نبذة عن حياة الكاتب
علم النفس: معرفة النفس الإنسانية في الكتاب والسنة - الجزء الثاني
الطبعة : الطبعة الثانية
المؤلف : سميح عاطف الزين
فئة الكتاب : معاجم
عدد الصفحات : ١٤٧٢
تاريخ النشر : ٢٠٠٨
الفهرس (اضغط على الرابط للقراءة)

الطباعة والنشر
الفصل التاسِع - البحثُ الأوّل: الإيمَان بالغَيب وأثره على النفس الإنسانية
البَحثُ الثّاني: الحقُّ وَالباطِل وَتأثيرهُما في الحَياةِ عَلى النّفسِ الإنسَانيَّة
البحثُ الثالِث: الهُدَى والضٌّلال والخَطَأ وأثرهُمَا عَلى النّفسِ الإنسَانيَّة
الفصل العاشر - البحث الأوّل: النفس ونزغ الشيطان
البحث الثاني: الفتنة والتجربة
البحث الثالث: الإغواء والإغراء
الفصل الحادي عشر - الدوافع والبواعث
الفصل الثاني عشر - البحث الأول: الانفعَالات
البحث الثاني: العقد النفسيَّة
البحث الثالث: الحِيَل العقليّة
الفصل الثالث عشر - البحث الأوّل: القناعة والثقَة
البحث الثاني: الجدّيَّة والتغيير
الفصل الرابع عشر - البحث الأوّل: الظروف والملابسَات
البحث الثاني: الأجوَاء والمناخَات
الفصل الخامس عشر - مجاهَدة النفس
مجاهدة النفْس
الفصل السادس عشر - البحث الاول: الأمراض العصَابيَّة
البحث الثاني: العلاج النفسي في الإسلام
الفصل السابع عشر - الأمانُ النفسي
الفصل الثامن عشر - السَعادة النفسيَّة
الفصل التاسع عشر - خيَارات ومواقف
الخاتِمة
هوامش

البحث الثاني: الفتنة والتجربة
أصل الفَتْن: الحرق،يقال: فَتَنَ الشيءَ فَتْناً إذا أَحْرَقَهُ، وفَتَنَ الصائغُ الذهبَ أو الفضة فَتنةً: أذابَهُ بالبوتقة، وأحرقه بالنار ليظهر جيّده من رديئه، وخالصه من شوائبه، وهو أصلُ معنى الفتنة[*] . والفتنة (بالكسر) الابتلاء، والعذاب، والضلال، والكفر، والإِثم، والمحنة، والجنون والاختبار.
ومن مجمل هذه المعاني، جُعلتِ الفتنة كالبلاء في أنَّهما يستعملان في ما يُدفَعُ إليه الإنسانُ من شدّةٍ أو رخاء، وهما في الشدّة أظهر معنىً، وأكثر استعمالاً؛ قال تعالى: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} [الأنبيَاء: 35]، أي أنَّ الله تعالى يبتلي الناسَ بالشرّ، ويبتليهم بالخير، وكلُّ من الابتلاءَيْن يُعدُّ فتنةً، أي اختباراً من شأنه أنْ يظهر طاقة الإنسان على الاحتمال، ومدى صلته بخالقه؛ فعندما يبتلي سبحانه وتعالى عبداً من عباده بالشرّ، كالفقر، أو المرض، أو الجهل، أو الجور عليه من الأقرباء أو ظلم الناس له... فقد يكون في ذلك حكمةٌ يريدها سبحانه لاختبار عبده ومدى احتماله وصبره على ما أصابه، ومقدار ثقته بربه، ورجائه برحمته.. وكذلك عندما يَمُنُّ عليه الله تعالى بالخير: بالمال، والبنين، والصحة، وإقبال الناس عليه، فقد يكون في ذلك فتنةٌ له، هي، في المفهوم الإسلامي، أشدُّ وطأةً في آثارها من الابتلاء بالشرّ.. فقد نجد من الناس مَنْ يصبرون على الشدة في المصيبة، وعلى الألم من الضرر، وعلى القهر من الجور والعسف.. ولكنَّ أكثرهم لا يصبِّرون أنفسهم على ما آتاهم الله من فضله سعةً في الرزق، وكثرةً في المال، ورفعةً في المنصب... فكل أولئك الناس كثيراً ما يغويهم إقبالُ الدنيا عليهم، فتراهم في فتنةٍ عارمةٍ من الخيلاء، والتكبّر، والتباهي بما عندهم!.. وأولئك الذين حقَّ عليهم قول الله تعالى: {أَلاَ فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا} [التّوبَة: 49]، أما السبب فهو اعتبارهم بأنَّ كل ما يملكون من الغنى والثروة، أو من الجاه والسلطان إنّما هو من علمهم، ومهاراتهم، وحسن تدبيرهم وإدارتهم!. بينما في الحقيقة، إنَّ الله تعالى هو مصدر كلِّ نعمة، وكلِّ خير، فهو سبحانَهُ الذي يمنُّ على الناس، وينعم عليهم بالصحة والأمان، وبالمال والبنين، وبالسلطة والنفوذ، وكل ما يؤتي عبادَه من فضله العظيم، فإذا تنكر الإنسان لعطاء ربه، وجحد النعمةَ التي أولاه إياها مولاه الكريم، ونسبَ ذلك إلى نفسه، وإلى جهده وحده، فهذه هي الفتنةُ بعينها، وهذا هو السقوط في الاختبار الذي يمتحن الله عبادَهُ به عندما يبلوهم بالخير.. ومن الطبيعي أنَّ يكونَ مثل هؤلاء الذين يُنكرون فضلَ الله عليهم من الجاحدين، الكافرين.. أما المؤمنون فتجدهم قد أوكلوا أمرَهم إلى الله تعالى في كل حال، فإن أصابتهم النعمةُ شكروا على سرّائها، وأدّوا حقوقها بما يرضي الله تعالى، فلا يستنكفون عن طاعته، ولا يقصرون في الحمد والشكر له، ولا يستكبرون على عباده. وإنْ أصابهم الضيقُ صبروا على ضرّائه، ودعوا الله مخلصين له النية في القول والعمل، أنْ ينجيهم ممَّا أصابهم من العسر، أو الضيق أو الشدة أو الحزن، أو الألم.. بل ويتضرّعون إليه تعالى أن يقوي لديهم عزيمة الاحتمال والصبر حتى لا يُخِلّوا بشيء من موجبات طاعته.. ولعلَّ مثل هذا الصبر والتضرّع يعتبر من مقومات الإيمان الصادق، الذي يجعل المؤمن يثق برحمة ربّه، ويطمئنُّ إلى استجابته له، لأنه هو الرحمن الرحيم.. أضف إلى ذلك أنَّ في الابتلاء، والصبر عليه، تطهيراً لنفس المؤمن مما يكون قد ارتكب من ذنبٍ، كما يعلّمنا ذلك الإسلام.. وفي هذا رحمةٌ ربانيةٌ تغسل نفس المؤمن في هذه الدنيا قبل أن يلاقي وجه ربه يوم الحساب.. وقد بيَّن لنا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) أنَّ أمرَ المؤمن يؤول دائماً إلى خيرٍ، فقال (صلى الله عليه وآله وسلّم): «عَجَباً لأَمْرِ المُؤْمِنِ، فإنَّ أمرَهُ كُلَّهُ خيرٌ، وليسَ ذاك لأحدٍ إلاَّ للمؤمن: إنْ أصابَتْهُ سرّاءُ شَكَرَ، فكان خَيراً له، وإنْ أصابتْهُ ضرّاءُ صَبَرَ فكان خيراً له»[*] .
