات والانتشار، فمن شأنه أن ينفلت من الهواء أو أن تمتصه الأرض... فلماذا لم ينفلت كله كما انفلت من كواكب أخرى؟ ولماذا لم تمتصه الأرضُ كلَّه؟... وكيف اتفق أن بقي منه في الهواء نسبة (21%) فقط، لا أكثر ولا أقلّ؟ إنه بلا شك تقدير الله العزيز العليم، {الذي أحسن كل شيء خلقه} (السجدة: 7).
ثم إن أي اختلال في تلك النِّسب يسبب، فيما لو حصل، اختلالًا في نظام حياة البشر والبهائم والنبات.
ومع أن الإنسان ليس وحدَه الذي يحتاج إلى الهواء في حياته، بل كل الأحياء الأخرى على الأرض من نبات وحيوان... فكيف لا ينفد هذا الهواء، وكيف يتجدد بعناصره نفسها، على الرغم مما نستهلكه منه نحن وجميع الأحياء والنباتات كافة؟... هذا ما سوف نراه عندما نبحث في "سرِّ الورقة الخضراء" في ما بعد.
4 ـــــــ عالم النبات:
لقد ثَبَتَ بأن الكائنات النامية على الأرض تمثلت في النبات، ثم تبعه الحيوان... ولقد كانت الحكمة من هذا الخلق، على هذا النحو، أن الكائن الحي لا يمكن أن يعيش بلا غذاء، ولما كان هذا الغذاء في النبات، كان خلقُه بداية...
والنباتات كائنات نامية تتألف من وحدات أساسية هي الخلايا، وقد تكون النبتة مكونة من خلية واحدة أو من عدة خلايا...
وتحتوي معظم النباتات على (بلاستيدات) فيها مادة خضراء هي (الكلوروفيل)، وبذلك يستطيع النبات، بوجود الطاقة الضوئية من الشمس، أن يبني غذاءَه الكربوهيدراتي ثم البروتيني والدهني بنفسه من مواد أقلَّ تعقيدًا (الماء وثاني أوكسيد الكربون).
ولقد قسَّم العلماء عالم النبات ـــــــ وفق النظام الحديث ـــــــ تسعة أقسام. وبعض هذه الأقسام ينقسم بدوره طائفتين أو أكثر، والطائفة قد تنقسم طُوَيئفة وهكذا... وتحتوي الطائفة على مئات أو آلاف الأجناس، وعلى آلاف الأنواع.
ويمكن أن نأخذ بعض النباتات كأمثلة، حتى نتبين بعض الخصائص التي تتمتع بها... فأصغر أنواع النباتات تلك المسماة بالفيروسات أو البكتيريا، إذ يتراوح قطر الفيروس ما بين 0,02 ـــــــ 0,3 ميكرون (الميكرون يساوي جزءًا من ألف من المليمتر)، ومع ذلك فإنَّ للفيروس قدرة على المرور خلال أدق المرشحات المعروفة، وعلى التبلور (من مميزات الجماد)، هذا بالإضافة إلى قدرته على التكاثر داخل الخلايا الحية...
ومن البكتيريا هنالك عدة أنواع وأحدها بكتيريا الأزوتوباكتر الذي في إمكانه تحويل نيتروجين الجوّ إلى مواد عضوية مفيدة. وكان لويس باستور (1822 ـــــــ 1895) أول من اكتشف أن البكتيريا الضارة تُقتل بالحرارة...
ومن أنواع الفطريات ما يُدعى الفطريات الزقية، وأحد هذه الفطريات هو العفن الأخضر (البنسيليوم) الذي استخلص منه "ألكسندر فلمنج" مادة البنسلين.
ومن النباتات الوعائية، التي منها طائفة مغطاة البذور، كما أطلقوا عليها، طائفة تُدعى طائفة السراخس... وقد كانت السراخس تغمر الأرض بكثرة في العصور الجيولوجية السحيقة ومعظمها من النوع الشجري الضخم الذي انقرض، ومنه تكوَّن معظمُ الفحم الحجري المعروف.
ومن خصائص بعض النباتات قدرتها على التحور بما يجعلها قادرة على جذب الحشرات واصطيادها كي تمتص موادها وتؤمن لنفسها العيش. ومثال ذلك نبات (صائد الذباب) فهو يعيش في وسط لا يستطيع الحصول فيه على المواد النيتروجينية للبناء البروتيني، ولذلك يلجأ إلى اصطياد الحشرات، وتوجد في السطح العلوي لأوراقه غدد خاصة تفرز عصارات هاضمة، تقوم بهضم الحشرة التي تصطادها أوراقُه.
ولقد توصلت الأبحاث العلمية، عن طريق ما أمكن تسجيله بالأجهزة القياسية، إلى إثبات انفعال النبات بالوسط الذي يوجد فيه، وتجاوبه مع ما حوله.
وإذا كان عالمُ النبات قد أدهش العقل البشري لكثرة ما أظهرت الاكتشافات من عجائبه، فإنَّ هناك سرًّا ما زال يحيّرُ الإنسان، ويعجز حتى الآن عن إدراكه، هو السر الذي يكمن في الورقة الخضراء... الورقة الصغيرة، الطريةَ، التي لا نكاد نلامسها حتى نتبيَّن مقدار رقتها، ولا نكاد ننظر إليها حتى نجدها شيئًا زهيدًا لا يثير فينا أيّ دهشة، ولا يحملنا على أي تفكير... ومع ذلك فقد أثبت العلماء أنّ هذه الورقة الخضراء تحدث فيها تفاعلات عجيبة، تدل على دقة الخلق وعظمة الخالق تعالى. فما سر الورقة الخضراء هذه؟
5 ـــــــ سرُّ الورقة الخضراء:
لقد أشرنا في نهاية بحثنا في "الهواء والحياة" إلى ما في الورقة الخضراء من أسرار.
وها نحن الآن نتوسع فيما دلَّت عليه الأبحاث في الفحص المخبري، فنرى أنَّ الورقة الخضراء الرقيقة الحواشي تقوم بتفاعل عجيب، وأن هذا التفاعل تترتَّب عليه آثارٌ مهمة بالنسبة إلى الحياة كلها...
