نبذة عن حياة الكاتب
حركة التاريخ في المفهوم الإسلامي

الفصل الأول: مَعنى حَركة التَاريخ
ما الحركة؟
ــــــ إنها ضد السكون. وقد أعطاها القدماء تعريفات عدة... ومن هذه التعريفات أن «الحركة هي شغل الشيء حيّزًا بعد أن كان في حيّز آخر. أو هي كونان في آنين ومكانين، بخلاف السكون الذي هو كونان في آنين ومكان واحد».
والحركة عند القدماء على أقسام، منها:
ــــــ الحركة في الكم، أي انتقال الجسم من كمية إلى أخرى كالنمو والذبول.
ـــــــ الحركة في الكيف، أي انتقال الجسم من كيفية إلى أخرى كتسخّن الماء وتبرّده.
ـــــــ الحركة في الـــــــ «أين»، أي انتقال الجسم من مكان إلى آخر، وتسمى نقلة. والمتكلمون حين كانوا يطلقون لفظ الحركة، كانوا يعنون به «الحركة الأينية» فقط.
ـــــــ الحركة في الوضع، وهي الحركة المستديرة التي ينتقل بها الجسم من وضع إلى آخر، كما في حركة حجر الرَّحى، أو حركة الكرة في مكانها أو في مدارها.
أما في التعريف الحديث فإن الحركة تطلق على التغيّر المتصل الذي يطرأ على جميع الأجسام والأوضاع في المكان، وتبعيَّتها للزمان، فلا يشغل الجسم المتحرك مكانين في زمان واحد، وهو يتحرك بسرعة معيّنة تكون عادة النسبة بين المسافة التي يقطعها والزمان اللازم لقطعها.
والحركة أيضًا تطلق، مجازًا، على حركة النفس في الانفعالات والميول. فالشهوات والكراهية، والتَّقرُّبُ والنُّفور مثلًا هي حركات للنفس، لا من حيث تأثيرها في انتقال النفس من مكان إلى آخر كما ينتقل الجسم، بل من حيث تأثيرها في اتحاد النفس بالأشياء أو انفصالها عنها... وقد يطلق لفظ الحركة في مجال النفس على التصورات. ومن قبيل ذلك الحركة الجدلية التي هي انتقال الذهن من تصور إلى آخر بحسب المشاركة، أو التضمّن، أو التقابل...
هذه بعض مدلولات الحركة، فما التاريخ؟
التاريخ في اللغة يعني: تعريف الوقت. وتاريخ الشيء: وقته وغايته.
أما التاريخ ـــــــ في الاصطلاح ـــــــ فهو العلم الذي يبحث في الوقائع والأحداث الماضية... وهنا قد يقتصر دور بعض المؤرخين على ذكر أو سرد الوقائع والأخبار من دون ذكر أسبابها. وقد يقوم بعضهم بتمحيص الأخبار وتعليل الوقائع. فإذا كان همّ المؤرخ تمحيص الأخبار ونقد الوثائق وتفنيد الحوادث كان تاريخه انتقاديًّا... وإذا استخرج من الأحوال الماضية عبرًا كان تاريخه أخلاقيًّا... وإذا انصرفت عنايته إلى أخبار الدول وعلاقاتها بعضها ببعض كان تاريخه سياسيًّا... وإذا عمد إلى تعليل الوقائع لمعرفة كيفية حدوثها، وأسباب نشوئها، كان تاريخه فلسفيًّا...
وعلى الرغم من هذا التعدّد في أنواع العلم التاريخي فإنّ الحدث التاريخي، مهما كان نوعه، لا يمكن أن تصنعه قوة واحدة، ولا أن يصدر عن طرف واحد، لأن أيّ حركة تاريخية يجب أن تكون نتاجًا مشتركًا بين أوامر الله تعالى ومباشرة الإنسان للعمل بعد تفهمه للسنن الكونية التي سنّها الله سبحانه وتعالى بما فيها الزمن. وإن إغفال أي من هذه العناصر الأساسية إنما هو جهل بالأسس الحقيقية لحركة التاريخ.
والتاريخ في حقيقته ليس إلَّا ما دل على آثار الإنسان، كفردٍ أو كأمة، إما على شكل مآثر أو على شكل مساوئ. كما أن المأثرة أو السيئة ليست إلّا ما حفل به عمل الفرد أو الأمة أو الجنس البشري على طول امتداد وجوده الأرضي، فكانت من جراء ذلك تلك الحركة المتواصلة في كل شيء...
والقرآن الكريم يتناول الحركة الدائمة للإنسان والنتائج المترتبة عليها، سواء صدرت عن الفرد أو عن الجماعة. ويعبِّر عن ذلك بكلمة واحدة هي: «الكتاب» كما في قوله تعالى: {اقْرَأْ كَتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا} (سورة الإسراء: الآية 14)، وقوله تعالى: {وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} (سورة الكهف: الآية 49).
وسواء الآية الأولى التي تدلُّ على ثمرة العمل الفردي الواحد، أو الآية الثانية التي تدل على ثمرة العمل الجماعي، فكلتاهما تتعلقان بالإنسان، وبأفعال الإنسان. وهذه الأفعال، وما ينجم عنها من آثار وما يتصل بها، هي التي يتكوَّن منها تاريخ البشرية. فيكون الإنسان قد شارك مشاركة فعلية وفاعلة في إنشاء حركة التاريخ ومسارها... بل هناك ما هو أبعد من ذلك، إذ نجد أن كل نشاط البشر وأعمالهم، وجهدهم وجزائهم، وكسبهم وحسابهم (التي تمثل في مجموعها وجوهًا متعددة لحركة التاريخ) مرتبطة كلها أشد الارتباط بالنواميس الكونية الكبرى، ومحكومة لها في مجالات كثيرة، كما في حالة النواميس التي تحكم حركة الشمس والقمر، والليل والنهار، أو كما في حالة النبتة التي تتحرَّك وتتفاعل بتأثير الهواء والماء والتراب وغيرها من العوامل الأخرى للحياة... فهذه النواميس الكونية التي ترتبط بها أفعال الإنسان، قد أوتيت أنظمة دقيقة جعلتها قائمة على قواعد وسنن تحكمها إرادة الخالق لأنه الصانع العظيم والمدبر الحكيم. وقد سارت أمور هذا الكون على ذلك النظام الذي وضع لها، والذي لا يصيبه الخلل ولا يدركه العطل، كما أنّ حركة التاريخ قد انضوت إلى مسار هذا النظام أو ذاك لتعبِّر عن أفعال الإنسان في مختلف مجالات وجوده...


الحركة والخاصيّة:
إن القانون الذي سنَّهُ اللهُ تعالى، يبقى هو الإطار العام للأشياء التي يحكمها، في حين أن كل شيء من هذه الأشياء يتحرك وفقًا للخاصيَّة التي أوجدها الله تعالى فيه، كون الخاصية هي ما ينتجه الشيء نفسه، وأن كل شيء يجب أن تكون له خاصيته. ومن هنا، مثلًا، كانت خاصية العين أن تنتج الرؤية، وخاصية الأذن أن تنتج السمع، وخاصية النار أن تنتج الإحراق، وخاصية النور أن تبدّد الظلمة {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً} (سورة الإسراء: الآية 12).
إذن فالخاصيات لا يمكن أن تتحقق إلَّا بقوانين. وهذه القوانين ليست من صنع الإنسان، بل هي قوانين سنَّها الله سبحانه ولا مبدّل لها إلَّا بأمره. فعندما شاء الله سبحانه أن يسلب النار خاصيتها جعلها بردًا وسلامًا على إبراهيم عليه السلام، وعندما شاء الله، أن يردّ للعين خاصيتها أعاد يعقوب عليه السلام مبصرًا لمـــّــــا أُلقي على وجهه قميص يوسف عليه السلام. وهكذا بالنسبة إلى جميع القوانين التي هي في حقيقتها من سنن الله تعالى: لا مبدِّل لها، ولا محوِّل لها عن مسارها إلَّا أن يشاء الله. وبذلك اقتضى أن تكون كل حركة تاريخية محكومة بمشيئة الله تعالى أولًا، وبمباشرة الإنسان للعمل ثانيًا مع خضوع هذه المباشرة لتلك القوانين التي سنها الله تعالى في كل صغيرة وكبيرة سواء في الكون بأسره أو في الوجود البشري برمّته.
وإن مهمّة الإنسان تقتصر على مباشرة العمل، وأن يجمع في هذه المباشرة كلَّ أسباب النجاح وشروطه، مراعيًا السنن التي قدّرها الله سبحانه لإنجاح هذا العمل. أمّا النجاح نفسه، أي الثمرة المرجوّة من هذا العمل، فلا يستطيع الإنسان أن يضمن الحصول عليها لأنها من تقدير الله عزّ وعلا. إن الفلاح الذي يلقي البذور في الأرض قد عرف بعض سنن الكون من حوله وفهم حركتها وتأثيرها، فتراه يختار وقتًا معيّنًا مؤاتيًا للقيام بعمله. إلّا إن الله وحده هو الذي ينبتُ الزرع ويتعهّده بالنماء والخصب، ولو شاء سبحانه لما نبت زرعُ ولا أينع... قال تعالى: {أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُم مِّنَ السَّمَاءِ مَاء فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ} (سورة النمل: الآية 60).
النظرة القرآنية لحركة التاريخ:
إن القرآن الكريم يُعدّ التاريخ وحدة زمنية لا ينفصل فيها الماضي عن الحاضر أو المستقبل. فالانتقال السريع، في عرض القرآن، بين الماضي والمستقبل، أو بين الحاضر والماضي، أو بين المستقبل والحاضر، إنما يوضّح حرص القرآن على إزالة الحدود التي تفصل بين الزمن كونه وحدة حيوية متصلة، فتغدو حركة التاريخ التي يتسع لها الكون، حركةً واحدة تبدأ يوم خلق الله السماوات والأرض وتستمرُّ متجهةً إلى يوم الحساب.
لذلك ومن خلال القرآن الكريم بالذات يمكن أن تُعدّ حركة التاريخ بأنها تعبير عن إرادة الله تعالى. وهي منبثقة عن قدرته المطلقة، وعلمه اللامتناهي الذي وسع كلَّ شيء، وعن أوامره التي تصنع الوقائع التاريخية وتضعها في مكانها المرسوم من خارطة التاريخ البشري والكوني على السواء. ومن هنا كانت نظرة القرآن إلى الأحداث نظرة واقعية شاملة في امتداداتها الزمنية ماضيًا وحاضرًا ومستقبلًا، أي فيما كانت عليه، وما هي عليه، وما سوف تكون عليه...
وتكتسب حركة التاريخ أهميتها في القرآن الكريم ليس بإحاطتها لوقائع التاريخ بأبعادها الزمنية فحسب، بل ببعدها الذي يغور في أعماق النفس البشرية فيلامس فطرة الإنسان وتركيبه الذاتي، والحركة الدائمة في كيانه الباطني، ثم يمتد إلى نموِّ مداركه وقوة أحاسيسه، وإرادته المسبقة، وما تؤول إليه هذه جميعًا من معطيات حتى تعطي حركة التاريخ أبعادها الحقيقية وتجعلها منصهرة في العلاقات الشاملة مع المصير المرسوم للكون والحياة والإنسان.
وإذا كان القرآن الكريم يعبّر عن السنن التي تسيّر عملية التاريخ، فما على الإنسان إلا أن يعي تلك السنن حتى يدرك ماهية حركة التاريخ، ويفيد منها ليكون له دوره الفاعل والمؤثر تعبيرًا عن وجوده الإنساني.
الساحة التاريخية:
من هنا يمكن القول بأن سنن التاريخ هي تلك الضوابط أو القوانين التي تتحكم في عملية التاريخ، وتنشئ ما يُسمى بالساحة التاريخية التي تكون لها ضوابطها وقوانينها مثل سائر الساحات الكونية الأخرى: الفيزيائية والكيميائية والفلكية والحيوانية والنباتية إلخ...
والمقصود بالساحة التاريخية تلك الساحة التي تحتوي على جميع الحوادث والقضايا التي يهتم بها المؤرخون ويسجلونها في كتبهم. ولكن هل إن كل الحوادث والقضايا التي يرصدها أو يسجلها المؤرخون والتي تكون داخلة عادة في نطاق مهمتهم التاريخية والتسجيلية، محكومة بالسنن التاريخية ذات الطابع النوعي المتميز من سنن بقية حدود الكون والطبيعة، أو أن جزءًا معينًا من تلك الحوادث والقضايا هو الذي تحكمه سنن التاريخ؟
في الواقع نرى أن جزءًا معينًا من هذه الحوادث والقضايا هو الذي تحكمه سنن التاريخ، لأن هنالك حوادث لا تخضع لتلك السنن، بل تنطبق عليها القوانين الفيزيولوجية أو الفيزيائية أو قوانين الحياة أو أي قوانين أخرى عائدة إلى مختلف الساحات الكونية الأخرى.
فمثلًا: موت أبي طالب عم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وموت خديجة أم المؤمنين، في سنة واحدة معينة، يشكلان حادثة مهمة في التاريخ الإسلامي، وتدخل في نطاق ضبط المؤرخين. وعلى الرغم من ذلك فإنها كانت محكومة بقوانين الحياة التي فرضت الموت بسبب العجز أو التقدم في السنِّ، أي إن موتهما كان محكومًا بقوانين فيزيولوجية، هي في الأصل من صنع الله تعالى، ولم يكن قطّ محكومًا بسنّة تاريخية من السنن التي تنشئ الساحات التاريخية.
وبخلاف ذلك حادثة موت علي بن أبي طالب ـــــــ كرَّم الله وجهه ـــــــ على يد اللعين ابن ملجم الذي أقدم على ضربه بالسيف وهو يؤدي صلاة الصبح في مسجد الكوفة... فبمقتل الخليفة الإمام عليّ، الذي كان قد خرج لوأد الفتنة وجمع شمل المسلمين، استشرت هذه الفتنة، واستفحل أمرها، مما أثر تأثيرًا كبيرًا في مجرى التاريخ الإسلامي. وبسبب هذه الفتنة دبّ التفسخ في صفوف المسلمين، وعمّت إساءة التطبيق لأحكام الإسلام. بل إن آثارها ظلّت تتفاعل حتى أوصلت المسلمين إلى أن يفترقوا شيعًا فظهرت فرق إسلامية كثيرة قد تكون هي الفرق التي عناها حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «إن اليهود افترقت على إحدى وسبعين فرقة، وإن النصارى افترقت على اثنتين وسبعين فرقة، وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا فرقة واحدة». قالوا: ومن هم يا رسول الله؟ قال: «ما أنا عليه وأصحابي»...
من أجل ذلك كله فإن حادثة اغتيال علي بن أبي طالب عليه السلام تُعدّ محكومة بسنّة من سنن التاريخ، لأنها نجمت مباشرة عن فعل الإنسان، وكان لها تأثيرها في مسار الأمة الإسلامية.
وهذا لا يعني أن الحادثة التاريخية ليس لها تأثير. فقد يكون تأثيرها كبيرًا جدًّا إذا كانت ذات أهميةٍ كبيرة. وقد لا تكون في عداد ضبط المؤرخين نظرًا إلى عدم أهميتها، سلبًا كانت أو إيجابًا، على إنسانٍ فردٍ وقعت أو على مجموعة أُناس عاشوا مراحلها.


القرآن الكريم حدَّد الإطار العام لسنن التاريخ:
التاريخُ، كما أشرنا، علمٌ مثلُ سائر العلوم، وله قوانينه الخاصةُ به.