وإنَّ من أشدّ أنواع الفتن التي يقع فيها الإنسانُ، وأكثرها مقتاً عند الله تعالى، السعي لنشر الضلال والكفر في دنيا الناس، فما هو موقف الشرع من ذلك؟
1 - الفتنة عن الدين
يقول الله تعالى: {وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ} [البَقَرَة: 191]، ويقول عزَّ وجلَّ: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ} [البَقَرَة: 193].
إنَّ الفتنة عن الدين إنَّما تعني الشرك والكفر، والضلال والإِضلال، وهي أعتى وأظلم السبل التي يتخذها أعداء الله لصرف الناس عن عقيدة التوحيد، وصدهم عن السبيل القويم؛ ويشهد التاريخ البشري على ما لاقى أتباعُ الرسالات السماوية من القهر والعذاب والقتل على أيدي الكفار والمشركين، ويكفي أن ندلّل على ذلك بما فعلَ الرومانُ بأتباع النصرانية، وما فعل المشركون بالمسلمين في بداية عهد الدعوة الإسلامية، حتى يتبين لنا أنَّ الفتنة عن الدين أشدُّ من القتل، لأنها اعتداء على أقدس المقدسات، أي على العقيدة الحقّ التي يعتنقها المؤمن، ويربط بها وجوده ومصيره بخالقه؛ فإذا سُلِبتْ هذه العقيدة من الإنسان بالقوة والقهر، فكأنما قُتِلَتْ نفسه، وأُعْدِمَتْ منه الحياة... وقد تتخذ هذه الفتنةُ أشكالاً مختلفة من مثل التهديد، أو الأذى الجسدي، أو قطع سبل الأرزاق، أو الملاحقة غير المشروعة، أو فرض عقوبات مغلّفة، وما إلى ذلك.. أمَّا الغاية منها فهي تتمحور حول إبقاء أوضاعٍ فاسدة على حالها، أو إقامة أوضاع جديدة لا تقلُّ عنها فساداً، وأكثر ما يتحقّقُ ذلك بإضلال الناس، أو صدّهم عن دين الله تعالى.. بحيث ينتشرُ، بالمقابل، الكفر والإلحاد؛ والارتماء في أحضان مناهج بشرية - لا علاقة لها بمنهج الله تعالى - لا تقيم كبيرَ وزنٍ أو اعتبارٍ لقيمة الإنسان، ومكرمة خلقِهِ عند ربّه... ولعلَّ ما هو شائع الآن في غالبية أقطار الأرض، يُعَدُّ من الأَمارات الدّالة على هذه الفتنة، حيث يُباح كلُّ ما يَضُرُّ الإنسان في نفسه وجسده مثل إباحة السكر والعربدة، وعلاقات الزنى، أو إباحة الشذوذ الجنسي كما في تشريع زواج الذكر من الذكر، ومعاطاة السحاق، فضلاً عن تشجيع الاحتكارات، والمضاربات، وتحريك العصبيات، وتدبير المؤامرات، وحيث تجري الاعتقالات التعسفية بذريعة مستلزمات الأوضاع السياسية والأمنية، وحيث يجري سلب الحريات والحقوق بحجة المحافظة على مصلحة الدولة العليا. فكل هذه الأمور أو القضايا هي قبيحة بحد ذاتها، فضلاً عن أنها مخالفة لمنهج الله تعالى؛ ولذلك كانت من الفتنة! وعندما يذمُّ الله تعالى في قرآنه المجيد الفتنة، ويقول عنها بأنَّها أشدُّ من القتل، فإنَّما يريدُ سبحانه وتعالى أنْ يصرف الناس عنها، لكي يعودوا إلى حظيرة الدين، الذي فيه وحده خلاصُ الناس من كل أنواع الشر، ووجوه الباطل... ولذلك نرى الإسلام عدواً للفتنة، على شتى أشكالها، ولاسيما الفتنة عن الدين لأنَّه ينطلق من نظرته إلى غاية الوجود الإنساني، الذي يُعدُّ من أهم مقوماته ركنان جوهريان: خلافة الإنسان في الأرض لإعمارها؛ وعبادة الله تعالى.. أما عن الركن الأول، فلم يقصّر الناس في إعمار الأرض، بل وعمروها عبر الأجيال بما أنشأوا من الحضارات، وأقاموا من المدنيات في شتى المجالات، وإنْ كانت أشكال المدنية الحاضرة قد راحت تطغى بقوتها حتى باتت تشكل خطراً، ليس على حياة الناس وحسبُ، بل على البيئة الطبيعية نفسها التي تمدّهم بأسباب الرزق والعيش.. وأما الركن الثاني، وهو عبادة الله تعالى، فإنَّ من مضامينها - في المفهوم الإسلامي - أنْ يضع الإنسانُ نصب عينيه العمل الصالح الذي يتوخى منه رضوان الله، ونفع بني البشر، أفراداً وجماعات، ولذلك نجد ربَّنا تعالى عندما يتحدث عن المؤمنين في كتابه المجيد، غالباً ما يقرن بين صفتهم الإِيمانية، وقيامهم بالأعمال الصالحة، وذلك بقوله العزيز: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [البَقَرَة: 277] وهذا أصلُ معنى العبادة في الإسلام، وليس فقط إقامة الشعائر الدينية من صلاة وصيام وزكاةٍ وحج.. فهذه الأركان في الإسلام هي الأعمدة التي تُبنى عليها هياكل الأعمال الصالحة من الخير والبرّ والتقوى؛ فالعبادة في الإسلام هي دينٌ ودنيا؛ فهي دينٌ بما تملأ به قلب الإنسان من الإيمان وبما يفترض هذا الإيمان على العبد من الطاعة لله، وتقديسه، والاستسلام لمشيئته التي لا رادَّ لها. والعبادة دنيا بما يتربّى عليه الإنسان المسلم من أنه أخٌ للمسلم في الدين، ونظيرٌ للإنسان في الخلق؛ وأنَّ إنسانية الإنسان لا تتحقق إلاّ إذا تخلّق بالأخلاق الفاضلة، والآداب الرفيعة، ولذلك قال رسول الإسلام (صلى الله عليه وآله وسلّم) : «إنَّما بُعِثْتُ لأُتمِّمَ مَكارِمَ الأَخْلاق»[*] ، كما لا تتحقق إنسانية الإنسان إلاَّ إذا رامَ الإنسانُ العملَ الذي فيه خيرٌ وصلاح وتخلَّى عن العمل الذي فيه شر وفساد.. ما يعني أولاً وأخيراً أنْ يراعيَ الإنسانُ الخيرَ لنفسه، ولغيره من بني آدم، وأنْ يراعي المخلوقات جميعاً بما فيها الجماد من حوله، لأنَّ الله تعالى سخَّر ما في الأرض جميعاً للإنسان، فإنْ لم يقدّر الإنسان معنى هذا التسخير، والغاية منه، أدى ذلك إلى إخلال التوازن في الأرض، وهذا ليس في مصلحة الإنسان بشيء!...