ففي الورقة الخضراء طبقتان من الخلايا، إحداهما على سطحها والأخرى في أسفلها. وهذه الطبقة في الأسفل فيها فتحات أو أفواه دقيقة، تحيط بكل فتحة أو فم خليتان حارستان، وتنفتح الفتحة أو تنغلق بتغيّر شكل الخليتين الحارستين، وإنَّ التبادل الذي يجري ما بين داخل الورقة والهواء الخارجي، يجري عبر هذه الفتحات، إذ منها يدخل ثاني أوكسيد الكربون، ومنها أيضًا يخرج الأوكسيجين... وأما نسيج الخلية الخلوي بين سطحَي الورقة الأعلى والأسفل فطبقتان:
ـــــــ عُلياهما مُؤلفةٌ من خلايا مرصوفة طولًا، كحجارة مستطيلة في جدار، وهذه الحجارة هي التي تمنح الورقة الخضراء في جدار، وهذه الحجارة هي التي تمنح الورقة الخضراء القوة والقدرة على إحداث التفاعل.
ـــــــ وسُفلاهما مُكوَّنة من خلايا إسفنجية مجمعة، وغير محتشدة بعضها إلى جانب بعض كخلايا الطبقة العُليا...
ومن هاتين الطبقتين تتألف جميع الخلايا التي تحرس الفتحات.
في داخل هذه الخلايا التي تتكوَّن منها طبقات الورقة وأنسجتها، يحدث التمثيل الضوئي أو التركيب الضوئي. وحدوث هذا التركيب الضوئي ناجم عن تفاعل كيماوي عجيب بين مادة خضراء في خلايا الورقة، تُدعى اليخضور أو الكلوروفيل، وضوء الشمس... ولولا وجود هذا اليخضور في الورقة لما حصل ذلك التفاعل الكيماوي... وقد سمِّي ذلك التفاعل بالتركيب الضوئي، أي التفاعل الطبيعي الذي ينتهي إلى تركيب مواد الطعام الأساسية في النباتات الخضراء، وعامله هو اليخضور ـــــــ الذي يُطلق على صبغين أخضرين يعرفان بيخضور (أ) ويخضور (ب) ـــــــ وفي هذا اليخضور قابلية امتصاص طاقة الشمس وبالتالي استحداث سلسلة من التفاعلات، يشترك فيها الماء، وثاني أوكسيد الكربون، وتنتهي هذه التفاعلات إلى تكوُّن سكر الكلوكوز، وإطلاق ست جزئيات من الأوكسيجين...
وفي الورق الأخضر أيضًا عروق تحوي أنساجًا موصلة، تتخلل مادة الورقة بين سطحيها الأعلى والأسفل... وهذه العروق منها ما ينقل الماء والمواد المحلولة إلى أجزاء الورقة أو النبات، ومنها ما ينقل المواد الغذائية التي تولَّدت بفعل التركيب الضوئي... ففي النهار يدخل ثاني أوكسيد الكربون إلى الورقة من فتحاتها ويشترك في تفاعل التركيب الضوئي، أما الأوكسيجين الناجم عن هذا التفاعل فيستعمل بعضه في النبات نفسه للتنفس، وبعضه الآخر يخرج من الفتحات إلى الهواء كي يجدِّده... إذًا فالنبات الأخضر يأخذ في النهار ثاني أوكسيد الكربون ويطلق الأوكسيجين، في حين أنه في الليل ـــــــ وعندما يذهب ضوء الشمس ـــــــ يتوقف تفاعل التركيب الضوئي، لكنَّ فعل التنفس يستمر، فيأخذ النبات الأوكسيجين ويطلق ثاني أوكسيد الكربون، أي بعكس ما كان يفعله في النهار...
وعند علماء التركيب الضوئي، أن النباتات تُدْخِلُ كلَّ عام في هذا التركيب نحو (150) ألف مليون طن من الكربون و(25) ألف مليون طن من الهيدروجين، وتُطلق (400) ألف مليون طن من الأوكسيجين...، وهكذا فإن حياة النبات وغذاءه يقومان على الكربون الذي يتناوله من ثاني أوكسيد الكربون. ويتكوّن ثاني أوكسيد الكربون عن طريق اتحاد الكربون مع الأوكسيجين على أثر كل احتراق... والإنسان هو الذي يقوم بعملية الاحتراق إما عن طريق تنفُّسه، وإما عن طريق ما تنفُث أدواتُ ووسائلُ صناعاته من أبخرة أو غازات تحتوي عليه، فيأخذه النباتُ ويحلُّه حتى يأخذ منه الكربون، ثم يطلق لنا الأوكسيجين كي نتنشق به هواءً نقيًّا. وبهذه المبادلة التي ما بين عالم الإنسان وعالم النبات، يتجددُّ استمرار أسباب الحياة في كل لحظة على الأرض...
هذا ولا بد من الإشارة إلى أن ثاني أوكسيد الكربون هو في الحقيقة مصدر غذاء النبات، فأيّ غرابة هي في هذا التكوين الذي يحوي نقيضين: في حال هو مصدر الحياة، وفي حالٍ أخرى هو مصدر الموت!... وأيّ أسرارٍ في هذا الكون؟ فتأملْ!...
6 ـــــــ عالم الحيوان:
إنّ تاريخَ الحياة على الأرض كان في لبابه تاريخَ التفاعل بين الأحياء على تنوُّعها، وبين ما يحيط بها، أي البيئة التي تعيش فيها...
وللتدليل على جماعة من الأحياء المتباينة وعلى كيفية علاقات بعضها ببعض، وعلاقاتها ببيئتها غير الحية، يَضرب العلماءُ، مثال غابة الصنوبر... فشجرة الصنوبر هي فردٌ في جماعة الغابة الصنوبرية؛ وجذورُها حتمًا مثبتة في التراب (الأرض)، تتعايش مع أنواع خاصة من الفطريات؛ وأنَّ رؤوس هذه الجذور كالشعيرات الدقيقة، تعمل، على تفتيت صفحات الصخور التي تلامسها، ثم تموت، فتأتيها أحياءٌ دقيقة وتحلُّها إلى موادها الأولى، وتحدث بذلك أنابيب شعرية دقيقة في التراب، يسلكها الهواء، فتهوَّى وتُسقى... هذا في داخل التربة... أما فوق الأرض، فجذع شجرة الصنوبر مسرح لأنواع دقيقة من النبات والحيوان التي تطلب الغذاء في شقوق القشرة... أما الأغصان والورق (إبر الصنوبر) فجزء آخر من عالم الشجرة: تبني العقاب فيها عشها، ويفتح الطائر المصلب بمنقاره كيزانها لاستخراج البذور، وتأتي إليها طيور أخرى للستر أو الفيء، وتأتيها السناجيب من أجل أكل الكيزان على نحو يختلف عن الطائر المصلب، وتسقط إبر الصنوبر على الأرض، وتتراكم حتى تصير كالفراش الوثير، لتحمي التربة من الانجراف، ولتحفظ حرارتها وبعض رطوبتها...