والقرآن الكريم عندما يعالجُ حركةَ التاريخ، فإنه يبيّن لنا السننَ التاريخيةَ التي تعالج قضايا الإنسان وارتباطه بالحياة والكون. فهو إذًا ليس كتاب علم، بل كتابٌ أنزله الله تعالى على قلب سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم لإثباتِ قضايا ثلاثٍ رئيسية هي: حاكميةٌ الله تعالى في الكون، ومنه الأرضُ وإنسانُها، وشريعتُه ومنهجُه الإلهيان. وهدفه أن يبحثَ هذه القضايا على حقيقتها وأن يثبتَها في نفوس الناس، وأن يزيلَ كلَّ المعتقدات والمفاهيم البالية التي تشوّه تلك القضايا أو تبعدها عن حقيقتها. فهو إذًا كتابٌ أُنزل ليُخرجَ الناسَ من ظلمات الجاهليات القديمة، والغشاءات أو المعميات الحديثة، إلى نور الهداية والحقيقة {ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ} (سورة البقرة: الآية 2). وبذلك فإن القرآنَ الكريمَ هو كتابُ هدايةٍ وتغييرٍ وليس كتابَ علومٍ واكتشافاتٍ واختراعات. وقد وردت فيه إشاراتٌ ومدلولاتٌ لحقائقَ في الميادينِ العلميةِ لا تعدّ ولا تحصى، لتضعَ أمام العقل البشري سبلَ الجهد والعمل، فيُعمل مواهبه وطاقاته في كل ميادين الحياة، وخصوصًا في ميادين العلم والمعرفة والتجربة. فهو إذًا طاقةٌ روحيةٌ موجِّهةٌ للإنسان، مفجِّرةٌ لقدراته، محركةٌ له في المسار الصحيح. من هنا تُعدّ السننُ التاريخيةُ أمرًا مرتبطًا أشدَّ الارتباط بوظيفة القرآن ككتابِ هدايةٍ وتغيير، بخلاف السنن الكونية الأخرى التي تتضمنها مختلف الساحاتِ الكونيةِ والتي يجب أن يعرفها الإنسان ليدركَ قدرةَ الله تعالى في خلقه، وعظمةَ هذا الخلق ودقة ضبطه وإحكامه.
عمليّة التغيير وجوانبها:
لعملية التغيير التي يريدها القرآن الكريم جانبان:
الجانب الأول: هو الجانبُ الإلهيُّ الربانيُّ. وهو جانبُ المحتوى والمضمون من حيثُ الأحكامُ والمناهجُ والتشريعات. وهذا الجانب يمثلُ العقيدةَ التي نزلت على جميع المرسلين والنبيين. وقد تمثلت في مختلف الشرائع الإلهية التي نزل آخرها على رسول الله محمد صلى الله عليه وآله وسلم. وهي الشريعة التي تصلح لمختلف الأزمان والعصور ومختلف البيئات والمجتمعات البشرية، لأنها أكبرُ من المحيط الذي نزلت فيه، ومن البيئة التي ظهرت فيها.
الجانب الثاني: هو الجانبُ البشريّ. بمعنى أن عملية التغيير التي تقع على الساحة التاريخية إنما تكون بالجهد البشريّ، ويكون القائمون بها أناسًا مثلَ سائر الناس، تتحكم فيهم إلى درجةٍ كبيرةٍ سنن التاريخ التي تتحكم في مختلف الجماعات والفئات على مر الزمن. وهكذا فإن عملية التغيير التي قام بها النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وصحابتُهُ الأبرارُ تجسدت في تلك الجماعة من الناس التي أرادت التغيير وعملت له. ودخلت في صراعٍ عقائديٍّ وسياسيٍّ وعسكريٍّ واقتصاديٍّ مع مختلف التيارات التي حاولت منع إحداث هذا التغيير.
إذًا فعملية التغيير التي يتضمنها ويريدها القرآنُ الكريمُ من حيث صلتها بالوحي والشريعة هي فوق التاريخ. وأما من حيث كونها عملًا بشريًّا مارسه النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم وأتباعُهُ فإنها تُعدّ عملًا تاريخيًّا تحكمه سننُ التاريخ، وتتحكم فيه الضوابطُ التي وضعها الله تعالى لتنظيم مختلف الظواهر في الساحة المسماة بالساحة التاريخية. ولهذا نرى أن القرآنَ الكريمَ عندما يتحدث عن الجانب الثاني من عملية التغيير، أي الجانب الإنسانيّ، عن أناس تتحكم بهم السنن كما تتحكم بغيرهم من الناس. ففي روايته لمعركة أُحُد يبين خسارة المسلمين أمام أعدائهم في تلك المعركة، ولم يقل بأن رسالة السماءِ هي التي خسرت، لأن رسالةَ السماء، وفقًا لمقاييس النصر والهزيمة بالمعنى الماديّ، لا تعزم، لكن الإنسان هو الذي يهزم، حتى ولو كان مجسِّدًا وحاملًا لرسالة السماء، لأن هذا الإنسان تتحكم فيه سنن التاريخ، وعليه أن يعيَ هذه السنن حتى يستخدمها في قضيته، وتكونَ النتيجة لصالحه...
ويذهب القرآن الكريم في معرض تلك الأمور إلى أبعدَ من ذلك، فهو يحذّر وينبّه أولئك المسلمين بأنهم إن لم يقوموا بدورهم التاريخيّ، ويتحملوا المسؤولية التي أناطها الله تعالى بهم، فإن هذا لا يعني أن تتعطلَ رسالةُ السماء، ولا يعني أن تسكت عنهم حركة التاريخ، بل إن حركة التاريخ سوف تستبدلهم ـــــــ بإذن ربها ـــــــ وتأتي بأقوام آخرين لكي يؤدوا هذا الدور المطلوب. يقول الله تعالى: {إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (سورة التوبة: الآية 39). ويقولُ تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} (سورة المائدة: الآية 54).
ولقد كان المسلمون الأوائل، والحمد لله، على قدر المسؤولية، تفضَّل اللهُ تعالى عليهم فهدى بصائرهم إلى إدراك سنن التاريخ فاستخدموها لصالح نشر دينهم وإعلاء كلمة الله، ويسّر اللهُ أمورهم بتوفيقه فبذلوا كلَّ طاقاتهم وجهودهم من أجل تلك الأهداف العليا التي نذروا أنفسهم لتحقيقها.
ولقد أوجد القرآن الكريم إطارًا عامًّا لسنن التاريخ. وأيُّ بحثٍ في هذه السنن يجب أن يكون مرتبطًا ارتباطًا وثيقًا بهذا الكتاب بصفته كتاب هدى للناس، يتضمَّن التوجيه والإرشاد والتبصّر الموضوعي للأحداث والظروف والشروط التي يجب توافرها لإعمال سنن التاريخ وتفعيلها. ولذلك نجد أن الساحة التاريخية في القرآن الكريم عامرةٌ بالسنن كما هي الحال بالنسبة إلى كل الساحات الكونية الأخرى. وهذه الحقيقة واضحة في القرآن الكريم وقد أوردها بأشكالٍ وأساليبَ متنوعةٍ في عدد من الآيات التي بيّنت أن للتاريخ سننه وقوانينه، كما عرضت تلك الآيات أمثلةً عن هذه القوانين التي تتحكم في المسيرة التاريخية للإنسان وذلك عندما مزجت بين المفهوم الكليّ لسنن التاريخ، والحث على الاستفادة من الأحداث الماضية، وشحذ الهمم لإيجاد عملية استقراء للتاريخ وللأحداث. وإن عملية الاستقراء هذه عملية علمية بطبيعتها لأنها تبحث عن سنّة أو عن قانون، وإلَّا فلا معنى للاستقراء إن لم تكن غايتُهُ الوصولَ إلى سنّةٍ أو قانون.
وسوف نورد بعض الآيات القرآنية ـــــــ كشواهد ـــــــ على أن الساحةَ التاريخيةَ لها سننٌ وضوابطُ مثل سائر الساحات الكونية الأخرى.
سنّةُ التاريخ تسري أيضًا على المسلمين:
يقول الله تبارك وتعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ} (سورة البقرة: الآية 214). في هذه الآية الكريمة يستنكر الله تعالى على المسلمين أن يعدّوا أنفسهم خارج سنة التاريخ، وأنها قد استثنتهم من الخضوع لقوانينها، وأن يتحقق لهم النصر، ويطمعوا في دخول الجنة، من دون أن يعيشوا الظروف الشاقة التي عاشتها أممٌ سابقةٌ صبرت وناضلت حتى وصلت في بعض الحالات إلى حدّ الزلزال النفساني ـــــــ على حدّ تعبير القرآن ـــــــ وكان ذلك طريقَها إلى النصر ودخول الجنة...
بأي شيء أنتم، أيها المسلمون، تمتازون من غيركم؟!... لا تتخيلوا أن النصر حقٌّ إلهِيٌّ لكم... إنما النصر حقٌّ طبيعيٌّ لكم بقدر ما يمكن أن توفروا الشروط الموضوعية للحصول عليه، بحسب واقع سنن التاريخ التي وضعها الله سبحانه وتعالى، ومنها تحمل البأس، والضرّ، والكرب، والصبر على هذا البلاء. ومتى فقدتم التحملَ والصبر والثبات فسوف تهزمون. وكيف تطلبون نصرًا من الله إن لم تتحقق لكم شروطه كاملة؟!...
هنا قد يُطرحُ هذا السؤال: لماذا تمسِّ البأساءُ والضرّاءُ المؤمنين؟
إنها سنّةٌ من سنن الله تعالى لاختبار إرادة المؤمنين، وكذلك لاختبار إرادة الدعاة إلى سبيل الله تعالى في كل وقت، واختبار إرادة المصلحين في الأرض، ومعرفة مدى ثباتهم وصمودهم أمام التحديات التي تواجههم. فإن كان ثَمَّةَ ثباتٌ وصمودٌ كان النصر الذي يَعِدُهُم الله تعالى به.
سنّة الله في المترفين والمسرفين:
ومن سنن التاريخ التي يبرزها القرآن الكريم العلاقةُ بين الأنبياء والمرسلين ـــــــ على مر التاريخ ـــــــ وبين المترفين والمسرفين في الأمم والمجتمعات...
يقول الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ (34) وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالاً وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} (سورة سبأ: الآيتان 34 ـــــــ 35).
العلاقة بين رسل الله تعالى والمترفين والمسرفين تمثل سنّة من سنن التاريخ. والله سبحانه وتعالى يريد أن يقول بأن أثرياء كل أمة وسادتها كانوا على رأس من يتصدَّون للدعاة إلى الله تعالى. ومن الطبيعي أن تكون بينهم وبين أولئك الدعاة علاقةُ تصادمٍ وتناقض، وهي علاقة قد ثبتت في مراحل التاريخ البشري. وعندما يخبرنا القرآن الكريم عن قصص الأنبياء يُظهر بوضوحٍ تلك العلاقة التي كان فيها رؤساءُ القوم هم الذين يكذبون الرسل، ويتفاخرون عليهم بأنهم أكثر منهم ومن أتباعهم أموالًا وأولادًا وعشيرة، ويسألونهم منكرين: كيف يجوز لكم أن تدَّعوا بأن لكم منزلةً أو شأنًا أعلى منّا؟!... بل يذهب بهم الشطط إلى الظن أو التوهم بأنهم غيرُ معذبين، لأنهم لا يؤمنون بالله تعالى وعقابه وعذابه... مع أنه في الحقيقة، وهذا ما يبرزه القرآن الكريم بوضوح، ما من قوم أنكروا رسالة ربهم، وكذبوا الرسولَ المبعوثَ إليهم، إلَّا كتب عليهم العذاب، ما لم يتوبوا إلى الله سبحانه وتعالى، ويمنحهم جلّ وعلا عفوه عن تلك المواقف العدائية من رسالاته.
إن وجود المترفين والمسرفين بوجه عام يؤدي إلى هلاك القوم كما يؤكد القرآن الكريم، لأنهم يمارسون الظلم والفسوق في مجتمعاتهم، ونتيجة هذا الظلم والفساد لا بد من أن تجرهم إلى الهلاك. وهكذا يجعل القرآن الكريم من وجود تلك الجماعات وتصرفاتهم وما يترتب عليها من نتيجة سنّة من سنن التاريخ، لأن العلاقة بين ظلمٍ وفسادٍ مسيطرين وعذاب وهلاك للقوم هي علاقة حتمية. قال الله تعالى: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً (16) وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِن بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا} (سورة الإسراء: الآيتان 16 ـــــــ 17).
بالإيمان والتقوى يفتح الله بركاتِ السّماء والأرض:
ومن السنن التاريخية التي يثبتها القرآن الكريم أن تطبيقَ شرع الله تعالى في الأرض، وإقامةَ المنهج الرباني في دنيا الناس يؤديان إلى وفرة الإنتاج وزيادة الثروة، شرط أن تكون هنالك عدالةٌ في توزيع الثروة أو الإنتاج، بلا احتكار وتلاعب وسيطرةٍ من ذوي النفوذ على مقدرات الشعب. يقول الله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَـكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} (سورة الأعراف: الآية 96). ويقول تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيهِم مِّن رَّبِّهِمْ لأكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم} (سورة المائدة: الآية 66). وقال تعالى على لسان رسوله نوح عليه السلام: {اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10)‏ يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَارًا (11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَارًا} (سورة نوح: الآيات 10 ـــــــ 12).
في هذه الآيات المباركة تأكيدٌ على أن شريعة الله تعالى في دنيا الأرض إنما هي من أجل خير الإنسان. فإن طُبقت هذه الشريعةُ تطبيقًا صحيحًا وشاملًا، فإن تطبيقها يؤدي حكمًا إلى إقامة العدالة والتوازن، وتوفير سبل التكافل والتضامن بين أبناء المجتمع أو الأمة، بل بين الناس جميعًا. وهذا وجه من وجوه الخير للإنسان، لأن تطبيق شريعة الله تعالى ومنهجه له وجوه كثيرة، ونتائجه كلها لخير الإنسان ونفعه. وعندما تتحقق تلك العدالة في توزيع الثروة فإنه لا يبقى هناك محتاج أو فقير، ولا يقع الناس في ضيق العيش، بل تكثر الخيرات والبركات، وتزداد الأموال، ويعم الرخاء والازدهار. وعلى خلاف ذلك فإن التخلي عن عدالة التوزيع يخلق الفوارق الكبيرة بين أبناء المجتمع الواحد، أو بين أبناء الأمة الواحدة، أو بين الأمم والدول. فتكون أممٌ فقيرة وأخرى مترفة، وأممٌ متقدمة وأخرى متخلفة.
وهكذا يكون التطبيق لشريعة الله تعالى وما يحقق من عدالة في العلاقات بين الناس سنّةً من سنن التاريخ، كما أن فقدان العدالة وما يؤدي إليه من سوء توزيعٍ للثروة هو أيضًا سنّةٌ من سنن التاريخ...
ومن يتتبع النصوص القرآنية يجد أن القرآن الكريم عندما جعل للساحة التاريخية سننًا وضوابط فإنه قاوم بذلك النظرة العفوية أو النظرة السطحية لتفسير الأحداث. فالإنسان العادي قد يفسر أحداث التاريخ بأنها كومة متراكمة من الأحداث التي تتالى وقوعها عبر الزمن، وجرى حدوثها على أساس الصدفة. إن القرآن يقاوم مثل هذه التفسيرات وينبِّه العقل البشري إلى أن للساحة التاريخية سننًا وقوانين، وأن على الإنسان كي يستطيع أن يكون إنسانًا فاعلًا ومؤثرًا، أن يكشف عن هذه السنن، وأن يتعرف هذه القوانين لكي يستطيع أن يتحكم فيها، وإلَّا تحكمت هي فيه وهو غافل عما يدور حوله.