ومن هنا كانت العقيدة في نظر الإسلام حقاً مقدساً للإنسان، لا يجوز أن يُسلب منه بالفتنة، سواء أكانت الفتنة مباشرة أو بواسطة؛ ولذلك قال الله تعالى للمؤمنين: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ} [البَقَرَة: 190]، أي وقاتلوا من أجل دين الله، الذي هو عقيدتكم، الذين يقاتلونكم ليفتنوكم عن هذا الدين، ويصدوكم عن سبيل الله.. فقد شرَّع تعالى للمؤمنين أنْ يقاتلوا المشركين والكفار، لمَّا وقفوا صفاً واحداً، يريدون قتل النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) ، والقضاء على الإسلام، وحرمان المسلمين من ممارسة حقوقهم التي أقرتها، وتكفّلت بها عقيدتُهم..
كما أمرهم بقوله تعالى: {وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ} [البَقَرَة: 191]، أي واقتلوهم حيثما وجدتموهم يقومون بالفتنة، وأخرجوهم من دياركم وبلادكم حتى لا تبقى أخطارهم محيطةً بكم؛ وقاتلوهم على أي حالةٍ كانوا من القوة التي تهددكم، ولكن تهيّأوا قبل ذلك، أعدّوا لهم ما استطعتم من أسباب القوة، ومن العزم ما يمكّنكم من دحرهم.. إنّما انتبهوا أن تراعوا في قتالهم آداب الإسلام، فلا تغدروا بهم، ولا تقتلوا طفلاً، ولا امرأةً ولا شيخاً، إلاَّ من كان محارباً منهم، ولا تمثلوا في أجسادهم بعد القتل، لأنكم لستم أمثالهم...
وإذا كان هذا النص القرآني، {وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ} [البَقَرَة: 191]، قد أنزل في مواجهة المشركين في جزيرة العرب، وهم يخوضون حرباً شعواء ضد المسلمين كي يفتنوهم عن دينهم، وخاصة تلك الحملة التي قادها المشركون في مكة، وآذوا فيها المسلمين أذىً شديداً، حتى اضطروهم إلى الهجرة مخلّفين وراءهم الدور والممتلكات، التي بادر المشركون للاستيلاء عليها والتصرف بها كراهيةً بالمسلمين.. وكل ذلك لإبقائهم على الشرك، وحتى لا يكون الدين كله لله تعالى.. أجل، إذا كانت النصوص القرآنية قد واجهت الكفار والمشركين على امتداد سنوات الوحي للنبي (صلى الله عليه وآله وسلّم)، فإنَّ تلك النصوص عامة الدلالة، مستمرة التوجيه، بحيث يجب أن يمضي الجهادُ عند المسلمين إلى يوم القيامة، ما دام في كل زمان تقومُ قوّة ظالمةٌ غاشمةٌ تحاول أنْ تفتنهم عن دينهم بكل القوى التي تملك، وبشتى الأساليب والوسائل والأسلحة التي تبتدع.. وما دامت قوى ظاهرة وخفية تدرس وتخطط لتصدَّ الناس عن الإسلام، وتحول بينهم وبين سماع الدعوة الحق إلى الله العلي القدير، مخافة استجابة الناس لهذه الدعوة، واقتناعهم بأحقيتها. ولعلَّ أبرز دليل على ذلك ما تقوم به قوى الشر والاستكبار، وأهل الكفر والضلال في هذه الحملة الصليبية التي أعلنها رئيس الولايات المتحدة الأميركية (على أثر أحداث 11 أيلول - سبتمبر - عام 2003م)، وتابعه عليها كثير من أهل السفاهة والجهل، في حرب خفيةٍ ضاريةٍ على الإسلام وأهله تحت ستار شعار «مكافحة الإرهاب»، التي أسفرت عن حملاتٍ مخططة على المسلمين في كثيرٍ من بلدان الغرب، التي كان من «مآثرها»، ومن «مناقبية» الثقافة الغربية بالذات، تلك الحملةُ المسعورة، التي أطلقتها الأبواقُ الآثمةُ في الدانمارك، على رسول الإسلام محمد (صلى الله عليه وآله وسلّم) ، لأنَّ ظلام جاهليتها المادية، قد جعلها لا تقيم اعتباراً لله سبحانه وتعالى الذي أرسل رسوله - محمداً - بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون.. ولو كره الكافرون.. ووصل المرض في قلوب أصحاب تلك الحملات إلى حدّ الجهل المطبق لشخصية هذا الرسول الكريم، والإنسان العظيم، الذي شهد الله تعالى له، من عليائه، بالخلق العظيم لقوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ *} [القَلَم: 4].. لا بل ووصَلَ بهم الكفر والإِلحاد إلى أنْ يضلّوا عن فهم الإسلام وقداسة رسوله الأكرم، وعن أي سبيلٍ من سبل الهداية والرشاد، كما يصفهم ربُّ العالمين في قرآنه المجيد، بقوله الحق: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيدًا} [النِّسَاء: 136]، وبقوله العزيز: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً *} [الفُرقان: 44].
ثم انظر إلى قوى الجشع، والاستغلال، والظلم العظيم وهي تبيح لنفسها احتلال بلاد المسلمين، واستلاب خيراتها، وبذر الخلاف والشقاق بين أهل القرآن، حتى يظلوا متفرقين، وعن الضعف الذي هم عليه ساهين!.. أجل إنَّ ذلك كله يفرض على المسلمين الدفاع عن وجودهم، وعن دينهم، ولذلك كانت الجماعة الإسلامية مكلفة في كل حين - وهو تكليف شرعي من رب العالمين - بأنْ تعمل أولاً على جمع كلمة المسلمين، وإزالة كل أسباب الفرقة في ما بينهم، لكي يمكنها، من ثَمَّ، التصدي للقوى الظالمة، والوقوف في وجه مخططاتها ومطامعها، مما يحول دون نشر الفساد في الأرض، ويجعل الطريق واضحاً أمام الناس، فيختارون نتيجة قناعاتهم، ويهتدون إلى الدين القيّم، الذي يدعو إلى طاعة الله خالقهم، ويحث على أعمال البر والخير، حتى يعمَّ الصلاحُ والفلاحُ في كل بقعةٍ من الأرض يغلبُ فيها أمر المؤمنين، الذين امتثلوا لأوامر ربهم ونواهيه، وأقاموا موازين العدل والحق والصواب في دنيا الناس من حولهم.. وإذا لم يوجد من يتصدّون لأهل الكفر والشرك، ولأفعالهم الخبيثة، فإنَّ الفتنة سوف تشتدُّ وتقوى، وسوف يستقوي أكثرُ أهل الظلم والجور والفساد على العباد، وهذا ما يحذّر منه القرآن الكريم، وهو يدعو المؤمنين لاتقاء الفتنة، التي لا تقتصر أضرارها على الظالمين وحدهم، بل وتصيب معهم جميع أبناء المجتمع الذي تظهر فيه الفتنة بشرها المستطير، يقول الله تعالى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لاَ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَآصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ *} [الأنفَال: 25].