وهكذا فإن لشجرة الصنوبر، التي هي جزء من الغابة، نظامها الخاص. والغابة في مجموع أفرادها، تؤلف نظامًا أكبر. ويطلق على النظامين، في الحالَين، تعبير: "وحدة بيئية"... ومن الوحدات البيئية يتألف "الغلاف الحياتي" كنظام أرضي النطاق، يحتوي على أنواع لا تحصى من الأحياء النباتية والحيوانية، المتباينة تباينًا لا يكاد يُحَدّ، في أحجامها وخصائصها، ومنازلها ووظائفها في وحداتها البيئية... وإنه لَنِظامٌ محكم، التوازن والتناسق والتماسك، في تفاعل هذه الأحياء بعضها مع بعض، وفي تلك المظاهر من تجاذب وتنافر، وتركيب وحَلٍّ، وحياة وموت، واندثار وانبثاق... حتى إذا فقدت إحدى حلقاته، اضطرب توازنه واختلّ... إلَّا إن الله تعالى يعوضه عن كل قديم مندثر بجديد منبثق.
ويعيش الحيوان في تلك الوحدات البيئية، بأنواعه الكثيرة العدد، وبأشكاله البالغة التنوع، متوزعًا ما بين المياه واليابسة، وما بين المناطق الحارة والباردة والمعتدلة، فضلًا عن عالمه القائم بذاته في أعماق المياه بمحيطها وبحرها وأنهارها الكبيرة...
وتعيش الحيوانات في عالمها، وهي تخضع في وجودها، وحياتها، لأنظمة غاية في الدقة، تدلُّ كل حيوان على طريقة عيشه، وحماية وجوده، والائتلاف مع جنسه...
وليس الولوج إلى عالم الحيوان، واستخراج ما احتوته دوائر المعارف الخاصة بالحيوان، هو هدفنا هنا... ولن نستفيض أيضًا في غرائب أجناس الحيوانات وأشكالها، ولا في كيفية تشكيل أنواعها وتركيب خلاياها وأعضائها، أو في طرق عيشها، وما تتميز به أجناسها بعضها من بعض... إلَّا إننا نكتفي بإيراد أمثلة، عن خصائص معينة عند بعض الحيوانات، تثير الاهتمام فعلًا، وتستدعي العجب حقًّا...
فالفهد هو أسرع حيوان على الأرض، وقد تصل سرعته إلى (112) كيلومترًا في الساعة الواحدة. لكنه لا يستطيع الاستمرار على هذه السرعة لمدة طويلة، لأنها تتعبه وتؤدي إلى تلاشيه، وربما إلى موته...
وللذئب حِسٌّ عائليٌّ يضرب به المثل، فأفراد العائلة الواحدة تشدها علاقات متينة جدًّا في ما بينها، ومن مظاهر هذه العلاقات الدفاع بعضها عن بعض، والمشاركة في تأمين الطعام والغذاء...
والدب الأسمر يقضي فصل الشتاء خدِرًا، متغذيًا بما اختزنه جسمه من شحوم غذائية خلال فصل الصيف...
والكركدن يبتلع كمية من الطعام تصل إلى (20) كيلوغرامًا من الأعشاب والجذوع، وكمية من الماء تبلغ مئة ليتر، وذلك كله في اليوم الواحد... وأحد أنواعه (وحيد القرن) الذي يصل وزنه إلى أربعة أطنان، وارتفاعه حتى الكتف إلى مترين، يستحم بالمستنقعات الموحلة لساعات عدة يوميًّا، وتضع أنثاه صغيرًا واحدًا بعد حمل يدوم (19) شهرًا.
ويمتاز الجمل بخصائص جسدية وفسيولوجية تجعله متوافقًا للعيش مع بيئته الصحراوية، إذ يختزن المواد الدهنية في سنامه، ويحتفظ بالماء في أنسجة جسمه وفي عدد من الأكياس الموجودة في معدته، بحيث يستطيع من جراء ذلك، السير طويلًا، من دون أكل أو شرب؛ ولا يفرز جسمه إلَّا كمية قليلة من الملح، بحيث يبقى مقداره في دمه ثابتًا... وهو يتحمل فقدان أربعين في المئة (40%) من ماء جسمه، في حين لا يتحمل الإنسان أن يفقد أكثر من نسبة (12%) من ماء جسمه، وإلَّا تعرض للهلاك...
أما الخنزير البري فمن خصائصه المميزة ضعف نظره، وقوة حاسة الشم عنده؛ لكنَّ أهم خصائصه على الإطلاق تكمن في قوة دفاعه... وسلاحه في الهجوم والدفاع أنياب حادَّة. وليس في ذوات الأنياب والأذناب حيوانٌ ذو قوة تبلغ قوة الخنزير في نابه. وربما طال ناباه فيلتقيان، وعند ذلك يموت جوعًا، لأنَّ هذا الالتقاء يمنعه من الأكل... ومن أنواع طعامه الثعابين، يأكل منها كثيرًا من دون أن تؤثر فيه سمومها... وإذا جاع ثلاثة أيام ثم أكل، سَمِنَ في يومين، وهذا ما يفعله الذين يقومون بتربية الخنازير؛ وإذا مرض وأكل السرطان زال مرضه... ومن عجيب أمره أنه مراوغ حتى ليفوق في مراوغته الثعلب... وإذا قلعت إحدى عينيه مات سريعًا...
ولعلَّ أكبر الحيوانات على الإطلاق الحوت، إذ يصل طول بعض أنواع الحيتان إلى (33) مترًا ووزنها حتى (130) طنًّا... ومن خصَائص الحيتان أنه ليس لها أسنان، بل صفائح قرنية متصلة بالفك العلوي. وهي تعتمد في غذائها على القشريات الهائمة التي تدخل الفم مع ماء البحر، وتبقى وحدها بعد أن يتسرب الماء من الصفائح القرنية... وقد وُجِدَ في معدة حوت كبير طوله (26) مترًا، نحو (5) ملايين حيوان قشري يبلغ وزنها طنَّين تقريبًا... تضع الأنثى مرة واحدة كل عامين، مولودًا وحيدًا، يبلغ عند الأنواع الكبيرة ستة أمتار، وتفرز الأم حليبًا غنيًّا بالمواد الدهنية يساعد الحوت الصغير على النمو بسرعة...
وإذا تركنا عالم الحيوانات التي تتصف بكبر الجسم أو ثقل الوزن، ودخلنا عالم الطيور أو الحشرات، فإنَّ عجبنا سيزداد لما تتميز به هذه الأنواع من خصَائص ذاتية، لا يمكن معرفتها من دون إجراء دراسات دقيقة عليها...
