نبذة عن حياة الكاتب
علم اصول الفقه الميسر

الفصْل الرَّابع - علمُ الفقْه وأصُول الفقه
علم الفقه وَأصول الفقْه
يُعدّ الفقه من أجلِّ المعارف الإسلامية وأعظمها أثرًا على المجتمع، لذلك كان الفقه من أهم فروع الثقافة الإسلامية التي تستقي من مصدرين رئيسيين هما: الكتاب والسنّة؛ ومن ثَمَّ مما يُستمَدُّ منهما أو يوضع لأجل توضيحهما وفهمهما فهمًا صحيحًا.
ولا يتوهمنَّ أحدٌ أن مؤلفات الفقه قد وضعت في الأصل لفئة خاصة من أهل العلم والاختصاص بحيث لا يقدر على فهمها إلا أولئك الخاصة... بل في الحقيقة وجدت تلك المؤلفات للحفاظ على تراثنا الفكري في كل ما يتعلق بالتشريع الإسلامي، وهي وإن كانت صعبة الفهم، في أحيان كثيرة، فلأن الصياغة التي وضعت بها كانت طبقًا للأساليب اللغوية السائدة في تلك العصور المبكِّرة في تاريخنا الإسلامي، حتى إذا حلَّ عصر التخبّط والانحطاط في التفكير، ودخل اللحن على لغتنا الأصيلة، كان من الطبيعي أن توجد الصعوبات في فهم المؤلفات الفقهية، وأن يبتعد المسلم عن قراءتها وتداولها.
ومع ذلك لا بد من الاعتراف بأن تأليف كتابٍ فقهيٍّ لا يتيسَّر لكلِّ فردٍ منا، فقد خلق الله تعالى في كل إنسانٍ طاقات معينة فكرية ونفسية وجسدية، وتختلف هذه الطاقات بين إنسان وآخر، بحيث يقدر بعضهم على الوصول إلى أعلى درجات الفكر والإدراك، في حين يبقى كثيرون عاجزين حتى عن فهم النصوص البسيطة. ولئن كانت هنالك عوامل كثيرة من الجهل والتخلف قد لحقت بأبناء الأمة خلال عصور طويلة، إلَّا إن الأمل معقود على الأجيال الطالعة، بعدما تيسَّرت سبلُ العلم والمعرفة، وكثرت الوسائل والأساليب التي تمكِّن المسلم من تلقِّي ثقافة إسلامية عالية، فيصير في الإمكان تعرُّف المؤلفات الفقهية وما احتوت من أدلة وأحكام شرعية.
ولعل الغاية المقصودة من الفقه هي تطبيق الأحكام الشرعية على أفعال الناس وأقوالهم. فالفقه هو مرجع الحاكم في حكمه، والقاضي في قضائه، ومرجع كل العباد لمعرفة الحكم الشرعي الذي يطبقونه على كل ما يصدر عنهم من فعل أو قول.
وقد وجد في التشريع الإسلامي إلى جانب علم الفقه، ما يُعرف بعلم أصول الفقه؛ وغايةُ هذا العلم تطبيق قواعد الفقه وأبحاثه على الأدلة الشرعية الفرعية التي تؤدِّي إلى استخراج الأحكام الشرعية، بحيث تفهم من خلال تلك الأبحاث النصوصُ الشرعيةُ وما تحتويه من أحكام، أو تمكِّن من توضيح النصوص وترجيح بعضها على بعض في حال تعارضها، أو الوصول إلى الأدلة فيما لم ترد فيه نصوص أو فيما خفي دليله ولم يعرف بصورة مباشرة. أي إنه من خلال أبحاث أصول الفقه، وما يتضمن من قواعد وضوابط يمكن استنباط الأحكام الشرعية في الواقعة أو الحادثة التي لم يرد عليها نص.
وعلم أصول الفقه هو الذي يمكِّن من فهم تلك القواعد التي يضعها المجتهدون، والموازنة بين مذاهبهم الفكرية المختلفة في الواقعة الواحدة، بحيث يقدر المجتهد أن يقارن بين حكمين مختلفين في واقعة واحدة ليستخرج الحكم الشرعي الذي يراه أكثر انطباقًا على الدليل الشرعي الذي يعتمده.