وهذه الفتنة، أو هذا البلاء الذي ينشره الظالمون والطغاةُ والمفسدون، قد يلحق بآثاره الناس جميعاً، لأنَّ الناس بعضهم من بعض، والجماعة التي تسكت عن الظلم في أي صورة من صوره، ولا تقف في مواجهة هذا الظلم، فإنها تؤخذ، ولا ريب بجريرة الظالمين، وتذوق مرَّ العذاب!.. وهذا ما نراه اليوم في واقع الحياة، فكم من مجتمع يعمُّه الظلمُ والفسادُ، والجماعة فيه خانعة ذليلة، غير عابئة لما يجري من حولها، أو هي منقادةٌ بالقوة - المادية والمعنوية - للخضوع لأهل السلطان، فتراها تعيش بلا أمان واستقرار في ربوع ديارها، وبلا راحة ولا اطمئنان في نفوس أبنائها!.. لأن الظلم قد حاق بالجميع، ومن غير استثناء لأحدٍ، حتى الفئة الظالمة التي توقد نار الفتنة، فإنها تكوى بحريقها، إنْ في الأنفس والأبدان بما يصيبها من الأمراض، وإن في الأولاد الذين غالباً ما يكونون منحرفين، ضالين - مثل آبائهم - عن جادّة الصواب... إنها تبتلى بما صنعت أيديها، ومن حيث لا تدري أنَّها هي سبب البلاء، وأنَّ أحقادها ومطامعها هي المصدر الرئيسي للظلم والفساد!..
ولذلك جاء الإسلام، وهو يحمل منهجاً تكافلياً إيجابياً، من مقوماته عدم جواز السكوت عن فتنةٍ، يكون ضررها عاماً وشاملاً، ولو اقتصر ضرّها على جماعة قليلة من الناس، أو على فردٍ واحدٍ من أبناء البشر فيجب محاربتها، أو عدم السكوت عنها... فالإسلام يحارب كل ما يسيء إلى الإنسان في نفسه، وعرضه، وماله، ومجتمعه، حتى إنه يأنف، ويمنع كلَّ ما يؤذي بيئة الحيوان أو الجماد من حوله، فكان من أولى اهتماماته محاربة الظلم والظالمين، والتصدي للفساد والمفسدين، واتقاء الشرّ قبل أن يستفحل بين الناس، ولذلك يحذرنا ربُّنا العزيز الحكيم بقوله تعالى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لاَ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَآصَّةً} [الأنفَال: 25]، بل تصيبكم جميعاً أيها الناس إذ حلَّت في دياركم، وجعلت الظلمَ والفسادَ والمنكر يطغى على نفوسكم، وعلى معاملاتكم مع بعضكم .. فاتقوا فتنةً من هذا القبيل، واحذروا أسبابها وشرورها، وتعاونوا على مقاومتها بكل ما أوتيتم من سبل المقاومة، حتى لا تكون عليكم - أيها الناس - أشدَّ من القتل، على الرغم من كراهيته وبشاعته!...
2 - فتنة الأموال والأولاد
والفتنة التي فيها الابتلاء قد لا تأتي من الظالمين وحسب، بل قد تحلُّ بالإنسان من نفسه، ومن ضعفه أو تقصيره؛ وأسباب مثل هذه الفتنة عديدة ومتنوعة، كما في حالة الحرص مثلاً على الأموال والأولاد التي توقع الإنسان - حتى المؤمن - في ظل ظروف معينة، بأشد أنواع الابتلاء، كما ينبّهنا إلى ذلك ربُّنا تبارك وتعالى بقوله الكريم: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ *وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ *} [الأنفَال: 27-28].
هذا الخطاب موجه للؤمنين: لا تخونوا الله والرسول! لا تخونوا الله بترك فرائض دينه، وعدم الامتثال لأوامره ونواهيه.. ولا تخونوا الرسول (صلى الله عليه وآله وسلّم) بالتخلي عنه في حياته، وعن سنّته بعد مماته؛ ويعبِّرُ عن هذا الخطاب الربانيّ قولُ الحسنِ بن علي (كرَّم اللَّه وجهه) : «مَنْ تَركَ شيئاً مِن الدينِ وضيَّعَهُ فقد خانَ الله ورسولَهُ. ومنْ خانَ الله ورسولَهُ فقد خانَ الأمانةَ، وأنتم تعلمون ما في الخيانةِ من ذمٍّ وعقابٍ». {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ} [الأنفَال: 28].
وأمرُ الله تعالى أنْ نعلمَ أنما أموالنا وأولادنا فتنةٌ إنما هو تنبيهٌ منه تعالى، الذي يرزقُ وحدَهُ الأموال والأولاد. لكي نتدارك مواطن الضعف فينا، وذلك بألاَّ نجعل حبَّ المال والبنين سبباً للبلاء، والشقاء، وربما سبباً للضلال والكفر في حياتنا... والمؤمنون يَعُونَ - عادةً - أنَّ الأموال والأولاد من النعم التي يمنُّ بها الله تعالى على الناس جميعاً، ولكنْ ما لا يدركه أغلبيةُ الناس أنَّ هذه النعم قد يكون فيها ابتلاءٌ لأنَّ جلَّ اهتمام الإنسان غالباً ما يكون منصبّاً على تكثير الأموال، والاهتمام بالأولاد!.. فينسى من ثمَّ ذكر الله، أو قد يقصّر في طاعته، بل ويغفل عن أداء واجباته تجاه المجتمع! وتختلف هذه المقاييس بين إنسانٍ وآخر، فالفقير غالباً ما يكون قانعاً بما قسمَ له الله من الرزق، وقد يرى في فقره نعمةً تبعده عن البطر، كما يرى في أولاده غنىً يعوّضه عن فقره المادي؛ وقد يكون بين الفقراء، بالمقابل، من ينقم حظه في هذه الحياة الدنيا، ويتمنَّى لو يقدر أن يصيبَ من الغنى مثل أولئك الذين يملكون الثروات، ويتباهون بما هم عليه من البحبوحة والرفاهية، فهنا أيضاً يكون الابتلاء، ما لم يقنع الإنسان، الفقير والغنيُّ، بعطاء ربه، ويوقن أنَّ ما قدَّرَ له الربُّ الكريم من الرزق، إنَّما فيه رحمة، إنْ لم يؤتَها في هذه الدنيا، فقد يمنُّ بها سبحانه عليه في الآخرة، فيكون هذا اليقين سبيلَهُ الحقَّ لعدم الوقوع في الفتنة التي كلها ابتلاء!.. ويهدينا القرآن الكريم إلى أنَّ الله ـ تعالى - أعلم بما فيه مصالح عباده، فيبسط الرزق لمن يشاء ويقدر من عباده، وهو سبحانه وتعالى عندما يحذر من الوقوع في الفتنة التي تصيب الإنسان بسبب أمواله وأولاده، فإنَّما ليحثَّ أولي الألباب - الفقراء والأغنياء - لأنْ يتفكَّروا بأنَّ كل ما في هذه الحياة الدنيا - وليس الأحوال والأولاد فقط - قد يجرُّ إلى الخطأ، إنْ لم يحذر الإنسان نتيجة أعماله، لأنَّ هذه الحياة الدنيا محفوفة بالمُضِلاَّتِ التي توقع في الفتنة على تنوع أسبابها وأشكالها، وآثارها.. ولذلك كان من فضل الله على المؤمنين، أن يحذّرهم من مضلاّت الفتن التي قد تكون الأموالُ من أهم مسبباتها، لا بل وقبل الأموال، الأولاد الذين يمثّلون أوثق العرى وأشدها ارتباطاً بالنفس الإنسانية.. ولعلَّ هذا ما أشار إليه أمير المؤمنين عليٌّ (صلى الله عليه وآله وسلّم) عندما قال: «لا يَقولَنَّ أَحدُكم اللُّهمَّ إنّي أعوذُ بكَ مِنَ الفتنةِ، لأنَّهُ ليس أحدٌ إلا وَهُوَ مُشْتَمِلٌ على فتنةٍ، ولكنْ مَنِ استعاذَ فَلْيَسْتَعِذْ من مُضلاّتِ الفتنة».. ويجيء تحذير ربّ العالمين من فتنة الأموال، والأهل عموماً، في آيات أخرى بقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلاَدِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ *إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ *} [التّغَابُن: 14-15].