ولقد أثبتت تلك الدراسات أن الخفافيش، التي يوجد منها نحو ألف نوع، كلها قادرة على الطيران بلا استثناء، وأنها ذات طبائع ليلية، تقضي النهار معلقة بأرجلها، وبعض أنواعها في المناطق الشمالية، تبقى بهذا الوضع طوال الشتاء، داخل الكهوف أو المباني... لقد عَشِيتْ أعينها عن أن تستمد من الشمس المضيئة نورًا تهتدي به في مذاهبها، فهي مسدلة الجفون بالنهار على حِدَاقِهَا، وجاعلة الليل سبيلَها الذي تلتمس به أرزاقها... وإن أجنحتها من لحمها تعرُج بها عند الحاجة إلى الطيران، كأنها شظايا الآذان، غير ذوات ريشٍ ولا قصب؛ ولها جناحان لم يَرقَّا فينشقَّا، ولم يغلُظا فيثقُلا، تطير وولدها لاصق بها، لاجئ إليها، يقع إذا وقعت، ويرتفع إذا ارتفعت، ولا يفارقها حتى تشتد أركانُه، ويحمله للنهوض جناحُه، ويعرفَ مذاهبَ عيشه ومصالح نفسه...
ومن أعجب الطيور خلقًا الطاووس، فهو إن شبّهتَهُ بما أنبتت الأرض قلتَ: جَنًى جُنِيَ من زهرة كلِّ ربيع، وإن ضاهيتهُ بالحُلِيِّ فهو كفصوصٍ ذات ألوانٍ قد نُطِّقت باللجين المكلّل (المزين) بالجوهر. يمشي مشي المرح المختال، ويتصفَّح ذنبه وجناحيه، فيقهقه ضاحكًا لجمال سرباله وأصابيغ وشاحه... ومع هذا الجمال بألوانه الزاهية، فإنَّ ريشه يسقط، ثم يتلاحق ناميًا حتى يعود كهيئته قبل سقوطه، لا يخالف سالف ألوانه ولا يقع لون في غير مكانه...
وإنَّ أكبر الطيور الحية، على الإطلاق، النعامة، إذ يبلغ ارتفاع رأسها عن الأرض ثلاثة (3) أمتار، ويصل وزنها إلى مئة (100) كيلوغرام. وسرعتها عند الركض تبلغ ما بين أربعين وخمسين (40 ـــــــ 50) كيلومترًا في الساعة، بفضل قائمتَيها العاليتَين اللَّتين تحركهما عضلات قوية، واللّتين تنتهي كل منهما بإصبعين اثنتَين فقط. تزن بيضة النعامة نحو (1600 غرام)، ويتناوب الذكر والأنثى حضن البيض، ويخرج الصغار بعد (40) يومًا قادرين على السير...
أما في عالم الحشرات، فحدّث ولا حرج، إذ يجد الإنسان من مقومات الاجتماع والتنظيم ما عجزت المجتمعات البشرية فعلًا عن الإِتيان بمثل دقته وإحكامه... وأبرز مثال على ذلك مجتمعات النمل... فالنمل تزيد أنواعه على ستة آلاف. وهي تؤلف مجتمعات (قُرى النمل وبيوته) شديدة الغرابة في التدبير والتنظيم. فالمجتمع الواحد يتألف من ملكة واحدة ـــــــ وقد تكون فيه عدة ملكات ـــــــ ومن بضع عشرات إلى نيفٍ ومليون عاملة... وجود الذكور في مجتمع النمل آنيٌّ، إذ سرعان ما تموت هذه الذكور بعد الإفراق. ويحصل الإفراق عادة عند بدء الخريف، حيث تخرج الذكور والإناث (كلها مجنَّحة) من قريتها، وتطير في الهواء، ثم تهبط على الأرض ويبدأ التلاقح...
في أغلب الأحيان تكون الأنثى الواحدة المخصبة منتجة لمجتمع جديد. فهي بعد أن تُقتلع أجنحتها، تنزوي داخل فجوة، أو تحت إحدى الحجارة، وتبدأ بوضع البيض، ثم تقوم بعد ذلك بتغذية أولى اليرقات التي تخرج من البيض، والتي تصبح كلها، بلا استثناء، من العاملات... ولا يبدأ ظهور الذكور والإناث في هذه القُرى إلَّا بعد السنة الثالثة أو الرابعة لتأسيسها. تعمَّر أوكارُ النمل طويلًا، وبعضها تبقى في حالة ازدهار أكثر من أربعين سنة.
ومن أعمال النمل أن العاملات بعد أن تقوم بتوسيع القرية من الداخل، تخرج لتأمين الطعام للملكة واليرقات، وكل ما يتعلق باستمرار الحياة داخل المجتمع الجديد. وعندما تضع الملكة البيضة تكون إحدى العاملات بانتظارها، فتتلقف هذه البيضة وتحملها إلى غرفة خاصة في القرية، في حين تتولى بعض العاملات رعاية اليرقات، وذلك عن طريق لعقها وتنظيفها ثم التنقل بها من مكان إلى آخر أكثر ملاءمة، والقيام بتغذيتها... ومن رعاية النمل أيضًا ما تحظى به العذارى، إذ تتولى العاملات نقلها إلى الطوابق السفلى من القرية في المساء، أو عندما ينزل المطر، ثم تعود وتصعد بها إلى الطوابق العليا في الأوقات الجميلة، وعند سطوع الشمس...
ومن أجل توفير الغذاء، فإنَّ أنواعًا كثيرة من النمل تعتمد في ذلك على السائل الذي تفرزه مختلف حشرات المنّ، التي تؤمن منها حاجتها من المواد السكَّرية، ولذلك فهي لا تحمي هذه الحشرات الضارة فحسب، بل إنَّ بعض أنواع النمل يعمل على تربيتها، وذلك بنقل العشرات منها إلى القرى والبيوت النملية عندما تكون شروط البيئة غير ملائمة، وإعادتها بعد ذلك إلى أماكنها.
وقد نستغرب، إذا علمنا، أنَّ بعض أنواع النمل تشن الحروب في ما بينها، وهي تستعمل أسلحة ذاتية، عبارة عن فكَّين قويين عند النملة، وسم تفرزه غدة في البطن... وقد يحدث، أن تعود العاملات، في أثناء الحرب، بأسيراتٍ من الأعداء تحتفظ بها في قريتها كرقيقات... ومن الغريب أن هناك نمالًا ـــــــ عندما يكون القتال على أشدّه ــــــ لا تستطيع مقاومة تضرعات العدو الجائع، فتمدُّه بحاجته من الطعام، حتى يشبع، ثم يُستأنف القتال من جديد...