وهذا يُعدّ فتحًا قرآنيًّا جليلًا لأنّ كتاب الله تعالى هو القائل بأن للساحة التاريخية سننًا وضوابط، وهو الممهّد لتنبيه الفكر البشري لذلك. وقد جرت محاولات لفهم التاريخ على هذا الأساس بعد نزول القرآن بنحو ثمانية قرون. وبدأت هذه المحاولات على أيدي المسلمين أنفسهم، فقام ابن خلدون بمحاولة لدراسة التاريخ وكشف سننه وقوانينه. ثم بعده بأربعة قرون أو أكثر، اتجه الفكر الغربي في بدايات ما يُسمّى بعصر النهضة، لكي يجسد ذلك المفهوم الذي ضيَّعه المسلمون عندما لم يتوغلوا في أعماقه. ومن هنا نشأت عند الغرب أبحاث متنوعة ومختلفة حول فهم التاريخ، وفهم سنن التاريخ، ونشأت عنها اتجاهات مثالية ومادية ومختلطة ما بين المثالية والمادية. كما نشأت مدارس متعددة راحت كل واحدة منها تحاول أن تحدد قواعد التاريخ وأسسه بحسب آرائها وقناعاتها. والمثال البيِّن على ذلك: المادية التاريخية التي كوِّنت إحدى أكبر النظريات وأشهر المدارس في التاريخ الحديث... وإذا كان ذلك الجهد البشري، في الحقيقة، استمرارًا للتنبيه القرآني، إلَّا إنه يبقى للقرآن مجده في أنه طرح هذه الفكرة لأول مرة على ساحة المعرفة البشرية...
وإن الآيات القرآنية التي تتحدث عن السنن التاريخية التي تعطي الفكرة الكلية، أي فكرة أن التاريخ له سنن وضوابط، هي كثيرة لا تحصى. ومنها على سبيل المثال قول الله تعالى: {لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاء أَجَلُهُمْ فَلاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ} (سورة يونس: الآية 49). وقوله تعالى: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ} (سورة الأعراف: الآية 34).
والأجل في الآيتين الكريمتين قد أضيف إلى الأمة، أي إلى الوجود المجموعي للناس، لا إلى هذا الفرد أو ذاك بالذات. وهذا يعني أن وراء الأجل المحتوم لكل فرد أجلًا آخر للأمة بصفتها مجتمعًا تقوم بين أفراده العلاقات والصلات التي تفرضها المصالح المشتركة في ما بينهم.
إن هاتين الآيتين الكريمتين تعطيان فكرة كلية واضحة عن أن للتاريخ البشري سننًا تتحكم به، وهي غير السنن الشخصية التي تتحكم بحياة الأفراد ووجودهم.
ويلتقي مع مفهوم هاتين الآيتين قولُه تعالى: {وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُم بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَل لَّهُم مَّوْعِدٌ لَّن يَجِدُوا مِن دُونِهِ مَوْئِلاً (58) وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم مَّوْعِدًا} (سورة الكهف: الآيتان 58 ـــــــ 59).
وقوله تعالى: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِن دَابَّةٍ وَلَكِن يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا} (سورة فاطر: الآية 45).
إنَّ الله تعالى يبيِّن لنا أنه لو كان سبحانه يريد أن يؤاخذ الناس بظلمهم، وبما كسبوا من المعاصي والذنوب والآثام، لما ترك على ظهر هذه الأرض من دابة، ولأهلك الناس جميعًا.
العقاب الجماعي في دار الدنيا:
وقد برزت مشكلةٌ في كيفية تصور هذا المفهوم القرآني، إذ إن الناس ليسوا كلهم ظالمين عادة، ففيهم الأنبياء، وأولياء الله المخلصون، والمؤمنون الصادقون، فهل يقع العذاب على هؤلاء أيضًا؟
الحقيقة أن القرآن يتحدث هنا عن عقاب دنيوي، لا عن عقاب أخروي. إنه يتحدث عن النتيجة الطبيعية لما تكسبه أمة عن طريق الظلم والطغيان، وهذه النتيجة لا تصيب الظالمين من أبناء المجتمع وحدهم، بل نعم جميع أبناء المجتمع على اختلاف اتجاهاتهم، وعلى اختلاف نواحي سلوكهم. فحين وقع التيه على بني إسرائيل نتيجة ما اكتسب هذا الشعب من ظلمه وطغيانه وتمرُّده، لم يُختص هذا التيه بالظالمين من بني إسرائيل وحدهم، بل شمل أيضًا موسى عليه السلام الذي بعثه الله تعالى لمواجهة الظالمين والطواغيت، وشمل أخاه هارون عليه السلام وجميعَ المؤمنين بالله تعالى، لأنهم كانوا يشكلون جزءًا من تلك الأمة.
وحين حلَّ البلاء بالمسلمين في غزوة أحد (نتيجة مخالفة الرماة لأوامر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بعد نزولهم من «جبل عينين» واندفاعهم وراء المغنم والمكسب) لم يسلم رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم نفسه من ذلك البلاء، إذ رماه المشرك ابن قميئة الليثي بالحجارة حتى أصيبت رباعيته الشريفة وشُجَّ في وجهه الكريم وكُلِمت شفتاه ودخلت حلقتان من المغفر الذي كان يستر به وجهه الرضيّ في وجنتيه. بل تقدم ذلك اللعين يريد أن يقتله لولا أن ذبَّ عنه مصعب بن عمير رضوان الله عليه.
وها نحن نسمع في أيامنا هذه بحصول كوارث طبيعية: من زلازل تدمر وتقضي على مناطق بأسرها، أو فيضانات تجتاح مدنًا وقرًى وتأتي على ممتلكاتها وأناسها، أو حرائق تصيب أقسامًا كبيرة من غابات كثيفة... كذلك تصلنا الأخبار عن حوادث مفجعة: مثل تسرّب الإشعاعات من المفاعلات النووية، أو سقوط الطائرات، واصطدام القطارات، وحوادث السيارات التي لا تحصى... كلّ ذلك يذهب ضحيته المئات أو الألوف من الناس... وليس جميع من يُشوَّه أو يموت من جرّاء هذه الحوادث هم من الظالمين، بل قد يكون فيهم المؤمنون، والمتقون، والعابدون، والصادقون... ومع ذلك يحلّ بالجميع البلاء الدنيوي، أو يُقضى عليهم في تلك الفواجع.
وهذا كله يجري وفق سنّة الله تعالى في خَلْقِهِ التي تقول بأنَّ العذاب حين يأتي في الدنيا على مجتمع أو على أمة من الناس، فإنه لا يختص بالظالمين وحدهم من أبناء ذاك المجتمع أو تلك الأمة. لهذا قال الله تعالى في آية أخرى: {وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (سورة الأنفال: الآية 25). فهذه الآية المباركة تتحدث عن سنّة للتاريخ أوجدها الله تعالى في خلائقه بحيث لا يأتي عقابه ـــــــ سبحانه ـــــــ أو عذابه في الدنيا ليقتصَّ من الظالمين وحدهم، وإنما قد يصيب الجميع أو السواد الأعظم من الجماعة، جزاءً بما كسبت تلك الجماعة ـــــــ في غالبيتها ـــــــ من إثم سعيها بالفساد، أو انحرافها عن طريق الحق، عاصيةً بذلك أوامر الله تعالى ونواهيه.
والقرآن الكريم يبين لنا ـــــــ بصورة عامة ـــــــ وفي مواضع كثيرة، ثبات السنن التاريخية ونفاذها وعدم تبدلها أو تحولها. فإنها موجودة أساسًا في صميم تركيب الكون، وفي قلب العلاقات المتبادلة بين الإنسان والحياة... ولم يفعل القرآن سوى أن كشف عنها النقاب وأكد وجودها الدائم وثقلها المؤثر في حركة التاريخ.
وهذه السنن لا تتحدَّد في القرآن الكريم بتفاصيل وجزئيات موقوتة. بل هي تمتد مرنة، منفتحة، شاملة، لكي تضُمُّ أكبر قدر من الوقائع، وتحتوي في سيرها أكبر عدد من التفاصيل والجزئيات لتبقى الحصيلة النهائية، والدلالة الكبرى لحركة التاريخ. إنها تريد أن تقول لنا ــــــ باختصار ـــــــ إن حركة أيّ جماعة بشرية في التاريخ ليست اعتباطية، وإنها بما قد ركب فيها من قوى العقل والعاطفة والإرادة، مسؤولة خلال حركتها تلك، مسؤولية كاملة، حيث ينتفي العبث واللاجدوى، وحيث وجب أن يكون عمل الإنسان مدركًا مخططًا يقف به أمام الله تعالى والعالم، وفق ما جاء به أنبياء الله، وما تفرضه العلائق الإنسانية، والروابط الأخوية في الأمة الواحدة. أما إذا انعدم العمل المدرك الواعي والمخطط، وانْتُهِكَتْ القيم الأخلاقية المنبثقة عن قوى العقل والدين والإرادة... فإن الجزاء يكون من جنس العمل، ويؤول الأمر بالجماعة البشرية إلى التدهور والانهيار.
والآيات التي تبين هذه السنن التاريخية العامة كثيرة، فمنها قوله تعالى: {سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً} (سورة الأحزاب: الآية 62). وقوله تعالى: {فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً} (سورة فاطر: الآية 43). وقوله تعالى: {قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذَّبِينَ (137) هَـذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ (138) وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (139) إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140)‏ وَلِيُمَحِّصَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ} (سورة آل عمران: 137 ـــــــ 141).
وهذه الآيات الأخيرة من سورة آل عمران في القرآن الكريم يمكن اعتمادها مقياسًا لسنن التاريخ الثابتة والدائمة في حياة الناس، وما تنطوي عليه من تقلبات وتغيّرات في مسار وجودهم الأرضي.
الحقائق التي تقوم عليها سنن التاريخ:
وإذا ما حاولنا أن نسبر غور المعاني التي تنطوي عليها الآيات القرآنية التي أوردناها كشواهد على السنن التاريخية العامة فإننا نستخلص حقائق أربعًا.
1 ـــــــ الحقيقة الأولى هي الاطِّراد في السنَّة التاريخية. والاطِّراد يعني أن السنَّة التاريخية ليست علاقة عشوائيةً أو رابطة قائمة على أساس الصدقة، بل هي علاقة ذات طابع موضوعي، لا تختلف في الحالات الاعتيادية التي تجري فيها الطبيعة والكون على السنن العامة... وهذا يعني أيضًا أن طابع الاطِّراد في السنّة التاريخية هو تأكيد على الطابع العملي للقانون التاريخي، لأنَّ أهمَّ ما يميّز العملي من غيره من الفروض والنظريات والمعادلات هو الاطراد والتتابع، وعدم التخلف. وتأكيد القرآن الكريم على طابع الاطِّراد في السنَّة التاريخية يهدف إلى إيجاد شعور في الإنسان المسلم، يكون شعورًا واعيًا متبصرًا، لا مستسلمًا ولا ساذجًا، وذلك وفقًا لمجرى أحداث التاريخ بصورة طبيعية. {وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً} (سورة الأحزاب: الآية 62) {وَلاَ تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلاً} (سورة الإسراء: الآية 77) {وَلاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ} (سورة الأنعام: الآية 34). أي إن كلمة الله، تعني أيضًا أنها سنّة من سنن التاريخ، أوجدها الله تعالى بإرادته التي رسمت القانون العام لقضية لا تقف عند حدود الزمان والمكان، بل تتناول الإنسان الفرد، أو تتناول الجماعة العامة، إذا تحققت الشروط المفروضة للقضية وفق السنّة أو القانون الذي قامت عليه.
2 ـــــــ والحقيقة الثانية هي أن السنّة التاريخية ربانية. أي إنها من خلق الله سبحانه وتعالى، وهي في علمه وبإرادته ومشيئته. وقد عبَّرت عن ذلك النصوص القرآنية بتعابير متعددة ومنها سنّة الله، وكلمة الله.
وهذا يعني أن كل قانون من قوانين التاريخ، أو سنّة من سننه، تدبير رباني، وأن الاستفادة من مختلف القوانين والسنن التي تتحكم في الساحات الكونية بأسرها، لا يمكن أن تكون إلا رهنًا بأمر الله تعالى. فالله سبحانه يظهر لنا قدرته من خلال هذه القوانين والسنن، كونها تمثيلًا لإرادته وحكمته، وتدبيره في الكون بأسره. لكنَّ ذلك لا يعني وجود تناقض وتعارض في علاقة الحادثة التاريخية بالأسباب والمسبِّبات ولا في العلاقات والروابط المتعلقة بها على الساحة التاريخية، بل يعني وجود الروابط والعلاقات بين الحوادث التاريخية بحيث تكون هذه الروابط والعلاقات تعبيرًا عن حكمة الله والبناء التكويني للساحة التاريخية.
والمثال على ذلك ظاهرة سقوط المطر. وتفسير هذه الظاهرة يكون على أساس الأسباب والعلاقات التي تجعلها مرتبطة بالدورة الطبيعية للماء، التي تؤدي إلى بيان كيفية نزول المطر. وذلك بأن يتبخر الماء ويتحول إلى غاز ثم يتصاعد الغاز سحابًا، فإذا انخفضت الحرارة في الجو تحول السحاب إلى سائل، وهطل المطر.
كذلك الأمر في تحليق الطائرات التي تخطر في الأجواء كأنها من المعجزات. وما ذلك بمعجزة إذا علمنا أن له علاقةً بقوانين الجاذبية، وحركة الرياح، ومقدار العلو والانخفاض، وطريقة الإقلاع والهبوط... وبالشروط التي يتأمن معها صلاح المطارات بصورةٍ تامة... هذا كلّه جعل من هذه الكتلة المعدنيّة الهائلة طائرًا يحلّق بجناحيه في فضاء الله الواسع بأمان.
ومثل ذلك الإبحارُ في الأنهار والبحار: له سننُهُ المحدّدة وقوانينُهُ الخاصة التي يجب معرفتها لنفهم كيف تستطيع هذه المنشآتُ الحديديّةُ الضخمةُ أن تعومَ على وجه الماء آمنةً مطمئنة، من دون أن تغرق في قعر الماء.
قال تعالى: {وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ} (سورة الرحمن: الآية 24).
وقال سبحانه: {وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ (32) إِن يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ} (سورة الشورى: الآيتان 32 ـــــــ 33). وهذان المثلان يظهران النتيجة التي يصل إليها الإنسان بفعل هدى الله وبإلهامه لبعض العباقرة حتى توصلوا إلى ما توصلوا إليه من اختراعات واكتشافات. قال تعالى: {سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا} (سورة النمل: الآية 93). ففي كل يوم يرى الناس آياته في الآفاق وفي أنفسهم، ويكشف لهم عن بعض أسرار سنن هذا الكون الحافل بالأسرار.
فهذه السنن إذًا لها طابعٌ غيبيّ، لأنها تعبّر عن إرادة الله تعالى ومشيئته. وهي في الوقت نفسه تستهدفُ ربط الإنسان بخالقه، وإشعارَهُ بأن الاستعانةَ بالنظام الكامل لمختلف الساحات الكونية، والاستفادةَ من مختلف القوانين والسنن التي تتحكم في هذه الساحات... كل ذلك لا يمكن أن يكون بمعزل عن الله تعالى في تدبيره وتسييره للكون.