والسؤال: كيف يمكن أن يكون من الأزواج الذين يتشاركون الحياة على حلوها ومرها، وشجونها وشؤونها، أو أن يكون من الأولاد، الذين هم فلذات الأكباد، ويضحّي الأهلُ بالغالي والنفيس من أجلهم.. كيف يمكن أن يكون من هؤلاء وهؤلاء أعداءٌ؟!
إنَّ المشاعر التي يكنّها الأزواج تجاه بعضهم، أو مشاعر الآباء تجاه أولادهم، قد تدفع إلى الانشغال بهم عن موجباتهم الدينية، ولاسيما تحمل تبعات الدعوة إلى الله - عزَّ وجلَّ - ومن قبيل ذلك أنْ يواجه المؤمنون، في كثير من الأحيان، المتاعبَ من أزواجهم وأولادهم، إذا ما أرادوا الإنفاق في وجوه البر والخير، أو إذا ما نَوَوا تلبية نداء الجهاد في سبيل الله، أو الانتماء إلى حركة إسلامية لا تتوخى إلاَّ رضوان الله - تعالى - وتقديم العون للمسلمين، أو يكون هدفها توحيد كلمة المسلمين لمنع الفرقة والعداوة بين صفوفهم، أي بوجه عام عندما يقوم المؤمنون، أو ينوون القيام بأي عملٍ من شأنه إعلاء كلمة الله وجعلها العليا، وكلمة الذين كفروا السفلى.. مثل هذه الأمور، وتحت تأثير الضغوط التي تمارس نفسياً على المؤمن فقد يبخل عن الإنفاق بدعوة توفير المال لعياله، وقد يجبن عن الجهاد لنصرة الإسلام، ونصرة قضايا أمته بحجة الخوف عليه من القتل، أو السجن أو التعرض لأي مكروهٍ آخر، وكل ذلك من أجل أنْ يبقى - كما يُدخلون في روعه - السندَ والمعينَ للأهل، وذوي القربى!.. فذلك وغيره كثيرٌ من الأسباب التي تجعل من الأزواج والأولاد عدواً للمؤمن، عندما يبعدونه عن العمل في سبيل الله، أو توفير سبل العيش الكريم لعباد الله.. وبالتالي حرمانه من المثل الأعلى الذي يتوخاه في حياته ألا وهو نوالُ رضوان الله عزَّ وجلَّ.
وما تجدر الإشارة إليه، هنا، أنَّ مثل تلك التصرفات من الأزواج والأولاد قد لا ترضي المؤمنين لأنهم يرون فيها ما يخالف شرع الله، والمنهج الأخلاقي الصالح!.. وقد يعمدون إلى نصح وإرشاد مَن حولهم، بل والغضب منهم من دون أن يفلحوا في ثَنْي أزواجهم وأولادهم عن مواقفهم، ما يملأ قلوبَ المؤمنين حزناً وألماً، ويحيل حياتهم قلقاً وتعاسةً.. ولذلك يخاطبهم ربُّ العالمين، بصفتهم الإِيمانية - يا أيها الذين آمنوا - لكي يكونوا حذرين تجاه الضّلال الذي قد يقع فيه أزواجهم أو أولادهم، والذي من شأنه أنْ ينعكس على حياتهم العائلية، حتى ينقلب أهل المؤمن - وداخل بيته - أعداءً له.. بل ويحذرهم سبحانه وتعالى، من كل عداوةٍ من قد يواجهونها في كل آنٍ، لإثارة اليقظة في قلوبهم، وتحمّل ضغط المؤثرات عليهم، وفي الوقت نفسه يثير فيهم روح العفو والصفح والمغفرة لمن أساءَ إليهم من الأهل والأقرباء، حتى يغلب التفاهم والرضى على البيت الإسلامي، وبالتالي يغلب الإيمان والفضيلة على المجتمع الإسلامي، الذي أرادَ الله - تعالى - من المؤمنين أن يحافظوا عليهما، بيتاً ومجتمعاً، خاليَيْن من الشقاق والنزاع، ونظيفين من الرذيلة والفاحشة، ينهَدُ فيهما المسلم إلى بذل جهده المستطاع لئلا يتحوَّلَ مَنْ حولَهُ أعداءً له، بل يعملون جميعاً ، الآباء والأبناء، على توثيق عرى المحبة، والوفاء وترسيخ المفاهيم الإسلامية في نفوسهم وهي كفيلة بأن تمهد لهم السبل القويمة للعمل من أجل خير أنفسهم وخير مجتمهم الإسلامي..
ولئن كانت حياة المؤمن تحفل بالقلق والتعاسة والخوف لأنَّهُ يجدُ كلَّ ما يحيط به يخالف، في أغلب الأحيان نظرته إلى الحياة، إلاَّ أن قيام المؤمنين بواجباتهم، وعلى قدر الاستطاعة التي يملكونها لمنع الفتن في شتى أشكالها ودرجاتها، وصبرهم على ما تخلّف تلك الفتن من الآثار السيئة، فإنَّ الله تعالى قد جعل في عملهم لمنع الفتنة، وفي صبرهم على أذاها، أجراً عظيماً لأنَّ عدلَهُ سبحانه، ولطفه بعباده المؤمنين، هما الأمل والرجاء لخلاصهم من هموم هذه الحياة الدنيا، ونيلهم الأجر العظيم الذي أعدَّه لهم في الحياة الآخرة.. وتبقى هموم الأموال والأولاد المحور الرئيسي للمؤمنين، الذين يعلّمهم ربهم - عزَّ وجلَّ - أنْ يتعالوا على ما يمكن أن يوقعهم به المالُ والبنونَ من فتنةٍ، حتى ينالوا الأجر العظيم، فلا يقعدَنَّ أحدٌ منهم، بعد توجيه رب العالمين، من الأخذ بأسباب الحيطة والحذر والانتباه، ومعالجة أسباب فتنتهم وآثارها داخلَ بيوتهم، وداخل مجتمعاتهم...