أما عن مشاعر النمل، فقد قررت دراسات بعض العلماء، أن الحُبَّ عند النمل يفوق بدرجات حرارة الحب عند البشر. يقول "موريس ماترلينك" في كتابه (عالم النمل) ما نصه: "يجدر ألَّا يغيب عن بالنا أن جميع الأعمال تُؤدّى في دنيا النمل في ظل الحب... إنَّ سر الحب كامنٌ في حب النمل المشترك ليرقاته، وتفانيه في رعايتها والمحافظة عليها... فإنَّ النملة الأم تحب يرقاتها حبًّا لا يوجد له مثيل في العالم... ولهذا فإنَّ الأم قد تضحّي بأي من أعضاء جسمها، لكنها لا تتخلى عن يرقتها، ومن ثم فهي تتابع طريقها محرومةً من بعض أعضائها، من أجل المحافظة على يرقتها أو حوريتها".
لقد دعا الإمام علي، سلام الله عليه، الناسَ للتَّأَمُّلِ والتفكرِ بالنملة فقال: "انظروا إلى النملةِ في صِغَر جثتها ولطافةِ هَيْئَتِها، كيف دبَّتْ على أرضها وَصَبَتْ على رزقها، تنقل الحبة إلى جحرها، وتُعِدُّهَا في مُسْتَقَرِّهَا. ولو فكرت في مجاري أكلها، في علوِّها وسفلها، وما في الجوف من شراسيف بطنها، وما في الرأس من عينها وأذنها، لقضيت من خلقها عجبًا، ولقيت في وصفها تعبًا"...
فتلك هي النملة، الدؤوب في سعيها، الحكيمة في تدبُّرها، الطيبة الطاهرة القلب في عدائها، المحبة القوية العاطفة في مشاعرها، تعيش في ممالك خاصة، تنظِّمها، وتُقيم دعائمها، حتى تبني مجتمعًا سويًّا، لا وجود فيه للفوضى والتنافر، بل تنظيم وتنسيق غاية في الإِتقان والإِحكام... فأين هذه الحشرة الضئيلة منك أيها الإِنسان؟... أين تنظيمها من فَوْضَاك، وتفانيها من أثرتك، وقناعتها من مطامعك؟!...
وعلى عكس النملة الطيبة، نجد الجرادة الضارّة... فهي حشرة ذات عينين حمراوَين، وحدقتين مضيئتين... سمعها خفيٌّ، وفمها سويٌّ، وحسُّها قويٌّ... وإنَّ لها نابين، بهما تقرض، ومنجلَين بهما تقص.
وإِنَّ الجراد لمن أشدِّ الحشرات ضررًا للإِنسان... فهو يعيش عادة أفرادًا منعزلة بعضها عن بعض، غير أنها ـــــــ لأسباب لا تزال مجهولة ـــــــ تتجمع بعشرات الملايين، بل ربما المليارات، في بعض السنين، وتنتقل طيرانًا بأسراب تحجب أشعة الشمس، فلا تحط على البراري والحقول، إلَّا وتأتي على كل ما فيها من أخضر العشب والشجر، ومن الحبّ والثمر، مخلِّفة وراءها الجوعَ والغلاء...
تلك بعض اللمحات الخاطفة عن عالم الحيوان، في أنواعٍ منه، مما توصَّل الإنسان إلى معرفته... وإنه لجدير بالإِنسان أن يتأمل في دقائق صنع هذه المخلوقات، وفي كيفية سعيها إلى رزقها وحماية وجودها، وكيف تتفاعل مع بيئاتها، لتشيع الجمالَ والسرور حينًا، ولتنشر الخوف والرعب من حولها، حينًا آخر... ويسأل: هل من خالق غير الله؟...
7 ـــــــ تكامل نظام الحياة على الأرض:
لم يعد خافيًا لدينا، بعد تلك الجولة التي قمنا بها، أن كل ما يحيط بالحياة على الأرض من أحوال وعوامل، وكل ما أنشئ عليها من كائنات حية، ومن جوامد، إنما يقوم وفق أنظمة دقيقة، وموازين مقدَّرة، وقوانين خاصة، تأتي جميعها لتوجد نوعًا من التكامل في نظام الحياة الشامل على الأرض، وفي بقاء هذه الحياة... فقد رأينا أن نسبة الأوكسيجين في الهواء، البالغة (21%) هي النسبة اللازمة لحياة كل حي... ورأينا كيف أن التفاعل الكيماوي العجيب ما بين المادة الخضراء في خلايا الأوراق، المسماة الكلوروفيل أو اليخضور، وضوء الشمس، هو عامل رئيسي من مقومات تلك الحياة... ورأينا كذلك كيف أن مياه البحار وحدها مالحة، وما عداها مياه عذبة، لاستمرار حياة الكائنات التي تعيش في البحار...
وهكذا فإنَّ كل ما على الأرض يتفاعل وفق القوانين التي حددت له، ويؤدي الدور الذي رسم له، وكأنه يعرف ما يقوم به، حتى ولو لم يكن من ذوي الإِدراك والتمييز... وما ذلك إلَّا لكي تتحقق في النتيجة، الإِرادة لإِنشاء الحياة...
وإذا كان دور النبات أن يبادل الإِنسان نسمة الحياة، فإِنَّ الحيوان أيضًا يأخذ من النبات، ومن الهواء والماء، مقومات حياته، حتى يمدَّ الإِنسان بمصادر الغذاء التي تحفظ له الحياة... وعلى ذلك نجد أنَّ الحيوانات اللبونة (آكلة الأعشاب) هي الأكثر نفعًا للإنسان، بل يأتي نفعها هذا في المرتبة العظمى... فهي تعطي الإِنسان الحليب، واللحم، والصوف، والوبر، والشعر، فضلًا عن انتفاعه بجلدها، وعظمها، وقرنها... ويقول العلماء إن الإنسان يحتاج ـــــــ من أجل حفظ حياته ـــــــ إلى أغذية تتألف من المواد البروتينية، والمواد الكربوهيدراتية، والمواد الدهنية، والأملاح المعدنية والفيتامينات... وذكروا أن البروتينات، منها الكاملة ومنها الناقصة، وأن أعظم مصدر للبروتينات الكاملة هو اللحم واللبن، وأن المواد الدهنية هي أغنى الأغذية في إنتاج الحرارة، وأن من أعظم مصادرها: السمن، والزبدة، واللبن واللحم، وأما المواد المعدنية فأول مصدر يذكرونه لها هو اللبن... وكذلك أهم أنواع الفيتامينات توجد في اللحم واللبن والخضار والفواكه... ويقول العلماء: إن الأنعام، هي وحدها، من بين جميع الحيوانات اللبونة، تنتج اللبن باستمرار، وبكثرة عظيمة، ولو قُطع عنها رضيعُها. وهي وحدها التي تجمع بين هذه الخصائص، والقدرة على الحرث والحمل والجرّ...