وهذا الطابعُ الغيبيُّ للسنن التاريخية دفع بمدارس الفكر اللاهوتيِّ المسيحيِّ إلى تفسير التاريخ تفسيرًا إلهيًّا، بمعنى أن الفكرَ اللاهوتيَّ يتناول الحادثةَ التاريخيةَ ويربطها بالله سبحانه وتعالى، قاطعًا أيَّ صَلةٍ أو علاقةٍ بينها وبين الأحداث الأخرى. أما في القرآن الكريم فإن الطابعَ الغيبيَّ للسنّة التاريخية لا يعني فصلَها عن كلِّ شيءٍ وربطها باللهِ تعالى فقط. بل إنَّ القرآن، بقدر ما يُضفي على السنة التاريخية الطابعَ الغيبيَّ، بجعلها معبّرةً عن إرادة الله تعالى وتدبيره، بقدر ما يربطُ هذه السنّةَ بالعلاقاتِ والأحداثِ التاريخية الأخرى التي تكون ذاتَ صلاتٍ معينةٍ بها.
لذلك لا يجوز إبعادُ القرآن عن التفسير الموضوعيّ للتاريخ لكي تبقى الصلةُ وثيقةً بين العلم والإيمان. وبقدر ما ينظر الإنسانُ المسلمُ إلى السنن نظرةً علميةً، فإنه ينظرُ إليها نظرةً ربانيةً، أي إنها منبثقةٌ عن إرادة الله تعالى وحكمته.
وبعض النصوص القرآنية توضح هذا المعنى وتفسره. يقول الله تعالى: {إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَن يَكْفِيكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُم بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُنزَلِينَ (124) بَلَى إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ وَيَأْتُوكُم مِّن فَوْرِهِمْ هَـذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم بِخَمْسَةِ آلافٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُسَوِّمِينَ} (سورة آل عمران: الآيتان 124 ـــــــ 125).
هنا نجد الطابع الغيبيَّ، وهو الإمدادُ الإلهيُّ للمؤمنين بالملائكة حتى تساعدوهم على النصر، مشروطًا بسنّة التاريخ. وشرطُه {بَلَى إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ}. فالمطلوب أولًا الإعدادُ، والتنظيمُ، والتهيئةُ الكاملةُ لملاقاةِ العدو، ثم الصبرُ والثباتُ في المعركة واتقاءُ الله تعالى في عدم مخالفة أوامره. فإن تحققت هذه الشروط كان الإمدادُ وكان النصر. والهدفُ من هذا الربط هو اكتمالُ التّوجة الإسلامي نحو التوحيد بين العلم والإيمان في تربية الإنسان المسلم.
وهكذا فإن خالق هذه السنن هو وحده صاحب الأمر لأنه سبحانه، هو الذي وفَّر هذه الإمكانيات الضخمة من خلال هذه السنن وسخرها لخير الإنسان.
التسخير:
هو النعمة الكبرى التي أسبغها الله سبحانه وتعالى على بني آدم عندما قضى عليهم أن يتخذوا هذه الأرض مستقرًّا لهم إلى حين. لقد أراد سبحانه برحمةٍ منه ولطف، أن يُسَهِّلَ لهذا المخلوق الضعيف سُبُلَ العيش على هذه الأرض. فجعل لكل ما يحيط به سننًا ثابتة لا تتبدل ولا تتحول، إنما يكون التغيير في نفس الإنسان الذي يتعامل معها: نحو الأحسن لمن يباشرها بتفهم ودراية، ونحو الأسوأ لمن يخالفها أو يقابلها بجهل وعناد. يستوي في ذلك الفرد والجماعة. والله تعالى قد ذلَّل فهْم بعض هذه السنن للإنسان ولولا هذا الفضل من الله سبحانه لما استطاع الإنسان أن يؤثر فيها ويسخرها لمصلحته، وبالتالي لما استطاع العيش على هذه الأرض. قال تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} (سورة الملك: الآية 15). وقال تعالى: {أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} (سورة لقمان: الآية 20)، وقال سبحانه: {وَسَخَّر لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَآئِبَينَ} (سورة إبراهيم: الآية 33)، وقال عزَّ من قائل: {وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا} (سورة الزخرف: الآية 12)... إلى قوله تعالى: {سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ} (سورة الزخرف: الآية 13).
ومن قول للإمام علي كرَّم الله وجهه: «ألا إنَّ الأرض التي تقلكم والسماء التي تظلكم مطيعتان لربكم، وما أصبحتا تجودان لكم ببركتهما توجّعًا عليكم، ولا زلفة إليكم، ولا لخير ترجوانه منكم، ولكن أُمِرَتا بمنافعكم فأطاعتا، وأُقيمتا على حدود مصالحكم فقامتا».
إذن فلا بد لهذا الإنسان الذي سُخِّر له ما في السموات والأرض، من أن يعي ما أُودِع من أسرار وأن يتفهم سنن ما وُضِعَ بتصرفه ولخيره، ليستطيع أن ينتفع به، ويكون في مستوى المسؤولية للاستفادة منه.
وهكذا يتبين أنه وفقًا لهذا المفهوم لا يمكن أن نعزل ظاهرة سقوط المطر عن بقية الحوادث، وقطع ارتباطها مع مؤثراتها وأسبابها. إلَّا إن تسلسل الحوادث وترابط بعضها ببعض منذ حالة التبخر وحتى نزول المطر، إنما هو ظهور لذلك القانون العام الذي قدَّره الله تعالى لسقوط المطر في حال تحقق ظروفه وعوامله كافة... والقاعدة نفسها تسري على تحليق الطائرات أو سير البواخر والسفن فوق الماء... وهكذا هي سنن الطبيعة كلها، وسنن التاريخ. فعلى الإنسان أن يفقه هذه السنن ويتجاوب معها كي يستفيد منها.
لقد استفاد الغربُ كثيرًا عندما استطاع أن يستكشف بعض سنن الكون، ويتفهّمها. وبذلك أصبح أكثرَ تجاوبًا مع حركة التاريخ التي تسير وتتحرك وفقًا لهذه السنن. وهذا ما نجم عنه كثيرٌ من الاختراعات أي اكتشاف بعض أسرار هذا الكون. وبتنا نرى الغربَ، بفضل ذلك، قد بلغ من التمدّن شأوًا بعيدًا.
وهكذا، فلا يمكن لأيّ فردٍ أو جماعةٍ، ضمان التقدّم في مضمار هذه الحياة، من دون تفهّمٍ لسنن الكون. إذ إن ذلك هو الشرطُ الأساسيُّ للتقدّم وفقًا لحركة التاريخ. وفي ذلك وحده يكون تغيّرُ حال الفرد أو الجماعة نحو الأحسن، أي نحو الرقيّ والتقدم.
3 ـــــــ والحقيقة الثالثة هي الاختيار عند الإنسان. وهذا يعني أن محور تسلسل كثير من الأحداث والقضايا إنما هو ناشئ عن مباشرة إرادة الإنسان، وذلك لقوله تعالى: {إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ} (سورة الرعد: الآية 11).
فلو فكرنا قليلًا فيما تشير إليه هذه الآية الكريمة لأدركنا أن التغيير يجب أن يكون نابعًا من القوم بمباشرة تطبيق إرادتهم بتغيير ما بأنفسهم، لأن تغيير ما بالنفس يكون من نتائجه تغيير السلوك، وعند تغيير سلوك القوم، سواءٌ من الأسوأ إلى الأحسن أو من الأحسن إلى الأسوأ، فإن الله سبحانه سيغير الأوضاع التي يعيشها هؤلاء الذين غيَّروا سلوكهم وتصرفاتهم بحسب ما اختاروا لأنفسهم.
فإنْ كان التغيير من الحسن إلى السيّئ لا بد من أن يعمَّهم البلاء، وإن هم أصروا على ما هم عليه من التمادي وعدم التغيير إلى الأحسن نزل في ساحتهم الهلاك مصداقًا لقوله تعالى: {وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم مَّوْعِدًا} (سورة الكهف: الآية 59) وأما إن انتبهوا إلى ما هم فيه من سوءٍ واستغفروا لذنوبهم وسلكوا سُبُلَ الطاعة فإن الله سيأخذ بيدهم، ويمدُّهم بعنايته، ويهديهم إلى تغيير أوضاعهم إلى الأحسن.
وهذا واضح في قوله تعالى على لسان نبيه نوح عليه السلام: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً (10)‏ يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَارًا (11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَارًا} (سورة نوح: الآيات 10 ـــــــ 12).
لا تعارضَ بين إرادة الإنسان وسنن التاريخ:
ولقد ذهب بعضُ المفكرين إلى أن هنالك تعارضًا بين إرادة الإنسان وسنن التاريخ. ومدار هذا الرأي إما أن نؤمنَ بأن للتاريخ سننًا وقوانين وهذا يلغي كلَّ دورٍ لإرادة الإنسان واختياره، وإما أن نسلّمَ بقدرةِ الإنسان وإرادته وعمله، فلا يكون ثَمَّةَ حاجةٌ لسنن التاريخ وقوانينه على الساحة التاريخية. وهذا يعني أن الساحة التاريخية تصبح وفق هذا التفكير من دون سنن وقوانين، في حين أن كل الساحات الكونية الأخرى تكون لها قوانينها وسننها.
طبعًا إن مثل هذا التفكير لا يستقيم مع التفسير الموضوعي للنصوص القرآنية. وقد تدارك القرآنُ الكريمُ هذا الأمرَ، وعالج هذه النقطة بالذات، عندما بيّن لنا في كثيرٍ من الآيات الكريمة أن المحورَ في تسلسل الأحداث والقضايا إنما هو إرادةُ الإنسان، ولكن ليس بعيدًا من سنن الله تعالى. ومن تلك الآيات الكريمة، التي أتينا على ذكرها سابقًا، قولُ الله تعالى:
{إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ} (سورة الرعد: الآية 11).
{وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُم مَّاء غَدَقًا} (سورة الجن: الآية 16).
{وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم مَّوْعِدًا} (سورة الكهف: الآية 59).
إذن فنحن لا نقدر أن نلغيَ السننَ والقوانينَ لأنها تعبيرٌ عن إرادة الله تعالى ومشيئته، وفي الوقت عينه لا يمكن إنكارُ دور الإنسان ومواقفه المؤثرة في الساحة التاريخية. إنما يكون لمواقفه تلك، ولأعماله، نتائجها أو جزاءاتها المناسبة. وعندما يعطي القرآن الكريم هذا الدورَ الإيجابيَّ لإرادة الإنسان واختياره فلكي يحمِّلَه أكثرَ فأكثرَ مسؤوليتَهُ على الساحة التاريخية، وليجعله يعتقد أن ما يصل إليه من نتائج إنما هو مرهون بفعله وإن كان لا يخرج عن مشيئة الله تعالى المطلقة.
فتلك الآيات الكريمة وكثير من مثيلاتها في القرآن الكريم تبين أن سنن التاريخ لا تجري خارج إرادة الإنسان، ولا من فوق رأسه بل تجري من خلال إرادته، وبحسب ما كسبت يداه... وهذا يُظهر أنَّ للإنسان دورًا مهمًّا وأساسيًّا في حركة التاريخ.
4 ـــــــ والحقيقة الرابعة تعبِّر عن أبعاد العمل التاريخي بمعنى أن السنن التاريخية متميزة تميزًا نوعيًّا عن سنن بقية الساحات الكونية. وهذا التمييز للسنن التاريخية يتمثل في العمل الإنسانيّ الذي تجري عليه سنن التاريخ. إذ لا بد لهذا العمل، حتى يكون عملًا تاريخيًّا، من أن يكون عملًا هادفًا وقائمًا على أبعادٍ ثلاثة: السبب، الغاية أو الهدف، الأرضية الصالحة.
هذا هو العمل الإنساني الذي تحكمه سنن التاريخ، إنه العمل الذي ينبثق عن علاقاتٍ وروابطَ وأسبابٍ ويتوخّى غاياتٍ وأهدافًا سامية، ويكون ذا أرضيةٍ أوسعَ من حدود الفرد، وذا أوجهٍ متعددة، أي هو عمل الأمة.
ومن خصائص القرآن الكريم أنه ميّز بين عمل الفرد وعمل الأمة، وذلك من خلال استعراضه للكتب الغبية التي تحصي على الفرد عمله، وتلك التي تحصي على الأمة عملها. فالعمل الذي يكون له بعدان: سبب وهدف، يدخل في كتاب الفرد، والعمل الذي يكون له ثلاثةُ أبعاد: سبب وهدف وأرضية، يدخل في الكتابين معًا: كتابِ الفرد وكتابِ الأمة. فلنستمع إلى قوله تعالى: {وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (28) هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} (سورة الجاثية: الآيتان 28 ـــــــ 29).
هنا أمةً جاثيةٌ بين يدي ربها، وأمامها سجلُّ حياتها وممارسةِ نشاطاتها كافة.
هذا عن الأمة...
أما عن الفرد فالقرآن الكريم يقول: {وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا (13) اقْرَأْ كَتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا} (سورة الإسراء: الآيتان 13 ـــــــ 14).
وهذا أيضًا سجلُّ كلِّ إنسان بمفرده. شريطُ حياته يُعرضُ أمامه، تمامًا كما يُعرضُ شريطُ حياة الأمة أمامها بمجموعها. هذا هو التمييزُ النوعيُّ القرآنيّ الذي يفرِّق بين كتاب الفرد وكتاب الأمة، أي العمل الذي قام به الفرد لنفسه ولأمته، وللإنسانية، والأعمال التي قامت بها الأمة ككيان جماعي لمصلحتها ومصلحة أفرادها ومصلحة الإنسانية.
والعملُ التاريخيّ هو العملُ الذي يعود إلى الأمة، والذي تحاسب عليه يوم القيامة.
وقد ميّز القرآن الكريم تمييزًا نوعيًّا بين العلاقات الإنسانية. فعندما يجري حساب الأمة بين يدي ربها، يعود لكل ذي حقٍّ حقُّه الذي غُبِنَهُ في الحياة الدنيا، حيث لا إنصاف ولا عدالة... حيث لا يكون هنالك تطبيقٌ كاملٌ لشريعة الله تعالى. ولكن لا يحسبنَّ أحدٌ أن ذلك يمرّ في هذه الدنيا وينتهي. أبدًا. فهناك بين يدي رب العالمين الحسابُ الجماعيُّ لإعادة الأمور إلى نصابها، وردِّ الحقوق إلى أصحابها. وهذا ما يسميه القرآن الكريم {التَّغَابُنِ} في قوله تعالى: {يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ} (سورة التغابن: الآية 9).
في هذه الحياة الدنيا قد يكون إنسانٌ مغبونًا، وحقه مهضومًا مهدورًا. أما هنالك في الآخرة فإصلاح للغبن. وبقدر ما يكون الإنسان مغبونًا في موقعه في الأمة، يُزال عنه الغبن يومَ الحساب، ويأخذ صاحبُ الحقّ حقَّه، لأنه اليوم الذي لا كلمة فيه إلَّا للحق.
أشكالُ السننِ التاريخيّة:
من مجمل الآيات القرآنية التي تقدمت، نلاحظ أن السنن التاريخية تتخذ أشكالًا ثلاثة:
1 ـــــــ الشكل الأول: القضية الشرطية التي تربط بين حادثتين أو مجموعتين من الأحداث التاريخية، وتؤكد العلاقة الثابتة والأكيدة بين توافر الشرط وحصول النتيجة.
وهذا الشكل نجده في القوانين الطبيعية، فمثلًا شرط تعرض الماء إلى درجة حرارة معينة (مئة) يؤدي حتمًا إلى غليان هذا الماء، وتصاعد البخار.
وهذا القانونُ الشرطيُّ يُعدّ موجهًا عمليًّا للإنسان في حياته. وهنا تتجلى حكمة الخالق العظيم في صنع نظامٍ للكون بأسره قائمٍ على القوانين المطردة والسنن الثابتة. فعندما يعرف الإنسان هذا النظام يمكنه أن يهتديَ إلى الوسائل التي يجب أن يسلكها من أجل تكييف حياته وبيئته والوصول إلى إشباع حاجاته.