من هنا كانت أهمية علم أصول الفقه، الذي يُعدّ في نظر بعضهم عماد الفقه المقارن.
ولا بد بعد هذا التوضيح عن أهمية الفقه من البحث في الأمور التالية:
ـــــــ نشوء الفقه الإسلامي.
ـــــــ معنى علم الفقه وأصول الفقه.
ـــــــ أثر الخلافات بين المسلمين على الفقه.
ـــــــ هبوط الفقه الإسلامي.
ـــــــ خرافة تأثير الفقه الروماني في الفقه الإسلامي.
البحث الأول: نشوء الفقه الإسلامي
لم يكن رسولنا الكريم منذ بدأ بنشر رسالته وإلى أن اختاره ربهُ تعالى إلى جواره في حاجة إلى أن يضع قواعد مُقَنَّنة يسير عليها في تشريعاته، أو ضوابط تقيِّده في أحكامه القضائية؛ فقد كان ينشئ الأحكام بحسب الحاجة إليها، أو بحسب ما تدعو إليه الضرورة، فيجيب السائلين، ويقضي بين المتخاصمين، ويدير دفّة الحكم، ويسيِّرُ شؤون الناس. وذلك كلّه بما يُوحي إليه الله تعالى في قرآن مبين، أو بما يُوحى إليه من سنن، أو بما يبين هو لهم من أحكام بثاقب بصيرته وسداد رأيه. وكان الوحي في هذه الأمور الأخيرة ينزل مؤيِّدًا، وأحيانًا مقوِّمًا، حيث جاءت السنّة النبوية الشريفة خالصة، صحيحة، لا يعتورها أي خلل أو زلل.
ولئن لم يكن الرسول في حاجة إلى وضع قواعد وتشريعات مقنَّنة بسبب تنزّل الوحي في كل شيء، حتى في بعض الحوادث الفردية، فإن الفقه بمعناه التشريعي ابتدأ مع ابتداء تنزّل الأحكام الشرعية في القرآن الكريم، أي منذ بعد الهجرة من مكة إلى المدينة؛ فالرسول، صلى الله عليه وآله وسلم، قد أقام في مكة المكرمة، ثلاث عشرة سنة بعد بعثته ثم أقام في المدينة المنورة نحو عشر سنوات؛ وكان القرآن ينزل طوال هذه المدة، غير أن الآيات التي تتضمن أحكامًا شرعية لم تنزل إلَّا في المدينة، وكان الرسول يتحدث بها وبما تنطوي عليه من الأحكام المتعلقة بالحوادث، والمعالجة لما يحصل من مشاكل... ويرى الباحث المدقق أن ما نزل بمكة يقرب من ثلثي القرآن، وقد سميِّت آياته مكية، وهي في مجموعها لا تكاد تتعرض لشيء من الأحكام، بل تقتصر على بيان أصول الدين، والدعوة إلى هذه الأصول كالإيمان بحقيقة وجود الله تعالى، وببعث رسوله، ويوم القيامة، والأمر بالصلاة، والاتصاف بالصفات الخلقية الحميدة، كالصدق والأمانة والصبر، والنهي عن الأعمال السيئة كالزنى والقتل ووأد البنات، والتطفيف في الكيل والميزان، وما إلى ذلك من أمور العقيدة. أما القسم الثاني الذي نزل بالمدينة فيقارب ثلث القرآن، وسميِّت آياته مدنية، وهي آيات تتضمن الأحكام الشرعية مثل معاملات البيع والإجارة والربا، والحدود كحد الزنى والسرقة، والجنايات كالقتل العمد، وعقوبة قطاع الطرق. كما تضمنت البينات مثل شهادة الزنى وسائر الشهادات. ونزلت كذلك بالمدينة بقية أحكام العبادات كالصوم والزكاة والحج والجهاد...