وهكذا فإنَّ الأنعام قد جعلت آكلةً للأعشاب، حتى تكون مخزنًا دائمًا، ومصنعًا دائبًا للحليب والسمن واللحم، وكلها من المواد البروتينية... وقد كان المتوقَّع، عقلًا، أن تنتج هذه الأنعام، التي كلُّ غذائها من العشب (وهو عبارة عن كربون) مادة كربوهيدراتية، نشوية، سكّرية، لا أن تنتج مادة كلها بروتينات... أو ليس في ذلك أسرار لا يستطيع الإنسان أن يتحكم بها، مثلما لا يستطيع أن يتحكم في تركيب الماء والهواء، ولا في التمثيل الكلوروفيلي، ولا في عذوبة مياه اليابسة أو ملوحة مياه البحر؟. ولقد فرضت عليه هذه الأشياء بقوانينها فرضًا، ولكن لمصلحته ومصلحة الكائنات الحية الأخرى. ولذا كان جلُّ اهتمامه أن يكتشف وجودها، وتراكيبها... أما أن يغيِّر من نظامها الذي وجدت فيه، فإِنه عاجزُ عن ذلك، لأنَّ في خلقها على النحو الذي هي فيه، إرادةً فوق إرادة الإِنسان، وقدرة فوق قدرته، هما إرادة الله تعالى وقدرته.
8 ـــــــ صورة الكون:

كان روجر بيكون، قد بيَّن، منذ القرن الثالث عشر، أن صناعة أداة تمدُّ في قوة العين البشرية، تمكِّن من تقريب النجوم إلينا، وتُرينا إيَّاها بشكل واضحٍ ودقيق... ذلك أن الإنسان يعتمد على حواسه الخمس في استكشاف العالم. فإحساس الضياء والظلام أداته العين، وإحساس الحرارة والبرودة أداته أطراف الأعصاب المبثوثة في الجلد، وإحساس الصوت أداته الأذن، وإحساس الشم والذوق في أعصاب الأنف واللسان... وإنَّ طريقة العين في الإِبصار تقوم على تأثرها بطائفة من أمواج الضوء، تنعكس عن سطوح الأجسام وعلى الأجهزة العجيبة في العين، وبعض مراكز المخ التي تتبين الصور المرتسمة وتدركها...
وباستعمال الأجهزة المتطوّرة أمكن تمييز تكتلات من المجرات، كبيرة العدد إلى حد عجيب، كما أمكن تمييز مجرات منعزلة تقع على مسافات هي من البعد بحيث استلزم لها إيجاد وحدة خاصة تتكون من عدة سنوات ضوئية، وهي الوحدة التي سمِّيت "فرسخ نجمي"، والتي تتكون من المسافة التي يقطعها الضوء في (3,26) سنوات...
وقد بدَّلت هذه الأجهزة النظريات القديمة كافة، تلك التي كانت تُعدّ مركزًا للكون، وأحلت محلّها حقيقة وجود الأرض، وهي أنها لا تعدو جزءًا صغيرًا من نظام شمسي كبير، وأن هذا النظام كله لا يزيد على نقطة صغيرة ضائعة في وسط كونٍ فسيحٍ، واسع الآفاق.
وقد حَصَلَ ذلك عندما أثبتت اكتشافات (جاليليو وكيبلر ونيوتن) كم هي كبيرة قوة الشمس بالنسبة إلى الأرض، وما أعلنه (جيوردانو برونو) من أن النجوم التي نراها في القبة التي تظلنا إن هي إلَّا أَجرام تشبه الأرض والقمر والكواكب الأخرى... أما عن مواقع النجوم فقد ظن العلماء في البدء أنها ثوابت، لكنهم عادوا وأكدوا أنها كلها تدور وتجري لمستقرٍ لها، في مجريين مختلفين، متداخل أحدهما في الآخر كأنهما فوجان من النحل مختلطان. لكن هذا الجري يتم ويستمر في مواقع ومدارات لا تتبدل ولا تتغير بنسبة بعضها إلى بعض، وقد كان على هذا منذ خلقه الله وسيبقى كذلك على كرّ الدهور...
وبفعل تطور آلات الرصد، لم تعد الشمس إلَّا مجرد وحدة بسيطة في الفلك الكبير... ثم جاءَ دور اكتشاف المجرَّات، وبانت "مجرة درب التبان" التي ينتمي إليها النظام الشمسي، وكأنها هي الكون، نظرًا إلى كبرها واتِّساعها، إلَّا إنه لم يمرَّ على اكتشافها إلَّا بضع سنوات، حتى ظهرت حقيقة صغرها بالنسبة إلى الكون، وظهر كم هو صغير "درب التبان" في مملكة المجرات الهائلة...
ولكي نقف على ماهية مجرة من المجرات، يمكن أن نلجأ إلى التصوُّر، فنتخيَّل أننا في غابة كثيفة من الأشجار، شاسعة المساحة، ولا يستطيع النظر أن يحدَّ أطرافها. وهكذا فإننا ونحن نتجوَّل في الغابة، نرى أشجارًا في كل اتجاه، ومهما كانت قوة المنظار الذي نستعمله، فإنَّ الأشجار تبدو لنا أكبر وأكبر لكنّ عددها لا يزيد... ويجد العلماء أنفسهم في حالة متشابهة، فالنجوم تؤلف غابة كثيفة. وإذا نظرنا إلى السماء من فوقنا أمكننا أن نرى بالعين المجردة أكثر من خمسة آلاف نجمة في فلك نصفَي الكرة... في حين أننا لو استعملنا المنظار، فإنَّ أبسط نوع منه يكشف لنا عن مليونين ومئتين وسبعين ألف نجمة... وآخر التقديرات تعطي للغابة أكثر من أربعين مليار نجمة... وهكذا وبمثل هذا التشبيه، اعتبرنا أن المجرة هي غابة الأشجار، وأن كل نجمة فيها شجرة... وأن شمسنا تُعدّ بمنزلة شجرة في هذه الغابة، وهي ليست شجرة عملاقة، ولا شجرة متواضعة... كما أنها ليست موجودة في وسط الغابة تمامًا، بل في منتصف الطريق بين الحافة والوسط، وعلى بعد عشرين ألف سنة ضوئية من هذا الوسط...
ولكي ندرك ما نحن بصدده، علينا أن نتفحص السماء في إحدى الأمسيات الصافية، ولكن قبل أن يظهر القمر، وعندها سوف نرى شيئًا يشبه سحابة رقيقة بيضاء، تمتد من طرف إلى طرف آخر، وهذه السحابة ليست سوى جزء من مجرة "درب التبان"، المجرة تنتمي إليها شمسنا...