2 ـــــــ الشكل الثاني: القضية الفعلية الناجزة، الموجودة المحققة.
وهذا الشكل أيضًا له أمثلته وشواهده في القوانين الطبيعية والكونية والجسدية، مثلًا العالِمُ الفلكي عندما يحدِّد موعدًا لكسوف الشمس أو لخسوف القمر، فإنه يتحدث عن قانونٍ كونيِّ، قائمِ الوجود، وثابتٍ عِلميًّا، فلا يمكن للإنسان أن يُغَيِّرَ من ظروفه أو يعدِّل في سيره. لكنه يملك معرفته وزمانَ حدوثه والتصرف إزاءَ هذا الحدوث.
وكذلك بالنسبة إلى الإدراك والحسِّ ولا سيّما فيما يتصل بالقانون المفروض على الرؤية بالعين وعلى السمع بالأذن...
وكما تحدثنا عن التسخير ضمن الحقيقة الثانية، نتحدث هنا عن الاستخلاف حتى تتبين لنا حقيقة العلاقات البشرية في تركيب المجتمع من خلال المفاهيم الإسلامية التي نستخلصها من قول الله تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} (سورة البقرة: الآية 30).
يمكن أن نجد في قول الله تعالى ثلاثة عناصر:
1 ـــــــ الإنسان.
2 ـــــــ الأرض أو الطبيعة.
3 ـــــــ العلاقة التي تربط الإنسان بالأرض أو الطبيعة من ناحية، والعلاقة المعنوية التي تربط الإنسان بأخيه الإنسان من ناحية أخرى.
الاستخلاف:
والعلاقة المعنوية هذه في مجملها هي التي يسميها القرآن الكريم (الاستخلاف). ونلاحظ أن المجتمعاتِ البشريةَ تتفق جميعها بوجود العنصرين الأول والثاني لكنها تختلف في طبيعة العنصر الثالث الذي هو العلاقة المعنوية التي تقوم بين الناس ومحيطهم الطبيعي، وبين بعضهم بعضًا. وهذا العنصر المعنوي وفقًا للمفهوم القرآني هو العنصر المرن والمتحرك في تركيب المجتمع.
لأن الله سبحانه وتعالى عندما خلق الإنسان، خلق فيه غريزة حبِّ البقاء، التي كان من مظاهرها التكتل، لذلك كان اجتماعُ الناس طبيعيًّا. إلا إنَّ اجتماعَ الناس لا يجعل منهم مجتمعًا، وإنما يجعل منهم جماعة. أما إذا نشأت بينهم علاقات لجلب المصالح ودفع المفاسد، فإنَّ هذه العلاقات تجعلُ من هذه الجماعة مجتمعًا. ثم إنَّ هذه العلاقات وحدها لا تجعل منهم مجتمعًا واحدًا، إلَّا إذا توحَّدت نظرتهم إلى هذه العلاقات بتوحيد أفكارهم، وبتوحيد رضاهم وسخطهم، كما أنه يجب أن تتوحد معالجتهم لهذه العلاقات بتوحيد النظام الذي يعالجها، لذلك كان لا بدّ من النظر إلى الأفكار والمشاعر والأنظمة عند دراستنا للمجتمع، لأنها هي التي تجعلُهُ مجتمعًا معينًا، لهُ لونٌ معين.
أما الاستخلاف فيقوم على أربعة أطراف: وجود الإنسان ـــــــ علاقة الإنسان بالأرض أو الطبيعة ـــــــ علاقة الإنسان بأخيه الإنسان. والمستخلِف هو الله سبحانه وتعالى، والمستخلَف هم البشر، والمستخلَف عليه هو الأرض وما عليها.
وبمنطوق القرآن فإنّ فكرة الاستخلاف تقوم على أن المالكَ الحقَّ هو الله تعالى، فلا إله ولا مالك ولا متصرف في الكون والحياة غير الله سبحانه وتعالى. أما الإنسان فدوره فقط الاستخلاف، أي إنه مؤتمن يقوم على أمانةِ عهد بها ربُّهُ إليه لكي يعمِّر هذه الأرض، فإن كان إعمارها بما يرضي الله تعالى حقق الإنسان الغاية من الاستخلاف، وإلَّا فإنه بَعُدَ من الله تعالى وخان الأمانة. ومهما رأيت من علو المباني، وأشكال الازدهار المادي، ومعالم الجمال والتنسيق، ومظاهر التمدن والرقي، فكلها تصبح جوفاء، ولا فائدة منها، إن لم يقم تعمير الأرض على تقوى الله رب العالمين. وهذا ما يريده القرآن الكريم ويؤكد عليه، أي استدامة صلة المستخلف بالمستخلِف، وطاعته، وخشيته .
أما المجتمعات التي تقطع صلتها بالمستخلِف فتكون مجرد تركيبات بشرية، أو تركيبات إعمارية بعيدة من الغاية من الاستخلاف.
لذلك عدّ القرآن الكريم أن الأساس الذي يقوم عليه الاستخلاف هو رضى الله تعالى وهو وحده المغيِّر النوعيّ لتركيب العلاقات الإنسانية وصلتها بخالقها، لذلك كان الاستخلاف بعناصره أو بأطرافه الأربعة أهمَّ السنن التاريخية وأعظمها.
3 ـــــــ الشكل الثالث: الاتجاه الطبيعي في حركة التاريخ والتمييز بين الاتجاه والقانون.
إن السنّة التاريخية في القرآن الكريم هي التي تصاغ على شكل اتجاه طبيعي في حركة التاريخ وليس على شكل قانون صارم حدِّيّ، لا يقبل التحدّي من قبل الإنسان، مَثَلُهُ مثلُ سائر القوانين الكونية والسنن الموضوعية. فالإنسان مثلًا لا يمكنهُ أن يحول دون غليان الماء إذا توافرت شروط هذا الغليان. هنا قانون صارم، والصرامة لا تقبل التحدي. أما بالنسبة إلى حركة التاريخ فيمكن أن توجد اتجاهاتٌ موضوعيةٌ تكون على شيء من المرونة، ويمكن أن تقبل التحدي على المدى القصير، وليس على المدى الطويل. فمثلًا العلاقات بين الذكر والأنثى في الحياة الإنسانية الاتجاه الطبيعي والموضوعي فيها قيام العلاقة الزوجية. وهذا الاتجاه هو في صميم تركيب الإنسان وتكوينه من أجل بقاء النوع البشري. ولكن قد يخرج أفراد أو قوم عن هذا الاتجاه الطبيعيّ كما فعل قوم لوط عندما تحدَّوا هذا الاتجاه الطبيعيَّ أو هذه السنّة الثابتة في الحياة الإنسانية. لكن سنّة التاريخ التي قبلت التحدي في زمان معين، عادت وانقضَّت على قوم لوط لتزيلهم من الوجود، أي إن هذه السنّة عملت على تحطيم الّذين تحدَّوها، وكان بالتالي زوالُ قوم لوط وهلاكُ مجتمعهم الفاسد.
والمثال الأبرز الذي يعرضه القرآن الكريم لهذا الشكل من السنن التاريخية هو الدينُ نفسه الذي هو في المفهوم القرآني سنّةٌ من سنن التاريخ. فعندما يعرض القرآن الدينَ في صورة تشريعٍ إلهيٍّ يقول الله تعالى: {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ} (سورة الشورى: الآية 13).
وفي آيةٍ ثانية يُظهر القرآن الكريم أن الدينَ قانونٌ ثابتٌ يدخل في صميم الخلق البشري، كما في قوله تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} (سورة الروم: الآية 30).
الدين فطرة في الناس، طبيعةٌ في صميم تركيبهم وتكوينهم. هكذا خلقهم الله تعالى على هذه الطبيعة والدين مركوز فيها، فهل يمكن أن ننزع هذا الدين من صلب الطبيعة الإنسانية؟ أبدًا! فكما لا يمكن أن تنزع من الإنسان أيَّ جزء من أجزائه التي تجعله كاملًا، كذلك لا يمكن أن تنزع من نفسه غريزة التدين.
فالدين إذن ليس مقولةً حضاريةً مكتسبةً على مرّ التاريخ، ولا ابتداعًا من صنع الإنسان ليجمّلَ به حياته، بل إن الدين، كما بينه القرآن الكريم، طبيعةٌ في خلق الإنسان من صنع الله تعالى: {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} أي خلقه الذي خلقهم عليه. ولذلك كان الدين سنّة في الطبيعة البشرية. لكن هذه السنّة ليست صارمة، مثل القانون الطبيعي، لا تقبل التحدي، بل يمكن تحديها عن طريق الشرك أو الإلحاد. إنما هذا التحدي يكون لمدى قصير لأن سنّة الله تعالى في خلقه سوف تعود وتقهر المتحديَ على المدى الطويل، كما حصل للاتحاد السوفياتي في عصرنا الحاضر، لأن سنن التاريخ تفرض القضاء على هذا التحدي، في كلّ أمّة تريد أن تبدِّل خلق الله الذي لا تبديل له.
يقول الله تعالى: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَن يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْمًا عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ} (سورة الحج: الآية 47). القرآن يتحدث هنا عن السرعة التي تتحرك فيها السنّة التاريخية {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ}. أي إن المشركين كانوا يتحدون رسول الله، في سنّة الله تعالى، ولم يدركوا أن وعد الله هو سنّةٌ تاريخيةٌ ثابتةٌ. أما متى تتحقق هذه السنّة، ومتى ينزل العذاب فهذا أمر بيد الله سبحانه وتعالى. هم يريدون وقوعه في زمن قصير، لكن زمنَ الله تعالى غيرُ الزمن الاصطلاحيّ الذي يسير عليه الناس في الأرض. فمقدار اليوم الواحد عند الله تعالى كألف سنة من السنين التي نعدها في هذه الأرض أو التي درج الإنسان على حسبانها. واليوم الذي يريده الله سبحانه وتعالى بعيد من معرفة الإنسان، فإن تحدَّى المشركون وعد الله تعالى، وذلك بإنزال العذاب بهم في الحال، فهذا التحدي لا يدوم، والردُّ عليه لن يطول. وقد ثبت أن تحديهم قد زال بانتصار الإسلام على كل معتقداتهم وتبديل كل مقومات وجودهم. وكان في ذلك عذابٌ عظيمٌ لهم قبل أن يذوقوا طعم حلاوة الإسلام، ويتحسسوا مدى أهمية هذا الدين في حياتهم. لقد جاء الإسلام ليعيدَهم ويعيدَ الناسَ إلى أصالة طبيعتهم الإنسانية، وليردَّهم إلى الحقيقة الكامنة في أعماق نفوسهم، فإن لم يستجيبوا للفطرة وتحدوها فالهلاك لا محالة حالٌّ بهم، ومسارُ التاريخ البشريِّ يشهد على هذه الحقيقة... فأين الأمم الغابرة، وأين الامبراطوريات، وأين العروش، وأين دول وأين حكام؟!... لذلك كان هذا الشكلُ عبارةً عن اتجاهاتٍ موضوعيةٍ في مسار التاريخ، وفي حركة التاريخ ومن ضمنها حركةُ الإنسان على مدار التاريخ.
نعم إنَّ حركة التاريخ بمفهومنا هي حركة هادفة، لها حكمة غائية متطلعة إلى المستقبل، أي إنها ليست حركة سببية فقط ومشدودة إلى سببها، إلى ماضيها، بل هي مشدودة إلى غاية هادفة مستقبلية، بمعنى أن المستقبل هو المحرك لأي نشاط من النشاطات التاريخية. والمستقبل بحقيقته إنما يُحرَّك من خلال الوجود الذهني للإنسان. من هنا كان دور الإنسان في صناعة حركة التاريخ دورًا حاسمًا، إذا ما حرَّكهُ المستقبل الهادف.
المثل الأعلى عند الفرد والجماعة:
إذن هنالك المحتوى الداخلي للإنسان، وهذا المحتوى الداخلي يتمثل في وجوده الذهني الذي يجسِّد من ناحية جانبًا فكريًّا هو الذي يضم تصورات الهدف، ويمثل من ناحية أخرى طاقة الإرادة التي تحفز الإنسان وتنشطه للتحرك نحو هذا الهدف. وبالامتزاج ما بين الفكر والطاقة الحيوية، وبالتصميم والإرادة، تتحقق فاعلية المستقبل. فالوجود الذهني بذلك ـــــــ أي بالفكر والإرادة ـــــــ هو الحافز والمحرك والمدار لحركة التاريخ، بل لبناء المجتمع بكل ما يسوده من أنظمة، وأفكار وتفاصيل، تتضافر بعضها مع بعض وتتوثق بالعلائق والروابط لتؤلف كلًّا منسجمًا يكوِّن الإطار الصحيح لعيش الجماعة البشرية...
نعم إن التفكير والإرادة هما في الحقيقة المحتوى الداخلي للإنسان، ولكن هل هذا المحتوى الداخلي هو الأساس لحركة التاريخ؟ كلا، إنَّه ليس كافيًا، بل يجب أن يقترنَ بالمباشرة بالعمل للوصول إلى الهدف أو السعي له. وعند ذلك يصبح المحتوى الداخلي ومباشرة العمل معًا، هما الأساس لحركة التاريخ، لأن المحتوى الداخلي يبقى خفيًّا ولا يظهر إلا مع المباشرة والسعي.
ومباشرة الأمور: هي أن تليها بنفسك، يقال باشر الأمر: تولاه بنفسه. والسعي هو المشي السريع، وهو دون العَدْو، ويستعمل للجدِّ في الأَمر شرًّا كان أو خيرًا.
والإرادة: هي قوة مركبة من رغبةٍ أو شهوة أو حاجةٍ أو أملٍ محكومة بالعقل. والإنسان عندما يستخدم عقله للقيام بمباشرة فعله الإرادي، فإنه لا يعني فقط ما يفعل، بل يشعر أيضًا بما يفعل لبلوغ هدف معين، وهو حينئذٍ يستعمل كامل قدراته وإمكانياته من أجل بلوغ هدف معين.
والعمل أو السعي الذي يقوم به الإنسان يتعدى المحتوى الداخلي الذي هو التفكير والإرادة ولا يتجسد إلا بالمباشرة. فمباشرة العمل مع الإرادة إذن هما أساس حركة التاريخ.
وإذا كان المحتوى الداخلي للإنسان هو الذي يجسد الغايات التي تحرك التاريخ، فإن هذه الغايات يحددها المثل الأعلى للإنسان في حياته الفردية، أو المثل الأعلى للجماعة البشرية في حياتها العامة. لذلك كان هذا المثل الأعلى هو المحور الذي تدور فيه كل الغايات وتعود إليه كل الأهداف. وبقدر ما يكون المثل الأعلى للفرد أو للجماعة البشرية صالحًا وساميًا، تكون الغايات الفردية والجماعية صالحة وعالية. وبقدر ما يكون ذلك المثل الأعلى محدودًا او منخفضًا تكون الغايات المنبثقة عنه محدودة أو منخفضة أيضًا.
والمثل الأعلى هنا هو الذي يرتبط بنظرة عامة إلى الكون والإنسان والحياة، ويتحدَّدُ من قِبَلِ كلِّ جماعة بشرية على أساس وجهة نظرها إلى الحياة والكون. ومن خلال الطاقة الروحية التي تتناسب مع وجهة نظر تلك الجماعة البشرية إلى الحياة والكون يتكوَّنُ فكرها، وتتحقق إرادتها، ويتحدّد مصيرها.