وإذا تتبعنا عهد الصحابة، بعد رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، نجد أن علم أصول الفقه موجود منذ ذلك العهد. فهذا عبد الله بن مسعود، رضي الله عنه، يقول: إن عدة الحامل المتوفَّى عنها زوجها هي وضع الحمل ـــــــ وقد استدل بذلك على أن الآية الكريمة: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [سورة البقرة: 234] قد وردت في سورة البقرة أي قبل نزول سورة الطلاق وفيها الآية الكريمة: {وَأُوْلَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [سورة الطلاق: 4]، مشيرًا بذلك إلى أن المتأخر ينسخ المتقدم أو يخصصه. فآية البقرة تفيد أن عدة المتوفَّى عنها زوجها تكون أربعة أشهر وعشرة أيام سواء أكانت حاملًا أم غير حامل. وآية سورة الطلاق تفيد أن عدة الحامل إلى حين وضع حملها سواء كان قد توفّي عنها زوجُها أم لا. وإزاء هذين النصَّين أخذ ابن مسعود بالآية المتأخرة، مقررًا بذلك قاعدة أصولية وهي النسخ أو التخصيص.
وهذا علي، كرم الله وجهه، يقول في عقوبة شارب الخمر: «إذا شرب سكر، وإذا سكر هذى، وإذا هذى افترى، فحدُّوه حدَّ المفترين». والمفتري هو القاذف، أي: فحدوه حد القاذف الوارد في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [سورة النور: 4]. فيكون عليّ، عليه السلام، قد قرَّر أن علة الافتراء هي السكر، فيحكم على السكران بحكم المفتري أو القاذف، وبذلك يكون قد قرر قاعدة أصولية.
ومن هذَين المثلين نجد أن بعض القواعد الأصولية قد نشأ منذ عهد الصحابة. وقد نقل المؤرخون والمحدّثون والفقهاء كثيرًا من اجتهادات الصحابة، ومنها يتبين مبلغ تقيُّدهم بالشريعة ومبلغ انطلاقهم في فهمها. فقد وقعت لعمر، رضي الله عنه، قصة رجل قتلته امرأة أبيه وخليلها، فتردد عمر وتساءل: هل يقتل الكثير بالواحد؟ فقال له عليّ: أرأيت لو أن نفرًا اشتركوا في سرقة جزور، فأخذ هذا عضوًا وهذا عضوًا أكنت قاطعهم؟ قال عمر: نعم. قال علي: فكذلك. فعمل عمر برأي عليّ، وكتب إلى عامله: «أن اقتلهما فلو اشترك فيه أهل صنعاء لقتلتهم».
وقد اختلفوا في المسألة المشتركة: وهي أن امرأة توفيت عن زوج وأم وإخوة أم وإخوة أشقاء. فأعطى عمر للزوج النصف، وللأم السدس، ولإخوة الأم الثلث، فلم يبقَ شيء للأخوة الأشقاء، فقيل له: هب أن أبانا كان حمارًا، ألسنا من أم واحدة؟ فعدَل عندها عمر، رضي الله عنه، عن رأيه وأشرك بينهم.
وبمثل تلك الروح العالية كان الصحابة يتعرَّفون المصلحة التي جاء النص من أجلها إذا كانت تُفهم من النص، وكانت وجهتهم جميعًا الحقَّ والصوابَ. وكان يرجع بعضُهم إلى بعض. وإذا اختلف رأيهم في بعض الأحكام كان اختلافًا نادرًا في الفهم، لا في طريقة الفهم.
ولما اتسعت الفتوحات، وتفرَّق الصحابة في مختلف الأمصار، ولم يعد من الميسور أن يجتمع هؤلاء الصحابة كلَّما عرضت واقعة لا نصَّ فيها، انفرد كل صحابي بإعطاء رأيه من دون أن يرجع إلى غيره، لتعذر الاجتماع مع تَباعُدِ الأمصار، وضرورة إعطاء الرأي في الحادثة الواقعة في المصر الذي هو قاضٍ فيه.
البحث الثاني: علم الفقه وأصول الفقه
أولًا ـــــــ الفقه:
الفقه في اللغة معناه: الفهم ـــــــ يقال: فقه يفقه: فهم يفهم.
ومنه قول الله تعالى: {يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِّمـــَّا تَقُولُ} [سورة هود: 91]. وقوله تعالى: {فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا} [سورة النساء: 78]. وقوله تعالى: {وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَـكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} [سورة الإسراء: 44].