وإنَّ من يتفحّص مجرّة "درب التبانة" هذه، يلاحظ أن هناك سُحُبًا نجميةً متتاليةً تتألف منها هذه المجرَّة، وتبدو تلك السّحب متلاصقة بعضها ببعض. وقد كشفت آلات الرصد الضخمة أنَّها تأخذ شكل كتلة هائلة من غبار دقيق، كل "ذرة" منها بمنزلة شمس... فلنتصوَّر إذًا كم يجب أن يكون عدد هذه النجوم هائلًا، وبُعدها سحيقًا، حتى تظهر لنا مجموعاتها على شكل سحبٍ غير واضحة المعالم... إنَّ ذلك الاتساع الهائل لمجرَّة درب التبان، قد دلَّت عليه الحسابات الضوئية، وعلى الرغم من ذلك فإن علامة استفهام تبقى حول مجرتنا هذه، بملياراتها الأربعين من النجوم الساطعة، وملياراتها الكثيرة الأخرى من النجوم التي انطفأت، ومليارات مليارات الأطنان من الغبار والفضلات الكونية... والحقيقة أن ليس هناك شيء ثابت وأخير بالنسبة إليها، وإن كان العلماء يقدِّرون بأن حجم كتلتها أكبر بما يقدّر بين 150 مليارًا و300 مليار مرة من حجم كتلة الشمس...
إن هذه الاكتشافات في علم الفلك، قد تمَّت كما قلنا، بفعل آلات الرصد، التي تَمَّ صنعها وتطورها منذ قرون...
ولقد أظهرت الصور الفوتوغرافية التي التقطها مرصد "جبل بالومار" في كاليفورنيا، أن هنالك عددًا من المجرَّات تختلف بين بعيدة وأكثر بُعدًا، وكبيرة وأكثر كِبَرًا؛ بعضها ذو فروع حلزونية، وبعضها من دون فروع... أما القريبة منها فقد استطاع العلماء درسها بفضل النجوم النابضة الموجودة فيها، وهذه تبدو كنجوم ضئيلة جدًّا، لا تضيء ألَّا كشمعة على بعد عدة آلاف من الكيلومترات، مع أنها أكثر تألُّقًا من الشمس بآلاف وآلاف المرات...
وعندما تضيع معالم هذه النجوم النابضة في أثناء التوغل في أعماق السماء، يمكن للعلماء، لحسن الحظ، الاعتماد على نجوم أخرى هائلة التألُّق، تعمل كمنارات في السماء تهديهم، وتجعلهم يتحسسون طريقهم إلى المجرَّات... ومع ذلك فحين يزداد التوغل في السماء، فإن معالم هذه المناورات تضيع بدورها، وتتحول المجرَّات نفسُها إلى مجرد غمامة رقيقة بيضاء...
وليست مجرتنا "درب التبانة" التي تنتمي إليها شمسنا سوى جزء صغير جدًّا في محيط الفضاء الكوني الهائل، ذلك المحيط الذي لا يحده في الاتساع شيء، إلى حدٍّ تبدو معه المسافة من مجرة إلى أخرى شيئًا لا يذكر... وفي هذا المحيط المترامي الأطراف تنتشر المجرَّات كبقع ضئيلة لا تكاد ترى، من خلال آلات الرصد الضخمة، إلَّا بصعوبة.
أما عدد المجرات التي أمكن الحصول على صور فوتوغرافية لها فقد بلغ نحو (60) مليون مجرة منتشرة في كل مكان تحت قبة الفلك. ولقد تمكن العلماء من سبر غور الكون حتى مسافة مليار سنة ضوئية. بل إنهم نجحوا في الحصول على صور فوتوغرافية توسع حدود الكون المنظور إلى ملياري سنة ضوئية... وحتى الآن يقول علماء الفلك بأنه لا يمكنهم إعطاء أرقام نهائية عن أبعاد الكون الحقيقية، وعن كتلته، وعن عمره. وصدق الله تعالى حيث يقول: {والسماء بنيناها بأييد وإنا لموسعون} (الذاريات: 47).
9 ـــــــ تأملات في الإنسان:
إنَّ الإِنسان، كان ولا يزال، هو المحور، وهو رأس المال الأكبر والأوفر... فكل العلوم، والفنون، وكل الأهداف التي رُسمت، والمؤسسات التي أُوجدت، قال العلماءُ إنها يجب أن تكون في خدمة الإِنسان، وفي سبيل رقيه، وتوفير السعادة له...
ولسنا في معرض مناقشة هذه "الأخلاقية"، في مدى مطابقتها للواقع أو انعدام هذه المطابقة، لكنَّنا ننظر إلى الإِنسان، من حيث هو كائن حي، ونتأمَّل في خَلْقه فنجد ما يبعث لدى أهل العلم الدهشة...
وعلى هذا فإنَّ من يتابع، تحت المجهر، الخلية وتكوينها، وحركتها وانقسامها، يرى في أي أدوار عجيبة تمرُّ... إنه يرى تطور الجنين داخل الرحم... ويتابع نموَّه وتحوُّره وتغيره إلى مراحل مختلفة... من خلية ملقحة لا تُرى، إلى بعض خلايا انقسمت، إلى مضغة غير واضحة، كالعلق شكلًا تكون عالقةً بالرحم، ثم إلى شكل لا يمتّ إلى الإِنسان بصِلة... لكنَّ هذا الشكل يعود ويعتدل حتى يصير كائنًا بشريًّا... ويأخذ العجبُ مَنْ يتابع خلْقَ هذا الكائن البشريّ في مراحله المختلفة، مما يراه، في أثناء المرور في تلك المراحل، من مصادر تغذيته، وتنفسه، وتخلّق أعضائه وأجهزته، حتى تكون له العين والأذن، والأنف والفم، والقلب والرئتان، والكليتان والكبد والأمعاء، واللحم والعظم، بل وسائر الأعضاء والأجهزة الأخرى...