أنواع المثل العليا:
والمثل العليا كثيرة لعلَّ أبرزها ثلاثة:
ـــــــ النوع الأول هو المثل الأعلى الذي يستمد تصوره من الواقع. أي من واقع الجماعة بجميع شؤونها، بحدودها وقيودها، وأمورها وقضاياها. وهو يعني في الحقيقة تجميد الواقع على حاله بدلًا من التطلع إلى المستقبل، بحيثُ يكون المستقبل بمقتضاه تكرارًا للواقع، ومن هنا تصبح حركة التاريخ حركة رتيبيَّة، أي تكرارًا لماضيها وتثبيتًا لواقعها.
ويعود هذا النوع من المثل العليا إلى سببين:
ـــــــ سبب نفسي داخلي، هو الأُلفة للواقع الذي تعيشه الجماعة وركونها إلى الخمول.
ـــــــ وسبب اجتماعي خارجي، هو تسلط المستكبرين والطواغيت الذين يتحكمون في شؤون الجماعة ويجعلونها مرتبطة بنظرتهم حفاظًا على مراكزهم ومصالحهم التي تتأثر لمجرد وعي الناس للواقع ومحاولتهم تغييره. في حين أن هدف المتسلطين هو إبقاء الجماعة أسيرة لمطامعهم.
ـــــــ النوع الثاني هو المثل الأعلى الذي ينبثق عن طموح الأمة وتطلعها نحو المستقبل، ولكن بنظرة جزئية محدودة لا تستوعب الطريق الطويل للمستقبل. أي إن هذا الطموح الذي منه انتزعت الجماعة مثلها كان طموحًا محدودًا مقيدًا لم يستطع أن يجتاز المسافات الطويلة، بل استطاع أن يكوِّن رؤية مستقبلية محدودة، انتزع منها الطموحُ المحدود مثلَه الأعلى... وبمعنى آخر، إن هذه النظرة الجزئية المستقبلية عندما يحولها الإنسان إلى مثل أعلى، إنما يحولها إلى شيء مطلق. وهنا يكمن الخطر، لأن هذا المثل الأعلى سوف يخدم الإنسان في المرحلة الحاضرة بما يهيّئ له من إمكانيات السعي نحو المستقبل، ولكن سرعان ما يصل هذا السعي إلى حدوده القصوى، وحينئذٍ قد يتحول المثل الأعلى إلى قيد للمسيرة المستقبلية الطويلة أي إلى عائق عن التطور بل إلى مجمّد لحركة الإنسان. والمثال على ذلك الفكر الأوروبي في بدايات عصر النهضة الأوروبية عندما وضع له مثلًا أعلى هو الحرية... فقد رأى أن الإنسان الغربي إنسانٌ محطم مقيد، في عقائده الدينية وأفكاره كلها نتيجة حكم الكنيسة وتعنتها، تمامًا كما هو مقيد في قوته ورزقه بحكم أنظمة الإقطاع. فأراد الفكر الأوروبي أن يحرر الإنسان من تلك القيود ليصبح هذا الإنسان كائنًا مختارًا، يفعل بجوارحه، ويفكر بعقله، ويتصور ويتأمل بذاته، لا أن يتلقّى هذا التصور والتأمل كصِيَغٍ ناجزةٍ عن الآخرين.
فماذا حصل؟
لقد فات الإنسان الأوروبي المحتوى والمضمون لقيمة الإنسان، بحيث جعل الحرية هدفًا، وهذا صحيح فالحرية هدف يسعى إليه ويجاهد في سبيل تحقيقه، لكنه صيَّر من هذا الهدف مثلًا أعلى في حين أنه لا ينبغي أن يكون في الحقيقة إلا إطارًا، يحتاج إلى محتوى وإلى مضمون، وإذا جُرِّدَ من محتواه فسوف يؤدي إلى الويل والدمار. وهو ما تواجهه الحضارة الغربية اليوم التي صنعت للبشرية كل وسائل الرفاهية ولكن حولتها إلى وسائل دمار، لأن الإطار بقي بلا محتوى أساسي عن الوجود كله، وبلا مضمون روحي متعلق بنهاية هذا الكون...
ومن المقارنة بين النوعين من المثل العليا اللذين أتينا على ذكرهما سابقًا وهما: المثُل العليا المستمدة من الواقع، والمثل العليا المنبثقة عن طموحٍ محدود، نلاحظ أن المثل من النوع الأول هي امتداد للمثل من النوع الثاني. أي إنَّ المثَل الأعلى يبدأ منبثقًا عن طموح محدود، ولكن حين يتحقق هذا الطموح المحدود، يتحول المثل الأعلى إلى واقع محدود، وحينئذٍ يصبح مثلًا تكراريًّا. وعندما يتبدَّدُ هذا المثل التكراري فإن الأمة تتحول إلى شبحٍ لأمة.
وهذا يعني أن الأمة في هذه الفترة الزمنية تمرُّ بمراحل أربع:
المرحلة الأولى: هي مرحلة فاعلية يكون فيها عطاء وتجديد بقدر ما يكون لها من ارتباط بالمستقبل. لكن هذا العطاء، وهذا التجديد، يبقيان قصيرَي المدى لأنَّ المثل الأعلى محدودٌ وسوف يتحول في لحظة من اللحظات إلى قوة إبادة لكل ما أعطاه من مكاسب.
والمرحلة الثانية: هي مرحلة تجميد، لأنَّ المثلَ الأعلى حين يستنفد طاقته وقدرته على العطاء، يصبح بلا محرك، فتتوقف فاعليته. والقادة الذين كانوا يعطون ويوجهون على أساسه يتحولون إلى سادة وكبراء تنتفي عنهم صفة القيادة. وجمهور الأمة يتحول إلى مطيعين ومنقادين لا إلى مشاركين في الإبداع والتطوير.
والمرحلة الثالثة: هي مرحلة الامتداد التاريخي لأولئك الحكام، إذ تتحول السلطة إلى طبقة تتوارث المقاعد عائليًّا أو بأي شكل آخر من أشكال الوراثة. وهذه الطبقة تصبح هي الطبقة المترفة المنعمة الخالية من الأهداف الكبيرة، المنشغلة بهمومها الصغيرة وإشباع غرائزها وحاجاتها العضوية، وهذا ما يؤدي إلى تفتت الأمة.
والمرحلة الرابعة: هي المرحلة التي تفقد فيها الأمة ولاءها حتى للمثال التكراري، فيسيطر عليها مجرموها، الذين لا يرعون عهدًا ولا ذمة، فيحل بها الدمار، وتتمزق، ويذهب كل ما أنشأته وقامت به...
هذان هما المثالان السائدان في العالم اليوم وهذه هي نتائجهما التي نشاهدها ونتألم من قسوتها، وبُعْدها من إنسانية الإنسان.
أما النوع الثالث من المثل العليا فهو الذي يتمثل بالمثل الأعلى الحقيقي، وهو رضوان الله سبحانه وتعالى... فالمثل الأعلى الحق بالنسبة إلى الإنسان يجب أن يكون غير محدود، ومن غير نتاج الإنسان، بل لا ينبغي أن يكون إفرازًا ذهنيًّا للإنسان، بل يجب أن يكون مثلًا أعلى حقيقيًّا، له قدرته المطلقة وله علمه المطلق وله عدله المطلق. وهذا لا يكون إلّا من الله سبحانه وتعالى.
الإنسان والمثل العليا:
يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلَاقِيهِ} (سورة الانشقاق: الآية 6). هذه الآية الكريمة تخاطب الإنسان، وتنبِّهه إلى ضرورة أنْ يجعل هدفًا أعلى لنفسه، بل للإنسانية ككل، وهذا الهدف الأعلى هو كَدْحُه نحو الله سبحانه وتعالى، أي السير المستمر بالمعاناة وبالجهد والمجاهدة لتحقيق نيل مرضاة الخالق عزَّ وجل.
المثل الأعلى والشعور بالمسؤولية:
كلَّما تقدم الإنسان في هذا المسار، واعيًا المثل الأعلى وعيًا موضوعيًّا، كان سيرُه صُعدًا، وسعيُهُ هادفًا لأنه يتوخى فيه الارتقاء والتكامل باستمرار. وهذا هو التقدُّم المسؤول، وهو بخلاف التقدم غير المسؤول عندما يكون السير غير هادفٍ أو عندما يكون التقدم منفصلًا عن الوعي.
لذلك فإن المثل الأعلى في الحقيقة يحدث تغيُّرًا كيفيًّا في مسيرة الإنسان لأنه يمنحه الشعور بالمسؤولية. من هنا كان دور دين التوحيد الأخذَ بيد الإنسان لإزالة العوائق كافة، وكان كذلك دعوةً صريحة واضحة إلى نبذ كل المثل المصطنعة، والمنخفضة، والتكرارية التي تريد أن تجمد حركة الإنسان، وتنتزعه من دخيلته حتى تبعده من الشعور بالمسؤولية، ومن ثَمَّ من الكدح لتحقيق الوصول إلى المثل الأعلى الذي هو رضوان الله تعالى.
ومن هنا أيضًا كان التأكيد على دور الإنسان، بما يمكن أن يتحمل من مسؤولية للتأثير في حركة التاريخ، سعيًا وراء هذا المثل الأعلى في حياته. والركيزة الأساسية لهذا الدور هو الاختيار عند الإنسان، بفكره ومشاعره وبإرادته. وكلَّما توافق هذا الاختيار مع المثل الأعلى تمثل بمواقف إيجابية لهذا الإنسان، وهي المواقف التي تستتبع ضمن علاقات السنن التاريخية جزاءاتها المناسبة. فالجزاء يأتي من جنس العمل {كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} (سورة الطور: الآية 21) كما قال عزَّ وعلا. بحيث يكون لاختيار الإنسان موضعه الرئيسي في الساحة التاريخية، ومسؤوليته المهمة على هذه الساحة. وإن العمل التاريخي الذي تحكمه سنن التاريخ هو كلُّ عمل هادفٍ ذي غاية، والذي تكون له في الوقت عينه أرضيةٍ أوسع من حدود الفرد، وأرضية هذا العمل هي عادةً المجتمع أو أرضية الجماعة. وبذلك يكون موضوع السنن التاريخية العمل الذي يتوخَّى دائمًا مثلًا أعلى ساميًا يتَّخذ من المجتمع أو الأمة أرضية له، سواء اتسعت هذه الأرضية أو ضاقت.
الحالات التاريخية التي تصيب الأمة:
عندما يتداعى كيان الأمة، وتهترئ مقومات وجودها، فإن التاريخ يدلنا على أن هنالك إحدى ثلاث حالات يمكن أن تنطبق على هذه الأمة:
الحالة التاريخية الأولى: أن تتداعى الأمة أمام غزو عسكري خارجي، لأنها تكون قد تخلت عن وجودها كأمة، وصارت مجموعة أفراد، لا يهم كل فرد إلَّا تأمين حاجاته ومصالحه الذاتية. وهذا ما وقع للأمة الإسلامية بعد أن تخلى المسلمون عن مَثَلِهِم الأعلى، وعن ولائهم لهذا المثل الأعلى، فوقعوا فريسةَ غزو التتار لبلادهم، وسقطت حضارتهم تحت وطأة هذا الغزو الهمجي.
الحالة التاريخية الثانية: أن ينصهرَ أفراد الأمة وتذوبَ شخصيتهم الجماعية في مثلٍ أعلى أجنبيّ، يكون طارئًا أو مستوردًا من خارج بلادهم. ذلك أنَّ الأمة عندما تفقد حيوتها، ويضعف كيانها، وتتخلى عن المـــُثُلِ العليا والقيم الرفيعة النابعة من ذاتها، فإنها تبحث عن مَثَلٍ أعلى من خارجها تقدم له الولاء, وتمنحه القيادة عليها.
وهذا ما حصل للأمة الإسلامية عندما رزحت تحت وطأة الاستعمار، إذ كان بعض قادتها يبحثون عن مثلٍ أعلى مستوردٍ من الخارج حتى يطبقوه في حياة الأمة. ومن الحكام المسلمين الذين نجحوا في ذلك: رضا خان في إيران، وكمال أتاتورك في تركيا وبعض حكام العرب.
ذلك أن أولئك الحكام الذين لبسوا ثوب الإسلام، وفرغت نفوسهم من مفاهيمه، راحوا ينشرون في حياة شعوبهم المثلَ الأعلى لما يقوم به الإنسانُ الأوروبيُّ المنتصر، ويحاولون أن يجعلوا المسلمين يقدمون الولاء لهذا المثل الأعلى الذي استوردوه من أوروبا. وأهمُّ الأساليبِ الخبيثةِ التي استعملها المستعمرُ الأوروبيُّ لدعم أولئك الحكام بذرُ روحِ الانشقاق في صفوف الأمة الإسلامية، وبثُّ الروحِ القوميةِ بين شعوبها. فارتفعت رايات القومية الإيرانية، والقومية التركية، والقومية العربية. وقد عُمِّيت تلك الحقيقةُ عن أبصار المسلمين وبصائرهم، فراحوا يساعدون أعوان الاستعمار على توطيد الروح القومية بعيدًا من دينهم ومن ربهم الذي أنزل لهم هذا الدين هدى ورحمة لهم وللعالمين أجمعين. ونجح المخطّطُ الاستعماريُّ، وراح المثلُ الأعلى الأوروبيُّ ينتقل من بلد إلى آخر من بلاد المسلمين، حتى بلغ هؤلاء الدرك الأسفل من الانحطاط والتقهقر...
الحالة التاريخية الثالثة: أن تعود وتغرس في أعماق هذه الأمة بذور المثل الأعلى من جديد، وتتمسك به بآفاقٍ فكريةٍ جديدةٍ تكون على مستوى العصر الذي تعيشه.
ويبدو أن هذه الحالةَ قد عادت إلى ساحة الأمة الإسلامية بفضل الله تعالى وبفضل روادٍ في الفكر الإسلاميِّ ظهروا في بدايات وفي أثناء عصر الاستعمار لشعوب الأمة وبلادها. وقد بذل أولئك الرواد جهودًا مخلصة، ومنهم من استشهد من أجل إعادة غرس المثل الأعلى في نفوس المسلمين، وحتى يأتي العمل متوافقًا مع روح العصر ومتناسبًا مع حاجات المسلمين.
المسار الحقيقي لحركة التاريخ:
وفي دراسة حركة التاريخ، لا بد من أن تواجهنا قاعدتان أصليتان ينبغي أن نتذكرهما دائمًا حتى نضعَ هذه الحركة في نطاقها الصحيح، ونعطيها مسارها الحقيقي. وهاتان القاعدتان هما:
ـــــــ أنَّ خلق الأفعال من الله تعالى، لأنَّ له وحده الألوهية والرُّبوبية والخلق.
ـــــــ أن مباشرة الأفعال هي من الإنسان، لأنه يملك قدرة المباشرة، ولأنه يملك خاصية الإدراك. إن قدرة الإنسان على المباشرة، وامتلاكه ملكة الإدراك، تتيحان له فهمَ حركة التاريخ، كي يستطيع التأثير في واقعه، وتغيير هذا الواقع انطلاقًا من فهمه لهذه الحركة.