والفقه في عرف المشترعين هو العلم بالأحكام الشرعية العملية المستنبطة من الأدلة التفصيلية، والفقه بهذا المعنى يرمي إلى فهم الأحكام الشرعية من نصوص الكتاب والسنّة، أو فهم الأدلة التي تستنبط منها تلك الأحكام، لأن كل ما يصدر عن الإنسان من أفعال أو أقوال، سواء أكان من العبادات (مثل الصوم والصلاة والحج) أم من المعاملات (كالبيع والرهن والإجارة) أم من العقوبات (وهي الجرائم على اختلاف أنواعها) وله في الشريعة الإسلامية حكم خاص به؛ فكان عمل الفقيه التوصل إلى تلك الأحكام وإظهارها حتى تكون لدى الناس السبل العملية المتوافقة مع جوهر الإسلام ومضامينه. والأحكام الشرعية في التشريع الإسلامي بعضُها واضحٌ وجلي كما هو مبين في الكتاب والسنّة، فلا يحتاج إلى دليل وبحث لفهمه والعمل بمقتضاه، وبعضُها الآخرُ لم تَرِدْ فيه نصوصٌ مباشرةٌ، إلَّا إن له في الشريعة الإسلامية أمارات ودلائل، فكان في حاجة إلى الدليل الشرعي لمعرفته، فيكون عمل الفقيه إما استخراج ذلك الدليل أو شرحه إذا ما استخرجه أحد المجتهدين.
إذن من مجموعة الأحكام الشرعية التي تتعلق بأفعال الإنسان وأقواله ـــــــ سواء الأحكام التي وردت فيها نصوص صريحة أم تلك التي جرى استنباطها من الأدلة الشرعية ـــــــ تكوَّن الفقه.
أما فهمُ الفقه فيتناول أفعال العباد من حيث إنها تحل، وتحرم، وتصح، وتبطل، وتفسد... فالفقيه يبحث في البيع، والإجارة، والرهن، والتوكيل، والقذف، والسرقة... إلخ وذلك لمعرفة الحكم الشرعي في كل فعل من هذه الأفعال.
ثانيًا ـــــــ أصول الفقه:
الأصل في اللغة ما يبتنى عليه، سواء كان الابتناء ماديًّا كابتناء الجدران على الأساس، أو عقليًّا كابتناء المعلول على العلة، والمدلول على الدليل.
وأصول الفقه هو مجموعة القواعد التي يُبنى عليها الفقه.
وموضوع أصول الفقه الأدلة السمعية التي تستنبط منها الأحكام الشرعية، والتي من شأنها إثبات الأحكام الشرعية.
وعلى هذا يبحث أصول الفقه في الحكم وما يتعلق به من حيث بيان:
ـــــــ مَنِ الذي يصدر عنه الحكم أو من يملك حق إصدار الحكم، أي من هو الحاكم؟
ـــــــ مَن الذي يصدر عليه الحكم، أو من هو المكلَّف بتنفيذ هذا الحكم؟
ـــــــ من حيث الحكم نفسه: فما هو؟ وما حقيقته؟
وبعد ذلك يأتي بيان الأدلة ووجوه دلالاتها.
وعلم أصول الفقه لا يبحث في الأصول، أي لا يبحث في أساس العقيدة بل في الفروع أي في الأحكام من ناحية الأسس التي تبنى عليها. فالأصولي يبحث مثلًا في الإجماع وحجيته، وفي المطلق وما يقيده، وفي العام وما يخصصه...
والقاعدة الأساسية للبحث الأصولي تقوم على أن القرآن الكريم هو الدليل الشرعي الأول على الأحكام، وتليه السنّة النبوية الشريفة. فعندما يبحث في النصوص التشريعية الواردة في القرآن يجد أن منها ما ورد بصيغة الأمر، ومنها ما ورد بصيغة النهي، أو بصيغة العموم أو بصيغة الإطلاق وذلك كون هذه الصيغ هي أنواع كلية من أنواع الدليل الشرعي العام الذي هو القرآن؛ فيبحث الأصولي في كل نوع من هذه الأنواع ليتوصل إلى الحكم الذي يدل على هذا النوع أو ذاك. وهو يستعين في أبحاثه بأساليب اللغة العربية والمصطلحات الشرعية. فإذا توصل في بحثه إلى أن صيغة الأمر تدل على الإيجاب، وصيغة النهي تدل على التحريم، وصيغة العام تدل على جميع أفراده، وصيغة الإطلاق تدل على ثبوت الحكم المطلق، وضع القواعد التالية:
ـــــــ الأمر الجازم للإيجاب أي الفرض، والأمر غير الجازم للمندوب أي للمستحب.