ومما يستوقف المدقِّق، أن الأجنَّة وهي في الرحم تكون متشابهة، ثم يبدأ الاختلاف يظهر، فتحدد صورة كل مخلوق؛ فإذا بكل الملايين السابقة والحالية واللاحقة، لا يماثل أحدها الآخر، شكلًا ونفسًا على الإِطلاق، بل تظل هنالك فوارق كثيرة تنبئ عن شخصية كل فرد، خاصةٌ به، وتبقى سماتٌ مميزة له عن باقي أبناء جنسه... وفي سير حياة هذا الكائن البشري، تظهر أعظم الروائع في دقة الأنظمة المتعلقة بكيفية تنفسه، وكيفية أكله ومضغه وبلْعه، وكيفية هضمه وامتصاص غذائه، ثم إخراج فضلاته، وكيفية تدفئة جسده، والمقايضة عليها بوقود جديد كلما نفد... أما العظمة في الإِحكام فتكمن في تدفق الدم في الشرايين والأوردة والأوعية الشعرية بوساطة القلب، حتى ليخال الإِنسانُ أن هذا القلب مضخةٌ عجيبة، ذات بيوت مقسمة، وصمامات محكمة، تعمر دهرًا كاملًا وهي تنبض بدورة دموية مستمرة، تذهب فيها الجداول الحمراء بالدم النظيف المصفَّى إلى أقصى أطراف الجسد، وترجع الجداول الزرقاء به، مملوءة بالسواقط والنفايات والأشلاء لتقذفها في مصفاة، بل في محرقة هائلة (الرئتين) تنقيِّه وتطهِّره، وتحمِّله الوقود الجديد، ليرجع إلى المضخّة التي تدفعه ثانية في الجسد، وهكذا دواليك، لتستمر الحياة طوال العمر لا تقف فيه لحظة واحدة...
وإنَّ التأمل لجدير أيضًا في تحويل الإِنسان غذاءه في كبده، وفي تعديله وخزنه... أما الغدد الهرمونية ذات الإفرازات الكيماوية السريَّة التي تتحكم بالأعصاب والعضلات والعظام والعقل والقلب والشرايين والجنس، فحدِّث عنها ولا حرج... وليس أقل منها تلك الخلايا في جسم الإنسان التي لا ترى بالعين المجردة، والتي تزيد على الملايين، وكيف أنها تنتظم جماعات، لتصنع كل جماعة جانبًا من الجسم، وكأنها تعرف الدور الذي يجب عليها أن تقوم به في رواية الحياة...
وهلَّا تفكَّرنا بماهية العقل عند الكائن البشري، الذي حارت كل العقول، وما زالت حائرة، في أسراره؟... كيف يدرك، كيف يحفظ، كيف يختزن ملايين وملايين المعارف، وأين يختزنها، وكيف يستخرجها من مخازنها عند الحاجة، وكيف يتذكر، وكيف يقارن، وكيف يعلِّل، وكيف يستنتج، وكيف يحكم؟!... بل ما المادة المخية الصغيرة المحتوية على أكثر من (12) مليون خلية تتصل إحداها بالأخرى بليف عصبي، ذي فروع لا تُعدُّ ولا تحصى، فتعمل بدقة عجيبة، وتناسق مدهش، كأنها خلية واحدة؟!...
والجهاز العصبي، والتنسيق الآلي الكيميائي العصبي، إنهما أكبر من أن يحدَّهما وصف، في كل ما يقومان به لتسيير آلة الجسم، بل وكل عضو أو غدة أو خلية أو شعيرة في هذا الجسم...
تأملات وتأملات، في تكوين هذا الكائن البشري، وفي حياته البشرية والإِنسانية، فهل أدركنا أنّ الغاية من هذه التأملات، هي التوصل إلى المعرفة اليقينية بأن الخلق لم يكن عبثًا؟!...


صفوة القول
إن الجولة في مسار الاكتشافات العلمية، التي قمنا بها، قد أثبتت أن الإنسان حقق كثيرًا من الإِنجازات العظيمة من خلال نظرته العميقة إلى الأشياء، والتي تمكن بسببها من إعطاء أحكام عميقة على هذه الأشياء...
فالإنجازات التي حققتها تلك النظرة العميقة إلى النبات لا يمكن أن تُعدَّ، فمنها على سبيل المثال:
ـــــــ العقاقير والأدوية لحماية الصحة وتلافي الآلام.
ـــــــ الصباغات الزاهية، والألوان المتنوعة والمتعددة...
ـــــــ إنتاج السكريات والنشويات وغيرها من المواد الغذائية.
ـــــــ معرفة خصائص النباتات وأنواعها وأجناسها.
ومثل ذلك فيما يتعلق بالحيوانات، فقد مكّنت النظرة العميقة الإنسان من معرفة ما طبعت عليه من غرائز وقدرات وخاصيات... كما مكَّنته من معرفة حياة هذه الحيوانات، وبالتالي الإِفادة منها في مختلف الطرق إنْ بالنسبة إلى الترفيه والتعرف إليها عن كثب بإقامة السيرك وبناء حديقة للحيوانات، وإنْ بالنسبة إلى التغذية، أو الزراعة والصناعة أو إجراء الاختبارات، أو التعلُّم، في ميادين شتى كبناء الجسور، أو الغوص في البحار، أو الطيران في الهواء، إلى غير ذلك من الأساليب والوسائل التي يصعب على الإنسان حصرها.
أما أهمية الاكتشافات العلمية في الفضاء والكون، فتجلَّت نتائجُها بما قدَّمت للإِنسان من معلومات وافرة عن طاقة الشمس والجاذبية، ومعرفة الأحوال الجوية، وتركيب الماء والهواء، والتي من خلالها أمكنه أن يهبط على سطح القمر، وأن يرسل مركبات إلى الكواكب السيارة، وأن يبثَّ الأقمار الصناعية لنقل الصور والأصوات من مختلف بقاع الأرض، مع ما في ذلك من تسهيل للمبادلات والمعاملات، وتقريب للمسافات، واختصار للوقت...
هذا فضلًا عما كشفت عنه الأبحاث الجيولوجية في باطن الأرض، أو في أعماق البحار والمحيطات وما أعطت الإِنسان من معارف حول التغيرات التي قد تطرأ على سطح الأرض وما يترتب عليها من نتائج تؤثر في سير الحياة...
وهكذا فإِنه انطلاقًا من النظرة العميقة إلى الأشياء أمكننا أن نحقق منافع جمة ومهمة جدًّا لشؤوننا الحياتية، وتسهيل تسيير هذه الشؤون، فضلًا عما عوّدتنا عليه، وقادتنا إليه من عمق التفكير المؤدي إلى سلامة التصور.


المصادر
1 الخاصيَّة: هي ما يعطيه الشيء نفسه وينجم عنه كالرؤية في العين، والقطع في السكين، والإحراق في النار. فيقال: خاصيَّة العين الرؤية، وخاصيَّة السكين القطع، وخاصيَّة النار الإحراق... ومن هنا فإنَّ أهمَّ خاصيَّة لدى الإنسان هي التمييز الذي يمكن من إصدار الحكم على الأشياء.
2 الفيجن: نوع من البنات.
3 سميت الطاقة الحيوية لأنها هي الدافعة لحركة الإنسان واستمراريته في الحياة.
مقدمة الكتاب
القسمُ الأوّل
القِسم الثاني
القِسم الثالِث
القسم الرابع
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