3 - فتنة الغرور
ومن ألوان الفتن ما يأتي من نفس الإنسان - كما أشرنا سابقاً - إذا انحرف عن الهدى، وأضلَّهُ الكبر والاستعلاء، بحيث يردُّ كلَّ أمرٍ، وكلَّ شيءٍ يقوم به إلى علمه، وقدرته، وهذا بطبيعة الحال ادّعاءٌ فارغٌ، لأنه إنكار للنعمة التي يخوّله إيَّاها ربُّهُ، كما يبيِّنُ قوله تعالى: {فَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ *} [الزُّمَر: 49].
... إذ في كل مرة يُصاب الإنسانُ بشدةٍ من مرضٍ أو همٍّ، أو عبءٍ يثقل كاهله، وينغصُ عيشه، فإنَّه لا يجد غير الله - تعالى - ملاذاً يسلّم أمره إليه، مستغيثاً، متضرّعاً وداعياً أنْ يكشف عنه الضُرَّ الذي أصابَهُ. ومن عجيب أمر الإنسان أنْ يعجِّل في نسيان - أو تناسي - هذا الضرّ إذا ما استجابَ الحقُّ تبارك وتعالى لدعائه، ثم يقوده هذا النسيان إلى التخلّي عن عبادة وشكر بارئه الذي كشف عنه هذا الضر. وهذا مردُّهُ إلى ضعف الإيمان في قلبه، وغلبة الإنكار والجحود على نفسه!. فالالتجاء إلى الله سبحانه إنما ينبع، في الأصل، من النفس بصورة غريزية وعفوية، لأنَّ فطرة الإنسان هي التي تجعله يلوذ في الشدة بخالقه القادر المقتدر، فإذا أمِنَ من خوف الخطر، عادَ إلى دأبِهِ، وإلى ما اعتادَ عليه من الانشغال بمطالب هذه الدنيا، دونما إيمانٍ أو عبادة...
ولعلَّ المثال البارز على أولئك الناس الذين يلجأون إلى ربهم وقت الشدة، ثم ينسون فضلَهُ عليهم ما يبيّنُهُ قول الله تعالى: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ *} [العَنكبوت: 65].
هذا هو شأن البحارة في الغالب، تراهم عندما يقلعون في سفنهم يُصَلُّون - كلٌّ على طريقته - بأنْ لا تواجههم الرياح العاصفة، والأمواج العاتية، حتى إذا أتمُّوا رحلتهم ونزلوا إلى البر. تجدهم قد نسيَ كلٌّ منهم ربَّهُ الذي صلَّى إليه، وراح يحدّث عما قام به في تلك الرحلة من البطولات، وما جنى من الأرباح، وما إلى ذلك من الغفلة التي توقعه في الشرك!... ولكن أليس في الحياة من هم أكثر من البحارة، أو الذين يركبون في السفن، جحوداً للنعم التي يخولهم إياها ربهم، عندما يعزون إلى أنفسهم أنَّ كلَّ ما أوتوه من مالٍ وجاهٍ وسلطانٍ، إنما كان بفضل ما عندهم من علم، وعمل، ومهارة، واقتدار وما إلى ذلك من الادّعاء الذي يكون مصدره غرورُ الإنسان؟!.. وقد تسيطر على الإنسان مشاعر الغرور حتى ليظنَّ أنه قادر على أن يفعل ما يريد، دونما اعتبار لمشيئة الله تعالى، وتدبيره في شؤون خلقه!... لا، بل قد يقول مَنْ في قلبه ولو شيئاً من الإيمان: إنَّ نيَّتَهُ طيبة، وإنَّهُ مخلص في توجّهاتِهِ، فأعطاهُ الله من النعم ما استحق، لأنَّه تعالى ربُّ نيات، ويعطي للإنسان بحسب نياته!... ألاَ ، إنَّ مثلَ هذه المقولات، أو تلك الظنون والأوهام لا تأتي إلاَّ من مخدوعٍ بعلمٍ أو صنعةٍ، أو حيلةٍ يعلّل بها ما حازَهُ من مالٍ أو سلطان، ومثله كمثل قارون الذي خسف به الله تعالى وبأملاكه وبداره الأرض عندما قال: {إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي} [القَصَص: 78]، بحيث لم يقدّر قارون قطّ، أو لم يُقِرَّ بأنَّ كلَّ ما نالَ في حياته، إنَّما كان نعمةً من الله تعالى، خوَّله امتلاكها بمقتضى جليل حكمته. وأمثال قارون كثيرون في كل زمانٍ ومكان، هؤلاء الذين يغفلون عن حقيقة عطاء الله تعالى، وإنَّهُ سبحانه هو مصدر كل نعمة، وواهب كل علم وقدرة، مسبب الأسباب، ومقدر الأرزاق..
وإنَّه لمن محاسن الإنسان أن تكون لديه ثقة بنفسه، أما أنْ تخدعه هذه الثقة حتى تودي به إلى الغرور، فهذا ما يوقعه في البلاء، ولذلك قال الله تعالى عن هذا البلاء الذي يُوقع به الإنسانُ نفسَهُ - بادّعائه أنَّ كل ما أوتيَهُ من نعمة هو من عنده - يقول عنه المولى عزَّ وجلَّ: {بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} [الزُّمَر: 49].. أجل، إنها محنةٌ يبتلي بها الإنسانُ نفسَهُ من حيث لا يدري، ولا يعلم.. لا يعلم، هذا المغرور - وأمثاله - أن النعمة قد تكون استدراجاً، وامتحاناً يختبر به الله عباده، ولذلك فهم لا يعلمون أنَّ الفقر كما الغنى، وأنَّ المرض كما العافية، وأنَّ أيَّ ضُرٍّ، كما أية نعمة، إنما كلها بلاء واختبار من الله - تعالى - لعباده، فإنْ يكن العبد مؤمناً، يكنْ صابراً على الضرّ، شاكراً للنعمة؛ وإنْ يكن جاحداً فسيّان عنده معنى الشكر أو الفكر، لأنه يكون قد ضلَّ عن هدى الله تعالى، فلم يميّز بين طريق الصلاح الذي يقوده إلى النعمة والأمان، أو سبيل الفساد الذي يرديه في النقمة والبلاء.. فكان من حسن تقدير الإنسان أنْ يوقن أنَّ دوره مقصور فقط على السعي والعمل، وقد يحالفه التوفيق من ربه فينال ثمرة أتعابه، وقد لا يُكتبُ له التوفيق فلا يقدر على شيءٍ.. أما لماذا يبسط الله الرزق، أو يضيّقُهُ على أناسٍ دون آخرين، فهذا شأنٌ ربانيٌّ، وهو تعالى أعلم بمصالح العباد، وقد جعل بعضهم لبعض سخريّاً حتى يتحقق التوازن الذي تقتضيه الحياة البشرية..