ـــــــ النهي الجازم للتحريم. والنهي غير الجازم للمكروه.
ـــــــ ما ليس فيه أمرٌ ولا نهيٌ يكون مُباحًا.
ـــــــ العام يشتمل على جميع أفراده قطعًا.
ـــــــ المطلق يدل على الفرد الشائع بغير قيد.
وتسمى هذه القواعد بالقواعد الكلية التي تطبق على جزئياتها، توصلًا إلى الحكم الشرعي العملي التفصيلي.
فتطبق قاعدة: الأمر الجازم للإيجاب عملًا بقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [سورة المائدة: 1] ففي هذا المثال يستخرج الحكم بأن الوفاء بالعقود أمر واجب.
وتطبق قاعدة: النهي الجازم للتحريم عملًا بقول الله تعالى: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ} [سورة المائدة: 90]. فيكون الأمر بالاجتناب حكمه التحريم.
وتطبق قاعدة: العام ينتظم جميع أفراده قطعًا عملًا بقول الله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [سورة النساء: 23]، والحكم الشرعي هنا هو أن كل أم محرَّمة على الإنسان.
وتطبق قاعدة: المطلق الذي يدل على أيّ فرد عملًا بقول الله تعالى في كفارة الظهار: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [سورة المجادلة: 3] فيكون الحكم الشرعي تحرير أيّ رقبة مسلمة أو غير مسلمة.
فالأصولي إذًا لا يبحث في الأدلة الجزئية، ولا فيما تدل عليه من أحكام جزئية، بل يبحث في الدليل الكليِّ وما يدل عليه من حكمٍ كليٍّ حتى يضع قاعدة كلية، فيأتي علم الفقه ليطبق القواعد الكلية على جزئيات الأدلة واستخراج الأحكام التفصيلية منها. أي إنّ علم الفقه يبحث في الدليل الجزئيِّ وما يدل عليه من حكم جزئي. وهكذا يكون موضوع أصول الفقه: الأدلة والأحكام، في حين أن موضوع علم الفقه أفعال العباد وأقوالهم من حيث ما يثبت لها من أحكام شرعية.
فعندما يضع الأصولي قاعدة الأمر للوجوب، ويجد الفقيه أن كلمة «حافظوا» في الآية الكريمة: {حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلاَةِ الْوُسْطَى وَقُومُواْ لِلّهِ قَانِتِينَ} [سورة البقرة: 238]، هي كلمة تدل على الأمر، فيطبق الفقيه على هذا الدليل التفصيلي القاعدة التي وضعها الأصولي، ويستخرج الحكم الشرعي الذي يقول بأن الصلاة واجبة. وعندما يجد الفقيه أن كلمة «ولا تفرقوا» الواردة في الآية الكريمة: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ} [سورة آل عمران: 103] هي كلمة تعني الأمر الناهي، فيطبق على هذا الدليل التفصيلي القاعدة التي وضعها الأصولي والتي تقول: النهي للتحريم، فيستخرج الفقيه الحكم الشرعي الذي يحرم على المسلمين التفرقة في ما بينهم.
وهكذا نجد أن علم الفقه مستمد من الكتاب والسنّة والإجماع والعقل (أي القياس) في حين أن علم أصول الفقه مستمد من أساليب اللغة العربية والأحكام الشرعية.

مقدمة الكتاب
القسمُ الأوّل
القِسم الثاني
القِسم الثالِث
القسم الرابع
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢
الإسلام وثقافة الإنسان
الطبعة: الطبعة التاسعة
المؤلف: سميح عاطف الزين
عدد الصفحات: ٨١٦
تاريخ النشر: ٢٠٠٢