وعلى هذا الأساس يمكن القول بأن حركة التاريخ هي مدار الجهد الإنساني منذ فجر الخليقة، وستظل كذلك حتى نهاية هذا الكون... أي إنها ذلك النتاج الكبير، والتجمع الضخم للأحداث ـــــــ الغامضة منها والواضحة، المستترة منها والمعلنة ـــــــ التي شهدها الإنسان في مختلف مراحل تطوره، ابتداءً من اكتشاف حاجاته الأساسية، وحتى بلوغه أقصى درجات النضوح الفكري الذي أمده، ولا يزال يمدُّه، بعناصر وعوامل التقدم والرقي... أي إنها ذلك النتاج والتجمع من إرادة البشرية ونضجها، وذكائها وجهودها، بحيث تتكون الحصيلة النهائية للجهد البشري في كل زمان، عند مفترق مرحلة من المراحل، لكي تتوثَّب للانتقال إلى مرحلة أخرى. لذلك فإن هذه الحركة هي التي تعطي لكل مرحلة من مراحل التطور إشارة البدء، من دون أن يكون لديها إشارة للختام، لأنه لا نهاية لها هي مثلما أنه لا ختام ملحوظًا أو مرئِيًّا للجهد الإنساني، ما دام الإنسان قائمًا على هذه الأرض...
فالمهم أن حركة التاريخ لا تتوقف، وكذلك تقدم الإنسان، فهو في إطارها وضمن مسارها، لا يتوقف أيضًا... وتبقى حركة التاريخ مستمرة، ويبقى معها الإنسان دائرًا في فلكها إلى أن يحين الميعاد، وينتهي كل شيء بأمر الله تعالى، لأنَّ إلى ربك المنتهى... ففي النهاية كل شيء يرجع إلى الله ـــــــ سبحانه ـــــــ لأن إليه المصير، مهما امتدت الأزمان، ومهما تعاقبت الأجيال، وتداولت الأمم، ومهما طال عمر الكرة الأرضية.
ملاءمة حركة التاريخ:
وكما أن حركة التاريخ مستمرة في جريانها وفق ما قدَّر لها اللهُ تعالى، فإنَّ هذا الجريان يبرز على عدة مراحل، وبطرق متنوعة بحيث لا تأتي نتائجه واحدة على البشرية ككل في صفٍّ واحدٍ، ولا وفق خطة واحدة، وزحف واحد، وظروف واحدة... ذلك أن المجال واسع أمام كل جماعة، أو شعب، أو أمة، لوضع الخطط ورسم الطرق، وتعيين الأهداف وفق الإمكانيات المتاحة والاحتياجات المطلوبة، وظروف التطور لكل منهم. أي بمعنى آخر أن حركة التاريخ تكون عبارة عن ملاءمة الطرق والمراحل والظروف لكل جماعة بشرية تعي حاجياتها، وتستفيد من إمكانياتها، وتعرف كيف تطوِّر ظروف حياتها، حتى تحقِّق الأهداف التي ترسمها، والآمال التي تصبو إليها. فإن كانت لها القدرة على استيعاب تلك الملاءمة وعرفت كيف توظفها لصالحها، أمكنها الوصول إلى أهدافها عن طريق استخدامها لحركة التاريخ الاستخدام الصحيح. وإلَّا بقيت تدور حول نفسها، لا تعلم كيف تبتدئ ولا كيف تسير ولا كيف تصل. وبقيت ترسف في قيود الجهل والتخلف، بعيدة من كل تقدم وتطور، أي خارج ملاءمة حركة التاريخ...
وحركة التاريخ لا يصنعها، ولا يمكن أن يصنعها، فرد أو أفراد مهما علا شأنهم ونمت أفكارهم، ومهما كان حظهم كبيرًا في العبقرية والسلطان... قد يستطيعون بقواهم الخارقة أو شبه الخارقة ـــــــ ومدلول الخارقة هنا يعني تميُّزهم بالقدرة الفائقة بالنسبة إلى غيرهم ـــــــ أن يسيطروا على بعض الفرص الموجودة أصلًا في حركة التاريخ من خلال سيرها المرسوم، وبالتالي أن يسيطروا على بعض الأحداث الكبيرة التي تظهر في أيامهم. بل ربما كانوا هم الذين يقومون بافتعال هذه الأحداث، محققين أحيانًا نجاحات باهرة، لكنهم غير قادرين، أحيانًا أخرى، على تحقيق أي شيء، ما دامت الظروف كثيرة المفاجآت، والاحتمالات شديدة التقلُّب، وهذه الاحتمالات وتلك الظروف قد لا تكون متوقعة أبدًا عندهم...
وقد يساعد هؤلاء العباقرةَ ذكاؤهم على أن يسارعوا الخطى، وأن يقطعوا طريقهم وثبًا... لكن المفاجأة تكون عند الخطوة الأخيرة التي تفصلهم عن هدفهم، حيث لا يجدون شيئًا، بل قد يجدون أنفسهم ـــــــ بكل حساباتهم، وبكل عبقريتهم، وبكل اقتدارهم ـــــــ منكفئين إلى الوراء أو منزلقين في هوة سحيقة... من دون أن يقدروا على تحقيق شيء من تطلعاتهم وطموحاتهم...
وليس ذلك فحسب، بل قد يكتشفون ـــــــ بعد فوات الفرصة ـــــــ أنهم لم يعرفوا كيف يستخدمون الفرص التي أتيحت لهم استخدامًا ذكيًّا لتحقيق أهدافهم، بحيث تأتي النتائج مغايرة تمامًا لما حسبوه هدفًا محسوبًا ومدروسًا، وله ميقاته المعلوم، وله وسائله وأساليبه الملائمة. ذلك أن حركة التاريخ، وهي تسير بأمر الله تعالى، كانت خارج إطار حساباتهم، وقد عملوا بخلاف السنن المقدرة لها. لذلك نجدهم، على الرغم من لهاثهم وراء ما نسجوا، فإنهم قد وقعوا في الأخطاء الفادحة التي قادتهم إليها قناعات ضالة أدَّت جميعها في النهاية إلى الفشل.
وهذا ما حدث مع «نابليون» ومع «هتلر» ومع «كارل ماركس» ومع كثيرين غيرهم من السابقين عبر التاريخ الطويل... فقد تصور كل واحد من هؤلاء، أنه قادر بما يملك من قوةٍ فكرية أو مادية، أن يغيِّر مجرى التاريخ، وأن يتحكم بمصير القارة التي يعيش عليها، أو بمصائر العالم بأسره. لكن النتائج جاءت في النهاية تثبت أنه لم يستطع تحقيق أحلامه، لأنه لم يفقه حركة التاريخ، أو لم يتجاوب مع سننها الإلهية وفق المنهج الرباني الذي رُسِمَتْ له...
ومع ذلك لا أحد يُنكر بأن «ماركس وأنجلز» ـــــــ كونهما فيلسوفي الماركسية ـــــــ كانا من الذين حركوا الأفكار لنيل الثقة بحركة التاريخ. مع أن الماركسية من الوجهة النظرية تقوم على جهالةٍ عميقةٍ بالنفس البشرية وبحركة التاريخ. فهي تصوِّر جميع الدوافع الإنسانية على أنها جوعة المعدة، والصراع على لقمة العيش. كما أنها تصوِّر حركة التاريخ بأنها تتغيّر تبعًا لتغيّر أدوات الإنتاج... وبذلك تلغي الماركسية أهمَّ مقوِّمات الإنسان التي تفرق بين تاريخه وتاريخ الحيوان. ثم هي، فجأةً، تتصوّر المستقبل خِلْوًا من كلّ وراثات البشرية... وتفترض أن الناسَ سيتحوّلون ملائكةً خيّرين، يُنتج كل منهم أقصى ما يستطيع ولا يأخذ إلّا قدرَ ما يكفيه... وكلّ هذا يجري بنظرهم من دون رقابةٍ ومن دون حكومةٍ، ومن دون إيمان الإنسان بجنة ترغِّبه أو بنارٍ تردعه. أو من دون سبب مبنيٍّ على حقيقة الواقع... اللّهمّ إلّا ذلك الانقلاب الخرافيّ العجيب الذي يتمُّ في طبائع البشر بمجرد تحطيم العناصر البورجوازية، وتسليم الأمر للبروليتاريا... كما يزعمون.
ولقد حاول ماركس نفسه اكتشاف الأهمية البالغة لحركة التاريخ فنجح فقط بصفته فيلسوفًا للماركسيّة. أما حين أراد أن يتجاوز هذه الصفة، وراح يشترك في قيادة ثورات بعض بلاد أوروبا، فقد حاق به، وبتلك الثورات، فشل ذريع، لأنه وفقًا لمفهوم حركة التاريخ الصحيح لم تكن الفرص ـــــــ حتى ذلك الوقت ـــــــ قد أصبحت مؤاتية لظهور تلك الثورات... وبذلك فشل ماركس في محاولته الإفادة من حركة التاريخ وواجه عواقب تعجُّله وتسرُّعه.
بيد أن «لينين» مهندس الماركسية وقائدها، والذي لم تكن إحدى ظواهر حركة التاريخ في بلاده روسيا من صنعه، قد أمكنه أن يُتِمَّ نجاح الثورة بقيادته. فقد عاش في المنفى سنين طويلة، يعلِّم شعبه من بعيد الامتعاض والرفض، ويعبِّئه ويهيئه بنداءاته وتوجيهاته التي كان يرسلها إليه سرًّا... وعلى الرغم من أن تلك التعبئة كانت ضد الطغيان والفساد والجهل، وأن ذلك التهيؤ كان ليوم الثورة، فإنه لم يستطع أن يبلغ أهدافه الثورية. إلَّا بعد أن عرف كيف يفيد من الفرصة المؤاتية لتلك الثورة.
ذلك أنه عندما شارفت الحرب العالمية الأولى على نهايتها، وأمست ألمانيا تواجه هزيمتها، فإنها راحت تلعب بكل الأوراق المتبقية لديها... وكان أخطر تلك الأوراق، وأكثرها احتمالًا للنجاح والغلبة: «لينين» و«روسيا»... تلك كانت هي الفرصة التي هيأتها الحرب برجوع لينين إلى بلاده، ودخولها خفيةً حتى صار في وسط الأحداث، يراها ويسمعها، ويحاول أن يكفيها بما يخدم أغراضه وأهدافه... ولولا تلك الحرب لما استطاع «لينين» أن يصنع شيئًا، ولو في ذلك الحين على الأقل. بل وما كان بقادرٍ على أن يعود إلى روسيا، ليخطوَ تلك الخطوات التي قادت إلى تغيير النظام برمَّته، وإقامة حكم جديد أساسه الفلسفة الماركسية، وهيكليته الاشتراكية... من هنا يمكن القول بأن لينين أفاد من حركة التاريخ في خضم تفاعلات الحرب العالمية الأولى، والتي كان من نتائجها زوال أنظمة بأسرها في أوروبا وآسيا وغيرهما، وقيام أنظمة أخرى بديلة.
ومع ذلك فإن من يفهم حركة التاريخ بجميع جوانبها، ويقف على مفهوم سننها هو الذي يقدر وحده أن يستفيد منها، كما فعل «لينين» عندما فهم بعض جوانبها... فقدرة هذا الرجل كقائدٍ ومعبِّئٍ ومناضل... بغضّ النظر عن النظام الذي أقامه، والفلسفة التي ارتكز عليها هذا النظام، وبغضّ النظر عن الماركسية ككل لما تنطوي عليه من نظريات مادية وإلحادية ولا سيما في اعتبارها أن حركة التاريخ هي من صنع الإنسان، في حين أنها في الحقيقة هي من صنع الله الحكيم الخبير... نعم بغضّ النظر عن ذلك كله، فإن قدرة لينين تكمن في فهمه لبعض جوانب حركة التاريخ، واحترامه لها، واستشرافه توقيتها، لذلك أمكنه أن يفيد من بدء جولة جديدة من جولاتها، ولعلَّه بهذا كان أكثر توفيقًا من أستاذه «ماركس»...
أما على المستوى الدولي فقد تثبَّتَت الاشتراكية كنظام في مقابل النظام الرأسمالي. ثم راح ينمو كل من هذين النظامين بزعامة الاتحاد السوفياتي للنظام الاشتراكي، وزعامة الولايات المتحدة الأميركية للنظام الرأسمالي، إلى أن توزعت سائر الدول الأخرى بين تبعيَّة هذا النظام أو ذاكَ. وقد وقف المسلمون بين الطرفين كأمة وسط، تدين بالإسلام عقيدةً ومنهجًا للحياة، وتسودُ بلادَهم أنظمةٌ وضعية فرضها عليها أعداؤهم فرضًا، وذلك نتيجة لتفرق كلمتهم ولعدم تفاعلهم مع تعاليم إسلامهم الصحيحة...
وهكذا يتأكد لنا أن «حركة التاريخ» حركة مستمرة، وتبرز بالآثار والنتائج المقدَّرة أصلًا من الله تعالى، أيًّا كانت أعمال البشر وقدراتهم التي يتوهمون امتلاكها.
إننا نعود فنؤكِّد أن حركة التاريخ هي الدليل على مجريات الأحداث ونتائجها، وأنه لا يمكن لأحدٍ أن يتحرَّك وينجح بمحض إرادته إذا لم يكن قد أتى دورُ تحرُّكه المفروض في مرحلة معيَّنةٍ لا يتمكَّنُ من استباقها ولا من التأخر عنها. قال تعالى مخاطبًا نبيَّه موسى عليه السلام: {فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى} (سورة طه: الآية 40). أي جئتَ في الوقت المقدّر لنبوّتك: لم تستبقْهُ ولم تتأخّر عنه.
فاعلية حركة التاريخ:
أما إذا حاولنا الإلمام ـــــــ ولو بنظرة سريعة ـــــــ بفاعلية حركة التاريخ في مسار الحياة البشرية من خلال استعراضٍ جزئي للأحداث العامة التي وقعت في قارتي آسيا وأفريقيا، خلال المدة الزمنية التي بدأت منذ الحرب العالمية الأولى واستمرت إلى ما بعد الحرب العالمية الثانية، لوجدنا أن أيًّا من زعماء البلاد في القارتين لم يكن صاحب دور جوهري، وحقيقي، ومنفرد في تحرير بلاده... بل هي حركة التاريخ التي شاء الله تعالى أن يوظفها بعد الحرب العالمية الثانية لحساب شعوب القارتين الكبيرتين، بحيث أفضت نتائج تلك الحرب إلى تخليص معظم الشعوب من الاستعباد والاستعمار العسكري بما مكَّنها من إقامة دول ذات أنظمة معيَّنة... وكل ذلك ضمن حركة التاريخ، التي انعكست بتغيُّر الأحوال في القارتين، وإفساح الطريق أمام الشعوب المناضلة علَّها تنجح في إبعاد شبح الظلم والاستبداد من حياتها في تينك القارتين.
ولو عُدنا إلى الوراء قليلًا وفق دورة الزمان، لوجدنا أن ما حصل في أعقاب الحرب الثانية، وما تمخَّضت عنه من نتائج، لا يختلف كثيرًا في جوهره عما كان قد حصل منذ قرنين من الزمن في القارة الأميركية، ولا سيما في أميركا الشمالية. لقد استفاد بعض زعماء هذه البلاد من الفرصة السانحة التي مكَّنتهم من التخلص من الاستعمار الإنكليزي لبلادهم، فقاموا يستنهضون الهمم، ويصوِّرون للناس أهمية التحرر والاستقلال، حتى كانت الاستجابة، وعقدت المؤتمرات التي جمعت في بادئ الأمر ثلاث عشرة ولاية. ثم انطلقت المسيرة لتنضوي كلُّ الولايات الأخرى، شيئًا فشيئًا، إلى لواء العلم الاتحادي الذي جعل منها دولة اتِّحادية. وراح زعماؤها يقتنصون الفرص، مستفيدين من حركة التاريخ، وباذلين الجهود لمواكبة سير التقدُّم، حتى أوصلوا دولتهم إلى ما هي عليه من القوة والسلطان، وصارت اليوم دولة عظمى يمكن لها أن تتحكَّم، حقيقةً أو جزافًا، بمصير العالم كلّه.