ومهما يكن من أمر الإنسان، فإنَّ عليه أنْ يؤمنَ - صادقاً - بأنَّ لله الأمر من قبل ومن بعده، فإنْ شاءَ أعطى وإنْ شاءَ منعَ، وتبقى مشيئته هي المشيئة المطلقة في كل أمر، وفي كل شأن وفي كل حال، فلا يعترض الإنسان على أمر مولاه، بل يقوم بما افترض عليه، وما خوّله القيام به..
ثم إنَّ من صدق الإيمان لدى العبد الصالح أن يستجير بالله تعالى من فتنة الظالمين، أو من فتنة ماله وأولاده، أو من فتنة نفسه.. وأن يرجو من ربه - عزَّ وجلَّ - المغفرة والرحمة عند كل فتنة يقع فيها، أو تحيط به، كما فعل نبيُّ الله موسى (عليه السّلام) وهو يدعو ربَّهُ تضرعاً وخفية أنْ يكشف عن بني قومه غضبه وسخطه، وأنْ يرفع عنهم الابتلاء، فلا يهلكهم بما فعل السفهاء منهم، وهذا ما يبيّنه قوله تعالى: {قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ} [الأعرَاف: 155].
4 - فتنة المؤمن
مما تقدم يتبيّن أنَّ مسبّبات الفتنة كثيرةٌ في حياة الناس، وهي تأتي من أفعالهم وأعمالهم، ولعلَّ ضعف الإنسان أمام مغريات الحياة الدنيا، وسيطرة شهواته عليه هو الذي يسلبُه مناعة النفس، ويخذل فيه الإرادة، فيسير على غير هدى، ويقع في ضلال الفتنة!..
والمؤمنُ، كإنسانٍ فيه عوامل الضعف، معرَّضٌ أيضاً للفتنة مثل الآخرين، ولكنَّ إيمانَهُ يشكّل دائماً رادعاً له عن السوء، فإذا وقع في التجربة فقد نجده يبكي، كما يبكي الطفلُ، من فرط ندمه، على حين أنه في الملمّة الشديدة، قد يكون ثابتاً، مثل الطود الذي لا يتزعزع. أما عدّتُهُ في بكائه المرير فهو الندم الشديد، والتضرع إلى الله ربِّه أنْ يغفر له ويرحمه؛ وقد يأخذ العهد على نفسه بألاَّ يعود إلى ارتكاب الذنب أو الخطيئة التي أوقعته في الفتنة، ثم يستعدُّ، ويهيّئُ وسائل الدفاع التي أمره الله تعالى بها، والتي من شأنها أنْ تدعم عزمَهُ وتصميمه على مواجهة الإغراء، وعدم الافتتان ثانيةً.. ولكنْ إذا ما بقي في النفس شيءٌ من مسبّبات الفتنة كما في الشهوة التي غلبت عليه من قبل، أو إذا ما واجهته مغريات جديدة ولم يصمد حيالها، فمعنى ذلك أنَّ وسائل الدفاع في جهازه النفسي قد بدأت بالانهيار، وقد يستمر انهيارها تدريجياً أمام كوامن النفس، ومغريات الحياة.. إلاَّ أنه على الرغم من عوامل الضعف في النفس، فإنَّ على المؤمن ألاَّ ييأس أو يقنط من رحمة الله تعالى، ولا سيما عندما يدرك سبب الفتنة، ويعمل للقضاء عليها، والتخلّص منها بالنية الصادقة، والجهدِ المضني، إذ شتَّان بين ضالّةٍ ينشدها في هذه الدنيا، وعقابٍ ينتظره عليها في الآخرة.. فإذا ما أرادَ المؤمن التغلب على نزعة من نوازع السوء في نفسه، أو إذا ما حاول انتزاع شهوةٍ من شهوات الحرام التي تتخبَّط حيالَها نفسُهُ بالحيرة والتردّد، فإنَّ عليه أنْ يوقنَ أنَّ التوفيق لا يمكن أنْ يحالفه، والنجاحَ لا يمكن أنْ يواكبه إلاّ إذا باشر بإبعاد نفسِهِ عن هذا الشيء المشتهى، أو عن تلك النزعة المغرية، معتمداً على الله ربه، وعلى إيمانهُ، وهما سلاحه الأقوى لكل ما تأمر به نفسُهُ من السوء.. ولعلَّ من الألطاف الربانيّة ما يفتح عقولنا على مصاديق الحكمة الإِلهية عندما يشعر المؤمن بأنَّ الشهوة للحرام في نفسه قد ماتت، أو أنَّ المرض أو الابتلاءَ الذي استجدَّ في حياته قد أبعدَهُ عن متابعة الأشرار، ورفقاء السوء، وعن كل أنواع الفتن؛ ثم يوقن أنَّ ما منَّ الله تعالى عليه من العافية، بعد الفتنة، إنما هو الفضل العظيم منه تبارك وتعالى؛ ولذلك أبانَ لنا مولانا الكريم شيئاً من ألطافه بقوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِنْسَانُ ضَعِيفًا *} [النِّسَاء: 28]...
ولا بدَّ في ختام الحديث عن فتنة المؤمن من أنْ نقتدي بحديث رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) عندما قال: «أشدُّ الناس بلاءً الأنبياءُ، ثم الأَمْثَلُ فالأمثل.. يبتلى الرجل على حسب دينه: فإن كان دينه صلباً اشتد بلاؤه، وإن كان في دينه رقة ابتلاه الله على حسب دينه، فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض، وما عليه خطيئة»[*] ، فالفتنة - لغوياً - قد تعني الابتلاء، كما أشرنا إلى ذلك في بداية البحث عن الفتنة، ولعلَّ عباد الله المخلصين من المؤمنين الصادقين هم أولى الناس بأن يبتليهم الله تعالى حتى تتطهر نفوسهم في هذه الحياة الدنيا، قبل أنْ ينتقلوا إلى الدار الآخرة، لأنَّ رضاهم بما كتب الله تعالى عليهم، وصبرهم على ما يصيبهم من البلاء، لا يغيّر شيئاً من الصلة الوثيقة التي تربطهم بخالقهم، بل تزيد الإيمان في قلوبهم، والرجاءَ في خلاصهم.. وفي حياة النبيِّ أيوب (عليه السّلام) ، كما ينقلها لنا القرآن الكريم، النموذجُ الأمثلُ على ابتلاء الله تعالى للعبد، والفتنة الأشدّ التي يقع فيها، وقد صَبَرَ أيوب (عليه السّلام) حتى ضُرِبَ المثلُ بصبره، فكانت عاقبته إلى خير، عندما أزال ربُّهُ تعالى عنه الشدَّة، وعوَّضه عن المرض بالصحة، وعن فقد الأولاد، وخسارة الأموال بالمضاعفة المباركة..
5 - الفتنة من السنن الإلهية
يقول الله تعالى: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ *وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ *} [العَنكبوت: 2-3].