ولكن إذا كانت التغيّرات الحاصلة في العالم، وبحكم مسيرة حركة التاريخ، قد أفسحت في المجال لقيام دولٍ عظمى لم تكن موجودة من قبل، كالولايات المتحدة الأميركية، فإنها، في المقابل، قد أزالت امبراطوريات وملكيات سيطرت على أجزاء كبيرة من الأرض خلال حِقبٍ طويلة من الزمان... فعندما اعتقد الأباطرة والملوك ـــــــ الذين كانوا يحكمون بنظرية الحق الإلهي ـــــــ أنهم ملكوا زمام الأمور، وأنهم قادرون على التحكم برقاب الشعوب، ظهرت حركة التاريخ بوجهٍ آخر لتثبت لهم أن الأمر منوط بقدرة من يسيِّرها ـــــــ وليس بقدرتهم هم ـــــــ وأنه يكون لها تأثيرها، بأمر ربِّها، أن تنعكس في التبديل والتغيير الحاصلين، وليس لأيِّ امبراطور أو ملكٍ أن يتسلَّح بقدرته، ولا بعبقريته بعيدًا ممّا يشاء الله تعالى، ولا السير بخلاف ما قدَّره ـــــــ سبحانه ـــــــ لمسار حركة التاريخ. فغابت من جراء ذلك امبراطورية الرومان، وذهب حكم كسرى، وهوت عروش أوروبا، واندثرت جبابرة آسيا. وزالت دول وشعوب غازية كثيرة، وبقيت مع ذلك حركة التاريخ تتفاعل مع الأحداث التي تحصل هنا أو هناك بما ينفعُ حينًا، أو يضرُّ أحيانًا الأفراد والجماعات.
وليس النفع أو الضرر بفعل حركة التاريخ نفسها، لأنها في النهاية، لا تملك هي مصيرها حتى يمكنها أن تتحكم بالمصائر، بل إنها تهيّئ الأسباب والإمكانيات، وتتيح الفرص والمجالات، فإن جاءت النتائج ضارة وسلبية، فذلك لسوء مباشرة الإنسان للأفعال، نتيجة جهله لحقيقة حركة التاريخ، وإن جاءت النتائج مفيدة وإيجابية، فذلك لحسن مباشرة الإنسان للأفعال، من جراء فهمه لحقيقة حركة التاريخ...
حركة التاريخ ومباشرة الأفعال:
لا شك في أنَّ مباشرة الأفعال إنما هي من فعل الإنسان ولكن بالقدرة التي منحه إيَّاها الله تعالى... وما يجب أن ينطلق منه الإنسان هو تلك القاعدة التي تفرق بين المباشرة غير السليمة والمباشرة السليمة. فالإنسان عندما يباشر أعماله في الحياة يجب أن تكون هذه الأعمال متفقة مع أوامر الله تعالى ونواهيه حتى تكون المباشرة سليمة وحتى تجيء النتائج مؤاتية. وإذا كان من الصحيح أنَّ انطلاقة مباشرة الأفعال هي من الإنسان، إلّا إنّ النتائج تأتي دائمًا وفق إرادة الله تعالى وعلى النحو الذي قدَّره سبحانه، في النهاية، وأراده.
ولكن في أثناء مباشرة الإنسان للأفعال من الممكن أن تعترضه عقبات، أو قد تحدث له مفاجآت لم تكن في حسبانه، ولم يكن ينتظرها. فإذا كانت مباشرته قد ارتكزت على أسسٍ سليمةٍ، واعتمدت وسائل وأساليب صحيحة، فإنّ الاحتمال الأكبر أن تأتي النتائج لصالح هذا الإنسان كونه يكون قد باشرها على الأسس المبنية على أوامر الله ونواهيه... أي أن هذه المباشرة الصحيحة السليمة هي التي سوف تؤدي إلى النتائج الحسنة والمفيدة. ومن هنا تكون النتائج النهائية من الله المدبّر الحكيم، وعلى النحو الذي أراده سبحانه وتعالى...
وهذا ما تؤكده الآيات القرآنية الكريمة بقوله تعالى: {وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى (40) ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاء الْأَوْفَى (41) وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنتَهَى} (سورة النجم: الآيات 39 ـــــــ 42)... ومثلها أيضًا آيات بيِّنات تؤكد هذا المعنى. قال تعالى: {وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنثَى (3) إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى (4) فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7) وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى (10) وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى (11) إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى (12) وَإِنَّ لَنَا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولَى} (سورة الليل: الآيات 3 ـــــــ 13)... أو ليس واضحًا أنَّ السعي للأعمال (أي مباشرتها) متروك للإنسان بفعل اختياره؟
ثم أليس واضحًا أيضًا أن لا نتيجة محتومة مهما كان السعي، لأن المشيئة لله سبحانه، وهو تعالى يقدِّر النتائج بصورتها النهائية؟ ولكن يبقى الإيمانُ بقدرة الله سبحانه وعظمته، والتسليمُ لحكمته ومشيئته، الدافعَ الأول والأخير، والأساسَ الصلب المتين الذي يجب على الإنسان أن يتمثل له، ويعمل بموجبه... أما إذا تنكَّر لذلك فقد كفر. وقد توعَّد الله هؤلاء الكافرين، الذي يتوهمون أن الأعمال بيدهم، وأن النتائج التي يرغبون فيها بامتلاكهم، توعَّدَهم بما يستحقون على سوء ظنهم. وفي الحقيقة إذا كان الإنسان يملك المباشرة إلَّا إن النتائج لا يملكها إلا الله وحده. وهو الذي أخبر في كتابه الكريم أن نتائج أعمال الذين كفروا بربهم كرمادٍ تذروه الريح العاصفة، أو كسرابٍ في أرض جرداء لا ماءَ فيها، وذلك في قوله تعالى: {مَّثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لاَّ يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُواْ عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلاَلُ الْبَعِيدُ} (سورة إبراهيم: الآية 18). وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاء حَتَّى إِذَا جَاءهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} (سورة النور: الآية 39) .
هذه هي الحقيقة التي لا مراءَ فيها. فالإنسان يعمل، لكنَّ عملَهُ مرهونٌ بإيمانه بحقيقة وجود الله تعالى، أو بكفره بربه، ومحكوم بالنهاية بالنتائج التي تترتب على الإيمان والكفر... ولا مجال لتجاهل هذه الحقيقة، بل إن تجاهلها هو الجهلُ المطبق، والضلال المبين. فليدرك الإنسان عظمة الله تعالى، فهو الخالق، وهو الإلهُ، وهو الربُّ العزيز القدير. {أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ} (سورة الأعراف: الآية 54)، كما يقول عن نفسه سبحانه وتعالى، بحيث لا يعود بعد هذا القول من مجالٍ لأي وهمٍ أو تمنٍّ... روي أنه عند نزول هذه الآية الكريمة، وتلاوتها من قبل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على الصحابة الكرام، خرج عبد الله بن عمر رضي الله عنه يقول للناس: «مَن بقي له شيء فليطالب به»...
الله سبحانه يُمِدُّ الإنسانَ من عطائه:
ويزيد القرآن الكريم تأكيدًا على هذه الحقيقة بقوله تعالى: {سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (82) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (83) وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاء إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ} (سورة الزخرف: الآيات 82 ـــــــ 84) فسبحان الله الذي هو في السماء إلهٌ، وفي الأرض إلهٌ، عمَّا يعاندون، ويكابرون حين لا يردون النتائج لأمره سبحانه وتعالى... إذ كثيرًا ما يتوهم الجاهلون بأن في الأرض خلائق كثيرين من بني البشر يسعَوْن ويكدون، ويَغْنَون ويعلون، ثم يتصرفون بلا وازع إيماني، ولا مناقبية إنسانية، فيعجب الجاهلون، كيف أنّ أولئك الجاحدين المنكرين يمدُّهم الله سبحانه بأسباب الغنى والجاه، وكيف أنَّ آخرين، من المؤمنين، قد لا يحصلون على مالٍ، ولا على جاهٍ، ولا على غير ذلك من أسباب الحياة... لذلك كان لا بد من تصحيح المفاهيم عند مَن لا يتبصَّرون في القرآن، الكتاب المجيد الذي فيه تبيان كل شيء، والذي ردَّ على تعجُّب الجاهلين، وغير الجاهلين، بتقريره أنّ العطاء والرزق من الله، فهو يعطي من يشاء من عباده مؤمنين وكافرين، ويمدُّ من يشاءُ منهم وفقَ ما يريد، فليس عطاء الله تعالى محظورًا... كُلًّا يعطي، وكُلًّا يعجِّل له... ولكن إلى أين ذلك كله، والمصير بيد الله تعالى، والنتائج مردُّها إليه عزّ وجلّ؟ فمن كان يريد الدنيا يُعطى، ومَن كان يُريد الآخرةَ يُعطى... ولكن ماذا بعد هذه الدنيا... إلّا الآخرة؟ إذًا فهنالك المصير المحتوم!...
يقول الله تعالى: {مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَّدْحُورًا (18) وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا (19) كُلاًّ نُّمِدُّ هَـؤُلاء وَهَـؤُلاء مِنْ عَطَاء رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاء رَبِّكَ مَحْظُورًا} (سورة الإسراء: الآيات 18 ـــــــ 20). وفي ذلك أيضًا يقول الله تعالى: {مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ} (سورة الشورى: الآية 20).
فكلام الله تعالى يجري دائمًا على السعي، والعمل والحرث، والمراد بها مباشرة الأعمال. فمن عمل لدنياه فحسب، فإنَّ الله سبحانه يعجل له فيها ما يشاء لمن يريد، ولكن يجعل له جهنَّم مصيرًا. ومن عمل لآخرته وسعى لها سعيها، وهو مؤمن، كان سعيُهُ مشكورًا ونال الجزاءَ الأوفى.
وحرثُ الإنسان، هو كل ما يباشره من أعمال... فمن كافح صابرًا مثابرًا محتسبًا لإقامة العدل وإحقاق الحق، أمده الله بعونه وتوفيقه، وزاد في حسناته أضعافًا مضاعفة، وإن لم يؤتَها في الدنيا، فهي له حتمًا في الآخرة... وأما من عمل لنفسه، وقاس الحق والعظمة بسيادته، والعدل والخير بمعاشه ولباسه، فإنه يمكن أن ينال ما أرادَ، كلَّه أو بعضَه، لكنه عند الله وعند المؤمنين يُقدَّرُ بما قاسَ به الحق والعدل، وما له في الآخرة من نصيب... هكذا هي حياة الإنسان أمام الحقائق المطلقة، يباشر العمل وفق أوامر الله ونواهيه فتأتي النتائج طيبة. أما إذا باشره بخلاف ما يرضاه الله تعالى فإن النتائج تأتي ويلًا عليه. وجميعُ ذلك مردُّهُ لأمر الله. ألا له الخلقُ والأمر في السماء وفي الأرض، إنه هو الحكيم العليم...
ويبقى عمل الإنسان في ذلك كله ضمن دائرة حركة التاريخ، أي إنه بأمر الله سبحانه وتعالى تكون لبني الإنسان أحوال وأوضاع شتَّى، كما تكون للدول والجماعات أحوالها وأوضاعها حيث تندثر جماعات، كما رأينا، وتقوم أخرى، وحيث تزول دولٌ وتنشأ أخرى...
حركة التاريخ جند من جنود الله:
وقبل أن ننهي هذا الفصل لا بدّ من القول: إنَّ أهم ما يجب تقريره هنا، بل التأكيد عليه، أن حركة التاريخ في المفهوم الإسلامي، إنما هي جندٌ من جنود الله: {وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً} (سورة الفتح: الآية 4). {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ} (سورة المدثر: الآية 31)... أو هي كلمة من كلمات الله، كما يعبر عنها بعضهم. وسواء قيل إنها جندٌ من جنود الله أو كلمة من كلماته، فهي أخيرًا من صنع الله، بحيث لا يحدث شيء في السماء أو في الأرض إلَّا بأمره وبعلمه، ووفق مشيئته المطلقة... ومن هنا كان دور حركة التاريخ مهمًّا، وبارزًا، لأنها تجري بأمر الله، فتشهد على تداول الأحوال، وتبدل الأوضاع ـــــــ للأفراد والجماعات ـــــــ بالانتقال من حال إلى حال، ومن وضع إلى وضع، من غير أن تتأثر أو أن تنتج آثارها إلَّا بما شَاءَ لها الله وما قدَّر، لأن الأمرَ كله، في النهاية، إليه وحدَه. وقد قال تعالى: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (سورة آل عمران: الآية 26).
فالله ـــــــ سبحانه ـــــــ هو وحده المالك، بلا شريك ولا منازع. يملِّك من يشاء من ملكه وبقدر ما يشاء. يملِّكه إيَّاه ملكية إعارة خاضعة لشروط صاحب الملك وأمره، فإذا تصرف المستعير تصرُّفًا مخالفًا لشروط المالك وقع هذا التصرف باطلًا، وتحتّم على المؤمنين ردُّه في الدنيا... أما في الآخرة فهو محاسب على باطله ومخالفته لشرط المملِّك صاحب الملك الأصيل.
والله ـــــــ سبحانه ـــــــ هو وحده أيضًا يُعِزُّ من يشاء، ويُذلُّ من يشاء بلا معقِّب على حكمه، ولا مُجير عليه، وبلا رادّ لقضائه. فهو ـــــــ سبحانه ـــــــ صاحب الأمر كله، وأنه هو القادر على كل شيء، وهو الحكيم الخبير.
وفي قيُّوميةِ الله هذه، الخير كل الخير، فهو سبحانه يتولاها بالقسط والعدل، فيؤتي الملك من يشاء، وينزع الملك ممن يشاء بالقسط والعدل. ويعز من يشاء ويذل من يشاء بالقسط والعدل. فبيده الخير الحقيقي في جميع الأحوال، وفي جميع الحالات، ومشيئته مطلقة، وقدرته مطلقة على تحقيق هذا الخير، لأنه على كل شيء قدير.
فهل يمكن بعد، أن يكون لأحدٍ في الأرض ملك أو سلطان، أو قدرة أو أمر، إلا أن يشاءَ اللهُ تعالى؟!...
وهل تدلّنا حياة الإنسان إلَّا على هذه الحقيقة المطلقة؟ فكم من شخص وصَلَ، بعد الفاقة والقهر، إلى أعلى مراتب الغنى والعزّ، وكم من جماعة ارتقت وارتفعت في سؤدد الحكم والسلطان ثم هبطت، وتقهقرت، وزالت من الوجود... فهؤلاء حكام الرومان وحاشيتهم أكبر مثال على ذلك. لقد انصرفوا بعد حروب دامية واحتلالات متعاقبة دامت طويلًا، إلى حالة الارتخاء، وإلى المتع والملاذّ، والإغراق في مباهج الحياة حتى كان أحدهم، لكثرة المآكل والمشارب أمامه، وقد امتلأ شبعًا، يذهب ويتقيّأ حتى يستطيع أن يعود للأكل والشرب من جديد... ولكن ها هُمْ أولاء قد أصبحوا في التاريخ نسيًا منسيًّا: ذهبت سِيَرُهم، وأضحت قصورهم وأملاكهم هباءً منثورًا، بعد أن دالت الأيام عليهم، كما دالت على غيرهم، وقذفتهم في متاهات النسيان...
{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لَّأُوْلِي الأَبْصَارِ} (سورة آل عمران: الآية 13)... صدق الله العظيم.


المصادر
2 انظر إلى كتاب المدرسة القرآنية للعلامة المفكر محمد باقر الصدر.

3 القِيعة: الأرض الجرداء الخالية. والباء هي حرف جرٍّ بمعنى في.
مقدمة الكتاب
القسمُ الأوّل
القِسم الثاني
القِسم الثالِث
القسم الرابع
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