لعلَّ من المفارقات في الحياة أن يكونَ المؤمنون مستهدفين من أهل الكفر والضلال، بحيث يجعلون من منطلقات هذا الاستهداف الإساءة إليهم، وهم يصفونهم بأنهم «رجعيون» في أفكارهم وأنماط عيشهم، ثم يعمدون إلى تضييق سبلِ العيش عليهم، بشتى الوسائل والأساليب، ولئن استطاعوا قطع أرزاقهم لا يقصرون، بما يشنّون عليهم من حملاتِ الدعاية المغرضة، والتعدّي على ممتلكاتهم، وعلى أنفسهم إلى حد التعرض لهم بالأذى، فضلاً عما يلصقون بهم من التهم الكاذبة التي لا تدل إلا على حقد وعداوة واستكبار..وهذه النظرة العدائية تجاه المؤمنين ليست جديدةً في حياة الناس، بل رافقتهم عبر الأجيال، وعلى مدى العصور، ولعلَّ الأسباب التي تكمن وراءها تنطلق قبل كل شيء من مناهضة الكفر للإيمان، ومن خوف الكافرين، والمفسدين على مصالحهم، والقضاء على نفوذهم ومكانتهم، باعتبار أنَّ أهل الإِيمان - إلى أي دينٍ انتموا - إنما يريدون إقامة حاكمية الله تعالى في الأرض، وتغيير الأوضاع الفاسدة من حولهم - كما سنرى ذلك بشيء من التفصيل في بحث التغيير - وهذا ما يخافُهُ كلُّ من طغى، وتجبَّر، واستكبر!.. فكان لا بدَّ أن تستحكم العدائية في نفوس هؤلاء حيال المؤمنين، وأنْ يشنّوا عليهم أنواعاً من الحروب، خفيةً أو معلنة، حتى يظلّوا مبعدين عن السلطة التي تمكّنهم من اتخاذ القرار، وتغيير الأوضاع.. فكل هذه الأمور التي تحيط بحياة المؤمنين هي من الفتنة، التي شاء الله تعالى أن يبتليَهم بها حتى يظهرَ ظهورَ مشاهدة الذين صدقوا في إيمانهم، وظلّوا ثابتين على عهدهم مع ربّهم، وليعلمنَّ سبحانه، أيضاً، الكاذبين، الذين ضلُّوا عن مصاديق الهدى، فساروا في ركاب أهل الفتنة يأتمرون بأوامرهم، وينقادون لخططهم مقابل منافع دنيوية زائلة!.. فهذا الابتلاء الذي يحيط بالمؤمنين إنما هو بمشيئة الله تعالى، يُختبرون فيه لتظهر حقيقة إيمانهم، وصدقهم مع ربهم.
ونحن في عالمنا الإسلامي، نشاهدُ هؤلاء الذين يقومون بأعمالٍ تخالفُ عقيدتهم الإسلامية، أو أولئك الذين يتناقض سلوكهم مع الشخصية الإسلامية.. وقد يظنُّ البعض أنَّ مثل هؤلاء المسلمين قد خرجوا عن الإسلام، أو عن كونهم شخصيات إسلامية!.. أبداً، ليس الأمر كذلك، كما يحلو للبعض أنْ يتصوَّر.. فقد يغفَلُ المسلمُ، فيُغِفلُ ربط مفاهيمه بالعقيدة الإسلامية التي يعتنقها، بل قد يكون جاهلاً بأنَّ ما لديه من مفاهيم تتناقض وعقيدته، وقد يطغى الشيطانُ على قلبه، فيخطئ، ويعصي، ويرتكب الذنوب، لأنَّه ما من إنسانٍ في الوجود إلاَّ ويقع في الأخطاء والمعاصي إلاَّ من عَصَمَ ربي، ومن رحِمَ ربي.. وكثير من المسلمين، ولاسيما في طور الشباب، من يحيدون عن الالتزام الكامل بالأحكام الشرعية، أو التعاليم الإسلامية، ولكنْ لا يلبثون بعدَ الطيش، والجهل، أنْ يعودوا إلى جادة الصواب، ويلتزموا التزاماً واعياً بأحكام دينهم الحنيف.. ثم إنَّ الاستغفار من مقومات العقيدة الإسلامية، كما يهدينا إلى ذلك القرآن الكريم، والأحاديث النبوية الشريفة، ولو لم يكن الخطأ متماشياً مع عمل الإنسان، لما أمَرنا ربُّنا تعالى بالاستغفار عن الذنوب التي نرتكبها، ولما بيَّن لنا رسولُنا (صلى الله عليه وآله وسلّم) أهمية هذا الاستغفار، والتوبة إلى الله - عزَّ وجلَّ - بالنية الخالصة، والسلوك القويم..
ولذلك يجب أنْ نلتفتَ إلى ضعف الإنسان، وإلى قول الله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِنْسَانُ ضَعِيفًا *} [النِّسَاء: 28] وإلى قوله تعالى: {قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ *} [الزُّمَر: 53]. فهذه النصوص وغيرها كثيرٌ، لا يصحُّ معها أن يُقال: إنَّ ارتكاب الذنوب، واقتراف الأخطاء يخرجان المسلمَ عن أنْ يكونَ مسلماً، أو أن يصبح شخصيةً غيرَ إسلامية.. فما دام يعتنق العقيدة الإسلامية، وما دامت هذه العقيدة هي التي تصونه باعتبارها الأساس لتفكيره وشعوره، فإنها هي التي تعيده إلى الالتزام بأحكام الشرع، تائباً، نادماً، مستغفراً، منيباً إلى ربِّه عزَّ وجلَّ...
ولا يخرج المسلمُ عن الإسلام إلاَّ بترك العقيدة الإسلامية قولاً وعملاً، فإذا طرأ خلَلٌ على عقيدتِهِ - وهي ما انعقَدَ عليه قلبُهُ، وصدَّقَهُ عملُهُ - خرج الشخص عن الإسلام بهذه الحال فقط، ولو كانت أعمالُهُ - في ظاهرها - مبنيّةً على أحكام الإسلام، لأنَّها لا تكون حينئذٍ مبنيّةً على الاعتقاد، بل على العادة، أو على مجاراة الناس.. فالأساس هو ما في داخل النفس من عوامل الإِيمان والتصديق، ولو شابَ السلوكَ أحياناً بعضُ العثرات.. والشيء المهم - جداً - في حياة المسلم، ألاَّ يغفل عن القرآن، لأنَّ الرجوع إليه يفتّح له سبلَ الهداية والرشاد. يقول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلاَئِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ *} [فُصّلَت: 30].. وهذا هو المددُ والعونُ الربانيّ فهل يرومُ المسلمُ خيراً من ذلك؟
وهذا هو الشأنُ في كل فتنة:
أنْ يهديَ الله تعالى بها من يدركون طبيعتها، ويأخذونها على أنها ابتلاءٌ من ربهم، وامتحانٌ أرادَ سبحانَه لعباده المؤمنين أن يجتازوه بصحوةِ العارفين، وصبر المحتسبين..
وأنْ يضلّ بها من لا يدركون حكمة الله تعالى، وتدبيره لعباده، فيمرون بالفتنة - أي بالتجربة والابتلاء - غافلين منحرفين، أو يخرجون منها ضالّين خاسرين..


مقدمة الكتاب
القسمُ الأوّل
القِسم الثاني
القِسم الثالِث
القسم الرابع
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